وهنا قضية مهمة ينبغي أن نتفطن إليها وهي: هل الإِنسَان معذور بالجهل أو غير معذور به؟
الذي يعرف هذه الحقيقة التي سبق أن ذكرناها الآن، وذكرها الشارح رَحِمَهُ اللَّهُ لا يخفى عليه الجواب، بل يعرف أن مثل هذا السؤال لا يجاب عنه بإطلاق؛ لأننا نفصل فنقول:
أما الإيمان المجمل: فيجب عَلَى كل إنسان أن يعرفه، وهناك ما لا يعذر بجهله أحد من الْمُسْلِمِينَ، فإن كَانَ بإمكانه أن يعلم وجوب الصلاة وفرضية الصلاة وأعرض عنه ولم يبال به، فإنه لا يعذر بجهله هذا في الأصول، أما في الفروع فإنه يُعاقب؛ لأنه فرط ولم يتعلم ما يجب عليه من شعب الإيمان، فعلى حسب قدرته وطاقته يعاقب مادام بإمكانه أن يتعلم، أما من ليس بإمكانه أن يتعلم فلا يُكلف الله نفساً إلا وسعها.

وقد يجهل الإِنسَان بعض الأمور لاعتباراتٍ كثيرة؛ بل قد يجهل الإِنسَان بعض صفات الله عَزَّ وَجَلَّ الأساسية التي لا يليق بأحد أن يجهلها.
ومن ذلك: الرجل الذي من بني إسرائيل فقد ثبت في الصحيح بروايات صحيحة كثيرة أنه قال لأهله عندما حضره الموت: {إذا أنا مت فاحرقوني، ثُمَّ اطحنوني، ثُمَّ ذروني في البحر وفي البر، والله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين} فإن هذا الرجل لإيمانه وخوفه من الله عَزَّ وَجَلَّ، ولشدة اعترافه وإقراره بتفريطه لحق الله عَزَّ وَجَلَّ أوصى أهله أن يفعلوا به هذا الفعل، فجهل أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى كل شيء قدير، وأنه يحي الموتى، {فجمعه الله وأعاده خلقاً سوياً كما كان} وهو قادر تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى كل شيء، ثُمَّ قال له: {ما حملك عَلَى ما فعلت؟ قَالَ: خوفك يا رب!!}
فلم يفعل ذلك جرأة عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ أو شكاً في إيمانه أو قدرته، لكن خوف الله عَزَّ وَجَلَّ هو الذي حمله أن يظن أنه سيتخلص من هذا الهول العظيم إذا أحرق وطحن ووزع في البر والبحر.
فالإِنسَان قد يجهل مثل هذه الأشياء، ولو علم لتفطن أن الله عَلَى كل شيء قدير.
فالشاهد أن قضية العذر بالجهل أو عدم العذر به قضية نسبية متفاوتة، وكل إنسان يحاسبه ربه تَبَارَكَ وَتَعَالَى بمقدار ما بلغه من العلم وما يمكن أن يتعلمه.

فالمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ بهذا الكلام الموجز يرد بذلك عَلَى هَؤُلاءِ المنحرفين من الخوارج أو من المتكلمين في هذه القضية المهمة، فالواجب أن يعلم الجاهل، وأن يدعى الغافل ويذكر، هذا هو واجبنا، وعلى كل من عرف شيئاً من الحق أن يبذله، وأن يعلم النَّاس العقيدة الصحيحة، ولا يكثر الخوض والجدل في العذر بالجهل أو عدم العذر به.
فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يحاسبهم كلاً منهم بما بلغه من العلم، ونحن سيحاسبنا هل بلّغْنَا دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم لا؟
ولذلك يذكر المُصنِّف رحمه الله تعالى هنا موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إِلَى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ضمن الفروض الكفائية التي يجب أن يقوم بها القادر عليها، وبذلك ينتشر العلم في الأمة ولا يفشو فيها الجهل، وبذلك تقوم الحجة.