شرح إبن أبي العز
شرح ابن أبي العز بحسب الفقرات المختارة .
1 -
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى :
[ والشفاعة التي ادخرها لهم حق كما روي في الأخبار ]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ الشفاعة أنواع: منها ما هو متفق عليه بين الأمة، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع .
النوع الأول : الشفاعة الأولى وهي العظمى، الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين، ففي الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أحاديث الشفاعة منها : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم، فدفع إليه منها الذراع -وكانت تعجبه- فنهس منها نهسة، ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذاك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون إلى ما أنتم فيه : ألا ترون ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض أبوكم آدم، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم: ( إن ربي قد غضب اليوم غضباً، لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً فيقولون : يا نوح! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضباً، لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم، فيقولون : يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى فيقولون : يا موسى! أنت رسول الله اصطفاك الله برسالاته، وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى! أنت رسول الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه -قال: هكذا هو- وكلمت الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً، لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبا، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتوني فيقولون : يا محمد! أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع، فأقول: يارب! أمتي أمتي، يا رب! أمتي أمتي، يا رب! أمتي أمتي، فيقال : أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب، ثم قال : والذي نفسي بيده! لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى) أخرجاه في الصحيحين بمعناه، واللفظ للإمام أحمد ].
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
2 -
[ والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى في أن يأتي الرب تعالى لفصل القضاء كما ورد هذا في حديث الصور، فإنه المقصود في هذا المقام، ومقتضى سياق أول الحديث، فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس ويستريحوا من مقامهم، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه، فإذا وصلوا إلى المحز إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة، وإخراجهم من النار، وكأن مقصود السلف-في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث -هو الرد على الخوارج، ومن تابعهم من المعتزلة الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث . وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور، ولولا خوف الإطالة لسقته بطوله، لكن من مضمونه : أنهم يأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم يأتون رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له : الفَحْصُ، فيقول الله : ما شأنك ؟ -وهو أعلم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقول : يارب! وعدتني الشفاعة؛ فشفعني في خلقك، فاقض بينهم، فيقول سبحانه وتعالى: شفعتك، أنا آتيكم فأقضي بينكم، قال : فأرجع فأقف مع الناس... ثم ذكر انشقاق السموات، وتنـزل الملائكة في الغمام، ثم يجيء الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء، والكروبيون والملائكة المقربون يسبحونه بأنواع التسبيح، قال : فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثم يقول: إني أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع أقوالكم وأرى أعمالكم، فأنصتوا إلي، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، إلى أن قال : فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة قالوا : من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة ؟ فيقولون : من أحق بذلك من أبيكم إنه خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه وكلمه قُبلاً، فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه، وذكر نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمد صلى الله عليه وسلم... -إلى أن قال:- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فآتي الجنة فآخذ بحلقة الباب، ثم استفتح؛ فيفتح لي، فأحيا ويرحب بي، فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي عز وجل خررت له ساجداً، فيأذن لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه، ثم يقول الله لي : ارفع -يا محمد- واشفع تشفع، وسل تعطه، فإذا رفعت رأسي قال الله -وهو أعلم-: ما شأنك ؟ فأقول: يارب! وعدتني الشفاعة؛ فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول الله عز وجل : قد شفعتك، وأذنت لهم في دخول الجنة ).. الحديث رواه الأئمة : ابن جرير في تفسيره والطبراني وأبو يعلى الموصلي والبيهقي وغيرهم ]
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
3 -
[النوع الثاني والثالث من الشفاعة : شفاعته صلى الله عليه وسلم في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة، وفي أقوام آخرين قد أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها .
النوع الرابع : شفاعته صلى الله عليه وسلم في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم، وقد وافقت المعتزلة على هذه الشفاعة خاصة، وخالفوا فيما عداها من المقامات ، مع تواتر الأحاديث فيها .
النوع الخامس : الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب ويحسن أن يستشهد لهذا النوع عكاشة بن محصن حين دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعله من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، والحديث مخرج في الصحيحين.
النوع السادس : الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه، ثم قال القرطبي: في التذكرة بعد ذكره هذا النوع: فإن قيل فقد قال تعالى: ((فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ )) [المدثر:48] قيل له : لا تنفعه في الخروج من النار كما تنفع عصاة الموحدين، الذين يخرجون منها ويدخلون الجنة .
النوع السابع : شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة كما تقدم ، وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أنا أول شفيع في الجنة ).
النوع الثامن : شفاعته في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النار فيخرجون منها، وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث، وقد خفي علم ذلك على الخوارج والمعتزلة، فخالفوا في ذلك جهلاً منهم بصحة الأحاديث وعناداً ممن علم ذلك واستمر على بدعته ، وهذه الشفاعة تشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضاً، وهذه الشفاعة تتكرر منه صلى الله عليه وسلم أربع مرات ]
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
4 -
[ ومن أحاديث هذا النوع حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) رواه الإمام أحمد رحمه الله. وروى البخاري رحمه الله في كتاب التوحيد: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنا معبد بن هلال العنزي قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك وذهبنا معنا بثابت البناني، يسأله لنا عن حديث الشفاعة، فإذا هو في قصره، فوافيناه يصلي الضحى، فاستأذنا فأذن لنا -وهو قاعد على فراشه- فقلنا لثابت: لا تسأله عن شي أول من حديث الشفاعة فقال: يا أبا حمزة! هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاؤوك يسألونك عن حديث الشفاعة، فقال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم؛ فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم، فيقول: لستُ لها ؛ ولكن عليكم بموسى؛ فإنه كليم الله، فيأتون موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى؛ فإنه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى، فيقول: لستُ لها، ولكن عليكم بمحمد، فيأتوني فأقول: أنا لها فأستأذن على ربي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع لك، واشفع تشفع، وسل تعط، فأقول: يارب! أمتي أمتي، فيقال: انطلق، فأخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمدُه بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع لك، واشفع تشفع، وسل تعط، فأقول: يارب! أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال ذرة -أو خردلة- من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يارب! أمتي أمتي فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل، قال: فلما خرجنا من عند أنس قلت: لو مررنا بالحسن، وهو متوارٍ في منزل أبي خليفة -وهو جميع- فحدثناه بما حدثنا أنس بن مالك فأتيناه فسلمنا عليه فأذن لنا فقلنا له: يا أبا سعيد جئناك من عند أخيك أنس بن مالك فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة فقال: هيه ؟ فحدثناه بالحديث، فأتينا إلى هذا الموضع فقال هيه ؟ فقلنا لم يزد لنا على هذا فقال: لقد حدثني -وهو جميع- منذ عشرين سنة فما أدري أنسي أم كره أن تتكلوا؟ فقلنا: يا أبا سعيد! فحدثنا، فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً، ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم حديثي كما حدثكم، قال: ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً فيقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يارب! ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله؟ فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: ( لا إله إلا الله ) وهكذا رواه مسلم، وروى الحافظ أبو يعلى عن عثمان رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء ) وفي الصحيح من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً قال: (فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضةً من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط) الحديث ].
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
5 -
[ ثم إن الناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال: فالمشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ و غيرهم يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا، والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الكبائر، وأما أهل السنة والجماعة فيقرون بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر وشفاعة غيره، لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ويحد له حداً، كما في الحديث الصحيح -حديث الشفاعة- أنهم يأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى (فيقول لهم عيسى عليه السلام : اذهبوا إلى محمد، فإنه عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأذهب، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي، لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد! ارفع رأسك، وقل يُسمع، واشفع تشفع، فأقول : ربي! أمتي، فيحدُّ لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أنطلق فأسجد فيحد لي حداً ) ذكرها ثلاث مرات ].
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
6 -
[ وأما الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره في الدنيا إلى الله تعالى في الدعاء، ففيه تفصيل: فإن الداعي تارة يقول: بحق نبيّك . أو بحق فلان، يقسم على الله بأحد من مخلوقاته، فهذا محذور من وجهين :
أحدهما: أنه أقسم بغير الله، والثاني: اعتقاده أن لأحد على الله حقاً، ولا يجوز الحلف بغير الله، وليس لأحد على الله حق إلا ما أحقه على نفسه ، كقوله تعالى:
((وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) [الروم: 47] وكذلك ما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم لـمعاذ رضي الله تعالى عنه وهو رديفه معاذ، أتدري ما حقُّ الله على عباده؟ قال قلت : الله ورسوله أعلم، قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، أتدري ما حقُّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم ). فهذا حق وجب بكلماته التامة . ووعده الصادق ، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئاً كما يكون للمخلوق على المخلوق ، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير ، وحقهم الواجب بوعده هو أن لا يعذبهم ، وترك تعذيبهم معنى لا يصلح أن يقسم به ، ولا أن يسأل بسببه ، ويتوسل به ، لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً]
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
7 -
[ وكذلك الحديث الذي في المسند من حديث أبي سعيد رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الماشي إلى الصلاة (أسألك بحق ممشاي هذا، وبحق السائلين عليك) فهذا حق السائلين، هو أوجبه على نفسه، فهو الذي أحق للسائلين أن يُجيبهم،وللعابدين أن يُثيبهم، ولقد أحسن القائل :
ما للعباد عليـه حق واجب كلا ولا سعيٌ لديه ضـائع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم السامع
فإن قيل: فأيُّ فرقٍ بين قول الداعي : ( بحق السائلين عليك ) وبين قوله : (بحق نبيك ) أو نحو ذلك ؟ فالجواب أن معنى قوله : (بحق السائلين عليك ) أنك وعدت السائلين بالإجابة، وأنا من جملة السائلين، فأجب دعائي بخلاف قوله : بحق فلان، فإن فلاناً، وإن كان له حقٌ على الله بوعده الصادق، فلا مُناسبة بين ذلك وبين إجابة دعاء هذا السائل: فكأنه يقول: ( لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعائي ) وأي مناسبة في هذا وأيُّ ملازمة؟ وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء، وقد قال تعالى: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) [الأعراف:55] وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة، ولم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين، ولا عن أحدٍ من الأئمة رضى الله عنهم وإنما يُوجَد مثل هذا في الحُروز والهياكل التي يكتبها الجُهَّال والطُّرقية والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على السنة والاتباع، لا على الهوى والابتداع ].
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
8 -
[ وإن كان مراده الإقسام على الله بحق فلان فذلك محذور أيضاً لأن الإقسام بالمخلوق على المخلوق لا يجوز فكيف على الخالق، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (من حلف بغير الله فقد أشرك) ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم: يكره أن يقول الداعي أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام، ونحو ذلك حتى كره أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ولم يكرهه أبو يوسف رحمه الله؛ لما بلغه الأثر فيه، وتارة يقول: بجاه فلان عندك، أو يقول: نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك. ومراده لأن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا. وهذا أيضاً محذور، فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم، وهم يؤمِّنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره. فلما مات صلى الله عليه وسلم قال عمر رضي الله عنه لما خرجوا يستسقون: (اللهم! إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا). معناه: بدعائه هو ربَّه وشفاعته وسؤاله، ليس المراد أنا نقسم عليك به، أو نسألك بجاهه عندك، إذ لو كان ذلك مراداً لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس ].
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
9 -
[ وتارة يقول: باتباعي لرسولك ومحبتي له، وإيماني به، وبسائر أنبيائك ورسلك وتصديقي لهم، ونحو ذلك فهذا من أحسن ما يكون من الدعاء والتوسل الاستشفاع، فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به فيه إجمال، غلط بسببه من لم يفهم معناه، فإن أريد به التسبب به لكونه داعياً وشافعاً، وهذا في حياته يكون، أو لكون الداعي محباً له، مطيعاً لأمره، مقتدياً به، وذلك أهل للمحبة والطاعة والاقتداء، فيكون التوسل إما بدعاء الوسيلة وشفاعته، وإما بمحبة السائل واتباعه، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته، فهذا الثاني هو الذي كرهوه، ونهوا عنه، وكذلك السؤال بالشيء قد يراد به التسبب به، لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام به.
ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم، فتوسلوا إلى الله بذكر أعمالهم الصالحة الخالصة، وكل واحد منهم يقول: فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون، فهؤلاء دعوا الله بصالح الأعمال، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله، ويتوجه به إليه ويسأله به لأنه وعد أن يستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ويزيدهم من فضله] .
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..
10 -
[ فالحاصل أن الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر، فإن الشفيع عند البشر كما أنه شافع للطالب شفعه في الطلب بمعنى أنه صار به شفعاً فيه بعد أن كان وتراً فهو أيضاً قد شفع المشفوع إليه فبشفاعته صار فاعلاً للمطلوب فقد شفع الطالب والمطلوب منه والله تعالى وتر لا يشفعه أحدٌ فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فالأمر كله إليه فلا شريك له بوجه فسيد الشفعاء يوم القيامة إذا سجد وحمد الله تعالى فقال له الله: ( ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع ) فيحد له حداً فيدخلهم الجنة ، فالأمر كله لله كما قال تعالى: ((قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ)) [آل عمران:154] وقال تعالى: ((لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)) [آل عمران:128] وقال تعالى: ((أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ )) [الأعراف:54] فإذا كان لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن يشاء، ولكن يكرم الشفيع بقبول شفاعته كما قال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء ) وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف! لا أملك لكم من الله من شيء، يا صفية عمة رسول الله! لا أملك لك من الله من شيء، يا عباس عم رسول الله! لا أملك لك من الله من شيء)، وفي الصحيح أيضاً: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، أو شاة لها يعار، أو رقاع تخفق، فيقول: أغثني أغثني، فأقول: قد أبلغتك، لا أملك لك من الله من شيء) فإذا كان سيد الخلق وأفضل الشفعاء يقول لأخص الناس به: (لا أملك لك من الله من شيء) فما الظن بغيره؟! وإذا دعاه الداعي، وشفع عنده الشفيع، فسمع الدعاء، وقبل الشفاعة؛ لم يكن هذا هو المؤثر فيه كما يؤثر المخلوق في المخلوق ، فإنه سبحانه وتعالى هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع، وهو الخالق لأفعال العباد ، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه، وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن الله خالق كل شيء].
اضغط هنا للانتقال إلى شرح الشيخ سفر لهذه الفقرة ..