المادة كاملة    
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع الافتراق في هذه الأمة؛ وهذا هو ما وقع؛ فقد ظهرت الخوارج كفرقة مستقلة، ثم تفرقت وتشعبت إلى فرق وطوائف كثيرة، وظهرت بعدها الشيعة، وفعلت كسابقتها في التفرق والتشتت، ثم بعد ذلك ظهرت سائر الفرق؛ كالقدرية والمعتزلة والمرجئة والجهمية والأشاعرة.. وغيرها، وكلها فرق ضالة منحرفة، وبقي الحق مع أهل السنة والجماعة.
  1. وقوع الافتراق في هذه الأمة

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { لتأخذن أمتي مآخذ القرون قبلها شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، قالوا: فارس والروم؟ قال: فمن الناس إلى أولئك؟! }.
    وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية، كان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقوا على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي } رواه الترمذي.
    وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة} رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
    وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة}].
    .
    1. إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بالافتراق

      الشرح:
      لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأمة ستفترق، وأخبر أن افتراقها سيكون أعظم من افتراق الأمم التي قبلها من أهل الكتابين (اليهود والنصارى)، وأخبر بما هو أعظم من ذلك، وهو أنها سوف تحتذي بالأمم الكافرة (فارس والروم) في كل الموبقات التي يترفع عنها المسلم، والتي لا يصدق أنها قد تقع منه.
      والتفرق في الدين يكون في الأهواء، والشيع، والأحزاب، والفرق، وقد حذر الله من التفرق في جملة الوصايا العشر -التي أمر بها كل أمة، وأنزلها على كل نبي- فقال تعالى: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ))[الأنعام:153]، فهذه السبل هي إحدى مظاهر الافتراق في الدين، وأعظم من ذلك مشابهة المشركين ومتابعتهم عموماً في أخلاقهم وأحوالهم ومعاملاتهم، فهي منكرات كبيرة، منها ما يخرج من الملة، وهي من السبل الكثيرة أيضاً، ولكن الكلام في التفرق في الدين بالذات -أي في الابتداع في الدين- يعود إلى ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من كونها ثلاثاً وسبعين فرقة.
      فمتى وقع الخلاف؟ وما هي الأصول التي وقع الخلاف فيها؟ وما هي الفرقة الناجية؟ وما هي صفاتها؟ وما حكم الفرق المختلفة؟ هذا ما سنتعرض له إن شاء الله تعالى، ونسأل الله أن يعيننا على ذلك.
    2. اتفاق الأمة في عهد الشيخين

      ذكر بعض المؤرخين القدامى والمحدثين أن أول خلاف وقع في هذه الأمة، كان عقيب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فقالوا: إن الصحابة قد اختلفوا في دفنه، ثم إنهم لما اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، اختلفوا فيمن يكون الخليفة من بعده صلى الله عليه وسلم.
      وهذا كلام لا يعول عليه؛ لأن هذا الذي جرى بين الصحابة رضوان الله عليهم في هذا الشأن، ليس اختلافاً بالمعنى الحقيقي الذي نقصده -أي بالمعنى الاصطلاحي الذي نقصده عند الحديث عن الفرق واختلاف الأمة- وإنما هي آراء ذكرها أصحابها، ثم سرعان ما أجمعت الأمة على ما كان، فما حصل من اختلاف في بيعة الصديق رضي الله عنه في يوم السقيفة؛ لا يصح بأي حال من الأحوال أن نعتبره خلافاً بين المسلمين، وإن قال بذلك من قال من المؤلفين في الفرق، ثم تابعهم المستشرقون وتلامذتهم، فضخموا هذا الموضوع، وقالوا: إن بذور الخلاف في الأمة الإسلامية كانت موجودة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان هناك حزبان: حزب لـأبي بكر، وحزب لـعلي، وكان كلا الحزبين يترقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم للفوز بالحكم.
      فهذا كلام باطل، وما أكثر ما يردد في كتب التاريخ والفرق! وهو من اختراعات الروافض، ثم جاء المستشرقون كالعادة، فأخذوا كلام الروافض وأشباههم ونشروه، ثم جاء مِن بعدهم تلامذتهم، فجعلوه هو الكلام الذي يعتمد عليه ولا يعول على غيره، والثابت -والحق- من الأحاديث الصحيحة أنه لم يوجد -بإطلاق- من ينازع أبا بكر في الخلافة، حتى إن علياً بايع أبا بكر الصديق رضي الله عنهما، ولم يكن هناك ما يسمى حزب علي أو حزب العباس، إلا ما كان من أمر بعض الأنصار، وكان هذا الأمر لا يتجاوز أن يكون رأياً شخصياً لهم، ولا يعد خلافاً -على الإطلاق- ولا ينبغي أن يذكر، ولكن خشية أن يقال: لم يُستوفَ الموضوع، فـعلي رضي الله عنه كان ممن بايع الصديق، وأجمعت الأمة على خلافته رضي الله عنه، ثم أجمعت الأمة من بعده على عمر رضي الله عنه.
      ولم يكن موضوع الخلافة هو أكبر وأخطر الموضوعات، كما يقول بعضهم، بل ويقولون: إنه أساس الاختلاف في هذه الأمة؛ لأن الرافضة يعتبرون الإمامة ركناً من أركان الدين، فيقولون: إن كل من لم يعرف إمام زمانه فليس بمؤمن، ولذلك جعلوا كل ما وقع في الأمة من خلاف أو اتفاق محوره وموضوعه الخلافة والإمامة.
      وأما المستشرقون وأمثالهم، فإنهم في الغالب قاسوا الأمر على واقع الحكومات الغربية وغيرها، فوجدوا أن المنظمات والتنظيمات تتصارع على السلطة وتتنافس -حزبياً- عليها، فقالوا: إذاً حتى أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- يتنافسون عليها، ولأجل ذلك تفرقوا. ويرد هذا الكلام ويكذبه الواقع المتواتر من كتب السنة وكتب التاريخ على أنه لم يقع خلاف قط على خلافة أبي بكر، ولا على خلافة عمر، ولا على شطر خلافة عثمان رضي الله عنهم أجمعين.
      وإنما وقع الخلاف أولَ ما وقع في خلافة عثمان رضي الله عنه، حينما اندس في صفوف المسلمين من ليس منهم، فكانت الفتنة التي وقعت، والتي تولى كبرها ذلك الرجل اليهودي الخبيث عبد الله بن سبأ، الذي أنشأ وأسس ملة الرافضة.
  2. ظهور فرقة الخوارج

     المرفق    
    وأول فرقة مستقلة ظهرت ولها مذهب اعتقادي، أرادت أن تنشره وأن تفرضه -غير هؤلاء المندسين الذي أظهروا زندقتهم باسم التشيع- هم الخوارج، ولم يكن بين ظهورهم وبين ظهور الشيعة كبير فرق، لكن الخوارج ظهروا كفرقة مستقلة متميزة، وأسسوا كياناً منفصلاً عن جسم الأمة الإسلامية، حيث خرجوا على علي رضي الله عنه بعد قصة التحكيم، وانحازوا عنه، ثم اختاروا عبد الله بن وهب الراسبي أميراً عليهم وخلعوا عليه لقب (أمير المؤمنين)، فكانوا بذلك أول فرقة تنفصل انفصالاً تاماً في عقيدتها، وفي إمارتها عن الجسد الإسلامي الواحد.
    1. بذرة النشأة وأساس الفكرة للخوارج

      وجدت بذرة الخوارج في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان منبع الخوارج وأساس فكرهم -في الجملة- الذي انبثق منه: هو الغلو والاعتراض على السنة بالرأي، لا من جهة الرد، ولكن من جهة الغلو؛ لأن هناك من يعترض على السنة من جهة الرد لشهوة أو لهوى، وهناك من يعترض على السنة من جهة الغلو، فيرى أن السنة لا تكفي لما يريده من تدينه الموهوم، وأول من أتى ببدعة الخوارج أو وضع بذرة الخوارج هو: ذو الخويصرة، الذي أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قسم الغنائم يوم حنين، فعجب هذا الرجل كيف يعطي الرسول صلى الله عليه وسلم الأقرع وعيينة وأمثالهم من زعماء بني تميم وغطفان -ممن هم حديثو عهد بالإسلام- المئات من الإبل والآلاف من الشاء، ويمنع المهاجرين والأنصار وهم أهل السابقة والفضل في الإسلام! فقال -قبحه الله- كلمة عظيمة لو مزجت بماء البحر لمزجته قال: (اعدل يا محمد!) أو قال: (إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله)، فاعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمته وسنته -من باب الغلو، وأنه يريد العدل، فقد رأى أن هذا ليس عدلاً- فغضب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك؛ إذ كيف يعترض عليه صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى؟!
      فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {ويلك! فمن يعدل إن لم أعدل؟!}، من يعدل إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جائراً أو لا يبتغي وجه الله؟! من الذي سيعدل بعده صلى الله عليه وسلم؟! ومن ذا الذي يبتغي وجه الله أكثر منه صلى الله عليه وسلم؟!
      ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية أخرى : {يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم}، فكانت هذه إشارة إلى الخوارج الذين ظهروا فيما بعد، والذين سلكوا نفس الاتجاه وهو الغلو الذي لا أساس له من السنة، والذي لا يمكن أن يكون موجوداً في الواقع، وإنما هي نظرة مثالية جانحة عن الحق وبعيدة عن القصد السوي في الأمور، ولهذا لما ناظرهم ابن عباس قال: ما تنقمون على علي؟ ولماذا تخرجون عن إمرة أمير المؤمنين، وتنفصلون عن جماعة المسلمين؟ قالوا: نريد إماماً مثل عمر، إن جئتمونا بمثل عمر بايعناه وأمَّرناه ودخلنا في طاعته، فـالخوارج يرون أن سيرة الشيخين هي السيرة المحمودة فقط، أما عثمان وعلي، فيرون أنهما قد انحرفا وضلا، بل كفرا وارتدا، ويطالبون بمثل عمر، وأنى لهم بمثل عمر! مع أنه ليس في الأمة آنذاك أفضل من علي رضي الله عنه بإجماع الأمة، إلا ما كان من خلاف من أهل الشام، فلما لم يجدوا مثل عمر، قالوا: إذاً لا نبايع، فاختاروا عبد الله بن وهب الراسبي ليكون لهم كما كان عمر رضي الله عنه، وليس هو بصحابي، ولا له سابقة، ولا فضل، بل هو كما قال ابن حزم : (هو أعرابي بوال على عقبيه)، هذا الذي بايعوه ورضوه إماماً! وهكذا الغلو يؤدي -وإن كان أصله الحرص على مزيد من التدين والتقوى- إلى الإجحاف والانحراف، وإلى ما لا يليق بأهل القصد فضلاً عمن فوقهم.
    2. موقف الصحابة من الخوارج

      هذه هي بداية ظهور الخوارج، وكان موقف الصحابة منهم أنهم ناظروهم بالحجة -ابتداءً- ثم لما لم تُجدِ الحجة قاتلوهم، وقد نصر الله تعالى الصحابة رضوان الله عليهم في قتالهم مع الخوارج، وفرح علي فرحاً شديداً بهزيمتهم ومقتلهم، وفرح معه الصحابة رضوان الله عليهم، وكان في ذلك كرامة لأمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه؛ حيث أمرهم أن يبحثوا عن ذي الثدية، وهو أحد زعماء الخوارج، كان في عضده اليسرى مثل الثدي الصغير (ثُدية)، فقال لهم: أين ذو الثدية ؟ ابحثوا عنه في القتلى، فلم يجدوه في أول الأمر، فقال: [[والله ما كَذبتُ ولا كُذبت]] أي: ما كَذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذب عليَّ، وأمرهم أن يعيدوا البحث، فذهبوا إلى ساقية كان فيها عدد من القتلى، فبحثوا فوجدوه تحتهم، فجاءوا به إليه فلما رآه قال: [[صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم]].
      وكان ذلك كرامة لـعلي رضي الله عنه، وبشرى للصحابة ولمن معه، حيث فرحوا أن الله نصرهم على هذه الفرقة المارقة المخذولة، ثم استمر الخوارج خلال التاريخ حتى قامت لهم دول، فكانت لهم دولة في بلاد فارس، وكذلك دولة في بلاد المغرب، وفي عصر بني أمية اشتدت شوكتهم في زمن الحجاج، وكانت لهم مواقع كثيرة جداً مع الحجاج، واشتهر في قتالهم القائد المعروف: المهلب بن أبي صفرة .
    3. مذهب الخوارج الاعتقادي

      ومذهبهم الذي ينافحون عنه ويدعون إليه هو: أن من ارتكب كبيرة أو أتى معصية فقد كفر وخرج من الملة، هذه هي أهم قضية نادى بها الخوارج في ذلك الوقت من مرحلتهم الأولى، ولم يكونوا يقصدون بأهل الكبائر الذي يزني أو يشرب الخمر من عامة الناس؛ بل الأدهى من ذلك أنهم كانوا يقصدون عثمان وعلياً، ومن كان معهم من الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً، فيقولون: إنهم انحرفوا عما كان عليه الشيخان، أو تجاوزوا في كذا وكذا، فكان ذلك التجاوز -في نظرهم- كبيرة ومعصية، وهذه المعصية كفر، فكفروا عثمان وعلياً وسائر الصحابة، وغيرهم، إلا من كان على مذهبهم.
    4. فرق الخوارج

      وأول الخوارج الذين أظهروا ذلك الغلو سُموا: المحكمة :؛ وهم الذين خرجوا بعد حادثة التحكيم على علي رضي الله عنه، ثم خرج نافع بن الأزرق، وكان نافع من أصحاب الهوى والغلو، ومع ذلك كان يظهر الحرص على الخير والعلم والحق، وقد اشتهر بسؤالاته لـابن عباس رضي الله عنهما -منها ما صح، ومنها ما لم يصح- وخرج نافع وأسس الفرقة المشهورة من الخوارج وهي الأزارقة نسبة إليه، وكان من أتباعه نجدة بن عامر الحنفي، ثم انشق نجدة عن جماعة نافع وكفره ومن معه، فسمي هو وأصحابه النجدات، ثم خرجت الإباضية، وانشقت عن نجدة وعن نافع، وهي نسبة إلى عبد الله بن إباض التميمي، ثم تشعبت فرقهم وانقسمت إلى عدة فرق، منها: الثعالبة، والعجاردة... وغيرها من الفرق الكثيرة، وأكثر هذه الفرق -إن لم يكن كلها- يكفّر بعضها بعضاً، فإن أدنى خلاف يقع بينهم يجعلهم يكفر بعضهم بعضاً؛ بسبب هذه العقيدة الخبيثة وهي: أن مرتكب الكبيرة مرتد.
      وهذا الأصل من الأصول الباطلة.. وحتى لو سلمنا أن رجلاً مثل عثمان وعلي رضي الله عنهما ومن كان معهما -وحاشاهم من ذلك- أو أي مسلم -ولو في آخر الزمان- يرتكب كبيرة، فإنه لا يكفر، والأدلة على ذلك جاءت في صريح كتاب الله، وما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث لا تحصى ولا تعد، مثل قول الله تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا))[الحجرات:9]، فسماهم مؤمنين، مع اقتتالهم، لكن الخوارج قالوا: من قاتل أخاه المؤمن فهو كافر، ولهذا يقاتلون المسلمين على أنهم كفار ويستحلون دماءهم وأموالهم.
      ولو نظرنا إلى الزاني وشارب الخمر والسارق، لوجدنا أن الله قد شرع في حقهم حدوداً، فالزاني البكر يجلد، والسارق تقطع يده، فلو أن هذه الذنوب تكفر صاحبها وتخرجه من الملة؛ لكانت العقوبة واحدة لكل من فعل ذنباً من هذه الذنوب، وهي القتل؛ لأنه هو حد الردة، لكننا نجد عكس هذا في القرآن، ونجد -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد شارب الخمر، بل وقال في أحدهم : {إنه يحب الله ورسوله} ونجد أنه بعد أن رجم ماعزاً والغامدية أثنى عليهما خيراً رضي الله عنهما.
      فهذا وغيره من الأحاديث الصحيحة الثابتة المتكاثرة تقطع بكذب وبطلان الدعاوى التي ادعاها الخوارج.
  3. الشيعة وبداية التأسيس

     المرفق    
    1. دور عبد الله بن سبأ في الفتنة

      ثم ظهرت الفرقة الثانية، وظهورها لم يكن متأخراً عن ظهور الخوارج، وهي فرقة الشيعة، وأول من أوجد بذرتها هو عبد الله بن سبأ، ذلك الرجل اليهودي الخبيث الذي تظاهر بالإسلام، وأشعل الفتنة في مصر وفي الكوفة وغيرهما، ثم جاء أصحابه المفتونون وارتكبوا تلك الجريمة الشنيعة، وهي قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم اندسوا في صفوف المسلمين وأخذوا يشعلون نار الفتنة بينهم، كما حصل في يوم الجمل، عندما اندس أولئك السبئية بين الصفين، وبعد أن كاد يلتئم ما بين القوم، بفضل بعض المصلحين الساعين في الخير، ومنهم كعب بن سور قاضي البصرة، إذا بهؤلاء الخبثاء يشعلون نار الحرب، ويتراشقون بالسهام، ويؤججون نار القتال، فاشتعل القتال بين الفريقين، وظن كل منهما أن الآخر قد خدعه، ثم كانت تلك الفتنة التي قتل فيها من كبار الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- من قتل.
    2. أوجه الشبه بين بولس وبين عبد الله بن سبأ

      ولما أراد ابن سبأ وحزبه أن يبذروا بذرة الفساد في الأرض بمستوى أعمق -وهذا من الفتنة التي أرادها الله لحكمة يعلمها- ادعوا محبة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فزعم عبد الله بن سبأ أن علياً رضي الله عنه هو الله، وأن الله قد حلَّ في علي، وهذه هي عقيدة الحلول التي أخذها من النصارى، وهو يعلم أن شاؤول -الذي كان من اليهود- حين أراد أن يفسد دين المسيح عليه السلام، دخل فيه، وبعد أن اطمأن إليه أتباع المسيح زعم أن المسيح إله، وأنه ابن الله - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً -فأفسد بذلك النصرانية، فجاء عبد الله بن سبأ وأراد أن يفسد دين الإسلام بنفس الطريقة، فاليهود وراء فساد الأديان، كما أنهم وراء فساد الأخلاق والأعراض في كل زمان ومكان، فادعى في علي ما ادعاه شاؤول -الذي يسمى بولس في المسيحية - في المسيح عليه السلام.
    3. قتال علي للسبئية

      خرج علي رضي الله عنه من بيته ذات يوم، فلما رآه أصحاب عبد الله بن سبأ خروا له سجداً، فقال: كيف تسجدون لغير الله؟! قالوا: أنت هو! قال: من هو؟ قالوا: أنت الله..!
      فعظم ذلك عليه جداً رضي الله عنه، وأنذرهم وأمهلهم ثلاثة أيام كي يتوبوا، فمرت الثلاثة الأيام ولم يتوبوا، فحفر الأخاديد وأشعلها ناراً، وألقاهم فيها رضي الله عنه، واعترض على ذلك -أي على العقوبة بالنار- عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، محتجاً بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم -وسمعه منه- أنه قال: {لا تعذبوا بعذاب الله}، وعلي رضي الله عنه لم يرد بتعذيبهم بالنار إلا زيادة النكاية بهم، فكان ذلك فتنة لهم، حيث إن عبد الله بن سبأ لم يُلقَ في النار، وإنما كان ممن نفي إلى المدائن -التي كانت عاصمة الفرس- فلما نفي أخذ ينشر عقيدته الخبيثة، ويقول: ألم أقل لكم إنه إله؟! لا يعذب بالنار إلا الله - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً - وإنما نفاه علي إلى المدائن، لأنه خاف إن قتله أن يحدث في جيشه فتنة، ووجد ابن سبأ المناخ المناسب لزرع بذرته، حيث إن بلاد الفرس لديها القابلية لعقيدة الحلول؛ لأن عقيدة الحلول والاتحاد موجودة في دين المجوس من قبل، ولديهم شيء آخر وهو أنهم يعظمون الأسر الحاكمة، ويرون أن الحكم لا يكون إلا وراثياً متسلسلاً في بيت كسرى، ولهذا لما مات كسرى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يولوا رستم ولا جابان ولا ماهان، ولا الهرمزان، ولا غيرهم من الأبطال والقادة، وإنما ولوا بنت كسرى -وكانت لا تزال في شبابها، ولا خبرة لها بالملك ولا بالحكم- التزاماً بقاعدة أن الملك لا يكون إلا وراثياً، وهذه قاعدة راسخة لديهم.
      وكانوا يعتقدون أن في ملوكهم جزءاً من الألوهية، وأن الله يحل في هؤلاء الملوك -تعالى الله عما يقولون- فوجدها عبد الله بن سبأ فرصة، وكان في بلاد فارس -ولا يزال- يهود في أصفهان وفي غيرها، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يتبع الدجال من يهود أصفهان سبعون ألفاً}، فهم لا يزالون إلى أن يظهر الدجال، وهم يتعاونون مع أعداء الله تعالى، ومع كل حاقد على الإسلام إلى يوم خروج الدجال؛ فلما ألقى عبد الله بن سبأ بذرة التشيع، كان ذلك مما تلاءم مع عقائد أولئك القوم.
      ويضاف إلى ذلك أمر مهم جداً، وهو حقد أولئك القوم على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ؛ لأنه هو الذي دمرت جيوشه مملكتهم، وهدمت عرشهم، وأسقطت دينهم وحضارتهم وأذلتهم، وهؤلاء الشيعة ينادون أن خلافة أبي بكر وعمر باطلة، وأنهما كانا كافرين، رضي الله عنهما، وأنهما اغتصبا الخلافة من علي، وأنكرا ما أمر به الله ورسوله من حق علي في الخلافة.
      فناسب هذا ما كان يريده عبد الله بن سبأ، فانتشر التشيع في تلك البلاد -خاصة- دون غيرها لتلك الأسباب، فاستطاع بسهولة أن يقول لهم: إن علياً هو الأولى بالخلافة؛ لأنه أقرب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر من بني تيم، وأما عمر فهو من بني عدي، فهذا أقرب إلى ما كانوا يألفونه من تسلسل الملك، وكذلك الغلو والحقد الموجود لديهم موجود لديه، فاتفق الجميع، وانتشر بذلك هذا المذهب الخبيث، وهو مذهب الرافضة.
    4. الفوارق الأخلاقية بين الخوارج والشيعة

      ويختلف الشيعة عن الخوارج في الأمور الأخلاقية اختلافاً أساسياً، فمن ذلك: أن الخوارج أهل صدق وشجاعة ووفاء، وهم قوم تضرب الأمثال بشجاعتهم وبصدقهم، فهم يعتقدون أن الإنسان إذا كذب فقد كفر، ولهذا كانوا صادقين، ويعتقدون أن الإنسان يجب أن يصدع بالحق، وأن يقول ما يرى أنه حق، فلذلك كانوا يدعون إلى عقيدتهم دعوة علنية واضحة، ويحاربون الدول، دولة إثر دولة؛ من أجل أن تقوم عقيدتهم وفكرتهم بالقوة.
      أما الروافض فإنهم أكذب الناس، يستحلون الكذب، ويتخذون التقية عقيدة لهم، ويقولون: يجب أن يُظهر الشيعي ما يوافق الناس ويخفي عقيدته الحقيقية، ولذلك فمن الصعب أن نعلم هل قد تاب أحدهم أم لم يتب! لأنه يظهر أنه موافق لنا، وأنه يريد الحق، وهذا كله تقية فهذه صفات أساسية يتميز بها الشيعة عن الخوارج، وكلاهما على ضلالة وشر، نسأل الله العافية.
    5. فرق الشيعة

      ثم تطورت عقيدة الشيعة، وانبثقت من بينهم الباطنية بجميع أنواعها، وظهر منهم الغلاة والمشبهة، وكان هشام بن الحكم الرافضي هو الذي أسس هذا المذهب الخبيث (التشبيه)، ودعا إليه، كما ظهرت فيهم البدع الكثيرة، وكثرت فيهم الفرق، وكانت كل فرقة تكفر الأخرى وتكذبها؛ بل وتلعنها.
  4. ظهور القدرية والمعتزلة

     المرفق    
    وبعد ظهور الشيعة ظهرت الفرقة الثالثة، وهي القدرية، وقد سبق الحديث عنها في مسألة القدر، وقد ظهروا في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، أي أنهم ظهروا -حقيقة- في زمن التابعين، ولم يكن في ذلك الزمن إلا صغار الصحابة كـابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وحديث عمر المشهور في سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم رواه ابن عمر عن أبيه حين جاءه من يسأله عن الذين خرجوا بـالبصرة ينكرون القدر؛ فكان هذا سبباً لإيراد ابن عمر للحديث.
    وقد ذكرنا أن أول من أظهر الكلام في القدر هو معبد الجهني فيالبصرة، وغيلان الدمشقي في دمشق، ومذهب القدرية قد شرحناه سابقاً.
    ثم ظهرت بعد ذلك المعتزلة والمرجئة، وقد ظهرتالمرجئة كردة فعل لظهور الخوارج، فهما فرقتان متقابلتان، فلم يظهر التصريح بالإرجاء في عصر الصحابة وإنما ظهر متأخراً نسبياً، بما يقارب ظهور المعتزلة.
    1. أصول الاعتزال

      وأول من أظهر الاعتزال هو واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، حيث اعتزلا حلقة الحسن البصري، عندما أثارا مسألة مرتكب الكبيرة: هل هو كافر أم مؤمن؟ وهي من المسائل التي أثارها الخوارج، واستمر الحديث والكلام عنها منذ عهد الخوارج، فكان أهل السنة من الصحابة والتابعين يبينون للناس أن مرتكبي الكبائر مؤمنون، وكان الخوارج ينشرون خلاف هذا، وكان الحسن البصري ممن بين الحق في هذه المسألة، لكنه أتى بقول لم يقصد به ما فهمه أولئك.. قال: (إن المرء إذا قال: أنا مؤمن، ثم زنى وسرق، وفعل ما حرم الله، فهو منافق؛ قد ادعى الإيمان، وأظهره بلسانه، وخالف ذلك بأعماله، وهذا نفاق)، فاختلف تلاميذه، وأخذوا يدوكون، فقالوا: قل قصد الحسن بذلك أنه منافق خرج من الملة أم لم يقصد ذلك؟ وكان في الحلقة واصل بن عطاء، فقال: ليس هذا هو القول الحق، بل مرتكب الكبيرة كافر، ولابد أن نصرح ونقول: هو كافر، ثم أخذ يفكر هو ومن معه، فقالوا: لو قلنا: إنه كافر، لاعترض علينا الناس، ولكن نقول: هو كافر في أحكام الآخرة؛ مخلد في النار، أما في الدنيا فلا نسميه كافراً ولا نسميه مؤمناً، بل نقول: هو في منزلة بين المنزلتين، فاتفقوا على هذا الرأي، ثم نشروه في الآفاق.
      وبعد أن أحدث المعتزلة ما أحدثوه في مسألة الإيمان ومرتكب الكبيرة، ضموا إلى ذلك مذهبهم الخبيث في القدر -لأن القدرية في الأصل هم المعتزلة، والمعتزلة هم القدرية- وأخذوا مقالة معبد الجهني، وأضافوها إلى ما قالوه في مرتكب الكبيرة، وقالوا: إذا أثبتنا أن الله كتب المعاصي وقدرها، فكيف يعاقب من يرتكبها؟! فأنكروا القدر، فسموا قدرية؛ لإنكارهم القدر، وسموا معتزلة؛ لاعتزالهم مجلس الحسن البصري، واشتهروا بذلك، فضموا هذا الأصل الخبيث إلى ذلك الأصل.
      ثم أتوا بأصل خبيث ثالث، أخذوه عن الجعد بن درهم، وهو إنكار الصفات، وقد أظهر الجعد هذه المقالة الخبيثة بعد أن أخذها عن بعض فلاسفة اليهود أو عن بعض الصابئين، وقال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فضحى به خالد بن عبد الله القسري رحمه الله في يوم عيد الأضحى، وأزهق تلك الروح الخبيثة، ولكن مقالته كانت قد انتشرت، فجاء المعتزلة بما لديهم من تأثر بـالصابئين والفلاسفة، فضموا إلى أصولهم هذا الأصل الثالث، وهو إنكار صفات الله سبحانه وتعالى، ثم تطور مذهبهم حتى أصبح مبنياً على الأصول الخمسة، التي هي في الحقيقة لا تخرج عن هذه المبادئ الثلاثة، وانتشر مذهب الاعتزال، ولكن بقي مذهباً فكرياً، فـالمعتزلة أصحاب فكر، وعقيدتهم إنما هي فكرة وفلسفة، وهي تناقش لدى المشتغلين بالجدل، وفي إطار المثقفين فقط -كما يقال- واستمر هذا إلى القرن الرابع.
    2. تبني الشيعة لمذهب المعتزلة

      وفي القرن الرابع حصل تحول خطير في اتجاه الاعتزال، وهو انضمام المعتزلة إلى الشيعة، مع أن قدماء المعتزلة كانوا يخالفون الشيعة، فقد كانوا يرون ما هو أقرب إلى مذهب الخوارج في الذين اقتتلوا من الصحابة في يوم الجمل ويوم صفين؛ وهو: أن كلتا الطائفتين فاسقة، أو كافرة، ولكن فيما بعد تسرب التشيع إلى المعتزلة، وتسرب الاعتزال إلى الشيعة، ثم حصل بين الفرقتين الوئام التام في القرن الرابع تقريباً.
      وسبب ذلك: أن الشيعة كانت مجرد جماهير بلا فكرة وبلا عقيدة، فليس لديها ما تقدمه للناس ليعتقدوه إلا القول بأفضلية علي، أو بوجوب إمامة علي، أو بالحلول، أو بالاتحاد، وهذه كلها لا يقبلها عامة الناس، ولهذا فإن الشيعة في القديم والحديث ينشرون دينهم بالعاطفة لا بالعقل؛ لأنه ليس لديهم فكرة معقولة مقنعة حتى يقولوها، رغم ما حصل منهم من تبنٍ لعقيدة المعتزلة، وإلى يومنا هذا هم أضعف الناس عقلاً وفكراً، ولهذا لا يستطيعون أن يواجهوا المخالف، ولا يستطيعون أن يقولوا: إن عقيدتنا في الصحابة كذا وكذا، ومن له اعتراض فليناقشنا.
      ولو ذكر لعالم من علمائهم بعض ما في كتابهم الذي يعتبرونه أصح كتاب عندهم، وهو الكافي، لقال: هذا الكتاب غير معترف به عندنا؛ لأنه سيلزم بما في الكافي من معتقدات؛ مثل: أن الأئمة يعلمون الغيب، وأن الأئمة يعلمون ما كان وما سيكون، ولا يموتون إلا بإذنهم، وأنهم أفضل من الأنبياء؛ فإن هذا لا يعقل، ولا يوجد مسلم يقول مثل هذا الكلام، فلو قيل له ذلك لأنكر أن الكافي معتمد عندهم، ولقال: نحن نريد أن نتعاون نحن وإياكم على أمريكا وإسرائيل، وهذه الخلافات لا يجب الخوض فيها في هذا الوقت..!!
      فلا يستطيع أن يواجه؛ لأنه يجد نفسه أمام حجة وإقناع.
      لكنهم ينشرون مذهبهم بأن يأتوا إلى العامة، ويقيموا مناحة، ثم يغنوا القصائد الطويلة، ويبكوا، فإذا بكى الشيخ، بكى الطلاب، وبكى العامة بكاءً شديداً، ومرة ثانية وثالثة، فيستمر البكاء على علي وعلى الحسين، وعلى ما جرى لهما، وعلى فاطمة، وكيف تضرب وتهان مع أنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهكذا يبكي الناس، فينتج عن ذلك أن يجتمع الناس في هذه المناحات، ويحبون هذا الشيخ، ويكرهون أهل السنة ؛ لأنهم ضربوا فاطمة، وقتلوا الحسين، وقتلوا علياً.
      فلا يستطيع الشيعة إثبات عقيدتهم، ولا يستطيعون المواجهة، ولذلك فليس لديهم إلا التقية.
      فلما أظهر الله السنة على يد الإمام أحمد، وجاء المتوكل وعاد إلى السنة، وأمر أن يحبس المعتزلة في جميع الأمصار وأن يعذبوا، وهذا بعكس ما كان عليه المعتصم، وارتفعت راية السنة في كل مكان؛ فوجد أولئك الأعداء أنه لابد أن يوحدوا صفوفهم، فالتقى الرافضة مع المعتزلة، فأخذ الرافضة عقيدة المعتزلة ؛ لأنه ليس لديهم عقيدة في الأصل، وقالوا: إن عقيدة المعتزلة أصلها مأخوذ عن أهل البيت؛ لأن زيد بن علي بن الحسين تتلمذ على واصل بن عطاء، فنحن عندما نعتقدها لا نعتقدها على أنها عقيدة واصل، ولكن لأنها عقيدة زيد بن علي، إذاً: نحن نأخذها من أهل البيت، وهم معصومون، وزيد من الأئمة المعصومين، فأخذوا عقيدة المعتزلة، وأسندوا كل شيء يرون أن عوامهم لا يقبلونه من العقائد إلى آل البيت، فيقبلونه، فأصبحت عقيدتهم في صفات الله وفي القدر هي عقيدة المعتزلة، وبقوا على عقيدتهم هم في الصحابة وفي غيرها من الأمور، وهي عقيدة الرافضة، فكان في هذا التحول نشراً لعقائد المعتزلة، فحيثما وجدت الشيعة وجدت المعتزلة، إلى زماننا هذا؛ سواء في ذلك الشيعة الإمامية أوالشيعة الزيدية، فكلتاهما تعتقد عقائد المعتزلة، إلا أنهم يختلفون مع المعتزلة في مسألة واحدة فقط، وهي: مسألة الإمامة، فأولئك يحصرونها في أهل البيت، وأما المعتزلة -أو أكثرهم- فإنهم لا يرون ذلك الحصر.
      أما بقية المسائل فهم على مذهب المعتزلة، فيتفقون معهم في القدر وإنكار الصفات، ولهذا ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذلك الكتاب العظيم الذي رد به على الرافضة وهو: منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية؛ حيث كان هذا الذي يسمي نفسه ابن المطهر الحلي يقول: إن أهل السنة وقعوا في التجسيم والتشبيه، وأما الشيعة فيعتقدون في الله التنزيه، وينفون عنه المشابهة، ويذكر مذهب المعتزلة في نفي الصفات وكذلك في القدر وفي غيره، فرد عليه شيخ الإسلام رحمه الله.
  5. ظهور الجهمية وتأثيرها على غيرها من الفرق

     المرفق    
    ثم بعد ذلك ظهرت الجهمية، وهي منسوبة إلى الجهم بن صفوان، وقد اشتهر بأمرين كلاهما كفر:
    الأول: إنكاره للأسماء والصفات.
    الثاني: قوله في الإيمان أنه مجرد المعرفة فقط، فمن عرف الله فهو مؤمن كامل الإيمان.
    ثم أضاف إلى ذلك مذهب الجبرية لما خاض أصحابه في القدر، فاجتمع لدى جهم شر المذاهب وأخبثها، فهو ينكر أسماء الله وصفاته جميعاً، ويقول: إن الإنسان مجبور على أفعاله، فهو كالريشة في مهب الريح، ويقول بأن من عرف الله بقلبه، فهو مؤمن كامل الإيمان، فجمع الشر من جميع جوانبه.
    وقد أخذ جهم إنكار الصفات عن الجعد بن درهم، وأضاف إليه الكلام في الجبر وفي الإيمان كردة فعل لمذهب الخوارج والمعتزلة.
    وجهم هذا لم يكن صاحب علم ولا فضل ولا شأن، إنما كان كاتباً لأحد الثوار الذين ثاروا على بني أمية في بلاد خراسان وهو الحارث بن سريج، لكن أراد الله أن يضله ويضل به، وأن يفتنه، فجعله مثل العجل الذي كان فتنة لبني إسرائيل، فانتشرت مقالته عند جميع الفرق؛ فأخذت المعتزلة منها بحظ ونصيب، وأخذتالأشاعرة منها بحظ ونصيب، وأخذت الصوفية منها بحظ ونصيب، وفرق كثيرة أخذت بحظ ونصيب من مقالات جهم، مع أنه لم يكن له أدنى شأن في العلم، ولا في العقليات، ولكنه فتنة، وقد شبهه أحد العلماء، فقال: فتن الناس به كما فتن بنو إسرائيل بالعجل.
    1. ظهور فرقة الأشاعرة

      وأشهر فرقة تبنت آراء جهم -ولا سيما في مسألة الإيمان والقدر- مع شيء من التحويل والتحوير والإضافة، هي فرقة الأشعرية ؛ فقد جاء بعد جهم عبد الله بن سعيد بن كلاب، فأخذ كثيراً من مقالاته، وسبكها في مذهب خاص.
      ثم جاء أبو الحسن الأشعري؛ بعدما رجع عن الاعتزال -وكان في ذلك الرجوع ردة فعل عنيفة ضد المعتزلة- فرجع إلى النقيض، فوجد النقيض في مذهب الجهمية، فرد على مذهب المعتزلة في أن مرتكب الكبيرة في منزلة بين المنزلتين بما قالته الجهمية وهو أن مرتكب الكبيرة كامل الإيمان، وأن مجرد التصديق بالقلب يكفي في الإيمان، فقال بذلك الأشعرية، وإن كان أبو الحسن رحمه الله قد رجع عن ذلك، ولكن المقصود أن هذا هو مذهبه بعد رجوعه من الاعتزال، والذي تطور عن مذهب الكلابية وتأثر بأقوال الجهمية؛ فـجهم يقول: الإيمان هو المعرفة القلبية، والأشعرية يقولون: هو التصديق القلبي، وكلا القولين على أن الإيمان قلبي معرفةً أو تصديقاً! ولا يستطيع العقلاء أن يميزوا وأن يفرقوا بينهما، فمذهب الأشعرية هو في حقيقته مذهب جهم .
      ثم جاءوا في مسألة القدر بردة فعل أخرى للمعتزلة في نفي القدر، فأثبتوا القدر حتى قالوا بأن الله هو الذي يفعل كل شيء، وأن الله هو الفاعل حتى لأفعال العباد -تعالى الله عما يصفون- وكيف يكون الله هو الفاعل لأفعال العباد والعباد يفعلون الزنا واللواط ويشربون الخمر ؟! ويفعلون ما لا يليق أن ينسب بأي حال من الأحوال إليه سبحانه وتعالى؟!
      ولكي يفروا من التجهم الواضح، قالوا: نحن نقول بالكسب، أي: أن الله فاعل والعبد كاسب، فلما أراد العقلاء أن يفرقوا بين الجبر وبين الكسب، لم يجدوا فرقاً بينهما كما لم يجدوا فرقاً بين المعرفة والتصديق القلبيين، وهكذا تطور ذلك المذهب الذي ظهر فيما بعد وانتشر.
    2. اندماج التصوف بمذهب الأشعرية

      فلما ظهر مذهب الأشاعرة وانتشر، التحم بمذهب الصوفية، ولما أراد الصوفية أن يفرضوا على الأمة دين الحلول ووحدة الوجود والاتحاد، دخلوا من باب الأشاعرة ؛ لأن الجهمية ينكرون الصفات عموماً، والأشعرية أخذوا منهم إنكار صفة عظيمة جداً، وهي علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، فلما قالت الأشاعرة: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، بل هو في كل مكان، ورسخوا هذه العقيدة، ونشروها في الآفاق، جاء الصوفية وقالوا: نضيف درجة واحدة فقط فبدلاً من أن نقول: هو في كل مكان، نقول: هو عين الموجودات؛ فـ الأشاعرة يقولون: إنه في كل مكان، أي أنه في الأرض، وفي السماء، وفي البحر، وفي الجبل، وفي الشجر، وفي كل مكان، فجاء أولئك فقالوا: هو عين هذه الموجودات، فأدخلوا عقيدة الحلول ووحدة الوجود من باب الأشعرية، فتقاربت الطائفتان، حتى أصبح كثير من الناس -كما في تراجم بعضهم- يقال عنهم: فلان بن فلان المالكي أو الشافعي مذهباً، الأشعري عقيدة، الشاذلي أو القادري أو التيجاني طريقة، وأصبحت المسألة ثلاثية: الفقه والأحكام الشرعية من إمام، والعقيدة من شخص ثانٍ، والطريقة من شخص ثالث، فحق عليهم أنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، وقد برَّأ الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ممن كان كذلك، فقال: ((إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ))[الأنعام:159].
      وفي هذه الأزمان غلب على الأمة التصوف المخلوط بـالأشعرية، والتشيع المخلوط بالاعتزال، ويوجد أهل السنة، كما يوجد امتداد للفرق التي أشرنا إليها، كـالباطنية والتي هي غلو في التشيع، وكذلك غلو في التصوف.
      فأصبحت الأمة -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- كحال أهل الكتاب في تفرقهم، وفي اختلافهم.
  6. الأصول التي حصل فيها الخلاف في هذه الأمة

     المرفق    
    كان ما سبق عرضاً سريعاً للفرق: كيف نشأت؟ وكيف انتشرت إلى هذا الزمن؟ ونستطيع من هذا العرض أن نعرف ما هي الأصول التي وقع فيها الخلاف بين الأمة الإسلامية، فنقول: إن الخلاف وقع في أربعة أصول:
    الأصل الأول: الإيمان قولاً وعملاً، وزيادة ونقصاً، والحكم على مرتكب الكبيرة.
    الأصل الثاني: القدر.
    الأصل الثالث: الصفات.
    الأصل الرابع: الخلافة، أو الإمامة، أو موضوع الصحابة ومواقفهم من الفتنة، ويدخل فيه الإمامة.
    فغالب الفرق يرجع خلافها إلى أحد هذه الأمور الأربعة.
    وأول فرقة نشأت من الفرق: الخوارج والشيعة والقدرية، ومن هذه الفرق تشعبت الفرق الأخرى، وظهرت بعد ذلك الجهمية، وبعض العلماء لا يرون الجهمية من فرق المسلمين، بل يرونهم من المرتدين، فتكون الفرقة الرابعة هي المرجئة التي هي مقاربة للأشاعرة، وفي مقابلة المعتزلة والخوارج.
    فهذه هي الفرق الأربع التي ترجع جميع الفرق إليها وهي: الخوارج، والمرجئة، والشيعة، والقدرية، وكلمة القدرية -كما قلنا- هي مرادفة لكلمة المعتزلة، وهذه الفرق الأربع هي أصول الفرق.
  7. اختلاف العلماء في حديث الافتراق

     المرفق    
    1. المقصود بـ(ثلاث وسبعين فرقة)

      ولعل إشكالاً يطرح نفسه، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، وقد ذكرنا أن أصولها أربع فرق، وإذا أدخلنا الجهمية فإنها تكون خمس فرق، فكيف نطبق العدد كما ورد؟! وإذا تحدث من شرح الحديث عن هذه الفرق وأخذ يعددها، فهل عليه أن يوصل العدد إلى ثلاث وسبعين أم لا؟ وإذا لم يستطع ذلك فزاد أو نقص فكيف يفهم العدد الوارد في الحديث؟!
      للعلماء في هذا العدد وجهتا نظر:
      الأولى: أن المقصود بالعدد هو: التكثير، حيث أن مفهوم العدد مُطَّرَح، فليست الفرق محدودة أو محصورة بثلاث وسبعين، وإنما المقصود التكثير، وهو أن النصارى اختلفوا أكثر من اليهود، والأمة الإسلامية ستفترق أكثر من النصارى، فالعدد لا مفهوم له، وإنما المقصود مجرد التكثير، وقالوا: لو نظرنا إلى الفرق لوجدنا أن فرق الرافضة تزيد عن سبعين فرقة الخوارج تزيد عن أربعين أو خمسين فرقة، ثم ظهرت الصوفية، وظهرت الطرق، وفي العصر الحديث ظهرت فرق لم تكن موجودة من قبل، كـالقاديانية، والبهائية، وإلى الآن توجد وتظهر فرق، ففي أمريكا بالذات تظهر فرق غريبة جداً في هذه الأيام، وكذلك في أوروبا، وفي الهند، وكلها تنتمي إلى الإسلام.
      إذاً: المقصود من العدد هو التكثير لا الحصر.
      الوجهة الثانية: قال بعضهم: إن العدد مقصود، ولكن الثلاث والسبعين فرقة هي الأصول، وعليه فنستطيع أن نأتي بأصل الفرق، فنقول: الشيعة واحدة من الثلاث والسبعين، وكل ما تفرع عنها فهو فرع لها ولا يعد أصلاً، وكذلك الخوارج هي أصل أيضاً، وكل ما تفرع عنها لا يعد فرقة مستقلة، وإنما هو ضمن أصلها، ويكون الرقم (73) بمعنى المنهج والأصل العام الذي تتشعب منه فرق أخرى.
      ولكن على كلا القولين لا نستطيع أن نجزم بأن فرقة معينة هي من الثلاث والسبعين فرقة، أو نطبق هذا الرقم على فرق معينة، ونحصرها، فقد أخطأالشهرستاني في الملل والنحل وأخطأ معه كثير من المؤلفين في الفرق، عندما طابق ما ورد ذكره في الحديث من ثلاث وسبعين فرقة على الفرق التي عرفها، وقال: الفرقة الأولى كذا، والفرقة الثانية كذا... حتى أكمل الثلاث والسبعين فرقة، فماذا نقول عن الفرق التي ظهرت فيما بعد؟!
      ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: (لا يجوز لأحد أن يقول: هذه الفرقة من الثلاث والسبعين إلا بدليل يدل على ذلك)، فنحن لا نستطيع أن نذكر فرقة معينة ونقول: هي الأربعون أو الثلاثون، لكن نستطيع أن نقول: إن كل فرقة انحرفت وخرجت عن أهل السنة الذين هم الفرقة الناجية؛ فهي من الثلاث والسبعين ككل؛ فلا نعرف كم رقمها، ولا نعرف هل هي أصل أم فرع.
      المهم عندنا -والذي نجزم به- هو أن الفرقة الناجية هي فرقة واحدة، والفرق الهالكة هي من الثلاث والسبعين، فكل فرقة هالكة -بخروجها عن منهج أهل السنة والجماعة- فهي من الثلاث والسبعين.
      ولو نظرنا إلى هذه الفرق الهالكة، لوجدنا أنها لا تخرج عن الأصول التي ذكرناها، والتي وقع فيها الخلاف؛ لأنها إما أن تكون قد ابتدعت في أبواب الإيمان، أو القدر، أو الصفات، أو الصحابة، أو الإمامة، فنستطيع أن نعرف أصلها ومنبعها من حيث الأصول، لكن كونها فرقة مستقلة أو جزءاً من فرقة، هذا لا نستطيع أن نجزم به، ولا يهمنا أن نعرف ذلك، الذي يهمنا هو أنها من الهالكة، وليست من الفرقة الناجية.
      فكل من لم يدخل في أهل السنة من الأفراد أو الجماعات، فهو من الهلكى.
    2. معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (كلها في النار إلا واحدة)

      وهنا مسألة أخرى، وهي أن يقال: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الفرق كلها في النار إلا واحدة، فما معنى ذلك؟ والجواب: إن ذلك لا يعني أن كل من خرج عن أهل السنة والجماعة، أو عن منهجهم، فهو خالد مخلد في النار كافر؛ لأن آيات الوعيد وأحاديث الوعيد يجب أن تفهم كما فهمها أهل السنة والجماعة .
      فهذا الحديث من أحاديث الوعيد، التي نتبع فيها مذهب أهل السنة والجماعة في فهم أحاديث وآيات الوعيد. فقوله تعالى في آكل مال اليتيم: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا))[النساء:10] لا نستطيع أن نجزم بأن كل من أكل مال اليتيم سيدخل النار.
      وهكذا قول الله تعالى: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا))[الفرقان:68-69].
      أما الشرك فمعلوم خلود صاحبه في النار، ولكن الزاني والقاتل هل لابد من دخولهما النار، فيعذبان ويخلدان فيها؟!
      هنا أمور يجب أن نعرفها ونعلمها، وهي: أن آيات وأحاديث الوعيد تذكر العقوبة المترتبة على الذنب، وهذه مسألة، وأما إنزالها على الفاعل، فهي مسألة أخرى؛ بمعنى: أن من فعل كذا فهذا جزاؤه، لكن لابد لذلك من شروط يجب أن تتحقق، وموانع يجب أن تنتفي، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، ولهذا تنصب الموازين يوم القيامة، فقد يأتي رجل وهو آكل مال يتيم، ولكنه قد قاتل في سبيل الله حتى قتل، فرجحت كفة الجهاد على كفة أكل مال اليتيم مثلاً؛ إذاً: فلم يتحقق الوعيد؛ لوجود مانع منه، ومثل من يكون مؤدياً للصلاة وشارباً للخمر؛ إن رجحت الصلاة أو الصدقة أو الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما فعل من شرب خمر أو سرقة أو غيبة أو نميمة؛ فعندها يتخلف في حقه الوعيد الذي نص الله عليه في حق الزاني أو شارب الخمر أو صاحب الغيبة والنميمة، وهكذا بقية الذنوب عدا الشرك.
      وعليه فقوله صلى الله عليه وسلم: {كلها في النار إلا واحدة} معناه: أن كلها تستحق النار إلا واحدة، لكن ليس معناه أن كل أفرادها يدخلون النار، فالاستحقاق شيء، والإيقاع للعقوبة شيء آخر، فقد يوجد في بعض هذه الفرق التي لا يخرج صاحبها من الملة جهاد وعلم وعبادة وإخلاص، ومعه بدعته، فإذا وضعت الموازين رجح ذلك بتلك، وقد يوجد معها نفاق وكفر، فيكون فيه أعظم مما يظهر للناس، وهو مجرد البدعة، فيكون كافراً مرتداً.. وهكذا.
      إذاً: غاية هذا الكلام: أن هذه الفرق مستحقة لدخول النار، ثم قد يتخلف الوعيد وقد يتحقق، بحسب ما هو معلوم في عقيدة أهل السنة والجماعة في أصحاب الكبائر، فيجب أن نعاملهم معاملة أصحاب الكبائر.
      والصحيح في عدد الفرق الهالكة أنها اثنتان وسبعون فرقة؛ لأن أهل السنة خارجة عن هذه الفرق، وهذه الفرق الهالكة ليست خارجة عن الإسلام، وإذا أخرجت فرقة ما عن الإسلام، لم تعد من الثلاث والسبعين فرقة؛ كـالباطنية مثلاً، فإنها لا تعد من الثلاث والسبعين؛ لأنها خرجت عن الملة، ورجح شيخ الإسلام رحمه الله في الإيمان خروج الجهمية، واستدل بأن عبد الله بن المبارك، ووكيعاً، وسفيان بن عيينة، وغيرهم من جلة العلماء، أخرجوا الجهمية من فرق هذه الأمة، وقد نقل ذلك البخاري رحمه الله في كتابه خلق أفعال العباد، وكذلك نقله الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتابه السنة، وغيرهم من العلماء.