المادة    
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
قال المصنف رحمه الله تعالى: [السبب الثاني: الاستغفار، قال تعالى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ))[الأنفال:33]، لكن الاستغفار تارة يذكر وحده وتارة يقرن بالتوبة، فإن ذكر وحده دخلت معه التوبة، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار، فالتوبة تتضمن الاستغفار والاستغفار يتضمن التوبة، وكل واحد منها يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع ووقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله، ونظير هذا الفقير والمسكين، إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر، وإذا ذكرا معاً كان لكل منهما معنى، قال تعالى: (( إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ))[المائدة:89]، وقال سبحانه: (( فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ))[المجادلة:4]، وقال: (( وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ))[البقرة:271]، لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لمَّا أفرد شمل المقل والمعدم، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى: (( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ))[التوبة:60] كان المراد بأحدهما المقل والآخر المعدم على خلاف فيه، وكذلك الإثم والعدوان، والبر والتقوى، والفسوق والعصيان، ويقرب من هذا المعنى الكفر والنفاق، فإن الكفر أعم، فإن ذكر الكفر شمل النفاق، وإن ذكرا معاً كان لكل منهما معنى، وكذلك الإيمان والإسلام على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
السبب الثالث: الحسنات؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، فالويل لمن غلبت آحاده عشراته، وقال تعالى: ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ))[هود:114]، وقال صلى الله عليه وسلم: (واتبع السيئة الحسنة تمحها)]
.
هذا ما ذكره الشارح، والاستغفار مبحث عظيم، والحديث عنه سيكون في جوانب عدة، منها: معنى الاستغفار، ومنها: العلاقة بين التوبة والاستغفار، ومنها: هل الاستغفار يكون نوعاً واحداً أم أنه متفاوت؟ وهل له شروط أم ليس له شروط، بحيث يكتفى بأن يقول العبد: أستغفر الله؟ وما حكم المعاودة بعد الاستغفار؟ كما تقدم في حكم المعاودة بعد التوبة، وما هي ثمرات الاستغفار وفوائده بإجمال؟ أي: غير الفائدة التي أراد الشارح رحمه الله إيراد هذا المبحث لها هنا، وهي أنه يمنع إنفاذ وعيد الله تعالى في العبد المذنب.
فنقول: إننا جميعاً بحاجة إلى الاستغفار، وإلى معرفة حقيقته، وإلى أن نعرف وندرك فضله وفوائده وثمراته؛ وذلك لأننا خطاءون ونذنب بالليل والنهار، والاستغفار هو الحل والدواء والصابون الذي تغسل به الذنوب والمعاصي، وأساس كل شر وبلاء ومصيبة وشقاء على العبد في الدنيا والآخرة إنما هو الذنوب، فإذا عرفنا ما يضادها وما يزيلها ويذهبها من التوبة والاستغفار وعملنا بما قال الله ورسوله وبما أرشدانا إليه من التخلص من هذه الذنوب؛ فإننا نكون -بإذن الله تعالى- على طريق النجاة والهداية والسعادة إن شاء الله تعالى.
وقد علق الله على الاستغفار فوائد عظيمة، وبذلك جاءت أحاديث كثيرة لا تحصى، ومن ذلك أن الله ذكر فضل الاستغفار وفوائده في قصة نبيه تعالى نوح عليه السلام حين قال لقومه بشأن الاستغفار: (( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ))[نوح:10-12]، وهذه فوائد عظيمة تدل على أن الاستغفار سبب لحصول الخير والبركة والرحمة والغيث، وكلها علقت على الاستغفار.
ومما ذكر الله أيضاً من فوائده ما في أول سورة هود، حيث قال تعالى: (( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ))[هود:3]، والمتاع الحسن هو الحياة الطيبة الزكية النقية من القلق ومن الضنك ومن درن الإلحاد والشرك أو صغار الذنوب ودواعي الضعف والوهن والانحلال التي تلقيها الذنوب في قلوب الأمم والأفراد، ثم قال تعالى: (( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ))[هود:3].
وقد ذكر الله تعالى أيضاً عن بعض رسله فوائد للاستغفار، كما في خبر نبي الله هود عليه السلام مع عاد المذكورة في قوله تعالى: (( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ ))[الفجر:7-8]، والتي كان سبب عنادها وجحودها وكفرها هو اعتزازها واعتدادها بقوتها، حيث قالوا: (( مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ))[فصلت:15]، وكل أمة لضلالها وكفرها وعتوها سبب، وقد تجتمع أسباب في بعض الأمم.
فقال لهم نبيهم هود بهذا الشأن: (( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ))[هود:52] وهذا مثل قول نوح عليه السلام: (( يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ))[نوح:11]، ثم قال هود عليه السلام: (( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ))[هود:52] يعني: أنتم بهذه القوة التي لا نظير لها في الأرض بين أمرين: إما أن تستغفروا الله فيزيدكم الله تعالى قوة إلى قوتكم، وإما أن تكفروا وتجحدوا فيكون العذاب الأليم، فاختاروا الكفر وأن لا يتوبوا فوقع عليهم العذاب الذي أرسله الله عليهم، وهو الريح العقيم: (( مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ))[الذاريات:42]، قال تعالى: (( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ))[الأحقاف:25] نسأل الله العفو والعافية، وتحولت تلك الأجسام العاتية الغليظة العملاقة إلى ما وصفها الله به في قوله تعالى: (( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ))[القمر:20].
وكذلك قال صالح عليه السلام لقومه: (( هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ))[هود:61] أطمعهم ورجاهم في الله تعالى بأنه قريب مجيب لمن استغفره ولمن دعاه، كما في حديث أنس : ( يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ).
وكذلك شعيب عليه السلام دعا قومه إلى ذلك فقال: (( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ))[هود:90].
وانظر إلى هذه العبارات: (قريب مجيب) (رحيم ودود)، وفي حديث أنس قال: ( غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي )، فالله تعالى لسعة رحمته لا يبالي بأن يغفر لعبده إذا دعاه واستغفره وأناب إليه، وهو قريب ومجيب وغفور وودود، وهذه الأسماء كلها مما يرغب العبد في الحصول على الأجر العظيم والمكسب الجزيل حين يستغفر الله تعالى، وسيأتي -إن شاء الله- ذكر جملة صالحة من الأحاديث الدالة على فضل الاستغفار وثمرته.