المادة كاملة    
أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تميزت بخصائص ومميزات كثيرة لا توجد عند غيرها من الفرق، فأهل السنة يتصفون باتباع الكتاب والسنة، وترك الابتداع في الدين، والإيمان بالكتاب كله، كما أنهم يجمعون بين العلم والعبادة، ويحرصون على جمع كلمة المسلمين، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتصفون بالوسطية والاعتدال في العقيدة، وفي السلوكيات والمعاملات.
  1. تعريف الفرقة الناجية

     المرفق    
    لم يذكر المصنف هنا إلا بعض روايات حديث الفرقة الناجية؛ لأن الحديث روي من طرق وروايات كثيرة، فلم يذكر إلا حديث عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، ومعاوية رضي الله عنهم، وأما بقية الروايات التي في المسند والمستدرك وغيرهما فلم تذكر هنا.
    وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الروايات تعريفين للفرقة الناجية:
    الرواية الأولى التي تتضمن التعريف الأول للفرقة الناجية: روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: {... قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي}.
    الرواية الثانية: روى الإمام أحمد والدارمي وغيرهما عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {هي الجماعة}.
    ونريد أن نعرف معنى قوله: {ما أنا عليه وأصحابي}، ومعنى الجماعة؛ حتى نعرف حقيقة الفرقة الناجية .
    فالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر أن الفرق الثلاث والسبعين متوعدة بالنار، استثنى من هذه الفرق فرقة واحدة، وهي الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، فسأله الصحابة الكرام: { من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي}، أو قال: {هي الجماعة}، وسند الرواية الثانية صحيح لذاته، بخلاف الرواية الأولى فإنها صحيحة لغيرها -أي: بمجموع الطرق- على أن المعنى واحد: فإن (الجماعة) تعادل: {ما أنا عليه وأصحابي} وهذه تؤيد تلك، ولا يمنع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدثهم عن الفرقة الناجية بهذا الحديث في مجالس عدة، وسئل أكثر من مرة ويجيب مرة بهذه الجملة ومرة بتلك، ومعناهما ومؤداهما واحد، أو أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم عبَّروا عن المعنى الواحد كما فهموه من النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {هي الجماعة}، وعبر عنها أحد أصحابه بالمعنى فقال: {ما أنا عليه وأصحابي}، لكان المعنى أيضاً حقاً؛ لأنهما شيء واحد وصفاً ومعنىً وحقيقةً.
    1. الفرقة الناجية لا يضرها من خالفها حتى يأتي أمر الله

      قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى: {ما أنا عليه وأصحابي} وقوله في الرواية الثانية: {هي الجماعة} تتفرع عنهما جميع أوصاف أهل السنة والجماعة، وجميع مميزاتهم التي يتميزون بها عن سائر الفرق، والتي بها يكون لهم ما وعدهم به الله سبحانه وتعالى، وهو النصر على من خالفهم، وأنهم {لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله عز وجل}، وأمر الله هو: الريح الطيبة التي يرسلها الله تبارك وتعالى في آخر الزمان {فتقبض أرواح المؤمنين فلا يبقى إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة}، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح.
      وهذه الطائفة منصورة ظاهرة على من خالفها، لا يضرها من خالفها، وليس معنى ذلك: أن من خالفها لا يلحق بها أي ضرر؛ وإنما لا يضرها بمعنى: لا تبالي بمن خالفها، وإن ابتليت، وامتحنت، واستضعفت؛ فإنها هي الغالبة، كما قال الله سبحانه وتعالى: ((وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ))[الصافات:171-173]، فهؤلاء الموعودون بالنصر هم الطائفة المنصورة، وهذا هو الوصف الأول وهو أنها منصورة.
      والوصف الثاني: أنها ناجية، مع أن غيرها متوعد بالنار، وهي موعودة بالنجاة موعودة بالجنة، قال تعالى: ((فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ))[آل عمران:185].
    2. معنى النجاة للفرقة الناجية

      وقبل أن نستعرض صفات الفرقة الناجية، نقف قليلاً عند موضوع النجاة، فهل تعني نجاة هذه الفرقة أن كل من كان من أهل السنة والجماعة -إذا قلنا: إن الطائفة المنصورة هم أهل السنة والجماعة عامةً- فهو ناج من العذاب، وغير متوعد، وهو على حق وعلى استقامة في سلوكه، وفي خلقه ومعاملته مع ربه دائماً؟
      الجواب: إذا قلنا بالمعنى العام أن أهل السنة عامةً كل من اعتقد الحق، ودان لله تبارك وتعالى به، فيكون المرء بهذا قد نجا من أهل الأهواء والبدع والضلالات، ولكن من أهل السنة من هم أصحاب كبائر، وقد لا ينجون من النار، فالنجاة هنا لا تعني عدم الوقوع في الكبائر أو المعاصي وما يترتب على ذلك من العقوبة، فمن كان من أهل السنة في العقيدة، ولكن قد يزني، وقد يسرق، وقد يشرب الخمر، وقد يصر على كبيرة؛ فيعذب بها؛ مع أنه من أهل التوحيد ومن أهل السنة، وليس من أهل الأهواء والضلالات والبدع.
      إذاً: النجاة هنا هي في باب الاعتقاد، فمنهجهم منهج نجاة، ولا يعني ذلك أن أحدهم إذا ارتكب موبقة أنه لا يحاسب عليها.. نقول هذا لأمرين:
      الأمر الأول: حتى يعلم أهل السنة أنه يجب عليهم أن يطبقوا دين الله كله، ويلتزموا أوامره وحدوده جميعاً، ويستقيموا على أمره، مع السنة ومع الاستقامة في العقيدة.
      الأمر الثاني: حتى لا يأتي أهل البدع فيشككوا أهل السنة، كأن يقولوا: أنتم تزعمون أنكم فرقة ناجية وطائفة منصورة، وفيكم من يشرب الخمر، وفيكم من يزني...؛ فهل هذا فعل الناجين؟ كلا؛ بل هو فعل الهالكين! ويرجحون عدم نجاة أهل السنة؛ لأن من أهل البدع من هو على عبادة وجهاد وذكر، فلو قارنا بين هؤلاء وهؤلاء، لبدت الموازنة غير صحيحة، فكيف يقال: إن أهل السنة موعودون بالنجاة مع ما عند بعضهم من فجور، وأولئك متوعدون بالهلاك مع الذكر والعبادة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟!
      فنقول لهم: النجاة والهلاك المقصودان هنا هما بحسب الاعتقاد.
      أما ما يقع من أهل السنة والجماعة، فكما تقدم بيانه، ولو دخلنا في باب المقارنة لكان أهل السنة أكثر خيراً وأقل شراً، قولاً وعملاً واعتقاداً، والواقع شاهد بذلك، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (كل خير عند أهل البدعة، ففي أهل السنة والجماعة مثله وأكثر منه، وكل شرٍ أو فجورٍ أو فسقٍ في أهل السنة، ففي أهل البدعة مثله وشر منه وأكثر).
      فليس ميزان النجاة ألا يوجد في أهل السنة أصحاب فجور، ولكن ميزان النجاة سلامة الاعتقاد؛ فهو الأساس، وإذا جعلنا وجود الشر أو الفجور ميزاناً، فإن أهل البدع أكثر فجوراً وشراً، وأيما فرقة من الفرق تزعم أنها أفضل من أهل السنة ؛ فإننا نقارن بينها وبين أهل السنة، فنجد ذلك واضحاً، ويكفينا أن نعلم أن أهل السنة يدخل فيهم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما أنا عليه وأصحابي}، والقرون الثلاثة المفضلة، فهل يمكن أن يكون في فرقة أخرى من يوازن أو يعادل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والقرون الثلاثة المفضلة؟ لا يمكن أبداً. فإذا كان في آخر الزمان من أهل السنة من لديه ما يستنكر، فإنا ننظر إلى أهل السنة في الجملة، وننظر إلى أهل البدع في الجملة، فنجد في هذه المقارنة فرقاً وبوناً شاسعاً.
      وأما أهل البدع؛ فكل ما فيهم من خير، فهو نتيجة اتباعهم لشيء من السنة، أو اقتدائهم بـأهل السنة والجماعة، أو على الأقل بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
      فأهل البدع إن كان فيهم ذو علم أو من يحب العلم ويحرص عليه، فلأنه إنما يعتمد على كتب أهل السنة، فيعتمد على صحيح البخاري وصحيح مسلم، وعلى مسند الإمام أحمد، وعلى كتب السنن، وكتب الرجال، وأقوال علماء الرجال، وعلماء الرجال إنما هم من أهل السنة، أمثال: الإمام أحمد، والبخاري، والنسائي، وابن المديني، وأبي زرعة، فأهل البدع إن كان لديهم خير أو فضل أو علم فمرجعه إلى السنة وأهلها.
      ومع ذلك؛ فإنه يجب أن يكون أهل السنة والجماعة في جميع العصور مستقيمين على أمر الله في كل شيء، ولا يكفي أن يكون الإنسان على عقيدة صحيحة وهو يقصر في أداء الواجبات، فإن ذلك دليل على ضعف في الإيمان بهذه العقيدة، فلا ينبغي أن يكون في سلوكه وخلقه وتعامله مع الناس مخالفاً لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
      ومع أن هذا واقع من بعض أهل السنة، فإنه لا يعني أفضلية أهل البدعة على أهل السنة .
  2. أهم خصائص ومميزات أهل السنة والجماعة

     المرفق    
    يتصف أهل السنة والجماعة بخصائص وصفات كثيرة؛ نذكر منها ما يلي:
    1. اتباع الكتاب والسنة

      الصفة الأولى: اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتحاكم إليهما في كل صغيرة وكبيرة؛ فإن ذلك من صفات أهل السنة، بل هي أولها وأعظمها، ولهذا فهم لا يقدمون على الكتاب والسنة رأياً ولا عقلاً، ولا ذوقاً ولا كشفاً، ولا قول إمام أو شيخ كائناً من كان، بل يتبعون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقدمونهما على قول كل أحد حتى على آرائهم، وعلى أنفسهم، ونتيجة لذلك نجد أن أهل السنة والجماعة في جميع العصور يهتمون بالكتاب والسنة؛ لأنهما المرجع الذي يرجعون إليه ويتبعونه، فيهتمون بكتاب الله حفظاً وتلاوةً، وتفسيراً وتطبيقاً، وإقامة لحدوده، ويهتمون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم تصحيحاً وتضعيفاً، ومعرفةً، وتطبيقاً وإقامةً لها، فهذا حالهم، وهذا شأنهم.
      وهذه أعظم ميزة يتميزون بها عن جميع الطوائف وسائر الفرق، ولو نظرنا إلى كل الجهود التي بذلت لخدمة الكتاب والسنة -ولاسيما في علم الحديث- لوجدنا أن الفضل الأكبر واليد الطولى في ذلك -بعد توفيق الله سبحانه وتعالى- لـأهل السنة، ومن خدمها من أهل البدعة، فإن ذلك يُعد نعمة عليه أن شغله الله سبحانه وتعالى بالسنة، ولو اشتغل بغيرها لكان أبعد عن الدين، ولكن اشتغاله بالسنة مع ما لديه من الهوى؛ يجعل درجته ومنزلته في برزخ بين أهل البدعة المحضة، وبين أهل السنة المحضة.
    2. ترك الابتداع في الدين

      الصفة الثانية: أنهم لا يبتدعون, بل يحاربون البدعة في الدين أياً كانت، حتى لو فُعلت البدعة بقصد حسن لا بقصد الابتداع في الدين، فإنها تحارب؛ لأنها بدعة، ولأنها تضعف من قيمة الاتباع الذي هو الأساس الأول لأن يكونوا (الجماعة) كما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولهذا فهم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر في كل زمان ومكان، وهم المتصدون للبدع قديمها وحديثها، وهذا من أعظم ما يميزهم، فهم عندما يدافعون عن السنة ويحاربون البدعة؛ إنما يفعلون ذلك محافظة على الأصل العظيم الذي يجب أن يرجع إليه المسلمون جميعاً، وهو الكتاب والسنة، والاستقامة عليهما.
    3. الإيمان بالكتاب كله

      الصفة الثالثة: أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بالكتاب كله، ويدخلون في الدين كله، كما أمر الله تبارك وتعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً))[البقرة:208]، والسلم: هو الإسلام، والمعنى: أن ندخل فيه كلنا؛ دخولاً كلياً حتى يكون الدين كله لله، هذا احتمال.
      والاحتمال الآخر: أن ندخل فيه كله، فنأخذه من جميع جوانبه، وكلاهما حق، وكلاهما مطلوب، فـأهل السنة والجماعة لا يبطلون بعضاً من الدين ليقيموا البعض الآخر؛ خلافاً لأهل البدع، فإنالخوارج -مثلاً- يأخذون النصوص الدالة على الوعيد لأهل الكبائر، وعلى شناعة الذنوب، ولكنهم يتركون جانب الوعد، وفي المقابل جاءت المرجئة فأخذت جانب الوعد وأظهرته وأبرزته، وتركت وأهملت جانب الوعيد، فأهل البدع يقيمون شيئاً من الدين، ويتركون شيئاً آخر، لكن أهل السنة والجماعة يأخذون بأحاديث الوعيد وآياته وكذلك الوعد، ويجمعون بينها جميعاً، ويؤمنون بها جميعاً؛ فإذاً: هم يؤمنون بالدين كله.
      وكذلك في باب القدر؛ فمنهج أهل السنة والجماعة وسط بين القدرية والجبرية، فإن القدرية أخذوا بالنصوص الدالة على أن العبد هو الفاعل، وهو المسئول عمَّا عمل، وكل دليل يدل على مسئولية العبد ومؤاخذته على أعماله أخذوا به وأبرزوه؛ لكنهم تركوا النصوص الكثيرة الدالة على أن الله تبارك وتعالى قدَّر أفعال العباد، وكتبها وخلقها.
      والجبرية بالغوا في إثبات أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق أفعال العباد، وهو الذي يدبرهم، وهو الذي يصرفهم؛ حتى جعلوه هو الفاعل لأفعال العباد، فغلوا في ذلك، وتركوا الجانب الآخر، وهو النصوص التي تدل على أن العبد مسئول ومؤاخذ عمَّا عمل، وأنه يعمل بإرادته ومشيئته واختياره.
      وكذلك الموقف من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فـأهل السنة والجماعة يثبتون فضائل الصحابة جميعاً، فيثبتون كل ما صح من فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وغيرهم من الصحابة، أما الروافض فيبالغون في علي وآل البيت ويقتصرون عليهم فقط، ويختلقون لهم الفضائل، وفي المقابل يبغضون بقية الصحابة، ويسبونهم ويكفرونهم، ويجحدون وينكرون ما ثبت من فضائل لـأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم.
      وقابلتهم الخوارج، فجحدوا كل فضيلة لـعلي رضي الله تعالى عنه وكفروه، وأنكروا نصوصاً صحيحة في فضله.
      وأما أهل السنة والجماعة فهم مقرون بفضلهم جميعاً رضي الله عنهم، وهم يثبتون ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ويؤمنون به جميعاً. فأعظم صفة من صفاتهم: الإيمان بالدين كله، فلا يردون شيئاً منه.
      مثال آخر في باب الصفات: الذين نفوا صفات الله تعالى وقصدوا بذلك التنزيه وبالغوا في التنزيه، واستدلوا بقوله تعالى: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ))[الشورى:11]، قالوا: فما دام أنه ليس كمثله شيء، فلا نثبت له اليد، ولا الوجه، ولا النزول، ولا العلو...؛ لأن هذه من صفات المخلوقات المحدثات الممكنات.. إلى آخر ما يقولون، فأخذوا بذلك التنزيه، وأولوا النصوص الدالة على الإثبات، وجاء في المقابل الممثلة أو المشبهة، الذين غلوا في إثبات الصفات، وتركوا النصوص الدالة على التنزيه.
      وأما أهل السنة والجماعة فإنهم آمنوا بالجميع، فقالوا: إن الله تعالى يقول: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))[الشورى:11]، فـ(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) تنزيه عن المماثلة، وقوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) إثبات للصفات، فهم يثبتون الصفات وينفون عنه المماثلة، وهذا منهج متوازن؛ لأن أهل السنة يؤمنون بالدين كله، ولا يردون شيئاً منه.
    4. الجمع بين العلم والعبادة

      أهل السنة يجمعون بين العلم وبين العبادة -وهذا في مجال السلوك لا العقائد- فالعالم من أهل السنة مع اتصافه بالعلم، نجده عابداً زاهداً، والصحابة والتابعون هم أوضح مثال لذلك -ولا يخالف في هذا أحد- وحتى أئمة السنة مثل: الإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن كثير، وابن رجب، وغيرهم من أئمة السلف، نجدهم أئمة علماء، وفي نفس الوقت عُبَّاداً وزهَّاداً، فجمعوا بين العلم وبين العبادة، أما أهل البدع فإما أن يكون لديهم علم وفقه ومعرفة بالأحكام، لكن مع ضعف في الإيمان -نسأل الله العفو والعافية- لأنه مع فساد العقيدة لا يكون لديهم العبادة والخشوع والإخلاص لله سبحانه وتعالى، والزهد في الدنيا. وإما أن يكون فيهم العباد والذاكرون والزهاد، ولكن على غير علم، فيذهب أحدهم في الفيافي والبراري يهيم ويتعبد ويذكر الله بدون علم، حتى في الأمور التي يجب أن يعلمها الناس من أمور الحلال والحرام وأحكام العبادات الضرورية.
      فـأهل السنة من إيمانهم بالدين كله يحبون الورع، ويحبذون الزهد، ولكنهم لا يحرِّمون الطيبات، فهم يؤمنون بالنصوص الدالة على حل الحلال: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ))[الأعراف:32]، ولا يحلون ولا يحرمون إلا بدليل؛ لأن التحليل والتحريم دون دليل من علامات المفترين على الله الكذب، وهم -في نفس الوقت- يرون أن الزهد والورع درجة عليا ينبغي الحرص عليها.
      أما أهل البدع فهم بين:
      غارق في الشهوات، حريص على المناصب، كما كان أئمة الاعتزال والرفض يحرصون على أن يكونوا وزراء، ويتملقون للأغنياء، ويتقربون إلى الأمراء والوزراء.
      وبين تارك معرض عن الدنيا زاهد فيها، ولا يكتفي بالزهد فيها، بل يلوم ويذم الذين يتمتعون بالطيبات، وكلا الحالين خطأ، فهذا الفساد -وإن كان في السلوك- فإنه يدل على فساد الاعتقاد.
      وتأمل حال أئمة الصوفية -والعجيب أن هذه الظاهرة موجودة أينما وجد التصوف، وهذا من علامات فساد منهجهم- تجدهم يتكلمون كثيراً في التنفير عن الدنيا وملذاتها حتى تتعجب من كلامهم، ولكنهم -وهذا ملاحظ وملموس بشكل واضح- يحرصون على أن تكون علاقتهم ومعرفتهم وصلتهم بالتجار والأمراء والوزراء قوية، وكأن شخصيتهم تختفي في الظل، ولكنهم يستغلون ذلك لتقوية علاقتهم بالأثرياء، فأين علاقتهم بالمساكين والضعفاء؟! لا نجد ذلك عند كثير ممن يدعون التصوف، بل كلما ولي خليفة جديد تملقوا له وتقربوا إليه، فكيف نجمع بين دعوتهم للزهد وتحريمهم للطيبات، وبين تملقهم للتجار والأمراء؟!
      نعلم وبذلك أن فساد العقيدة والخلل في النظرة يؤدي إلى الخلل في الممارسة، وفي التطبيق والسلوك، بخلاف ما لو كانت العقيدة صحيحة، فلو كانوا يعتقدون أن حلال الدنيا حلال، لما فعلوا ذلك، فالحلال يبقى حلالاً، وما بعد ذلك فهو الورع، فيكون هذا موافقاً للحق، ومن ذلك يعلم أن من ملك الدنيا ثم تركها، أفضل ممن ابتعد عنها ونفسه تتوق إليها ويتملق لأهلها، فالتاجر المؤدي للواجبات، خير من شيخ طريقة ينفر الناس من الدنيا وهو يتملق للتجار ويحرص على علاقاته الودية مع الأثرياء.
      فشمول الإسلام وتكامله يظهران جلياً في أخلاق وصفات أهل السنة والجماعة، وإذا قلنا: إننا من أهل السنة، فليس بالضرورة أن يكون واقعنا كذلك، لكن يجب علينا أن نكون كذلك، ولا يجوز أن ندعو إلى شيء ونعمل بخلافه.. نسأل الله العفو والعافية.
    5. تميز أهل السنة بهذا الاسم

      وهناك ميزة تميز بها أهل السنة والجماعة وقد فطن لها كثير من السلف بعد أن ظهرت الفرق، فقد روي عن أيوب السختياني وعن غيره أنهم سئلوا: ما علامة أهل السنة ؟ قال: (الذين ليس لهم اسم إلا السنة)، فليس لهم اسم غيره يتميزون به عن سائر المسلمين، وهذه الميزة لا توجد في أي طائفة من الطوائف ولا في أي فرقة مطلقاً؛ فإن غير أهل السنة ينتسبون إلى غير السنة، أما أهل السنة فإن انتماءهم رباني، قال الله تعالى: ((وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ))[آل عمران:79]، فهم ربانيون ينتسبون إلى الإسلام، والإسلام هو لله، فهذا الانتماء الرباني استسلام لرب العالمين، وكذلك التسمية التي سماهم بها الله سبحانه وتعالى: ((هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا))[الحج:78]، فإذا سئل الإنسان عن انتسابه، قال: أنا مسلم، فإذا قيل له: من أي المسلمين؟ قال: من أهل السنة، وليس لـأهل السنة اسم إلا أهل السنة.
      وأهل البدع يُسمون أهل السنة بالوهابية، أو التيمية، أو الحشوية، وهذا ليس بحجة عليهم؛ لأنه ليس أحد من أهل السنة يقول: أنا وهابي، أو أنه ينتسب إلى الوهابية، ولا يرضى أن يقال له أنه حشوي أو مجسم أو مشبه، فهذا نبز نبزهم به أعداؤهم ولقبوهم به، أما هم فلا يسمون أنفسهم إلا أهل السنة، ولا يعني ذلك أن أهل السنة لا يصفون أنفسهم بغير ذلك من الأوصاف غير العلمية، فلو أن بعض أهل السنة في بلد سموا أنفسهم مثلاً: أهل الحق، أو أهل الدعوة، أو أهل الإيمان، أو أنصار السنة مثلاً، أو سموا نسبة لإقليم من الأقاليم مثل أهل الشام، أو غير ذلك؛ فهذه الأوصاف لا غضاضة فيها، إنما الذي لا يفعله أهل السنة هو أن يجعلوا لأنفسهم علماً يعرفون به غير السنة؛ يوالون عليه ويعادون عليه، ويعتبرون كل من كان خارجاً عنه ليس على الحق، فهذا لا يوجد إلا عند أهل البدع، كما يقولون في المثل الشعبي: (كل شيخ له طريقة)، فإذا تناقشت مع أحدهم في قضية من قضايا الدنيا يقول: (كل شيخ له طريقة) يعني: أنت لك رأيك وأنا لي رأيي.
      والواقع أن أهل البدع فرَّقوا الدين، وفرَّقوا الأمة، حتى صار كل شيخ له طريقة، فإذا أخبرت أحدهم أنك صوفي فلابد أن تبين من أي الفرق أنت، أقادري أنت أو تيجاني أو نقشبندي؟ فإن موالاته ومعاداته لك ليست واضحة حتى تحدد طريقتك! فإن كنت على طريقته فأهلاً وسهلاً، وإن كنت على غير طريقته، قال لك: لست منك ولست مني..
      فانتماء أهل السنة والجماعة إلى الإسلام والسنة من أعظم ما يميزهم عن غيرهم.
    6. حرص أهل السنة على جمع كلمة المسلمين

      إن أهل السنة والجماعة هم أحرص الفرق على جمع كلمة المسلمين، ولا توجد فرقة أو طائفة تحرص على جمع كلمة المسلمين كـأهل السنة والجماعة ؛ لأنهم هم الذين ينتمون هذا الانتماء، ويسمون بهذا الاسم العام الواضح، فكل مسلم هو منهم ومعهم ما دام على طاعة الله، حتى تظهر منه بدعة تخرجه عن دائرة أهل السنة، فلا يستطيع شيعي أن يقول: إن فلاناً شيعي؛ إلا إذا تأكد لديه أنه شيعي، أو أظهر أنه شيعي، ولا يستطيع أحد أن يقول: إن هؤلاء الناس معتزلة؛ إلا إذا تأكد، أو أظهروا أو كتبوا أو قالوا: إننا معتزلة مثلاً، لكن عند أهل السنة أن كل من كان على الإسلام وعلى الحق، فهو من أهل السنة، حتى يظهر خلاف ذلك، فهؤلاء على الأصل الذي عليه المسلمون جميعاً، والصحابة رضوان الله عليهم كانوا كلهم كذلك، فلم يكن فيهم خارجي ولا صوفي ولا شيعي، وكانوا يسمون بالمسلمين، ثم لما حدثت الفتنة وافترقت الأمة، ظهرت هذه الأسماء، فإذا قيل: الشيعة؛ عرف أنهم شيء خارج عن هذا الكيان الذي هو مسمى أهل السنة والجماعة، وإذا قيل: الخوارج؛ عرف أنهم جزء خارج عن هذا الكيان.. وهكذا.
      فـأهل السنة هم أحرص الناس على جمع كلمة المسلمين؛ لأنهم لا يدعون إلا إلى الكتاب والسنة، فإذا قال المسلم: طريقتي كذا، ومذهبي كذا، وسألته عن طريقته ومذهبه: من أين أخذها؟ فسيجيب: من الكتاب والسنة -بغض النظر هل هو صادق أم كاذب- فأياً كان مذهبه أو طريقته، فنحن ندعوه إلى ما هو مقر بأنه الأصل، وهو الكتاب والسنة، إذاً: الفرقة التي تحرص على جمع كلمة المسلمين وعلى توحيد صفوفهم جميعاً هم أهل السنة ؛ لأنهم يدعون إلى ما يجتمع عليه جميع المسلمين على اختلاف طوائفهم وفرقهم.
      يجدر بنا التنبيه على قضية هامة، وهي: التفريق بين كلمة (الفِرَقَ)، وبين (التَفَرُّق)، فالتفرق والاختلاف دائرته أوسع من (الفِرَق) الاعتقادية المقصودة بـ (الاثنتين والسبعين)، فهذه فرق ضلال وبدعة، والتفرق قد يوجد بين أهل السنة -مع أننا منهيون عنه- وهذا التفرق والاختلاف غير الافتراق الذي هو أن ينتهج الإنسان شعبة من شعب الضلالة الاثنتين والسبعين. فالتفرق أهم من الافتراق، ولكي لا يحصل الشقاق والتفرق يجب أن نوحد دعوتنا بأن ندعو إلى اتباع الكتاب والسنة، وألا ندعو إلى مذهب إمام من الأئمة، فإن أتباع الأئمة الآخرين سيرفضون ذلك؛ لاعتقاد كل واحد أن إمامه على الحق دون غيره، فلن تتوحد الأمة إلا على الكتاب والسنة.
    7. الرد على من يزعم أن أهل السنة يفرقون المسلمين

      وإذا قيل: إن أهل السنة يفرقون المسلمين، لأننا نكون في بلد ما على طريقة من طرق الصوفية -مثلاً- وبدلاً من أن نحارب الاستعمار أو الشيوعية يأتينا أهل السنة فيقسمون الناس إلى سلفي وخلفي، وسني وبدعي، فيفرقوننا وقد كنا مجتمعين!!
      فالجواب: أنهم أصلاً كانوا مجانبين للطريق المستقيم، فدعاهم أهل السنة إلى الله، فمنهم من عاد إلى الطريق المستقيم، ومنهم من بقي مشاقاً له، فقد كانوا فرقة واحدة بعيدة عن الصراط المستقيم، فإذا دعاهم أهل السنة إلى الله واستجاب منهم من استجاب، فقد أصبح على الصراط المستقيم، وهذا لا يعد من التفريق، وإنما يعد من الفرقان، فإن الله سبحانه وتعالى سمى القرآن: فرقاناً، وسمى يوم بدر: يوم الفرقان، فالفرقان غير التفرق، وقد زعم كفار قريش أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الآباء والأبناء، وقطع الأرحام، فهل يُقَرون على ذلك؟ لا يقرون عليه أبداً؛ فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مفرقاً، وإنما كان فرقاناً، فمن آمن به صلى الله عليه وسلم انقطعت صلته بذلك الكافر، فانقطعت صلة أهل الإيمان والنور والخير عن أهل الشرك والضلال والشر، وقد أمره ربه عز وجل فقال: {وقاتل بمن أطاعك من عصاك}، وحصل ذلك يوم بدر، فالابن يقاتل أباه، والأب يقاتل ابنه، والأخ يقاتل أخاه، فهذا في الحقيقة فرقان، وليس تفريقاً ولا قطعاً للأرحام.
      بل إن الله سبحانه وتعالى قد ذم المشركين وعابهم لأنهم هم الذين يقطعون أرحامهم، ولو كانوا يصلون الرحم لما حاصروا النبي صلى الله عليه وسلم في الشعب، ولما اضطهدوا أصحابه حتى ألجئوهم إلى الهجرة إلى الحبشة وهم أبناؤهم وأرحامهم، وما نقموا منهم إلا أنهم قالوا: لا إله إلا الله، ووحدوا الله، وآمنوا به.
      فالذين يقطعون الرحم إنما هم المشركون، والذين يفرقون المسلمين هم الذين يمنعون الفرقان أن يكون في الأرض، ليتميز أهل الخير والحق والهدى عن أهل الشر والباطل والضلال.
      ولابد من الفرقان، حتى تستبين سبيل المجرمين، أما اجتماع الأمة على الباطل فإنه أضر شيء عليها، ولا يسمى ذلك اجتماعاً، وخير منه -بل الواجب- أن يكونوا جميعاً من أهل الحق، فإن لم يكن ذلك -وهذا هو الواقع، وهو سنة من سنن الله عز وجل- فالافتراق لابد أن يكون بين أهل الحق وأهل الباطل.
    8. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

      ومن مميزات أهل السنة في جميع العصور: أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فلا يمكن أن يوجد عالم من علماء أهل السنة لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، أو لا يدعو إلى الله، وإذا كان هناك عالم لا يحرص على الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن ذلك دليل على أن في تمسكه بالسنة أو ادعائه لها خللاً ونقصاً، وفيه تهمة، ولا يوجد هذا أبداً؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد أمر الله به وشرعه، قال الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ))[يوسف:108]، فكيف يكون من أهل السنةأهل السنة هم أتباع النبي صلى الله عليه وسلم -من لا يدعو إلى الله؟!
      يرى بعض أهل السنة أن الدعوة إلى الله تكون بتعليم العلم ونشره، وبالتأليف، ويرى بعضهم أن الدعوة إلى الله تكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنزول إلى ميدان الدعوة مباشرة، فهذا شيء تختلف فيه الاجتهادات، لكن لا يوجد -ولن يوجد أبداً- عالم من علماء السنة إلا وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله، ويحرص على إقامة الدين.
      أما أهل البدع؛ فيوجد فيهم من يكون لديه من العلم ومن المؤلفات المجلدات الضخام، وهو يرى المنكر ويقره في بيته، وفي من حوله، وفي أقرب الناس إليه، ولا يفعل شيئاً لإنكار ذلك والعياذ بالله! وهذا دليل على فساد اعتقاده، وعلى أنه لا يمثل المنهج الصحيح السوي الذي عليه أهل السنة والجماعة .
  3. المميزات العملية لأهل السنة والجماعة

     المرفق    
    إذا كانت هذه هي صفات أهل السنة والجماعة من حيث المنهج، فإن لـأهل السنة والجماعة مميزات واضحة، تعود إلى الممارسة والتطبيق، يلاحظها الناظر لحال الأمة الإسلامية لأول وهلة ومن أول إطلالة على الفِرَق.
    1. الاتفاق وعدم التفرق

      من أعظم مميزات أهل السنة والجماعة التطبيقية، أو السلوكية العملية: أنهم في واقعهم دائماً وأبداً متفقون لا يفترقون في أصول الدين، بخلاف غيرهم من الفرق، فـالخوارج كانت تسمى المحكمة، ثم خرجت فيما بعد الأزارقة، ثم تفرقوا؛ فخرجت النجدات على الأزارقة، وانشقت الإباضية عن النجدات، وكل منهم يقاتل الآخر ويكفره.
      أيضاً من المعتزلة : إبراهيم النظام وأبو الهذيل العلاف، هؤلاء من أول من أسس الاعتزال كمادة كلامية، ومع ذلك كان النظام يكفر العلاف، والعلاف يكفر النظام، وكانا لا يتفقان مطلقاً.
      كذلك الرافضة اختلفوا وانقسموا من أول خروجهم إلى: سبئية وكيسانية وزيدية، حتى أصبحوا فرقاً متناثرة، وأصبحت كل فرقة من الروافض ومن الشيعة تدعي أن الإمام فيهم؛ فقالت الإسماعيلية : أن الإمامة انتقلت في ذرية إسماعيل بن جعفر، وقال آخرون: إن الإمامة في ذرية زيد بن علي، وقالت الجعفرية : في ذرية جعفر الصادق لكن من ابنه موسى بن جعفر، فلما وقعت المشكلة الفاصلة للإثني عشرية التي فرقتهم تفريقاً لا رجعة فيه، وهي موت إمامهم الحادي عشر: الحسن بن علي العسكري من غير أن يعقب؛ لأن الإمامة عندهم تنتقل بالتناسل، فلابد أن يكون كل إمام ابناً للإمام السابق، ولا يمكن أن يكون أخاه أو عمه، لكن العسكري مات ولم يعقب -أي: ليس له ولد- فأصبح الدين كله باطلاً؛ لأنهم جعلوا ركن الدين والأساس الأعظم فيه هو معرفة الإمام، واشترطوا فيه أن يكون عقباً لإمام ولا عقب للحسن العسكري، وإما أن يكون أخاه أو عمه، وبذلك يرجعون للفرقة الأخرى، وهذا فيه إبطال لمزاعمهم، ولذلك اختلقوا أن له ولداً دخل السرداب، وهو الإمام الغائب الثاني عشر، الذي لا وجود له، وبعد ذلك اختلقوا أنه يكون على باب السرداب حاجب يتصل بالإمام الغائب ويأخذ منه التعاليم، فجاء محمد بن نصير أبو شعيب وادعى أنه الباب، وادعى القمي أنه الباب! وكل شخص يدَّعي أنه الباب.
      وهذا كله كذب، فلا وجود للمهدي ولا للسرداب، وهكذا حتى انشقت النصيرية عن الشيعة، والزيدية عن الإمامية الجعفرية، وهكذا تفرقوا شيعاً، ولا لقاء بين تلك الفرق أبداً.
      ومن الفرق التي اختلفت وافترقت: الصوفية؛ فقد قالوا: إن الجنيد سيد الطائفة، وبعد ذلك أصبحوا طوائف شتى، ففي أيام الدولة العثمانية أحصيت الطرق الصوفية المشهورة التي لها أتباع -وذلك قبل ثمانين سنة تقريباً، أي: في مطلع هذا القرن- فوجد أنها ثلاثمائة طريقة غير الطرق الصغيرة وغير الطرق المحدثة بعد ذلك، فأيها على الحق؟! مع أنهم يقولون: إن الجنيد سيد الطائفة، وإن سنده متصل بـالحسن البصري إلى علي أو إلى أبي بكر إلى محمد صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام، فلماذا -إذاً- هذه الفرق الثلاثمائة وأكثر؟!
      إن بدايات معظم هذه الفرق أن يلازم المريد منهم شيخه، فيرى الأتباع بالآلاف، وبعد فترة يرى نفسه أكفأ من شيخه وأذكى منه، ومن الممكن أن يأتي بدجل أحسن من دجل شيخه، فينشق عن شيخه، ويأتي بطريقة أخرى ويسميها باسمه، وإذا أنكر عليه شيخه قال: كلنا كذلك، إذا كنت أنا مبتدع فأنت أيضاً مبتدع؛ لأنك انشققت عن شيخك!
      فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها            وأول راضٍ سيرة من يسيرها
      فالانشقاق طريقة متبعة لديهم جميعاً، وهكذا حصلت الطرق المتعددة والمختلفة.
      إذاً: فلا توجد طائفة ولا فرقة إلا وتفرقت وتمزقت إلا أهل السنة والحمد لله، فإنهم لا يتبعون إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأئمتهم هم: أحمد، والبخاري، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، وغيرهم من الأئمة الأجلة الذين هم أئمة أهل السنة في كل مكان وفي جميع العصور، ويقتدي بهم أهل السنة في كل زمان ومكان، في منهجهم الذي هو اتباع الكتاب والسنة، وإيضاحهما ومقاومة البدعة، فمنهج أهل السنة منهج واحد لا يختلف ولا يضطرب، وهذه من أعظم المميزات العملية لـأهل السنة والجماعة.
    2. التوسط والاعتدال

      من المميزات العملية التي يمتاز بها أهل السنة والجماعة، والتي لا توجد ولن توجد عند أهل البدع: أن أهل السنة دائماً وسط بين أهل الإفراط والتفريط، وقد أشرنا إلى ذلك عندما ذكرنا أنهم يؤمنون بالكتاب كله، وسنزيده هنا بياناً فنقول: أهل السنة وسط في باب الإيمان بين الخوارج والمرجئة، وهم وسط في باب الصفات بين المعطلة والممثلة -ونحن نعبر بـ(ممثلة)؛ لأن الذي ورد في القرآن هو نفي المماثلة في قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11]؛ والمقصد من هذا التعبير أن تكون ألفاظنا شرعية- وأيضاً في باب القدر هم وسط بين القدرية والجبرية، وكذلك في الصحابة هم وسط بين الروافض والخوارج.. وهكذا.
      إذاً: الوسطية منهجهم في كل شيء، وهذه ميزة لا توجد لأي فرقة من الفرق.
      وهذا ليس في العقيدة فحسب، وإنما في السلوك أيضاً؛ فمثلاً: أهل السنة وسط في السلوك بين أهل الرأي والكلام، وبين أهل الكشف والذوق -أي: بين المعتزلة والصوفية - فـأهل السنة لا يلغون دور العقل، لكنهم ليسوا مثل أهل الكلام الذين كل شيء عندهم عقليات ومنطق، وبراهين فلسفية، فهم إنما يستخدمون العقل للوصول إلى الفهم الصحيح للقرآن والسنة.
      أيضاً أهل السنة ينكرون ما يسمى بالروحانية أو الكشف عند الصوفية، مع أن أهل السنة أحرص الناس على تصفية نفوسهم وتنقيتها ومحاسبتها، ولكن على منهج صحيح وفق الكتاب والسنة.
      أيضاً هم وسط بين أدعياء الزهد (المُتفقِّرة)، فـالصوفية من أعظم أوصافهم القديمة أنهم الفقراء أو (المتفقِّرة)، ويزعمون أن هذا أعظم اسم وأعظم صفة لهم، سبحان الله! وهذا الوصف بذاته -الفقر- منزلة أو مقام يسعى إليه أكثر من ثلاثمائة مليون في الهند من عباد البقر، ممن هم فقراء لا يجدون طعام يومهم.
      والفقر ليس ميزة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بالله من الفقر.
      الشاهد من هذا: أن الصوفية يسمون أنفسهم: الفقراء، وقد أطلقوا على الحشيش -النبات المخدر- حشيشة الفقراء؛ لأن أول من اكتشف التخدير في الحشيش هم الصوفية الهنود، عندما كانوا يقصدون الغابات؛ للسير في الأرض، وجعلوا يتجولون ويتركون الطعام والشراب، ويدعون الزهد والفقر، ويقتاتون على النباتات البرية، فوجدوا هذا النبات الذي إذا أكلوا منه شعروا بلذة عجيبة، وخيالات وكشوفات، وشعروا بالنشاط لفترة معينة من الزمن، وإن كانت بعد ذلك تهلكهم، ثم عرفها الناس عن طريقهم، فنسبوها إليهم وسموها: حشيشة الفقراء، ثم اختصر الاسم وقيل: الحشيشة ؛ لأنهم كانوا يأكلونها كما تأكل الدواب الحشيش، فكان هذا قوتهم.
      فـأهل السنة وسط بين هؤلاء الذين يدعون الفقر، وبين المترفين -الذين هم أبعد الناس عن ذكر الموت والدار الآخرة- الذين ينغمسون في الشهوات والملذات، والترف والبذخ، فـأهل السنة وسط بين هؤلاء وبين هؤلاء.
      إذاً: أهل السنة وسط في السلوك والمعاملات والأخلاق.
      ينسب إلى المسيح عليه السلام -كما في الأناجيل- أن دينه دين المحبة والسلام والعفو والصفح، ولذلك فإن كثيراً من الصوفية أخذوا هذا الأصل -وهو المحبة واللين والرفق- منهجاً لهم، فهم لا يضربون من ضربهم، ولا يشتمون من شتمهم، ولا يخاصمون من خاصمهم، ويعفون عمن أساء إليهم، وهكذا، واليهود كان شأنهم الطمع والقسوة والجشع والعناد، فأرسل الله عيسى عليه السلام ليصلح حال اليهود، ويعلمهم التسامح والكرم واللين واللطف، حتى نسبوا إليه أنه قال: إذا لطمك أحد على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر، وهذا مثال يعلمهم من خلاله الحلم، وقد أخذ بهذا المبدأ بعض غلاة المتصوفة، فأصبحوا يعرضون أنفسهم للذل، فيشمت الناس بهم، ويشتمهم الصغار والكبار، ويذلونهم، وهم يقولون: نحن نعفو ونصفح مهما حصل.
      وفي الجانب الآخر أخذ بعض أهل البدع -كـالخوارج وأمثالهم- صفة الانتقام والبطش والفتك، فكل من اعترض عليهم أو تكلم فيهم أو جرحهم بأمر؛ اغتالوه أو قتلوه، أما أهل السنة والجماعة فإنهم يجمعون بين العزة وبين الرحمة والعفو والصفح، فيتمسكون بعزة المؤمن: ((وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ))[المنافقون:8]، وفي نفس الوقت يعفون عند المقدرة، ويصفحون مع الاستطاعة على العقوبة.
      وهكذا هم في جميع الأحوال، فهذا هو شأنهم، وإمامهم في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو المثل الأعلى في هذه الأخلاق الكريمة الفاضلة.
      وهناك أيضاً ظاهرة يتميز بها أهل السنة والجماعة، ويراها كل من يقرأ تاريخهم وينظر إلى أحوالهم، وهي أنهم دائماً يراعون حق الله، لا حق أنفسهم أو ذواتهم، فعندما يحكمون على شخص، يحكمون عليه بما يحكم عليه به الله ورسوله، وعندما يَزِنون فكرةً أو مبدأً، يَزِنُونَهَما بما قاله الله ورسوله.
      وأما أهل البدع، فينظرون إلى الناس من خلال نظرة الناس إليهم، حتى قال بعض أئمة الأشعرية : (نحن لا نكفر إلا من كفرنا)، وأهم شيء لدى أهل البدع (ماذا قيل فينا؟!) لكن أهل السنة والجماعة لا يكفرون من لم يبلغ درجة الكفر حتى ولو كفرهم، وإذا حكموا عليه فإنهم يُحكمون الكتاب والسنة، فإذا أرادوا أن يحكموا على شخص فإنهم يحكمون عليه من خلال حكم الدين عليه، حتى وإن تكلم فيهم، فإن عفي عنه وصُفح فالحمد لله، وإن كان ولا بد من عقوبة، فإنهم ينظرون في هذه العقوبة: ما حكمها في الدين؟ فـأهل السنة لا يتأثرون، ولا ينتقمون لأنفسهم؛ لأن هذه ليست من صفات وأخلاق أهل السنة والجماعة، فهم يراعون أحكام الله، ويراعون حدود الله، ويلتزمون بذلك، ولا ينظرون إلى أحد كائناً من كان، مهما خالفهم أو اتبعهم أو وافقهم أو أحبهم، فهم يزنونه دائماً بميزان الإسلام.. ميزان الإنصاف، ولهذا فإن الأئمة الكبار من أئمة أهل السنة والجماعة المقتدى بهم، المجمع على جلالة منزلتهم في العلم والتمسك؛ لو أخطأ أحدهم في حديث؛ لقالوا: أخطأ في حديث، ولو حكم على راوٍ أنه ضعيف، ورأى أحد من أهل السنة أنه ثقة، لقال: فلان ثقة، وكذلك العكس، لأن الأحكام دائماً تصدر بميزان الحق، لا بميزان الهوى.
      وهذا يذكرنا بالقضية التي تعرضنا لها من قبل، وهي قضية الانتماء لـأهل السنة والجماعة، فمن العلامات التي تميزهم في كل زمان ومكان أنهم لا يعظمون شخصاً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينتسبون إليه، فلو أراد أحد -مستشرق مثلاً- أن يتتبع أهل السنة ؛ هل هم الحنابلة أو الوهابية أو التيمية..؟ فلا يمكنه أن يحدد من هم!! بخلاف الفرق الأخرى، فـالأشعرية نسبة إلى أبي الحسن الأشعري، والمعتزلة نسبة إلى اعتزال واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، والشيعة غاية ما يقولون عن أنفسهم أنهم شيعة علي، وهم كاذبون، والصحيح أنهم شيعة عبد الله بن سبأ، ولنفرض مثلاً أنهم من شيعة علي، فأين من ينتسب إلى علي ممن ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولا يجوز أصلاً للمسلمين أن ينتسبوا إلى أي شخص، فلا يصح أن ننتسب إلى أبي بكر أوعمر، أو إلى أي أحد من البشر، إنما نقول: نحن مسلمون؛ لأن الإسلام هو دين الرسول صلى الله عليه وسلم ودين الأنبياء جميعاً.
      لكن الفرق والطوائف الأخرى تنسب إلى الأشخاص كما تقدم، وكـالقادرية نسبة إلى عبد القادر الجيلاني، والنقشبندية، والحتمية ... وغيرها من الفرق التي تتسمى بأسماء أشخاص مؤسسين لها.
      وقد تكون التسمية نسبة إلى مبدأ، فمثلاً: فـالوعيدية نسبة إلى الوعيد، والقدرية نسبة إلى نفي القدر، لكن أهل السنة نسبتهم ربانية وكتابهم رباني؛ فهم ينتسبون إلى الإسلام، ويجمعهم أنهم مسلمون، وأنهم ملتزمون بكتاب الله تعالى و سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
      ولعلنا بذلك قد أعطينا فكرة وافية عن صفات ومميزات وخصائص أهل السنة والجماعة . ونعود إلى كلام الشيخ رحمه الله تعالى الذي عقب به على أحاديث الفرق.
  4. اتساع الكلام في مسألة القدر

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [وأكبر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الأمة: مسألة القدر، وقد اتسع الكلام فيها غاية الاتساع]اهـ.
    الشرح:
    هذه المسألة تحتاج إلى تعقيب، فليست أكبر المسائل التي خاضت فيها الأمة، فلو قال: (من أ كبر..) لكان قوله صواباً. وهذا يرجعنا إلى مسألة الأصول التي وقع فيها الافتراق، فأول مسألة افترقت فيها الأمة افتراقاً كبيراً، هي مسألة الإيمان، فـالخوارج منذ عصر الصحابة وهم في نزاع وخروج، ثم قامت لهم دول، وكانوا يذهبون إلى تكفير صاحب الكبيرة، وفي المقابل كانت المرجئة، والشيعة -الذين كان لهم مذهبهم الخاص في الإيمان- فأكبر مسألة وقع فيها الخلاف في القرن الأول تقريباً هي مسألة الإيمان.
    وفي القرن الثاني -فما بعد- أصبحت أكبر مسألة بين الأمة هي مسألة الصفات، ولنأخذ صفة واحدة -مثلاً- حتى يتضح عظم ذلك، وهي: القرآن وصفة الكلام، فقد جرى بسببها افتراق عظيم، وبسببها عذب أئمة الإسلام إلا من لجأ إلى التقية، وأوذوا، وسجنوا، ومنهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ولم يثبت في هذه المحنة إلا الإمام أحمد ومحمد بن نوح وقليل من العلماء، وغيرهم إما داهن، واتقى، وإما وافق، فهذه المسألة مسألة مهمة جداً، وهي جزء من مسائل الصفات.
    فمسألة القدر -في الواقع- ليست أكبر المسائل؛ لكنها من أكبرها، ولو ذكرنا المسائل أو الأصول التي عظم فيها افتراق الأمة في العقيدة مرتبة؛ لكانت كما يلي أولاً: الصفات، ثانياً: الإيمان، ثالثاً: القدر، أو مسألة ما وقع بين الصحابة رضي الله عنهم.
    وقوله: [وقد اتسع الكلام فيها غاية الاتساع]، إن كان قصد الشيخ -كما هو ظاهر كلامه رحمه الله- أن الكلام قد اتسع في مسألة القدر بين الأمة وتشعب الرأي، وحرص أهل السنة على أن يبرزوا أبواب القدر في جميع كتبهم، وفي كتب العقيدة خاصة، وقد كانت تسمى بكتب السنة، ككتاب السنة لـابن أبي عاصم، ففيه أحاديث وآثار كثيرة في باب القدر، وكذا شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، والسنة لـعبد الله بن أحمد، والشريعة للآجري، وكل من كتب في العقيدة فإنه يأتي بأبواب كثيرة في القدر، بالإضافة إلى كتب السنة التي هي كتب الحديث.
    فمسألة القدر -كما قال المصنف- قد اتسع الكلام فيها على هذا المعنى، وأهل السنة والحمد لله أوفوا هذا الباب حقه، بما أسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى صحابته في هذا الشأن، مما يتفق مع صريح القرآن في مسألة القدر، وكذلك اتسع الكلام عنها لأن فيها دقة وغموضاً؛ بخلاف الصفات؛ فإن الأصل فيها الوضوح، ومسألة الإيمان فيها إشكال يسير، ولكن مسألة القدر فيها دقة وغموض أكثر. ولهذا فقد أطال فيها الشيخ هنا، ونحن كذلك أطلنا في شرحها حتى تتضح أكثر.
  5. النهي عن السؤال في تفاصيل الحكمة من الأوامر والنواهي والشرائع

     المرفق    
    استطرد المصنف رحمه الله تعالى في بيان أصل شبهة القدر والمزلق الخطير الذي زلت فيه أقدامهم وأفهامهم وهو السؤال: (لماذا قضى الله بالذنب؟!) و(لماذا قدره الله؟!) و(لماذا يجازي الله تعالى العاصي مع أنه قد كتب عليه الذنب؟!) وغيرها من الأسئلة، وقد استعرضناها في درس سابق.
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [وقوله: [فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حُكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين ].
    اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها، وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به، ونهاها عنه، وبلَّغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك، كما في الإنجيل (يا بني إسرائيل! لا تقولوا: لِمَ أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بِمَ أمر ربنا؟)، ولهذا كان سلف هذه الأمة -التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً- لا تسأل نبيها: لِمَ أمر الله بكذا؟ ولِمَ نهى عن كذا؟ ولِمَ قدّر كذا؟ ولِمَ فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم.
    فأول مراتب تعظيم الأمر: التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به، والحذر عن القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعلُه لكونه مأموراً به، بحيث لا يتوقف الإتيان به على معرفة حكمته، فإن ظهرت له فعله، وإلا عطله، فإن هذا ينافي الانقياد، ويقدح في الامتثال ]
    .
    الشرح:
    تكلم الإمام أبو جعفر الطحاوي بعد أن أطال رحمه الله تعالى في هذه الفقرة -من المتن- عن القدر، وذكر ما يؤدي إليه الكلام والخوض والتعمق فيه بغير علم من الوسوسة والشك والريب، ثم ختم ذلك بهذه العبارة القوية، فقال: [فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حُكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين]، وهذه قضية مهمة: أن من سأل: لِمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، دوهناك قضية أخرى: هل من سأل هذا السؤال يكون من الكافرين؟ لأن الشيخ هنا حكم بأنه من الكافرين، فهاتان القضيتان مهمتان تطرق الشارح إليهما، وإن كان قد أحال الكلام في الثانية منهما على مبحث التكفير، ولكنه بينهما إجمالاً.
    أما ما يتعلق بالسؤال عن الحكمة وعن العلة، فهل يشمله هذا الحكم؟ لأن أكثر الذين زلّوا في باب القدر زلّوا من باب السؤال، أو الجواب عن السؤال، كرجل جاءته شبهة، فذهب يسأل: كيف يقدر الله عليّ هذا الشيء ثم يعاقبني؟ كيف جعل الله فلاناً مسلماً وجعل فلاناً كافراً؟ وكيف وكيف؟ ولماذا فعل الله؟...إلخ، وهذه هي الوساوس التي تأتي إلى القلب الخاوي الفارغ -ولو مؤقتاً- فيأتي فالشيطان فيبذر فيه هذه البذرة، وكذلك لو سأل شخص -كافر، أو مؤمن شاك، أو ملحد مخاصم مجادل- لكنه سأل غير عالم، أو سأل إنساناً جريئاً على قول الباطل: كيف نجمع بين الآيات والأحاديث؟ ويقصد الآيات والأحاديث الدالة على مسئولية العبد وإرادته، والأخرى الدالة على أن الإرادة لله سبحانه وتعالى؟ فتجرأ ذلك المتجرئ، وقال: الجواب كذا وكذا، ثم اتُّخِذَ ذلك الجواب ديناً، وذلك مثل ذر بن عبد الله الهمداني لما ابتدع الإرجاء، وعندما سئل: كيف ابتدعت الإرجاء؟ قال: كان رأياً رأيته، ثم أصبح ديناً، أي كان مجرد رأي رآه، وصرح أنه رأي، وأحياناً يُسأل الإنسان عن شيء فيجيب بجواب على غير علم أو من غير تأنٍ، أو من غير تفكير ورجوع إلى العلماء، ثم بعد ذلك يأخذه الكبر أن يرجع عنه، فيتلقفه الناس عنه، فإذا به بعد أيام يصبح ديناً وفكرة كبيرة يتبعها عدد من الناس، وهكذا، فنتيجة لأن الإنسان قد يأتيه التساؤل من الشك، أو يجيب -بغير علم- من سأله من أهل الشك أو ممن ألقى الشيطان في قلوبهم ذلك، فتنتج هذه القضية، ثم تصبح -كما هو الواقع- ديناً يدان به في شأن القدر، وأسها وأساسها: (لماذا قدر الله؟!) و(لماذا فعل؟!) و(لِمَ لم يفعل؟!).
    وسوف نفصل الكلام -بما يفتح الله به علينا- عن مسألة السؤال عن الحكمة وعن العلة إن شاء الله تعالى.