المادة كاملة    
تكلم هذا الدرس عن توحيد الربوبية فبيَّن أن هذا التوحيد موجود في الفطر، ثم تعرض إلى شبهة: هل الطبيعة تَخْلق أو لا تَخْلق؛ مبيناً ما وقع فيها من صراع بين أهل الكنيسة، ثم ذكر ما هي حقيقة العبودية، ودعا أخيراً إلى التفكر والاعتبار في هذا الكون؛ ليعرف الإنسان نفسه ومن هو في هذا العالم المشاهد.
  1. شبهة القول بأن الطبيعة هي التي تخلق

     المرفق    
    التوحيد أمر مركوز في الفطر لا يحتاج إِلَى استدلال، وإنما يحتاج إِلَى أن يتذكر ويستظهر، ولذلك ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى دلائل الربوبية العظمى في القُرْآن مربوطة بالنظر في ملكوت السموات والأرض والتأمل في الأنفس والآفاق.
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
    [ومحال توهم عمل الطبائع فيها لأنها موات عاجزة، ولا توصف بحياة، ولن يتأتى من الموات فعل وتدبير، فإذا تفكر في ذلك، وانتقال هذه النطفة من حال إِلَى حال، علم بذلك توحيد الربوبية، فانتقل منه إِلَى توحيد الإلهية.
    فإنه إذا علم بالعقل أن له رباً أوجده، كيف يليق به أن يعبد غيره؟ وكلما تفكر وتدبر، ازداد يقيناً وتوحيداً، والله الموفق، لا رب غيره، ولا إله سواه] إهـ.

    الشرح:
    تعرض المُصنِّفُ لشبهة كانت تثار قديماً وحديثاً وهي القول بأن الطبيعة هي التي تخلق، فتسند أفعال الربوبية إِلَى الطبيعة، فيُقَالُ: الطبيعة خَلَقت، والطبيعة أَوجدَت، والطبيعة أَعطَت، إِلَى آخر ما تقرأونه وتسمعونه، فينسبون أفعال الربوبية إِلَى الطبيعة.
    والمصنف رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ذكر هذا هنا -وذكره من قبله من العلماء- لأن التأليه للطبيعة أو نسبة الربوبية لها كانت معروفة عند اليونان، فهم أول من أطلق هذه الكلمة وأله الطبيعة، واليونان أمة جاهلية وثنية، وأول نظرية ظهرت واصطدمت بهذا هي نظرية جاليليو، ونظرية كوبرنيق التي حولت أنظار النَّاس إِلَى أن الأرض ليست هي مركز الكون كما قال كوبرنيق: إن الأرض ليست مركز المجموعة الشمسية أو الكون، وإنما الأرض تابع للشمس، ومعها ظهرت نظرية جوردا نوبرونو وأمثالهم.
    فقام البابوات فأحرقوا هَؤُلاءِ، وأما كوبرنيق فكان له رتبة من رتب الكنيسة فسلم من الأذى، وأما جاليلو فقد عذب وسجن، فكانت هذه المعركة سبباً في أن هرب من الكنيسة هَؤُلاءِ الذين يريدون أن يتخذوا طريقة للعلم والبحث والفكر والعقل، وفي ذلك الوقت لم تكن الطبيعة تسمى إلهاً، وإنما بعد ذلك بزمن، وبالذات لما ظهرت نظرية نيوتن في الجاذبية، قالت النظرية: "إن هذا الكون متماسك بشكل ميكانيكي" أي كل مجموعة وكل جرم من أجرامه متماسك مع الآخر حسب قوانين الجاذبية، فهو بهذه الطريقة يتحرك ويدور تلقائياً وفق هذا القانون الذي اكتشفه نيوتن.
    1. صراع بين الكنيسة والعلم والعلماء

      بعد هذا الصراع وجد هَؤُلاءِ النافرون من العبودية لرجال الدين مهرباً يفسرون به هذه الحياة بعيداً عن الإنجيل وبعيداً عن سيطرة رجال الدين، وَقَالُوا: إن كَانَ هناك من إله فإنه قد خلق الكون، ثُمَّ تركه يمشي في طبيعته ويسير وفق هذا القانون، ونادى بذلك كثير من الزعماء، في نفس الوقت الذي كانت الديانة النصرانية ضد الفطرة وضد الطبيعة في الناحية الاجتماعية.
      ولقد وصف الله تَعَالَى الرهبانية بقوله: ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ)) [الحديد:27].
      فهذه الرهبانية تفرض عَلَى رجل الدين - لكي يكون الإِنسَان ديِّناً، ومقبولاً في ملكوت الرب كما يعبرون - أن لا يتزوج، فيمتنع عن هذه الغريزة الفطرية التي جعلها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في جميع الحيوانات، فكان هذا بالنسبة لهم موضع ثورة عَلَى الكنيسة تبدأ الاعتراضية من هنا وعلى مبادئها -فالكنيسة معناها المجمع البابوي ورجال الدين "البابا" والكاردينالات الذين من تحته، ثُمَّ القساوسة، ثُمَّ هذا المجمع الديني كله يسمى الكنيسة- لأنهم وجدوا أن هذا ضد الفطرة وضد الطبيعة، وبدأوا يتحللون من هذه القيود، فثار مارتن لوثر وكالفن وأمثالهم من رجال الدين من أجل أن يتحرروا ويتزوجوا.
      أما بالنسبة لبقية المجتمع فهم يريدون أن يثوروا عَلَى هذا النظام الذي هو ضد الفطرة من أجل تحقيق الشهوات، فعندما يلبي بنفسه هذه الرغبة الفطرية حكم عَلَى نفسه بأنه خارج أهل الطهر وأهل النقاء الذين يترفعون عن الشهوات، فوجدت في نفسياتهم هذه الحاجة والإلحاح وهو الزواج، إلا أن يحطم هذا القيد حتى ولو تزوج فإنه يستشعر أنه مقصر ومذنب، هذا الشعور هو الذي بقي مكبوتاً، ثُمَّ تولدت عنه الثورة الجنسية التي شاعت وعمت في أوروبا إِلَى اليوم فلم تشبع ولا تريد أن تشبع من الانهماك في هذه اللذة وهذه الشهوة، كيف قاوم علماء الاجتماع، هذه النظرية وهذا الوضع؟
      قالوا: لو ترك الإِنسَان عَلَى طبيعته لتزوج، فالحيوان يتزوج في الغابة، إذاً هذه القيود ضد الطبيعة، ثُمَّ جاءت نظرية نيوتن، وقالت: الطبيعة نظمت الكون، فالأجرام لا تصطدم بعضها ببعض؛ لأن الطبيعة نسقتها ورتبتها، وَقَالُوا: لو تركت الحياة الإِنسَانية عَلَى الطبيعة لانتظم أمر النَّاس ولأفلحوا ولسعدوا، وإنما يأتي الخلل والضرر والشر من تدخل الملوك والأباطرة فيفرضون عَلَى الناس أمور غير طبيعية، ومن هنا دخل تأليه الطبيعة في جميع مناحي الحياة.
      يقول علماء الاجتماع: الإله هو الطبيعة، ويقولون: الطبيعة هي التي تنظم حياة النَّاس في صورة تلقائية لا انفصام فيها ولا عداء، وعلماء القانون وجد عندهم ما يسمى بالقانون الطبيعي وهو عبارة عن مبادئ عامة أو ما يسمى أحياناً بالعدالة المطلقة وهي مبادئ مركوزه في الطباع مبثوثة في الكون، فيقولون: الطبيعة أودعت قوانين أبدية سرمدية هي الحق والعدل، والإِنسَان إذا خالف هذه القوانين يكون مخطئاً، ومتجاوزاً للحد، فوضعوا قانوناً يسمى القانون الطبيعي، أو الشريعة الطبيعية.
      وجاء علماء الاقتصاد فَقَالُوا: إن تحريم الربا، أو تحريم بعض الأنواع من البيوع، أو تحريم حركة الإِنسَان يخالف الطبيعة؛ لأن النظام السائد في أوروبا هو النظام الإقطاعي، أي: مجموعة قرى يملكها واحد يتحكم فيها، والفلاحون الذين هم فيها أرقاء له، فلا يخرجون إِلَى أي إقطاعية أخرى، ولا يعملون عند أي إقطاعي آخر، فهو متحكم في الأرض ومن عليها قالوا: هذا قانون ضد الطبيعة، وهي أن الإِنسَان يمشي كما يشاء، ويعمل كما يشاء، ولهذا أطلقت جميع القيود باسم القانون الطبيعي وباسم العدالة الطبيعية.
      ففي علم الاقتصاد أُلَّهت الطبيعة بناءاً عَلَى هذا الشيء، فخرج النَّاس وقامت الثورات وابتدأت ما يسمى بـ"حرية الإِنسَان" بأن يكسب المال بأي وجه شاء، وينفقه فيما يشاء، لأن هذه الحرية هي مقتضى الطبيعة، وهذا هو الذي تدعوا إليه طبائع الأشياء، أو تؤيده القوانين الطبيعية المودعة في الأشياء.
      ونتيجة لذلك نجد أن الطبيعة قد ألهت في معظم مجالات الحياة، حتى أصبحت بمنزلة الإله فعلاً، فهي تُشرِّع وتَقنَّن وتخلق وترزق، وفي الجانب العلمي الخاص كَانَ العجب أكثر، لأن الذين يشتغلون في الجوانب العلمية في دراسة الطبيعة التي هي الطبيعة فعلاً، لما أخذوا يدرسونها بدأوا يقولون: الطبيعة هي التي تخلق، ثُمَّ بعد ذلك قالوا: كيف نقول: إن الطبيعة تخلق، وكلمة الرب تخلو عنها تماماً؟ فأصبحوا يكتبون كلمة الطبيعة عَلَى أنها علم لا مجرد مخلوق، ولذلك يبتدئون الاسم بالحرف الكبير عادة، كعادة الأعلام في اللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات. وثاروا عَلَى ما يسمى بالإله والرب عند النصرانية وأسندوا هذه الأفعال إِلَى الطبيعة.
    2. بطلان نظرية المصادفة في الكون

      كلما تطور العلم نظر هَؤُلاءِ الطبائعيون في دقائق الكون ووجدوا أن هذا لا يمكن، ولا يؤدي إِلَى تفسير صحيح، فَقَالُوا: إذاً لمن ننسب الخلق ولمن ننسب الحياة؛ فَقَالُوا: إِلَى المصادفة، فاستخدموا كلمة المصادفة، ووجدوا بعد ذلك أن القوانين الرياضية، والقوانين العلمية نفسها تنفى نفياً قاطعاً أن يكون للمصادفة أي دور في إيجاد هذا الخلق، أفهذا الكون المنظم البديع وجد بالمصادفة؟
      هذا شيء لا يقبله أي عقل ولا يمكن عَلَى الإطلاق، بل علماؤهم في أوروبا كتبوا كتباً كثيرة ضد المصادفة، وَقَالُوا: لا يمكن أن يكون للمصادفة أي دور في الحياة لا لأنهم متدينون، ولكن بالنظريات العقلية والبراهين الرياضية وجدوا أن المصادفة لا يمكن أن تفعل أي شيء عَلَى الإطلاق، ولهذا ظهر واشتهر عالم إنجليزي كبير في الطبيعة اسمه وايت هيد فقَالَ: نضع اصطلاحاً وهو: ضد المصادفة، فضد المصادفة هو الذي خلق الإِنسَان، وضد المصادفة خلقت الطبيعة.
      إذاً ما هو ضد المصادفة؟ فلو قالوا: الطبيعة ليس تحتها حقيقة وإن قالوا مصادفةً، فقد أنكروها، وإن قالوا الرب، قالوا: لا، الرب قد تركناه من قبل أربعة أو خمسة قرون وانتهينا مع الكنيسة.
      إذاً: ما الذي نقول؟ قالوا: نقول ضد المصادفة، ويعتبرون هذا الوصف أفضل ما يعبر عنه، بل قال بعض مفكريهم لاداعي أن نستخدم أي فاعل أصلاً، فنقول: وجد الإِنسَان قبل (10000) سنة مثلاً، ووجدت الأرض قبل كذا، ونأتي بها منسوبة إِلَى المجهول، فلا داعي لذكر فاعل يدخلنا في ورطة كما سبق، فنجعلها عامة هكذا، فنقول: وُجِد وخُلِق وهكذا تصبح الأفعال مبنية للمجهول ونرتاح، فانظروا إذا غفلت القلوب وطبع عليها، هَؤُلاءِ النَّاس الذين ألهوا الطبيعة.

      أما في المجال العلمي الخاص، وفي المجال العام وفي المجال الصحفي وفي مجال المؤلفات، بقيت كلمة الطبيعة هي الرائجة وهي المشهورة، لأنها سهلة، ولأنها متداولة عند اليونان وعند الرومان في أكثر من قرنين أو ثلاثة قرون في أوروبا ولأنها أيسر، حتى أصبحت إلها، وأصبح الإِنسَان يستخدمها وهو لا يشعر، فَيَقُولُ: أوجدت الطبيعة، وخلقت الطبيعة وفعلت الطبيعة، وهذا كله مصادم للفطرة السليمة.
      وهذا أول رائد فضاء في العالم جاجارين السوفيتي، عندما خرج إِلَى الفضاء، ورأى الأرض فذهل ودهش ونسي الرقابة الأرضية عليه واستيقظت فطرته، لأنه ابتعد عن الأرض ونسي أن كلامه محسوب عليه، فكان يقول وهو في الفضاء عندما رأى هذا الكون: لا بد أن لهذا الكون من إله، ولما هبط إِلَى الأرض أرغمته وكالة الأنباء السوفيتية أن يعترف أنه ليس لهذا الكون إله، لا يريدون أن يقولوا: هذا الكون خلقه الله، حتى لا يقال لهم: أنتم رجعيون متعصبون، ومتزمتون ومتدينون ومتطرفون، فيهربون من هذه الكلمة، فَقَالُوا: نقول الطبيعة لأنها تدل عَلَى أننا أناس علميون متحضرون.
      وفي الحقيقة ما زادوا عَلَى أنهم سموا الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بغير اسمه، فسموه "الطبيعة" وليس من أسماء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الطبيعة، وهم يثبتون الحكمة، ويقولون: الطبيعة حكيمة، الطبيعة عاقلة، الطبيعة تقدر، الطبيعة تخلق، وهذه صفات الله، لكن لا يريدون أن يسمونه باسمه، فهم في الحقيقة لم ينكروا وجود خالق، وإنما سموا هذا الخالق بغير اسمه. وإن كانوا يقولون: نَحْنُ نقصد بالطبيعة حقيقة هذه الأشياء المخلوقة، الموجودة، فنقول: أنتم نسبتم هذا الشيء إِلَى نفسه مثل الذي يقول: الإِنسَان خلق الإِنسَان، والطبيعة خلقت الطبيعة.
      وهذا الكلام لا يقبله أي عاقل، لأنها هي الخالقة وهي المخلوقة في نفس الوقت، وهذا لا يمكن أبداً، وإنما هي اسم يطلق عَلَى المخلوقات، فمن الذي يخلق المخلوقات؟ فأنتم إِلَى الآن لم تأتوا بحل، والكفار في الغرب والشرق الذين نشروا هذا المذهب الإلحادي، والذين أظهروا هذه الكلمة، وعممومها في العالم، وجعلوها هي الإله، أو الذي يُكتب مكان الإله هم يعرفون أنهم يتعلقون بأسماء سموها ليس لها حقيقة، وليس تحتها شيء، وإنما هي أسماء واصطلاحات وضعت هروباً من الإقرار بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومن الاعتراف بالحق.
      وإذا بينا للناس حقيقة صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما وردت في الكتاب والسنة، فإنه لن يبقى في أذهان النَّاس التباس بأن هذا هو الله وهو الرب وهو الخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، من آمن منهم يؤمن عَلَى بينة، ومن كفر فإنه يكفر عن بينة أيضاً، وإلا فإن هذا مفطور ومركوز في جميع الأذهان، وفي جميع القلوب: بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عالم بكل شيء، وأنه عَلَى كل شيء قدير، وأنه هو الخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه الرزاق، وأنه المدبر.
      فهذه أمور في ذهن كل إنسان، ولكن هذه المعارك التاريخية التي تدور، وهذه الأحقاد والمخاصمات والمجادلات التي تقع بين الناس، وحب الشهوات والاستكبار، وحب الاستعباد، كل هذه أسباب تطرأ عَلَى الإِنسَان، فينكر ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويُؤلِّه غير الله كما ألهت الطبيعة من قبل.
    3. استحالة عمل الطبائع في النطفة

      يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [ومحال توهم عمل الطبائع فيها] أي: في هذه النطفة التي خلق الإِنسَان منها، وهي عجيبة. وأصبحت أكثر إثارة للعجب في العصر الحاضر، لأن هذه النطفة عدة ملايين من الحيوان المنوي، يقول: [لأنها موات عاجزة ولا توصف بحياة، ولن يتأتى من الموات فعلٌ وتدبير] كيف يأتي من الميت الذي يسمونه الطبيعة، وهي الجبال والأشجار وما إِلَى ذلك إيجاد الحياة، وكيف يتأتي منها الفعل أو التدبير؟ فإذا تفكر الإِنسَان كيف تنتقل هذه النطفة من حال إِلَى حال، علم بذلك توحيد الربوبية، وهل يكفي أن يعلم الإِنسَان توحيد الربوبية؟
  2. توحيد الربوبية لا يكفي لإسلام العبد

     المرفق    
    يطلق الناس عَلَى بعض العلماء -في الغرب- أنهم مؤمنون، لأنهم يؤمنون بوجود الله، وأن الذي خلق هذا الكون ويدبره هو الله، والذي يؤمن بوجود الله من علماء الطبيعة والفيزياء والكيمياء، فليس بمؤمن في الشرع؛ لأنه لا فرق بينه وبين كفار قريش، كما قال الله تَعَالَى عنهم: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [لقمان:25].
    فهم مؤمنون بأن الله هو الخالق وكانوا يدعونه، بل كانوا يصرفون أنواعاً من العبادات له سبحانه، لكن يشركون فيها معه غيره، إذاً فكفار قريش أكثر إيماناً من هَؤُلاءِ، لأن هَؤُلاءِ لا يتعبدون لله تَعَالَى بشيء، ولا يؤمنون بدين الإسلام ولا بنبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يؤمنون بالقرآن، ولا يقدمون لله تَعَالَى أي نوع من أنواع العبودية، إلا أنهم يقولون: إن الله موجود وهو الذي خلق ورزق وهو الذي يدبر الكون، وهَؤُلاءِ ليسوا بمؤمنين، وإنما هم كفار، ولكن نقول: هَؤُلاءِ الكفار يقرون بالربوبية، هذا غاية ما في الأمر.
    1. حقيقة العبودية

      إن التوحيد الذي أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من أجله الكتب، وأرسل من أجله الرسل، هو توحيد الألوهية، ليس توحيد الله في أفعاله، كما هو الحال في توحيد الربوبية، بل هو توحيد الله في أفعال العباد، بأن يعبده الخلق وحده لا شريك له، وأن ينقادوا لأمره، ولا يعترضوا عَلَى حكمه القدري أو حكمه الشرعي، بل يكونون عبيداً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والتقرب إِلَى الله بما شرع، هذه حقيقة العبودية كما قال تعالى: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) [الفاتحة:5] فلا بد من تحقيق ذلك، لكي يكون العبد مؤمناً، وإلا فإنه مشرك.
      فَيَقُولُ: إذا علم ذلك وتفكر في حال النطفة وفي خلقه وفي طعامه كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ)) [عبس:24] إذا تأمل في هذا الكون فإنه يقر حينئذ بتوحيد الربوبية، وإذا فعل ذلك انتقل منه إِلَى توحيد الألوهية، فإنه إذا علم بالعقل أن له رباً أوجده، كيف يليق به أن يعبد غيره؟ سُبْحانَ اللَّه! يخلقك ويرزقك ويحييك ويميتك ويعطيك وينعم عليك، ثُمَّ تعبد غيره ((قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ))[عبس:17] ((وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)) [الكهف:54].
      ولهذا روي في بعض الآثار القدسية {إني والجن والإنس لفي أمر عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إليهم نازل، وشرهم إِلَى صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إليّ بالمعاصي}، وهذا من العجب ((وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ))[يونس:18].
      يعبدون الأبقار في الهند قرابة 800 مليون، وفي الصين أكثر من 1000 مليون، يعبدون تماثيل بوذا -سُبْحانَ اللَّه- وفي الدول الأخرى يعبد الصليب ويعبد عيسى وتعبد مريم، كيف يعبدون غير الله؟! {أخلق ويعبد غيري} وعبدوا النَّار الكواكب، حتى يقال: إنه يوجد في الهند، من يعبد النمل! إن الإِنسَان إذا لم يعبد الله فإنه يتيه ويضل، يوقد النَّار ويعبدها، يصنع الصنم من التمر كما كَانَ العرب في الجاهلية ويعبدونه، ويصنع الحجر ويعبده، فإذا أراد أن يطبخ جَاءَ بحجرين وهذا الثالث وطبخ فوقه، أهذا إله؟ أين عقلك أيها الإِنسَان؟ والعجب أنهم يقولون: إن الله هو الخالق.
      فإذاً يخلق ويعبدون غيره، هذا من العجب العجاب، ويرزق ويشكرون سواه، انظروا إِلَى حال النَّاس اليوم، إن حصل أحدهم عَلَى رزق، كم من النَّاس يرد الفضل والشكر لله وحده، وكم منهم من النَّاس من يقول: ((إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي))[القصص:78]، ويقول: ((هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً))[فصلت:50].
    2. الاعتماد على الأسباب ينافي حقيقة العبودية

      قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: {واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، ولو اجتمعوا عَلَى أن ينفعوك، لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك}.
      فالله تَعَالَى هو الذي كتب الخير والشر، فهذه الأرزاق من الله عَزَّ وَجَلَّ، وهَؤُلاءِ البشر يسخرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نعم يُثنى عَلَى النَّاس ويشكرون ويكافئون ولو بالدعاء، وهذا من حسن أخلاق المسلم أنه يكافئ ويحسن إِلَى من أحسن إليه ولو بالدعاء إذا عجز، لكن أن ينسب كل خير ونعمة وفضل إِلَى الأسباب وينسى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فهذه غفلة كبيرة عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو علم أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو وحده الخالق والرازق لعبده وحده كما أشار المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا كما قال الله تعالى: ((وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ))[إبراهيم:34],.
      هذا هو الوصف الذي وصفه الله رَبّ الْعَالَمِينَ، هذا الإِنسَان ((وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ))[النحل:53] فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هو الذي يخلق، ولكن يعبد سواه، ويرزق، ولكن يعبد غيره، خيره نازل إِلَى العباد، فكم ينزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى كل يوم من الخيرات عَلَى هَؤُلاءِ العباد، فكم من فقير أغناه الله تعالى، وكم من مريض عافاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكم من مكروب فرج الله تَعَالَى كربه، وكم من مهموم أزال الله همه؟
      كم وكم يتحنن عَلَى هَؤُلاءِ العباد ويرحمهم ويمتنُّ عليهم كل يوم، بل كل حين، بل كل لحظة ونِعَم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نازلة عَلَى هَؤُلاءِ العباد، ولكن ما الذي يصعد إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالملائكة الذين يتعاقبون فينا في الليل والنهار، ما الذي يصعدون به، دعونا من عالم الكفر، فماذا تتوقعون أن تصعد الملائكة به من عالم الكفر، انظروا إِلَى عالم الْمُسْلِمِينَ ودعونا من عالم الْمُسْلِمِينَ عامة، انظروا إِلَى حالتنا نَحْنُ طلبة العلم الذين نعيش -ولله الحمد- في الغالب مع كتاب الله وسنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع أهل الذكر، ومع أهل الخير، بم ترتفع الملائكة إِلَى ربنا عَزَّ وَجَلَّ، ما الذي في صحفنا، صلوات نغفل عنها، ونحن في أثنائها قد لا ندري كم صلينا، وربما جاءت من هاهنا كلمة، ومن هاهنا نظرة، ومن هاهنا شبهة أوشك، فدمرت وأهلكت ما يظن الإِنسَان أنه جمعه من حسنات نتيجة هذه الصلوات، فمن الذي يسلم إلا من عصمه الله تَعَالَى وسلمه.
  3. من نعم الله على خلقه

     المرفق    
    نحن لا نستغني عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فخير الله إلينا نازل، كل حين يمدنا بالنعم وبالعافية، وبهذه الحواس التي أعطانا الله إياها من سمع وبصر وفكر وأجساد وقلوب وأموال كل ذلك من نعم الله، وسخر لنا هذه الدنيا وهذا الكون وهذه الكواكب، وجعل الشمس والقمر دائبين لأجل هذا الإِنسَان وليعرف المواقيت والزمان، وليكون لديه نصف العمر ضياءاً، فيكدح ويعمل وينصب، والنصف الآخر هدوءً وراحةً.
    وهذا الماء العجيب الذي لا يمكن للحياة أن تكون بغيره كيف أنزله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وكيف جعله نوعين عذب فرات، وملح أجاج، وهذا فيه من العجائب وهذا فيه من الفوائد وغير ذلك، وكل هذا من عظيم نعم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فخير الله إلينا نازل، ولكن شرورنا وذنوبنا وسيئات أعمالنا إليه صاعدة، تصعد بها الملائكة كل يوم، وهو تَبَارَكَ وَتَعَالَى يتحبب إلينا بالنعم، ولكننا نتبغض إليه بالمعاصي نعوذ بالله، فإن العبد إذا عصى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فقد باعد بينه وبين ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الصلة فتضعف حتى تنقطع.
    ومع ذلك يتحبب إليه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنعم ويستر عليه، حتى إذا فعل الذنب وراء الذنب والله تَعَالَى يستره عليه، ويذكره ولا يوجد مذنب يفعل ذنباً إلا ويقول الآن سلمت، إذاً لماذا لا أتوب؟ يذكره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن داعي الخير في نفسه موجود، وقد جعله الله تَعَالَى في قلب كل مؤمن عرف الله وآمن به، فنعمة الرزق رغم الاستمرار في المعصية موجودة ونعمة الفؤاد موجودة ولم يحجبها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه، ومع ذلك يلح الإِنسَان ويصر إلا أن يستخدم هذه النعم في معصية المنعم الذي أعطاه إياها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالإِنسَان ظلوم كفار وهذا شأنه، ولكن في الحقيقة هل العبد يظلم ربه: ((وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ))[البقرة:57] هذا التمادي إنما هو عليك أيها العبد الفقير المسكين المحتاج إِلَى ربك وإذا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ يتعجب كثير من النَّاس.

    قال الله تعالى: ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)) [الزمر:47] فماذا تتوقعون أن يرى الكافر، وكذلك المسلم العاصي؟ كَانَ بعض السلف إذا قرأ هذه الآية يبكي: ((وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ))، لأن الإِنسَان لا يدري ما حاله عند الله، كيف إذا جيء بالثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النَّار نسأل الله العفو والعافية، يؤتى بالقارئ أو العالم فَيَقُولُ: قد قرأت القرآن، وتعلمت العلم، وتفقهت في الدين، من أجلك يارب، فيُقَالُ له: كذبت، إنما تعلمت ليقال قارئ أو عالم، وقد قيل، اذهبوا به إِلَى النَّار نسأل الله العفو والعافية، كَانَ يرى أنه عَلَى خير، وعلى حسنات، وإذا بتلك الأكوام من الحسنات تذهب وتمضي، وكذلك الجواد الكريم المرائي، وكذلك المجاهد المرائي.
    كذلك الذي يظلم عباد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ويغشهم ويفتري عليهم ويغتابهم ويضربهم ويؤذيهم هَؤُلاءِ يأتون بحسنات كالجبال، ولكن يأتي أحدهم وقد ضرب هذا، وظلم هذا، وسفك دم هذا، وغصب مال هذا، فماذا تكون النتيجة إذا طالب أهل الحقوق بحقوقهم؟ يأخذ من حسناته فتعطى لهم، ففي الآخرة لا درهم ولا دينار، إنما هي الحسنات والسيئات فيؤخذ من حسناته فيعطى لأولئك الغرماء، وإذا لم تكفِ يؤخذ من سيئاتهم فتطرح عليه فيطرح في النَّار نسأل الله العفو والعافية، إذاً هذا يوجب من العبد كمال التيقظ ودوام التذكر والتدبر، فالعبد إذا عرف بالعقل أن له رباً أوجده، كيف يليق به أن يعبد غيره؟ وكلما تفكر وتدبر، ازداد يقينا وتوحيداً، والله الموفق، لا رب غيره، ولا إله سواه.
    1. دعوة إلى التفكر في الأنفس والآفاق

      ولهذا أُمرنا في آيات كثيرة بأن نتفكر وأن نتدبر في أنفسنا وفي الآفاق وفي الأحياء والأموات وفي الماء وفي الجبال والشمس والقمر والنجوم والسماء وفي هذه الحدائق والأزهار والأشجار، وكل ما نراه أمامنا فهو موضع عبرة، وموضع تفكر، لو تفكر الإِنسَان لازداد يقيناً، وازداد توحيداً، وطاعة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      ولقد كَانَ السلف الصالح رضوان الله تَعَالَى عليهم يتفكرون في هذا، ويتفكرون معه في أحوال الأمم، وفي مصير الغابرين والهالكين من الموتى، وهذه عبر عظيمة لا يتفكر فيها إلا المؤمنون.
      فالنظر في الطبيعة من هذا الكون يشترك فيه المؤمن والكافر ويتعجبون، لكنِ المؤمنون يختصون بنظر اعتبار وإيمان في الموتى وفي الأمم الخالية وفي العصور السابقة.
      ويتفكر الإِنسَان أين قوم نوح؟ وكم كَانَ يعيش الإِنسَان من قوم، نوح وأين عاد؟
      وكيف كَانَ حال عاد؟ ((إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ))[الفجر:7، 8].
      وكيف كَانَ حال ثمود الذين نحتوا الجبال واتخذوا من سهولها قصوراً، وأمدَّهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بالأنعام والبنين، ماذا صنع الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بهم؟ وماذا كَانَ جزاؤهم ومصيرهم؟
      وأين قوم لوط؟ ولماذا أهلكوا؟ ولماذا عذبوا؟ وما هو الذنب الذي فعلوه؟ كل ذلك مما يتفكر به عباد الله المؤمنون، يتفكرون في أقدار الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي عجائب خلقه وتدبيره.
      كيف يموت أبو طالب عَلَى الكفر وقد ولد وتربى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حضنه وفي حجره، جَاءَ الوحي إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعاش صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو إِلَى الله وهو في حماية أبي طالب حتى أنه حوصر معه في الشعب، ودافع عنه وحماه، ولكنه مات عَلَى الكفر.
      وسلمان الفارسي في أقصى البلاد يترك النَّار ويتحول من راهب إِلَى راهب، كل ذلك ليبحث عن الدين والحق، ثُمَّ يؤمن، فيهديه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى للإيمان وينفر بفطرته من الكفر، وهذا الذي يرى الآيات البينات الساطعات أمام عينيه، ولكنه لم يؤمن، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذا شاء أهلك الإِنسَان، وأماته وهو في منتهى القوة، وإذا شاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنقذه من موت محقق، وقد شارف عَلَى الهلاك وقارب الموت، فإذا به يعود صحيحاً سوياً معافىً كأنه لم يضره شيء.
    2. اعرف نفسك تعرف ربك

      لو تفكر الإِنسَان في ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لآمن به وازداد به يقيناً ومعرفة، ولهذا قال من قال من السلف: "اعرف نفسك تعرف ربك"، فإذا عرفت ضعفك عرفت قوة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإذا اعرفت جهلك عرفت علم الله سبحانه تعالى، وإذا عرفت ذنوبك عرفت رحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بك ولطفه، وأنه لم يهلكك بهذه الذنوب ولم يؤاخذك بها بل تركك لعلك تتوب، وإذا عرفت تقصيرك عرفت كرم الله ومنَه عليك بالنعم والخيرات التي تتابع وتتوالى وأنت في غفلة عنها ولا تدري ولا تحسب لها أي حساب، ولو فقدت واحدة منها لتغيرت حياتك جميعها.
      إذاً: لو أن الإِنسَان عرف نفسه عَلَى الحقيقة فلن يرى في نفسه إلا الضعف والعجز والافتقار، ويعرف أن ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الموصوف بكمال الغنى، وكمال العلم، وكمال الحكمة، وأنه تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فالتفكر في هذه الأمور، مما يجب علينا جميعاً، لنزداد إيماناً بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ونزداد عبودية له سبحانه في أنفسنا.
    3. العبودية عبوديتان

      لنكن عباداً لله حقيقة وإلا فكل ما في الكون هو عبد لله: ((إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً))[مريم:93] كلهم عباده، لكن فرق بين العبد المتعبد بالاختيار، وبين العبد الذي يتكبر عَلَى الله، فلا بد أن نحقق عبودية الاختيار لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولنحذر من الاعتراض عَلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى والاعتراض عَلَى أمره وأقداره وأحكامه، فإن هذه تتنافى مع اليقين والتوحيد، وتتنافى مع التفكر، لأنه لا يعترض إلا الجاهل الذي لم يتفطن إِلَى حكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبداً، من إذا قيل له: هذا حرام اعترض، هذا جاهل بحكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في التشريع، ومن إذا قيل له: هذا قدر الله، فاعترض وأبى هذا جاهل بحكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالمقادير.
      فيجب أن يكون المؤمن دائماً منقاداً مذعناً مستسلماً لربه تَبَارَكَ وَتَعَالَى، هذه الدرجة التي لو بلغ الإِنسَان ذروتها لكان كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث جبريل {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} وإذا وصل العبد إِلَى هذه الحالة، فإنه يصبح في منزلة عظيمة عند ربه عَزَّ وَجَلَّ كما في حديث الولي {وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سئلنى لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، هو يكره الموت، وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه}.
      فالإِنسَان إذا ازداد به اليقين والتفكر والتأمل يصل إِلَى هذه الدرجة، الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي كتب الموت عَلَى كل حي ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)) [الأنبياء:35]، فلا يتردد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في شيء مثل تردده في هذا، وهنا أمران يتعارضان، هو يكره الموت، وأنا أكره مساءته، لا يريد أن يسوء هذا العبد بالموت، والعبد طبيعتة أنه يكره الموت، فهذا الذي هو ملك لله، وهو غني عنه في لحظة، ومع ذلك تبلغ قيمة هذا العبد عند الله أن يصير عنده بهذه المنزلة، وبهذه الدرجة، لما أن تقرب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.