أكثر الخلاف في القدر هو في أفعال المخلوقين وليس في العلم، ولهذا جَاءَ بالجملة التالية وهي امتداد لهذه الجملة، ليرد بذلك على المعتزلة الذين يقولون: إن الآجال ليست من تقدير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو أن الآجال تقع خلاف ما كتب الله عَلَى النحو الذي سنفصله.
يقول أبو جعفر الطّّحاويّ رحمه الله تعالى:
[وضرب لهم آجالاً]
قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
[يعني: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدر آجال الخلائق، بحيث إذا جَاءَ أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. قال تعالى: ((إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)) [يونس:49] وقال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً))[آل عمران: 145]، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قَالَ: {قالت أم حبيبة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورَضِيَ اللهُ عَنْها: اللهم أمتعني بزوجي رَسُول الله، وبأبي أبي سفيان، وبـأخي معاوية، قَالَ: فَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئاً قبل حله، ولن يؤخر شيئاً عن حله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النَّار وعذاب في القبر كَانَ خيراً وأفضل} فالمقتول ميت بأجله، فعلم الله تَعَالَى وقدَّر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض، وهذا بسبب القتل، وهذا بسبب الهدم، وهذا بسبب الحرق، وهذا بالغرق، إِلَى غير ذلك من الأسباب، والله سبحانه خلق الموت والحياة، وخلق سبب الموت والحياة.
وعند المعتزلة: المقتول مقطوع عليه أجله، ولو لم يقتل لعاش إِلَى أجله فكأن له أجلان.
وهذا باطل؛ لأنه لا يليق أن ينسب إِلَى الله تَعَالَى أنه جعل له أجلاً يعلم أنه لا يعيش إليه ألبتة، أو يجعل أجله أحد الأمرين، كفعل الجاهل بالعواقب، ووجوب القصاص والضمان عَلَى القاتل لارتكابه المنهي عنه ومباشرته السبب المحظور.
وعلى هذا يخرج قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {صلة الرحم تزيد في العمر} أي: سبب طول العمر.
وقد قدر الله أن هذا يصل رحمه فيعيش بهذا السبب إِلَى هذه الغاية، ولو لا ذلك السبب لم يصل إِلَى هذه الغاية.
ولكن قدر هذا السبب وقضاه، وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش إِلَى كذا، كما قلنا في القتل وعدمه] اهـ.

الشرح:
قول أبي جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وضرب لهم آجالاً) هذه الجملة مأخوذة ومستنبطة من الآيات الكثيرة الدالة عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد جعل للخلق آجالاً ((فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)) [النحل:61] كما هو معلوم من آي كثيرة.
ثُمَّ يقول المُصنِّف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: [يعني أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قدر آجال الخلائق بحيث إذا جَاءَ أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قال تعالى: ((فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ))[النحل:61]. وقال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً))[آل عمران:145] وذكر الحديث الذي في صحيح مسلم، وفيه إثبات الآجال، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل لكل مخلوق أجلاً، وهذا ثابت بنفس الآيات والأدلة التي تثبت القدر، ومنها الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في أن الجنين {يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أم سعيد} فيؤمر الملك بكتب أربع كلمات، منها: الأجل، أي: أجل الإِنسَان، فليس هناك أي مجال لأن يتوقع أحد أن هذا الأجل يمكن أن يُغَيَّر ويمكن أن يُبَدَّل وقد كتبه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الإِنسَان وهو لا يزال في بطن أمه؛ ليقطع الأمل؛ ويقطع تعلق النَّاس بأن أحداً غير الله يملك أن يمد في عمر فلان أو يقصر من عمر فلان، أو أنه إذا قتل فلاناً فإنه قد انتقصه شيء من عمره.
والآجال والأرزاق قد قدرت وكتبت كما جَاءَ في الحديث الصحيح الآخر، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن روح القدس -وهو جبريل عَلَيْهِ السَّلام- نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب}، أي: إذا طلب الواحد شيئاً من أمور الدنيا فليطلبه بإحسان وليجمل في الطلب ولا يلح؛ فإنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها حتى آخر لحظة من لحظات الدنيا وهي ساعة الاحتضار فإن بقي له في تلك الساعة لقمة من طعام أو شربة من حساء أخذها، وكذلك العمر لن تموت نفس حتى تستوفي ما كتب الله لها من العمر وإن كَانَ لحظة واحدة أو نفساً واحداً، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أحصى كل شيء، وهو العليم بكل شيء، وهو الذي قدر مقادير كل شيء، طويت الصحف ورفعت الأقلام، وما عَلَى العباد إلا التسليم والانقياد والإذعان والإيمان بكل ما يقدره الله عَزَّ وَجَلَّ ويقضيه.

أما حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما - فهو حديث صحيح، وقد دعت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسمعها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي تدعو الله أن يمتعها بزوجها رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبأبيها وبأخيها، وهكذا النفس البشرية تتمنى وتتعطش إِلَى الخلود، وتدعو وترجو أن تخلد أو يخلد من تحب، وهذا شيء موجود في النفس البشرية، وليس هذا بذاته بمحظور مادام أن الله تَعَالَى قد جعله، وله فيه حكم.
وهذا الشيء هو الذي جعل أبانا آدم يطيع الشيطان في قوله: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ))[الأعراف:20] لما أغراه الشيطان بالخلود ولأن النفس الإِنسَانية تكره الموت والانقطاع وهذا هو الذي أشغل أبانا عن قضية أنه إذا أكل وقع في معصية الله عَزَّ وَجَلَّ، وأنساه عما أمر به الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فالشاهد أن أم حبيبة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها لما دعت بذلك وسمعها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {قد دعوت الله بآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة}، فلن يزيد عمر أحد يوماً واحداً، ولن يزيد رزقه ذرة واحدة، ولن يتأخر أجله ولو لحظة واحدة بسبب هذا الدعاء الذي قد يدعو به الإِنسَان، أو بأي سبب من الأسباب التي يلجأ إليها الإِنسَان. {لن يعجل شيئا قبل أجله، ولن يؤخر شيئاً عن أجله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النَّار وعذاب في القبر كَانَ خيراً وأفضل} وهذا من آداب الدعاء، وهو أن الإِنسَان يسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يعيذه من عذاب النَّار ومن عذاب القبر، ويسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يتعلق بالنجاة وبالفوز الأخروي، هذا أهم وأولى ما يدعو به الإِنسَان
، أما أن يدعو الإِنسَان بأمر فيه اعتداء، كالدعاء بطول العمر -مثلاً- وهو يعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد ضرب أجلاً محدوداً، فهذا محرم، ومثله من يدعو الله بجميع أنواع الأدعية التي فيها اعتداء كدعاء الله أن يحي ميتاً من الأموات؛ بل عَلَى الإِنسَان أن يدعو بما فيه خيري الدنيا والآخرة، والأولى أن يدعو الله بما فيه علاقة بالفوز بالجنة والنجاة من النار.