ثُمَّ انتقل المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ بعد ذلك إِلَى بيان الرد عَلَى الجهمية والمعتزلة وخاصة المعتزلة في هذه القضية فذكر: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الخلق وخلق أعمالهم، وخلق الموت وأسباب الموت، وخلق الحياة وأسباب الحياة، فهو الخالق لذلك كله، بخلاف المعتزلة الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، فعلى قولهم: لو أن أحداً قتل أحداً، فإن هذا القاتل قد قطع أجل المقتول الذي لو لم يقتله لعاش حتى يبلغه، ولهذا يقتل القاتل!
فرد عليهم المُصنِّف رحمه الله تعالى: بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلق الموت، وخلق أسباب الموت، وهو الذي قدر أن هذا يموت بالحرق، وهذا بالغرق، وهذا يقتل بالسيف وهذا بالمرض.

أما المعتزلة فقولهم واضح البطلان؛ لأنه يستلزم إثبات أجلين: أجلاً حقيقياً: وهو الذي قدر كما يقولون، وأجلاً واقعياً: وهو الوقت الذي بقي للمقتول.
وهذا باطل؛ لأنه لا يليق أن ينسب إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أنه جعل للعبد أجلاً يعلم أنه لا يعيش إليه! وما الفائدة أن يجعل الله له أجل وهو يعلم أنه سيقتل دون أن يدركه، أو أن يجعل أجله أحد الأمرين كفعل الجاهل بالعواقب، وهَؤُلاءِ المعتزلة يقولون: إن الله أذن أن يعيش العبد ستين سنة -وأصل ضلالهم أنهم يقولون: إن أفعال العباد لا يخلقها الله- فلما قُتلَ وعمره أربعين سنة، فمعنى هذا أن الله عَزَّ وَجَلَّ جعل له أجل أربعين، وأجل ستين إن لم يقتله أحد.
وإذا قتله أحد فيما دون ذلك فيكون هذا هو الأجل الحقيقي، فكأنهم والعياذ بالله ينفون العلم عن الله عَزَّ وَجَلَّ بدليل أنه لا يعلم أنه سيقتل، كل ذلك حتى يهربون من قضية أن الله هو الذي خلق أفعال العبد؛ لأنهم قالوا: إذا كَانَ الله هو الذي خلق فعل العبد فكيف يجازيه عليه؟ وإنما يجازى القاتل بالقتل حداً؛ لأنه قطع الأجل وهذا دلالة عَلَى الفعل إذا كَانَ الله خلق الفعل.

والرد عليهم كما ذكر المصنف: وجوب القصاص والضمان عَلَى القاتل وذلك لارتكابه المنهي عنه ومباشرته إياه برضاه وباختياره، فالذي قتل مسلماً معصوماً بريء الدم برضاه وباختياره مستوجب للقتل ومستحق له؛ لأنه ارتكب ما نهى الله تَعَالَى عنه، ولهذا فإن القاتل إذا كَانَ مجنوناً - مثلاً - فإنه لا يقتل وهذا دليل عَلَى أن القاتل يقتل، لا لأن القاتل قطع أجل الله الذي قدره للمقتول، كما تزعم المعتزلة، بل من أجل أن القاتل ارتكب ما نهى الله عنه ومباشرته السبب المحظور.
ثُمَّ يقول: (وعلى هذا يخرج قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {صلة الرحم تزيد في العمر} أي: سبب طول العمر) ولفظ الحديث: {من أراد أن يُنسأ له في عمره، ويبارك له في رزقه، فليصل رحمه}.
وقد يشكل فهم هذا الحديث عَلَى كثير من النَّاس مع ما قد قدره الله وكتبه من الآجال - كما في حديث ابن مسعود - وحتى يزول ذلك الإشكال لا بد أن يعلم أن الله خلق النتائج مثل الموت والحياة، وخلق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأسباب: فقدر أن عمر هذا الإِنسَان ستين سنة -مثلاً- وقدر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن من أسباب كون عمره ستين سنة أنه يصل رحمه، كما لو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدر عمر إنسان ثمانين سنة، فلا يسلط عليه وباء ولا داء بل يرزقه الصحة والعافية، فهذه أسباب خلقها بها طال عمر هذا الإِنسَان إِلَى الثمانين، وما قيل في هذا الإِنسَان يُقال في الإِنسَان الأول الذي عمر ستين سنة فكانت صلة الرحم سبباً لطول عمره إِلَى هذا القدر، وعلى هذا فلا يفهم أن من المفترض أن يكون عمر إنسان ما خمسين سنة، فلما جَاءَ بصلة الرحم زاد عمره إِلَى السبعين مثلاً.