شرح ابن أبي العز بحسب الفقرات المختارة .

1 - قال الطحاوي رحمه الله : [ وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: (( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) [الأنبياء:23] فمن سأل : لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب؛ كان من الكافرين ] قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أصل القدر سر الله في خلقه، وهو كونه أوجد وأفنى وأفقر وأغنى، وأمات وأحيا، وأضل وهدى . قال علي رضي الله عنه القدر سر الله، فلا تكشفه. والنزاع بين الناس في مسألة القدر مشهور، والذي عليه أهل السنة والجماعة: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد، قال تعالى: ((إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ)) [القمر:49] وقال تعالى : (( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)) [الفرقان:2] . وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً، ولا يرضاه ديناً . وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر، فروا إلى هذا لئلا يقولوا : شاء الكفر من الكافر، وعذبه عليه! ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار ! فإنهم هربوا من شيء، فوقعوا فيما هو شر منه، فإنه يلزمهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، فإن الله قد شاء الإيمان منه -على قولهم- والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل. روى اللالكائي من حديث بقية، عن الأوزاعي: حدثنا العلاء بن الحجاج، عن محمد بن عبيد المكي، عن ابن عباس، أن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر، فقال : (دلوني عليه، وهو يومئذ أعمى، فقالوا له : ما تصنع به؟ فقال: والذي نفسي بيده! لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كأني بنساء بني فهم يطفن بالخزرج تصطك إلياتهن مشركات، وهذا أول شرك في الإسلام، والذي نفسي بيده! لا ينتهي بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير، كما أخرجوه من أن يقدر الشر ) قوله : وهذا أول شرك في الإسلام.. إلى آخره، من كلام ابن عباس. وهذا يوافق قوله : القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله، وكذب بالقدر، نقض تكذيبه توحيده . وروى عمر بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة، وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي أسلم، فقال المجوسي: حتى يريد الله، فقال القدري، إن الله يريد، ولكن الشيطان لا يريد، قال المجوسي : أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان ! هذا شيطان قوي !! وفي رواية أنه قال : فأنا مع أقواهما !! ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد، فقال : ياهؤلاء! إن ناقتي سرقت فادعوا الله أن يردها علي، فقال عمرو بن عبيد: اللهم! إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت، فارددها عليه، فقال الأعرابي : لا حاجة لي في دعائك، قال: ولم ؟ قال : أخاف كما أراد أن لا تسرق فسرقت أن يريد ردها فلا ترد !! وقال رجل لأبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى، وأوردني الضلال، ثم عذبني، أيكون منصفاً ؟ فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطيه من يشاء، ويمنعه من يشاء ]. اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
2 - [ وأما الأدلة من الكتاب والسنة، فقد قال تعالى: ((وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) [السجدة:13] وقال تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)) [يونس:99] وقال تعالى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [التكوير:29] وقال تعالى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)) [الإنسان:30] وقال تعالى: ((مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [الأنعام:39] وقال تعالى: ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)) [الأنعام:125] ومنشأ الضلال: من التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة، والرضا فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثم اختلفوا، فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه، وقدره فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاه : ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه] . اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
3 - [ وقد دل على الفرق بين المشيئة والمحبة، الكتابُ والسنةُ والفطرة ُالصحيحة، أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب ، فقد تقدم ذكر بعضها . وأما نصوص المحبة والرضا، فقال تعالى: ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ))[البقرة:205]، ((لا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ)) [الزمر:7] وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: ((كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً)) [الإسراء:38] وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ) وفي المسند: ( إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته ) وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك )، فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة، فالأول: للصفة، والثاني: لأثرها المرتب عليها، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره، فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره، ومنعه أن يحل بي، هي بمشيئتك أيضاً، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك، فعياذي بك منك، عياذي بحولك وقوتك ورحمتك، مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك . فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية، إلا الراسخون في العلم بالله، ومعرفته، ومعرفة عبوديته ] . اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
4 - [ فإن قيل: كيف يريد الله أمراً ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكوّنه؟ وكيف يجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟ قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقاً، وتباينت طرقهم وأقوالهم . فاعلم أن المراد نوعان: مرادٌ لنفسه، ومراد لغيره، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد، والمراد لغيره قد لا يكون مقصوداً للمريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصود. ومراده، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه، وإرادته ولا يتنافيان، لاختلاف متعلقهما، وهذا كالدواء الكريه، إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتآكل، إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة، إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه . بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب، وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف ممن لا يخفى عليه خافية، فهو سبحانه يكره الشيء، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره، وكونه سبباً إلى أمر هو أحب إليه من فوته، من ذلك: أنه خلق إبليس، الذي هو مادة لفساد الأديان، والأعمال، والاعتقادات، والإرادات، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد، وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه، ومع هذا فهو وسيلة إلى محابَّ كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، ووجودها أحبُّ إليه من عدمها ]. اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
5 - [ منها: أنه تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذا الذات، التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر، في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فتبارك خالق هذا وهذا. كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والدواء والداء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر، وذلك من أدل دليل على كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات، وقابل بعضها ببعض، وجعلها محالّ تصرفه وتدبيره، فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته ]. اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
6 - [ ومنها ظهور آثار أسمائه القهرية، مثل: القهار، والمنتقم، والعدل، والضار، والشديد العقاب، والسريع الحساب، وذي البطش الشديد، والخافض، والمذل، فإن هذه الأسماء والأفعال كمال، لابد من وجود متعلَّقها، ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء ]. اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
7 - [ ومنها ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: ( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم ) . ومنها ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك، فلو قُدِّر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر، ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة لله سبحانه وتعالى، والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى، وإيثار محاب الله تعالى، وعبودية التوبة والاستغفار وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه.. إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها ]. اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
8 - [ فإن قيل : فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب ؟ فهذا سؤال فاسد ! وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب. والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب . فإن قيل: فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه، أم هي مسخوطة من جميع الوجوه ؟ قيل هذا السؤال يرد على وجهين : أحدهما : من جهة الرب تعالى، وهل يكون محباً لها من جهة إفضائها إلى محبوبه، وإن كان يبغضها لذاتها ؟ والثاني : من جهة العبد، وهو أنه هل يسوغ له الرضا بها من تلك الجهة أيضا ً؟ فهذا سؤال له شأن . فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه، وهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه مثاله : أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها، فإنها خلقت في الأصل متحركة، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تركت تحركت بطبعها إلى خلافه . وحركتها من حيث هي حركة : خير، وإنما تكون شراً بالإضافة، لا من حيث هي حركة، والشر كله ظلم، وهو وضع الشيء في غير محله، فلو وضع في موضعه لم يكن شراً، فعلم أن جهة الشر فيه نسبية إضافية ]. اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
9 - [ ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيراً في نفسها، وإن كانت شراً بالنسبة إلى المحل الذي حلت به، لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له، فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل، حيث وضعه في موضعه، فإنه سبحانه لم يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه، والاعتبارات، فإن حكمته تأبى ذلك، فلا يمكن في جناب الحق تعالى أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه، لا مصلحة في خلقه بوجه ما، هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شراً، فتأمله، فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً . فإن قيل : لِمَ تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة ؟ قيل : هو من هذه الجهة ليس بشرٍّ، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء، حتى ينسب إلى من بيده الخير . فإن أردت مزيد إيضاح لذلك، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة : ( الإيجاد، والإعداد، والإمداد، فإيجاد هذا خير، وهو إلى الله، وكذلك إعداده وإمداده، فإذا لم يحدث فيه إعداد، ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل، وإنما إليه ضده . فإن قيل : هلا أمده إذ أوجده ؟ قيل : ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده، وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده . فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده ]. اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
10 - [ فإن قيل: فهلا أمد الموجودات كلها ؟ فهذا سؤال فاسد، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة ! وهذا عين الجهل ! بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت، فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق، وإلا فليس في الخلق من تفاوت، فإن اعتاص عليك هذا ولم تفهمه حق الفهم، فراجع قول القائل : إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع ] اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
11 - فإن قيل: كيف يرضى لعبده شيئاً ولا يعينه عليه؟ قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة، وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: (( وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ))[التوبة:46]. الآيتين. فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله، وهو طاعة، فلما كرهه منهم، ثبطهم عنه، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي كانت تترتب على خروجهم مع رسوله، فقال: (( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا ))[التوبة:47] أي: فساداً وشراً، (( وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ ))[التوبة:47]، أي: سعوا بينكم بالفساد والشر، (( يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ))[التوبة:47]، أي: قابلون منهم مستجيبون لهم، فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه. فاجعل هذا المثال أصلاً، وقس عليه. وأما الوجه الثاني -وهو الذي من جهة العبد- فهو أيضاً ممكن، بل واقع؛ فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها من حيث هي فعل العبد، واقعة بكسبه، وإرادته، واختياره ، ويرضى بعلم الله وكتابته ومشيئته وإرادته وأمره الكوني فيرضى بما من الله ، ويسخط ما هو منه ، فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً، وقولهم يرجع إلى هذا القول لأن إطلاقهم للكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابته ومشيئته ، وسر المسألة : أن الذي إلى الرب منها غير مكروه، والذي إلى العبد مكروه. اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
12 - [فإن قيل: ليس إلى العبد شيء منها قيل : هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق، والقدري المنكر أقرب إلى التخلص منه من الجبري، وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين ]. اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
13 - [فإن قيل : كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير، ومع شهود القيومية والمشيئة النافذة؟]. اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
14 - [قيل: هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على خلاف ما هو عليه، فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر، وقال : إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته وفي ذلك قيل : أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات وهؤلاء أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي، لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كان موافقة القدر طاعة، لكان إبليس من أعظم المطيعين له، ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط و شعيب وقوم فرعون، كلهم مطيعين! وهذا غاية الجهل]. اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
15 - [لكن إذا شهد العبد عجز نفسه، ونفوذ الأقدار فيه، وكمال فقره إلى ربه، وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين: كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال ألبتة فإن عليه حصناً حصيناً ( فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي) ، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال، فإذا حجب عن هذا المشهد، وبقي بنفسه، استولى عليه حكم النفس فهنالك نُصبت عليه الشباك والأشراك، وأرسلت عليه الصيادون، فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر فبقي بربه لا بنفسه، فإن قيل: إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله فكيف ننكره ونكرهه . فالجواب أن يقال أولاً: نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة بل من المقضي ما يرضى به، ومنه ما يسخط ويمقت، كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه، بل من القضاء ما يسخط كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم . ويقال ثانياً: هنا أمران: قضاء الله: وهو فعل قائم بذات الله تعالى . ومقضي: وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضاء كله خير وعدل وحكمة، فيرضى به كله، والمقضي قسمان: منه ما يرضى به، ومنه ما لا يرضى به. ويقال ثالثاً: القضاء له وجهان: أحدهما، تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه، فمن هذا الوجه يرضى به، والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به وإلى مالا يرضى به، مثال ذلك: قتل النفس له اعتباران فمن حيث قدره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره نرضى به، ومن حيث صدر من القتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله، نسخطه ولا نرضى به]. اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..