يقول المُصنِّفُ: ليس الأمر كما فهم بعض الشراح أو بعض المفسرين أن السياق قد انتهى، وكأن قوله:
((أَإِلَهٌ مَعَ اللَّه))ِ معناه هل هناك شريك لله؟
فهذا الوجه خطأ لأن الكلام يجب أن يقرأ متصلاً فنقول مثلاً: ((أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّه)) [النمل:60] التقدير: أإله مع الله فعل هذا؟!
سيكون جوابهم: لا. وهذا سؤال إنكار هذا الوجه هو الصحيح في الآية أما الوجه الخطأ فهو أن يظن أن الآية تقول: ((أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا))[النمل:60] انتهى.
ثُمَّ يقول: ((أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ)) كأنه سؤال جديد يقول: هل لله شريك؟
فهذا الوجه خطأ لأنهم يثبتون لله شريكاً، والله تَعَالَى لا يسألهم هل له شريك؟
يعني مجرد سؤال، إنما المقصود أإِله مع الله فعل هذا فتعبدونه من دون الله؟ فإذا قلتم: لا، لم يفعل هذا أحد مع الله، وإنما فعله الله وحده، فهَؤُلاءِ الشركاء الذين تعبدونهم من دون الله إذن عبادتكم لهم باطلة وشرككم لهم باطل فهذا هو المراد.
وكما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى))[الأنعام:19] فهم يشهدون، ولكن أنت ((قُلْ لا أَشْهَد)) أي: أنهم هم يشهدون أن مع الله آلهة أخرى ويدعون مع الله آلهة أخرى، والاستفهام هنا إنكار عليهم، كيف تؤمنون وتقرون بأنه لم يفعل ولم يخلق أحد غير الله ثُمَّ تعبدون وتدعون غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟!
وذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ أيضاً الآيات التي في سورة البقرة -التي قلنا أن فيها أول أمر في القرآن- منها قول تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [البقرة:21].
وسورة البقرة أول سورة نزلت في المدينة، وهي من أعظم سور القرآن؛ لاشتمالها عَلَى أعظم آية في كتاب الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهي: آية الكرسي ولما اشتملت عليه من الأحكام العظيمة، والمعاني الجليلة، ولذلك -كما في الحديث الصحيح- {لا تستطيعها البطلة} -أي: السحرة والكهان- والشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه -كما في الحديث الآخر.
وهي أول سورة نزلت في المدينة، جاءت في مفتتح القُرْآن بعد الفاتحة، فذكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في أولها صفة القُرْآن العظيم، ثُمَّ صفات المؤمنين فيه ثُمَّ الكافرين ثُمَّ المنافقين، وبعد الانتهاء من صفات المنافقين أمر بهذا الأمر الذي هو أول أمر في القُرْآن فقوله سبحانه: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ)) هذا خطاب عام لجميع النَّاس ((اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))[البقرة:21].
أمر النَّاس جميعاً أن يعبدوه وحده، لأنه هو الذي خلقهم ((الَّذِي خَلَقَكُمْ))فكونه هو الذي خلقكم، وكونه هو الذي خلق الذين من قبلكم، هذه قضية بدهية، وهي حقيقة مقررة عندكم؛ إذاً فاعبدوه وحده لا شريك له وأفردوه بالعبادة سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والآية التي في سورة الأنعام ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ)) [الأنعام:46] وهم مقرون وعالمون أنه لا أحد غير الله يأتيهم بذلك، وأن الله هو الذي رزقهم.
فهذا يبين ويوضح أن كل الآيات التي وردت في القُرْآن -ومنها الآيات التي في سورة النمل- إنما المراد بها أنكم لِمَ تجعلون لله شريكاً في العبادة ما دام أنه ليس له شريكاً في الخلق؟! هذا هو مضمون ما ذكره المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى- في ذلك.