المادة كاملة    
في هذا الدرس يدور الحديث عن الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات المشيئة، مع بيان مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك، وأنواع الإرادة، بالإضافة إلى ذلك تمّ بيان أن المشيئة تدخل في الإرادة الكونية لا الشرعية، وعلاقة الجهاد بالمشيئة، والرد على من أنكر الجهاد، مع توضيح ضلال الفرق في المشيئة، وأثر الغزو الفكري على بلاد المسلمين، وقد اختتم هذا الدرس بإثبات المشيئة للعبد، وبيان أنها تابعة لمشيئة الخالق، وضلال الفرق المخالفة في ذلك.
  1. مذهب أهل السنة والجماعة في المشيئة

     المرفق    
    قال المصنف:
    [وأما الأدلة من الكتاب والسنة، فقد قال تعالى: ((وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ))[السجدة:13] وقال تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ))[يونس:99] وقال تعالى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ))[التكوير:29] وقال تعالى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً))[الإِنسَان:30] وقال تعالى: ((مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))[الأنعام:39] وقال تعالى: ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَعَّدُ فِي السَّمَاءِ))[الأنعام:125].
    ومنشأ الضلال: من التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة، والرضا فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثُمَّ اختلفوا:
    فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه، وقدره فيكون محبوباً مرضياً.
    وقالت القدرية النفاه: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضيةله، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه] إهـ.

    الشرح:
    شرع المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة بعد أن ذكر مذهب القدرية وأتى بالوقائع الدالة عَلَى تهافت مذهبهم وتناقضهم حينما أخرجوا المعاصي والكفر وما يكرهه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عن إرادة الله ومشيئته، وأن في ذلك تنزيهاً له -فيما زعموا- عن نسبة الشر إليه، أو أنه يريد المعاصي ثُمَّ يعاقب عليها فيكون ذلك ظلماً بزعمهم، والأدلة من الكتاب والسنة تدل عَلَى ما أشار إليه من مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وهو كما قَالَ: والذي عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله خلق العباد وخلق أفعالهم.
    1. الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات المشيئة

      قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [أما الأدلة من الكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى: ((وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) [السجدة:13] وقال تعالى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً))[الإنسان:30] هاتان الآيتان الأولى منهما في سورة السجدة والأخرى في سورة الإنسان، وقد كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بهما في فجر يوم الجمعة. ولقد قسم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الأمم عَلَى قسمين:
      القسم الأول: أمم لا كتاب لها وهم المجوس والهندوس والبوذيون وكثير من أمم الشرك، فهذه الأمم لم تعرف يوم الجمعة العيد الأسبوعي، بل لا تعرف الأسابيع لأنها ليس لها أسبوع يبدأ ثُمَّ ينتهي، إنما تعلمت ذلك من الأمم الكتابية، فالمُشْرِكُونَ المنقطعون عن الاتصال بالأمم الكتابية -اليهود والنَّصَارَى والمسلمون- لا يعرفون ذلك.
      والقسم الثاني: الأمم الكتابية التي لديها أسبوع ضلت في معرفة هذا اليوم، فوقع اليهود على يوم السبت، والنَّصَارَى عَلَى يوم الأحد، وفضل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هذه الأمة بأن وقعت عَلَى اليوم الذي هو حقاً أفضل أيام الأسبوع وهو يوم الجمعة
      . وهو مقدم عَلَى السبت والأحد فأصبحت الأمم تالية لهذه الأمة المباركة المصطفاة
      .
    2. وقفات مع سورتي السجدة والإنسان

      في هذا اليوم -يوم الجمعة- يُسنُّ أن يقرأ الإمام في صلاة الفجر سورتي السجدة والإِنسَان ، ولو تأملنا ما في هاتين السورتين لوجدنا أنهما تشتملان عَلَى بداية خلق الكون، وبداية خلق الإِنسَان، وتشتملان عَلَى أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار، وتشتملان عَلَى القدر، وعَلَى إثبات مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه من أهم أصول العقيدة الإسلامية.
      فكأن العبد المسلم في كل أسبوع يأخذ من كلام ربه عَزَّ وَجَلَّ هذه الدروس والعبر في عقيدته، فيعلم أول ما يسمع سورة السجدة أن هذا القُرْآن حق غير مفترى كما يزعم الزاعمون، ويدعون ويتبجحون، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق هذا الكون وهو خالق كل شيء، وأنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- استوى عَلَى العرش، وخلق كل شيء وأحسن خلقه، ثُمَّ يأتي بعد ذلك خلق الإِنسَان، ثُمَّ نهايته وإثبات البعث.
      والحديث عن المشيئة في هذه الآية: ((وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)) [السجدة:13] أما في سورة الإِنسَان فيبتدأ يقول: ((هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً))[الإِنسَان:1] وهنالك في السجدة: ((الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ))[السجدة:7] ففترة كونه طيناً هي التي لم يكن فيها شيئاً مذكورا، حتى سواه ونفخ فيه من روحه بعد أربعين سنة.
      ويقول في سورة الإِنسَان:((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)) [الإِنسَان:3] ويقول في سورة السجدة: ((وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)) فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق هذا الإِنسَان وجعله مكلفاً مختاراً، فإن شاء اختار طريق الحق وإن شاء اختار طريق الضلال.
      ولكن اقتضت حكمة الله تَعَالَى أن يكون في النَّاس أهل حق واستقامة وهدى، وأهل باطل وغواية وضلالة كما قال تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) [هود:118-119] وهذا أمر فوق السؤال، فلا يقال: لماذا؟ فكلمة الله تمت بذلك، وقضى به ((وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)) أي: ولو شئنا لوفقناها وآمنت واستقامت عَلَى الحق، أما قوله:((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ)).
      فالمقصود هنا: هداية الدلالة والإرشاد، أي: دللناه وأرشدناه وبينا له معالم الطريق، وعليه أن يختار بعد ذلك ((إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)) وهذا راجع إِلَى إرادته، أما الذين أعطاهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هداية التوفيق فهم المؤمنون الذين آمنوا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال تعالى: ((وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا)) أي: الأمر كله راجع إِلَى مشيئتنا، فلو شئنا لكان النَّاس أمة واحدة عَلَى الهدى والحق، ولكن حق القول مني، ((وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً))[الأنعام:115].
      فهذه الكلمات هي الكلمات الكونية، وليست الكلمات الشرعية، فالقرآن كلام الله عز وجل هو كلماته الدينية الشرعية، أما كلماته الكونية فهي أوامره التي خلق بها الأشياء
      .
      ويقول الله تَعَالَى في سورة يونس :((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ))[يونس:99] فمن كفر فإنما كفر بمشيئة الله، ومن آمن فإنما آمن بمشيئة الله هذا وجه الدلالة، ولا إشكال فيه، وقوله تعالى: ((أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)) وموضع الآية هنا واضح إذا فهمنا مدلول الآية كلها.
  2. الجهاد ودعوى المناوئين

     المرفق    
    نجد أن كثيراً من المهزومين أو المخدوعين يقولون: إن هذا الدين دين دعوة فقط لا جهاد ولا قتال فيه، وإنما يدعو النَّاس إِلَى أن يؤمنوا به بطواعيتهم وباختيارهم، ويستدلون بقوله تعالى: ((أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)) ويقول: قال تَعَالَى: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)) [البقرة:256].
    إذاً: ليس في الإسلام قتال من أجل الدين ولا جهاد، فإن قلنا: فهذه الفتوحات الإسلامية، والغزوات النبوية قرابة ثلاثين غزوة وقرابة المائة سرية، والصحابة من بعده وصلوا إِلَى نهاية العالم من جهة الغرب إِلَى المحيط الأطلسي، ولم يكن معروفاً في ذلك الوقت أن وراء هذا المحيط عالماً آخر.
    وتوغلوا من جهة الشرق حتى وقَّع لهم ملك الصين على دفع الجزية، ولم يبق شيء من العالم إلا أوروبا وهي قبائل همجية في الشمال وأجزاء قليلة في الجنوب، كيف يكون هذا المجد وهذا الكسب؟ قالوا: هذه حروب دفاعية فقط، فقريش أرادت أن تعتدي عَلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقاومها وحاربها ويستدلون بقوله تعالى:((وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) [البقرة:190].
    فيأخذون هذه الآية مع الآيتين السابقتين ويشكلون منها قواعد وأحكام يقررونها، وهي أن هذا الدين لا جهاد فيه فيُقَالُ لهم: إن معنى قوله تعالى:((لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً))أنه قد كتب أزلاً وقدراً أن أناساً سيموتون عَلَى الكفر، وستمتلئ منهم جهنم، أما قوله:((أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)) فمعناها: أنهم لن يؤمنوا مهما بذلت وحاولت، وقد اختاروا الكفر بإرادتهم واختيارهم، وهذا مطابق لما قد كتب عليهم كوناً وقدراً.
    وليس المقصود من هذا أنك لا تجاهدهم، بل معناها: حتى وإن جاهدتهم فلن يؤمنوا، سواء دعوتهم سراً أو جهراً بالحكمة أو السيف؛ لأنك لا تستطيع أن تكره النَّاس حتى يكونوا مؤمنين، فقد اختاروا ذلك اختياراً، ولن يرجعوا عن ذلك، ولا يمكن واقعاً أن يتحول النَّاس إِلَى أمة واحدة، فاقتضت حكمة الله تعالى وتمت بذلك كلمته أن يكون النَّاس أمة خير وأمة ضلال، وقد جعل الله لكل نبي عدواً من المجرمين لحكمة
    .
    إذاً: لا تستغرب أيها النبي لأن لك أعداءً، وأنت تحرص عَلَى هدايتهم ومع ذلك لن يهتدي أحد أبداً.
    ولاعلاقة لهم في كونك تجاهدهم أو لا تجاهدهم، فأمر الآية يتحدث عن أوامر كونية أزلية، وليس عن أوامر أو أحكام شرعية تعبدية؛ فحتى مع الجهاد -وهو مشروع بلا ريب لكي يدخلوا في الدين- لن يؤمن إلا من كتب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له الإيمان، لكن يجب عليك أن تقاتل كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ)) [التوبة:73] أي: جاهدهم، لكن ليس في حولك ولا في قوتك أن تدخل الإيمان إِلَى قلوبهم، ولم يكلفك الله به، ولكن كلفك أن تدعوهم وأن تجاهدهم، إذاً لا تعارض ولا تناقض بين هذا وذاك.
    1. الفرق الضالة التي أنكرت الجهاد

      الذين أنكروا الجهاد كثير منهم الروافض ولهذا سموا الخشبية لأنهم صنعوا لهم سيوفاً من الخشب، وَقَالُوا: لا جهاد إلا مع الإمام، وما دام أن الإمام لم يتول الحكم وكان الأئمة غائبين أو مجهولين، فالسيوف تكون من الخشب، فلما أن أختفى -بزعمهم- الإمام الثاني عشر ودخل السرداب، قالوا: لا جهاد، ولا جمعة، ولا أي حكم من الأحكام التي تتعلق بالإمامة، ولو كانت عَلَى مذهبهم وفقههم، إلاّ إذا خرج الإمام من السرداب.
      ولهذا خالف منهم من خالف، وأصبح الذي يخالف منهم يعد مجدداً أو نائباً عن الإمام، لأنه غير هذا الحكم، الذي لا يقوم به إلا الإمام
      ، ومع ذلك اتبعوه بزعم النيابة عن الإمام، وكذلك لما انتشر الاستعمار في دول العالم الإسلامي، أراد أن يقضي عَلَى فكرة الجهاد قضاءً مبرماً، وكذلك الأفكار الوافدة تأثر بها عدد كبير من الْمُسْلِمِينَ.
      فالاستعمار أوجد القاديانية التي من أهم أركان دينها إنكار الجهاد، وكَتَبَ القادياني الذي ادَّعى النبوة يقول: إنه يجب إعطاء الولاء للحكومة البريطانية، لأنها حكومة هيأها الله واختارها وأورثها الأرض، فلا يجوز لأي مسلم أن يخرج عليها أو أن يجاهدها، ومن فعل ذلك فقد خالف أحكام الدين وأوامر الله، وكذلك البهائية وغيرها من الفرق التي أنكرت الجهاد.
    2. الغزو الفكري ودوره في القضاء على الجهاد

      أما بالنسبة للغزو الوافد الذي اصطنعه الاستعمار وتأثر به كثير من الْمُسْلِمِينَ، فقد خُيَّلَ إليهم أن الجهاد خاصٌ بعصور الهمجية والانحطاط.
      يقولون: إن الإِنسَانية لما كانت في عصور الهمجية والانحطاط -في المرحلة التي أشار إليها المحللون والمفكرون الغربيون ومنهم كونت صاحب المدرسة الوضعية وغيرها- مرت بثلاث مراحل:
      المرحلة الأولى: مرحلة الخرافة، والسحر، والكهانة.
      المرحلة الثانية: مرحلة الدين.
      والمرحلة الثالثة: مرحلة العلم، ومرحلة الدولة الحديثة التي ظهرت ابتداءً من الثورة الفرنسية التي أعلنت مساواة النَّاس في الحقوق والواجبات، ولذلك فليس هناك من مجال لأن يقتل الإِنسَان أخاه الإِنسَان
      وهكذا يصدرون هذا الكلام لنا.
      ولم يشهد العالم حروباً دامية مدمرة مثل الحروب التي دارت في أوروبا منذ الثورة الفرنسية إِلَى الآن، مثل حرب السبعين وهي الحرب المشهورة بين الإنجليز والفرنسيين، والحروب بين ألمانيا وفرنسا، والحروب بين ألمانيا وانجلترا "الحربان العالميتان" حروب طاحنة، ويقولون: إن ميثاق الثورة الفرنسية -الذي أصبح بعد ذلك أكثر تطوراً بميثاق حقوق الإِنسَان- قد تكفل بأن يعيش العالم الإِنسَاني أسرة واحدة -يسمونها الأسرة الدولية- وكلهم إخوة وأحبة، وعلى ضوء مواثيق الأمم المتحدة لا يكون هناك قتال بين الناس، وعقدوا اتفاقيات تسمى اتفاقيات تحريم الحرب، منها اتفاقيات باريس، ثُمَّ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك اتفاقيات تحريم الرق، ويقولون: إن الإِنسَان أصبح إنساناً حراً متحضراً متطوراً.
      وقد تسامى وترفع عن عصور الانحطاط والجاهلية، التي كَانَ الإِنسَان يهاجم فيها أخاه الإِنسَان ويغزوه، وهذا الكلام يصدر إِلَى العالم الإسلامي ويشاع ويكتب، بل حتى كتب عن الجهاد في الإسلام بما يؤيد هذه الفكرة الاستعمارية والخديعة الماكرة، في حين أن الغرب لم يتخلَّ قط عن الأخذ بأسباب القوة، فالذي يُدرس في أوروبا يقال علناً في كل مكان وهو: "إن الحياة صراع والبقاء للأقوى"، هذا قانون علمي يدرَّس كنظرية علمية في الأحياء وفي الجيلوجيا وفي غير ذلك.
      وكذلك في واقع الحياة، ولهذا لا مجال لرحمة ضعيف هزم، في حين أنهم يصدرون إلينا المعاني الإِنسَانية التي تتضمن ترك هذا الواجب العظيم من الواجبات التي فرضها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى هذه الأمة، فتصبح الأمة الإسلامية ذليلة تابعة، وقد أسهمت الصوفية والمرجئة وغيرهم في إلغاء الجهاد، وفي كتاب أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية للدكتور علي العلياني تفصيل لهذه الأمور.
  3. إثبات المشيئة للعباد

     المرفق    
    وأما الحديث عن القدر فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قدَّر وقضى كوناً: أن النَّاس عَلَى طريق السعادة أو طريق الشقاوة، وقال تَعَالَى:((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [التكوير:29] فهنا يثبت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المشيئة للعبد، فلا شك أن العبد ما دام أنه حي فهو بطبيعته فاعل متحرك، وهو عامل لأنه حارث وهمام.
    فبطبيعته يعمل ويتحرك، وهذه الحركة لا تكون إلا عن اختيار ومشيئة، إذاً فمشيئة العبد لا شك فيها، وأنها ليست موضع نقاش ولا جدال، أما قول: الجبرية فهو أمر خارج عن العقل والفطرة والشرع، وليس لهم شبهة في الحقيقة.
    أما نفي القدر فله شبهة التبست ووقع فيها بعض النَّاس، ولقد رد القُرْآن والأحاديث الصحيحة وأهل العلم عَلَى هذه الشبهة، فالله يقول: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) فلستم مستقلين بأعمالكم ولا بإرادتكم، وإنما هي وفق مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فما شاء كَانَ وما لم يشأ لم يكن، كما قال الشاعر:-
    فما شئتَ كَانَ وإن لم أشأ            وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
    1. مشيئة العبد تابعة لمشيئة الخالق

      المشيئة المطلقة هي لله عَزَّ وَجَلَّ والعبد له مشيئة، لكن قد يشاء العبد أمراً فلا يكون إلا ما شاءه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا فـالقدرية الذين يجعلون العبد مستقلاً بمشيئته، وقد وقع لهم عدد من النماذج، وقد روى اللالكائي -رَحِمَهُ اللَّهُ- من ذلك قصتين منها:
      أن رجلاً من القدرية كان جالساً مع بعض أهل السنة وكان في يده بيضة فقَالَ: يقولون: إن الإِنسَان لا يفعل ما يشاء فها أنا أشاء أن آكل هذه البيضة من الذي يمنعني فوضعها في فمه، وكان موجوداً عنده بعض من أهل السنة فلما وضعها في فمه طرحوه عَلَى الأرض واستخرجوها من فمه وألقوها، وقالوا له: أين مشيئتك؟
      فالإِنسَان قد يشاء الأمر ويهيئ كل أسبابه وفي آخر لحظة تذهب تلك المشيئة وتلك الأسباب؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يشأ؛ ويقول تَبَارَكَ وَتَعَالَى كما في سورة الإِنسَان: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)) [الإِنسَان:30] وهذه مثل التي قبلها، فبعد أن بين في أول السورة: ((إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)) [الإِنسَان:3] لئلا يقَالَ: أنا اخترت طريق الخير بنفسي، مستقلاً عن إرادة ربي ومشيئته، أو اخترت طريق الشر، مستقلاً عن مشيئة الله وإرادته، لذا قال في آخر السورة ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)) ففي أول الآية إثبات لمسئولية الإِنسَان وحريته في الاختيار، وآخرها فيه إثبات لمشيئة الله الشاملة العامة المطلقة التي لا يحدها ولا يقيدها شيء
      ، وقال تعالى: ((مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [الأنعام:39] هنا أيضاً هذه الآية والتي بعدها: ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ))[الأنعام:125].
      هاتان الآيتان تدلان عَلَى أن الهداية والإضلال من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأنه هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء عَزَّ وَجَلَّ لكننا نجد في سورة النحل قوله تعالى: ((فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ))[النحل:36] وقوله: ((فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ)) [الأعراف:30].
      فالضلالة منسوبة إِلَى الإِنسَان، وحقت عليه، فلم يقل: فمنهم من هدى ومنهم من أضل، ولا تعارض بين الآيات. بل في ذلك حكمة، لاسيما وأن آية النحل قد جاءت بعد أن ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى احتجاج الْمُشْرِكِينَ بالقدر عَلَى نفي الشرع، لأنهم يقولون: ((لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ))[النحل:35] يحتجون بمشيئة الله، كأنهم يقولون: إن الله هو الذي شاء أن نضل، فلن نهتدي.
      ولو كَانَ المقصود: أن الله شاء أن نضل، بمعنى أنه كتب الضلالة عَلَى من ضل، وهو أيضاً أمرنا وشرع لنا أن نهتدي؛ لأن مجرد إثبات أن الإضلال لا يقع إلا من الله، فليس في ذلك من بأس؛ لأن الله نسب ذلك إِلَى نفسه كما في هاتين الآيتين، لكنهم يريدون أن يجعلوا المشيئة بمعنى المحبة والرضى، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: ((فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّه)).
      إذاً: الهداية من الله ((وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ)) فليس كما تزعمون أن الأمر جبر لا اختيار فيه ولا مشيئة لكم فالضلال جَاءَ استحقاقاً وعدلاً، والهداية جاءت توفيقاً وفضلاً من الله تعالى. كما قال تَعَالَى :((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ))[التكوير:29] لكن مشيئة الضلال والإضلال لا تعني أنه عَزَّ وَجَلَّ يحبه ويرضاه أو أنه شرعه وأمر به
      .
      ولذلك عقب المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَى ذلك بقوله: [ومنشأ الضلال من التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة والرضى فسوى بينهما الجبرية والقدرية أولاً ثُمَّ اختلفوا، فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه].
      وكلام المُصنِّف هنا غير دقيق، لأن الإرادة تأتي بمعنى المحبة كما قال تعالى: ((فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً))[الكهف:81] فـ"أراد" هنا: بمعنى أحبْ، فالإرادة تأتي بمعنى المحبة، والأصل أن نجعل المشيئة شيئاً، والمحبة والرضى شيئاً آخر مقابلاً لها، أما الإرادة فتأتي للمعنين.
    2. الإرادة الكونية تستلزم المشيئة والشرعية تستلزم الرضا والمحبة

      الإرادة الواردة في الكتاب والسنة لها إرادة كونية بمعنى المشيئة، وشرعية بمعنى الرضى والمحبة، فإذا أراد الله أن يُصلي العبد فمعنى ذلك أنه شرعه وأحبه ورضيه، فهذه إرادة شرعية، وإذاً أراد الله أن لا يصلي فمعناه أنه شاء أن لا يصلي، إذاً فالإرادة تأتي بمعنى المشيئة، وتأتي بمعني المحبة والرضى، ولهذا لا يحسن أن يبقى الكلام عَلَى إجماله، فيُقَالُ: منشأ الضلال من التسوية بين المشيئة، وبين المحبة والرضى، لأن الإرادة قد تكون شرعية وقد تكون كونية.
      فالإرادة الشرعية مثل قوله تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) [البقرة:185]، والإرادة الكونية تكون بمعنى المشيئة مثل: ((وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ))[الأنعام:125] وقد سبق شرح هذا الكلام عند قول الإمام الطّّحاويّ: [ولا يكون إلا ما يريد].