المادة كاملة    
يتحدث الشيخ في هذا اللقاء عن الآية البينة العظيمة في حادثة إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار. وذلك ضمن حديثه عن الخليل إبراهيم عليه السلام مقارنا سيرته بين مصادر المعرفة الثلاثة.
بداية تحدث عن عظم هذه الحادثة وتجاهل كتاب التاريخ القديم لها في سيرة إبراهيم عليه السلام، مع ثبوتها لدى كثير من الأمم وفي أصدق مصدر وهو القرآن الكريم.
ثم تناول الحادثة وقد كانت في التاريخ القديم كدليل على ميزة ما جاء به الخليل عليه السلام (التوحيد) والنور الساطع من بين ظلمات ووثنيات تموج بها الأمم والحضارات.
بعد ذلك تحدث عن التوراة وعدم ذكرها للحادثة مع أن جنس الحادثة موجود وليس لنبي! متعجبا كيف يوجد ذلك لاتباع الأنبياء ولا يوجد للخليل عليه السلام! على أن حادثة إبراهيم عليه السلام موجودة عند بعض الفرق في شروح الأحبار والرهبان (المدراش) لذلك يتوقع أنهم حرفوا وأنزلوا الحادثة من المتن إلى الحاشية. كما ناقش الزعم القائل بأن حادثة الخليل عليه السلام من وضع اليهود بعد الإسلام حيث اقتبسوها من القرآن الكريم مفسرا تجاهلهم للحادثة بأنهم وضعوا نصب أعينهم ما يتعلق بأرض الميعاد وتجاهلوا ما عداها وإن كانت دلالته أعظم وأهميته أكبر، ونقل من كتاب العقاد ما يرد على زعمهم ويثبت وجود أصل القصة عندهم. مؤكدا على العقيدة الدافعة عقيدة التعلق بالتراب والأرض التي تفيض لبنا وعسلا، ووضوح هذه الظاهرة في دعوة أنبياء بني إسرائيل لقومهم.
بعد ذلك انتقل إلى كتابات الملحدين المنكرين في عصر التنوير وأورد رأيهم بإجمال حيث ينكرون شخصية الخليل عليه السلام، ومن خلال حديثه عن عصر التنوير تتطرق للمصادر النصرانية في ذلك الوقت، حيث الكنائس الشرقية والتي غالبا ما تكون (نسطورية) بقيت منهم بقايا لم تنس الحادثة بل جعلتها عيدا! متسائلا إذا ما كان الغرب النصراني استمر على فعل أحبار اليهود ولم يلتفت إلى المصادر الأخرى، مؤكدا أنه وعلى فرض أن ذلك تقصير في المنهج العلمي البحثي وليس تجاهلا ومحاولة لطمس التاريخ، فإن ذلك يكفي لنعلم أن التاريخ الحقيقي للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أهمل ولم يأخذ كما ينبغي.
ثم بعد ذلك العرض كله يتحدث عن عظمة الإسلام والقرآن وما جاء عن هذه الآية العظيمة، وصدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق ما أنزل الله تبارك وتعالى عليه.
وختم حديثه بدعوته لتدبر كلام الله تعالى في هذه الحادثة ومقارنته بما جاء في الكتب القديمة، وبما يقوله التاريخ الحضاري، وحينها نجد بدون شك أن الكلام وحي من الله، وأن هذه آية عظيمة من آيات الله تبارك وتعالى.
العناصر:
1.مقدمة
2.الحادثة تبين حقيقة التوحيد
3.التوراة..ولا ذكر فيها للحادثة 
-تحريف الأحبار 
-لماذا حذفت القصة
4.الملحدين المنكرين وأثر تحريف الأحبار والرهبان
5.عظمة الإسلام والقرآن
6.خاتمة
  1. حادثة إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار

     المرفق    
    الحمد الله رب العالمين, الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, وعلى سائر أنبيائه المختارين المصطفين.
    أما بعد:
    أيها الإخوة والأخوات! فلا زلنا في هذا اللقاء نتحدث -كما في اللقاءات التي قبله- عن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، على منهجنا المعتاد في المقارنة بين منهج الوحي المحفوظ وبين المناهج المحرفة, أو مناهج أهل الإلحاد في هذا الشأن.
    والحادثة التي وعدنا أن نتحدث عنها اليوم حادثة عجيبة غريبة! إنها آية من آيات الله تبارك وتعالى في خلقه، ومع الأسف أن نجد كثيراً ممن يكتبون عن التاريخ القديم, وعن هذا الرجل العظيم لا يأتون على هذه الحادثة، ولا يكادون يلقون لها بالاً مع ما فيها من العظمة, ومع ما فيها من الدلالة الباهرة والبينة القاطعة، ومع ثبوتها لدى كثير من الأمم فضلاً عن إثباتها في أصدق المصادر وأوفاها؛ وهو كتاب الله تبارك وتعالى القرآن العظيم.
    إنها حادثة إلقاء الخليل إبراهيم عليه السلام في النار, وإنجاء الله تبارك وتعالى له منها على أعين الملأ من الملك ووزرائه وأعوانه وكبرائه وقومه أجمعين.
    1. حادثة إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار تبين حقيقة التوحيد

      هذه الحادثة الفريدة العجيبة في التاريخ القديم تأتي لتكشف -لنا ولكل متطلع في تلك الأحقاب والحضارات والشعوب وما حدث فيها- عن الميزة العظيمة لدين الخليل إبراهيم عليه السلام, ولدين الأنبياء جميعاً؛ ألا وهو التوحيد. التوحيد الذي يبرز ويسطع ويبهر نوره وشعاعه في ظلمات الوثنية والشرك والجاهلية, والضلالات التي تموج بها الحضارات والأمم في تواريخ تلك الشعوب أجمعين؛ فمن بين ذلك الركام الهائل والظلمات المطبقة ما بين عبادة الملوك وعبادة الأشجار وعبادة الأحجار وعبادة الكواكب.. عُبدت الوحوش, وعُبدت الفروج, وعبدت الطيور, وعبدت العناصر الأربعة: الرياح, والماء, والنار, والهواء, وعبدت من دون الله تبارك وتعالى أصنام وأوثان وآلهة كثيرة جداً يضج ويموج بها التاريخ، بحيث إنك إذا نظرت لأي كتاب من كتب التاريخ القديمة من كتب الحضارات, سواء من كتب الأنتربولوجيا والدراسات الإنسانية، أو من أي مصدر من المصادر؛ فإنك تجد هذا ظاهراً جلياً، وتعجب غاية العجب, وتنظر إلى أي مدى يمكن أن تنتكس الفطرة البشرية والعقل البشري, والإنسان الذي كرمه الله تبارك وتعالى بهذا العقل وهذه الفطرة، أن تنتكس إلى هذه الظلمات وإلى هذه السوءات؛ التي لا تليق على الإطلاق بمقام الإنسان, وما أعطاه الله تبارك وتعالى من مواهب. لا تجد أعجب من هذه السيطرة الضخمة الكبيرة المتتابعة والمتوالية في كل الحضارات قبل ظهور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, ونور الإسلام العظيم على الأرض، لا تجد أعجب من هذا التراث الضخم للوثنية إلا أمراً واحداً في نظري أنه أعجب؛ وهو: أن يكتب كُتَّاب من أهل الكتاب عن هذا التاريخ؛ فلا يكادون يشيرون إلا بإشارات طفيفة إلى أن هذا شرك, وأن هذه وثنية؛ بل أفحش من ذلك وأعجب أن يكتب كتاب مسلمون, وأن يُدرس في الجامعات الإسلامية -في شرق الأرض وغربها- مثل هذه الحضارات, ومثل هذا التاريخ الوثني الذي لا نهاية له؛ لأنه لا يزال مستمراً في البحث, ولا أبعاد له فهو يتشعب في كل واد, ومع ذلك لا نكاد نجد إلا القليل ممن خلص فكرهم الإسلامي النقي من يقول أو يشير ويعقّب بأن هذا مناف لشهادة أن لا إله إلا الله, ولتوحيد الله، وأن هذا انتكاس وارتكاس وضلال. بل مع الأسف نجد من يمجد هذه الوثنيات, ومن يمجد هذه الحضارات, ومن يمجد أو يبتهج لاكتشاف وثن أو لاكتشاف صنم أو معرفة إله من الآلهة، ومن يتفلسف في العلاقة بين الآلهة وبين الأصنام وبين الأوثان, وأنها كانت علاقة سامية ورفيعة, وتكشف عن جوانب إنسانية عالية إلى غير ذلك.. فتعجب غاية العجب من مثل هذا التفكير, ومع الأسف الشديد أن يقع فيه بنو الإسلام؛ بل حتى من أهل الكتاب.
    2. حادثة إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار آية عظيمة

      المقصود -أيها الإخوة الكرام- أن هذه الآية العظيمة البينة الباهرة التي ذكرها الله تبارك وتعالى في كتابه, وجعلها آية متوارثة في الأجيال من بعد إبراهيم الخليل؛ أن هذه الدلالة, وهذه العظمة التي جعلها الله تبارك وتعالى لها تكفي لأن تقرع قلوب من لا يؤمنون بالله تبارك وتعالى, أو من أشركوا معه غيره، تكفي لأن يؤمن وأن يتفهم هذه القصة العجيبة كل قلب يتأمل حال هذا الفتى.
      فتى وحيد في أمة تتعاون كلها ضده! الملك والحاشية؛ بل إن أباه وأهل بيته يتعاون الجميع عليه، يتفرد ويتميز عن هؤلاء جميعاً هذا الشاب وهذا الفتى بأن يشهد أن لا إله الله, وأن يكون بهذا الإيمان العظيم العميق الجليل الذي تتفق قصته -التي جاءت في المصادر الإسلامية وفي غير الإسلامية- على أنه حتى في أحلك اللحظات عندما جاءه الملك أو الملائكة وأرادوا أن يعينوه, ويقول: لا أريد العون إلا من الله.
      وهي عندما تتفق عليها المصادر من هاهنا ومن هاهنا ففي هذه قمة التوحيد التي جعلت الخليل إبراهيم عليه السلام يستحق حقاً أن يكون خليل الرحمن، وأن يُتمَّ الكلمات التي أمره الله تبارك وتعالى بإتمامهن وبالوفاء بهن؛ فيستحق بذلك أن يكون إماماً للناس، كما ذكر الله تبارك وتعالى: (( فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ))[البقرة:124]؛ فاستحق الإمامة بمثل هذه المقامات العالية في الإيمان وفي الثبات، ولم ينظر إلى كونه غريباً وحيداً على هذه العقيدة, والأرض من حوله والأقرباء والمجتمع كله على غير ذلك، وفي هذا عبرة وعظة طويلة تستحق منا الوقفات الطويلة؛ لكن يكفينا الآن هذه الإلمامة العاجلة بين يدي الحديث عن المنهج المقارن في رواية هذه القصة, وهذه الحادثة العجيبة, والآية البينة الباهرة.
  2. حادثة إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار من الوحي المحرف.. التوراة مثالاً

     المرفق    
    1. عدم ذكر التوراة لحادثة الإلقاء

      الشيء الملاحظ -أيها الإخوة والأخوات- أن سفر التكوين الموجود من التوراة حالياً بترجمتيه أو بأنواعه لم يتعرض لهذه الحادثة! وهنا فعلاً يثار السؤال الدائم لما يُغفل مثل هذا؟ وتفسير ذلك ممكن على ضوء ما قررناه ونعلمه من الحلقات الماضية؛ وهو أن الذين كتبوا هذا السفر ولا سيما في العصور المتأخرة كان يهمهم أمر واحد وقضية واحدة؛ هي: قضية الوعد لبني إسرائيل بالأرض, واحتكار وراثة هذه الأرض ووراثة أن الشعب هم شعب الله المختار فقط في هذه الفئة من ذرية إبراهيم عليه السلام؛ وهم بنو إسرائيل.
      هذه القضية التي كانت مسيطرة على أذهانهم، فلما جمعوا التوراة أيام عزرا وقبل ذلك وبعده، تعمدوا أن يحذفوها أو لم يذكروها أو لم يهتموا بها، المهم الذي حصل وما نراه أمامنا الآن هو أنه لا يوجد في التوراة الموجودة المتداولة حالياً ما يتحدث أو ما يشير إلى هذه الواقعة.
    2. الرد على شبهة في إلقاء إبراهيم في النار

      هل ذلك لأن هذه الآية غريبة في ذاتها كما يظن البعض؟! لو أن ذلك لأنها آية غريبة أو لم تصدقها عقولهم أو لم تتواتر لديهم ربما يقال ذلك، الحقيقة أن ذلك ليس بغريب؛ فإنه موجود من الأسفار المحفوظة والموجودة في التوراة الحالية في العهد القديم في سفر دانيال حادثة مشابهة مماثلة ليست لنبي من الأنبياء؛ وإنما لثلاثة من الشباب المؤمنين بالله تبارك وتعالى في أيام بختنصر؛ رفضوا أن يعبدوا إلا الله عز وجل, ورفضوا أن يتقربوا إلى الملك، ففي سفر دانيال أن هؤلاء الثلاثة جاء بهم الملك، فأوقد ناراً وألقاهم فيها؛ فجعلها الله تعالى عليهم برداً وسلاماً، فعجب الملك وذهل من ذلك وقال: مبارك الله.. مبارك رب هؤلاء الذين أنجاهم من النار, وكان هذا كأنه علامة إيمان لـبختنصر بعد أن رأى هذه الحادثة العجيبة.
      إذاً: جنس الحادثة ونوعها موجود في التوراة فلمَ يوجد هذا لأتباع الأنبياء ولا يوجد لخليل الرحمن؟! وهو لا مقارنة بينه وبين هؤلاء! التساؤل هذا يثور عندما نتأمل ونتعجب أن هناك انتقائية في كتابة ما يريد هؤلاء أن يكتبوه, وفي حذف أو تحريف ما يريدون أن يحذفوه أو يحرّفوه، على أن المصادر الأخرى غير الموجودة والمعروفة الآن -وهي المصادر التي يمكن أن نعتبرها شروحاً, ومنها المدراش أو المدرسة أو الشروح التي تضعها الأحبار والرهبان على التوراة وعلى الكتاب المقدس- نجد أن الحادثة والقصة مذكورة فيها، فإذاً ما معنى ذلك؟
    3. تحريف الأحبار لحادثة إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار

      نستطيع أن نقول: إن الأحبار والرهبان الذين كتبوا التوراة أنزلوا هذه الحادثة من المتن إلى الحاشية؛ لأنه لا يمكن أن تكون هذه الحادثة العظيمة غير موجودة في الأصل أو لم تكن فيه أو لم يخبرهم بها الأنبياء، إيراد القصة في الشروح دليل على أنها واردة عندهم؛ ولكنهم أنزلوها من المتن إلى الحاشية, ومع الزمن بقيت في بعض الحواشي دون بعض، فهنا جاء الإشكال عندما تجد أن هذه القصة موجودة لدى بعض الفرق، لم يكن التساؤل -من المستشرقين اليهود وغيرهم من دارسي الكتاب المقدس- ولم يكن الإشكال: لماذا حرفها أولئك؟ لماذا حذفوها؟ لماذا أخروها؟ الغرابة عندهم والإشكال هو: لماذا احتفظ بها هؤلاء؟ أو لماذا أوردها هؤلاء؟
      فقالوا: إذاً: الكتب التي من المدراش التي أوردت هذه القصة في بيئة عربية، وبعضها من لغة عربية وفي بيئة الشرق الأوسط، فهذا في نظرهم من وضع اليهود بعد الإسلام اقتبسوا القصة من القرآن! سبحان الله!
      كيف تحولت القضية إلى العكس تماماً؛ مع أنه لا يضر اليهود ولا غيرهم أن يأخذوا شيئاً من القرآن, وأن يعترفوا بأحقيته؛ لكن هم لكي يقولوا لبني إسرائيل: إن هذا لا أصل له, وإن الأصل الذي في التوراة هو الصحيح، قالوا: إذا هذا الذي نقل هذه الحكايات عن قصة النار أخذها من القرآن أو الفرقة التي تؤمن بها أخذتها من القرآن، فمعنى ذلك -القرآن عندهم غير مؤمن به- لا تؤمنوا به، إذاً فماذا بعد ذلك؟ ماذا تكون النتيجة؟! هل في هذا نتيجة يرتفع بها مقام الخليل عليه السلام؟! أو يرتفع بها مقام التوحيد أو النبوة أو الألوهية؟! لماذا تنفى هذه الحادثة؟ أو لماذا يحرص هؤلاء على أن يؤولوها وأن يحرفوها؟
      لا شك أن هذا منهج غير علمي على الإطلاق، وأن الحقيقة الثابتة في هذا هو أن القوم قد وضعوا نصب أعينهم ما يتعلق بالميراث؛ ميراث الأرض, وميعاد الأرض, وبخصوصية شعب بني إسرائيل، وتجاهلوا ما عداها وإن كانت دلالته أعظم, وأهميته أكبر فيما يتعلق بمقام الألوهية وبمقام النبوة وبحقيقة التوحيد.
      فلذلك نجد ممن ناقش هذه القضية الأستاذ العقاد في كتابه إبراهيم أبو الأنبياء يقول: إذا كان في مدراش رباه يسمونه مدراش رباه ويسمون الملك الذي دار النقاش معه النمرود ، ويأتي ينقل قصة أو حادثة ليست موجودة في المصادر الإسلامية كمقدمة لموضوع الإلقاء في النار، الجدل مختصره: لماذا لا تعبد النار؟ فيقول: لأن الماء يطفئها, إذاً: لماذا لا تعبد الماء؟ فيقول: الأولى أن نعبد السحاب الذي يحمله, لماذا لا تعبد السحاب؟ قال: لأن الريح هي التي تقذفه وهكذا..
      هذا لا مصدر له من القرآن ولا من السنة، بمعنى: أنه لو وجد في مصادرنا الإسلامية لقلنا: هذا من الإسرائيليات، فهذه أول مقدمة تدل على أن القضية موجودة لديهم وليست منقولة عنا.
      ثم بعد ذلك ينقل العقاد كيف أن الملك تشاور هو وقومه واتفقوا على إحراقه وإلقائه في النار من منجنيق بعيد مخافة ألسنة النار البعيدة, وضرع الملائكة إلى الله أن ينجيه فأذن لهم -سبحان الله! الملائكة تضرعت إلى الله تبارك وتعالى أن ينجي خليله وعبده هذا الفتى المؤمن الموحد!- أن يعملوا لنجاته ما يستطيعون؛ ولكنه أبى أن يعتمد في نجاته على أحد غير الله.
      الخليل عليه السلام أبى -كما في المصادر الإسلامية- قال لجبريل عليه السلام عندما قال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا, والثابت أنه عليه السلام قال: حسبي الله ونعم الوكيل, ونعم بها من كلمة عظيمة؛ فلما قالها تولى الله تبارك وتعالى إطفاء النار وإنقاذه منها، وأمر بقوله: (( كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ))[الأنبياء:69], بدون أن يتدخل في ذلك أحد من خلقه لا من الملائكة ولا من غيرهم.
      ثم يكمل العقاد نقله فيقول: وإذا بالجمر من حوله كأنه فراش من الورد والريحان, هذا في مدراش رباه , ثم يكمل الحكاية عنه ويقول: ولم يصدق النمرود أنها معجزة من الله؛ بل قال لإبراهيم: إنها من سحرك وحيلتك -وهذا شبيه بكلام فرعون مع موسى- أما الأمراء والوزراء والحاشية فخذلوا الملك وآمنوا برب العالمين, وآمنوا برب إبراهيم عليه السلام.
      فالحكاية والقصة إذاً موجودة, والدلائل أو القرائن التي فيها تدل على أنها لم تؤخذ من مصدر إسلامي؛ فليس في القرآن الكريم المناظرة الأولى التي قبل الإلقاء في النار بهذا الشكل, وليس في القرآن الكريم أن الملك قال: هذا من سحرك وحيلتك, ولا أن الملأ آمنوا، إذاً: هذا يدل على أنها كما هي في التاريخ الإسرائيلي القديم لدى من احتفظ بهذه الحادثة موجودة، كما أنها موجودة أو مذكورة في بعض الآثار التاريخية الأخرى على أنها أعجوبة, وآية من آيات الله تبارك وتعالى، تدل على هذا المقام العالي والعظيم من مقامات التوحيد الذي اختص الله تبارك وتعالى به خليله إبراهيم عليه السلام.
    4. سبب حذف حادثة إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار من التوراة

      فإذاً: حينئذٍ من حقنا أن نفترض ونقول: إذا كان الذين كتبوا التوراة تعمدوا حذفها وإنزالها من المتن -الذي كان يفترض أن يكون لدينا الآن في الترجمة السبعينية أو غيرها- إلى الحاشية أو إلى الشروح ثم يُنحّى ويُقصى شيئاً فشيئاً، فمعنى ذلك: أن التأثير النفسي؛ تأثير العنصرية أو تأثير التعلق بالأرض وبالتراب وبالذهب وبما يقولون: إنها تفيض لبناً وعسلاً وما أشبه ذلك، هذا التعلق هو العقيدة الدافعة الأصلية التي تسيطر وتهيمن دائماً عليهم عندما يكتبون ما يكتبون أو يحررون ما يحررون؛ فيحذفون ويحرفون في كلام الله تبارك وتعالى وفي أخبار أنبيائهم.
      هذه الحقيقة الواضحة -أيها الإخوة- نجدها عندما نستعرض كتب الأنبياء من حزقيال أو أشعياء أو أرمياء وغيرهم إلى آخر الأنبياء -البضع والعشرون سفرا ًكثير منها منسوبة إلى الأنبياء- نجد هذه الظاهرة؛ أن كل نبي ينعى على قومه ويصرخ في وجوههم قائلاً: لقد عبدتم المنحوتات, لقد عبدتم المسكوكات, لقد انتكستم في عبادتكم لغير الله تبارك وتعالى، ولكن هذا يمضي ولا فائدة فيه! يعني: سواء قال: إن الله أمرنا أن نبلغكم -كما في بعضها- أو هو أنكر عليهم فالكلام يمضي والانحراف يستمر ويتراكم؛ حتى أنهم -كما رأينا- نسبوا إلى الأنبياء الكرام أنهم من دعاة الوثنية؛ كما حدث في نسبة صناعة العجل الذهبي الرب المزعوم إلى هارون عليه السلام نفسه، وكما حدث لسليمان عليه السلام حين نسبوا إليه أن الآلهة عُبدت في بيته، وأن نساءه من الأجنبيات ومن الأمميات من الأقوام الوثنية, فجعلوه يرضى بهذه العبادة الوثنية في بيته.
      هذه الحادثة عندما نتأملها لا تُلقي ظلال الشك على قصة الخليل وحده, وإنما على كثير مما في التوراة ، مما لا يقبل التعليل والتعليق أو التأمل العقلي, أو التاريخي الصحيح العلمي الموضوعي المتجرد يرفض هذا الحصر, وهذا الحكر, وهذه القومية وهذا العنصرية، ولا يجد حلاً لكثير من الثغرات الموجودة في هذا الكتاب أو في قضاياه التاريخية التي يعرضها.
  3. حادثة الإلقاء في نظرة الملحدين وأثر تحريف الأحبار والرهبان عليهم

     المرفق    
    ولذلك عندما نستعرض المنهج الثالث -وهو منهج الملحدين المنكرين- فإن من أول ما يفاجئنا بأن كُتَّاب مَن يسمون بكُتَّاب عصر التنوير -الذين كتبوا في هذه القضايا في الكتاب المقدس- تمادوا حتى أنكروا مطلقاً وجود الخليل عليه السلام, وقالوا: إنه شخصية مختلقة لا حقيقة لها ولا وجود على الإطلاق، فلم يقفوا عند حد إنكار المعجزات؛ بل أنكروا وجود الشخصية، وما دام أن الأحبار والرهبان الذين حرفوا الكتاب رضوا لأنفسهم أن يدخلوا في هذا الطريق -تنحية ما لا يريدون أو تأخيره أو إنزالها إلى الهامش- فلا يستغرب بعد ذلك أن يُتمم الملاحدة الذين ينكرون وجود الله أو ينكرون الوحي مطلقاً أن يتموا الطريق فينكروا وجود شخصية الخليل، فيقولون: لا وجود له على الإطلاق.
    الحقيقة هناك قضية وشاهد آخر ما دمنا نتلكم عن عصر التنوير والمصادر النصرانية الموجودة, ولنفترض أنها بذلك العصر ضمت المصادر اليهودية إلى المصادر النصرانية ، هذه قضية مهمة في هذا الشأن، وهي: أن الكنائس الشرقية؛ الكنيسة السريانية في المشرق وهم الذين يغلب أنهم النسطورية أو النساطرة, الذين بقيت بقايا منهم في العراق وفي بلاد الشام ، هؤلاء لم ينسوا أبداً هذه الحادثة!
    وهنا أيضاً نتساءل من أين جاءت؟ يتحدثون عن النار وإنجاء الله تبارك وتعالى لخليله إبراهيم منها؛ بل لم يجعلوا ذلك حدثاً عادياً؛ وإنما جعلوا لها عيداً، وهذا العيد يجعلونه في الخامس والعشرين من كانون الثاني, ويحتفلون في هذا اليوم بهذه المناسبة، كما يحتفل اليهود بالضبط بمناسبة يوم الخروج من مصر , ويوم العبور والنجاة من ذل فرعون وعبوديته, وإهلاك الله تبارك وتعالى لفرعون، وإنجاء موسى ومن معه في المحرم.
    نفس هؤلاء القوم -أي: أصحاب الكنيسة السريانية- عندما يحتفلون بذلك, ويوجد أو يشار أيضاً إلى أن شيئاً من ذلك موجود لدى بعض الصابئة وغيرهم؛ فمعنى ذلك: أن الحادثة موجودة, وأن لها مصادرها الأخرى، بمعنى آخر: هل نستطيع أن نقول: إن الغرب النصراني استمر على ما فعله أحبار بني إسرائيل من تحريف فحدث هو أيضاً ذلك وتعمد ولم يتعمق في المصادر الأخرى النصرانية أم ماذا؟ يعني: إذا كانت هذه كنائس نصرانية ومصادر نصرانية معتبرة ورثت أيضاً هذه الحادثة كما ورثها فِرق من اليهود، فمعنى ذلك: أن الذين جاءوا من بعد في الكنائس التي لا تذكر هذه الحادثة ولا تؤمن بها؛ إما أنهم أخذوا كلام اليهود مسلماً كما كان لوثر يقول: إن النصارى كالكلاب بالنسبة لليهود؛ فلا يؤخذون إلا الفتات أو ما يبقى عنهم! هل هذا كذلك؟ أو يمكن أن نقول بطريقة أخرى: لماذا لم تأت الكنائس الأوروبية والنصرانية -بالذات الإصلاحية البروتستانتية- فيستقصوا ما في الشرق عن إبراهيم عليه السلام وعن موسى وعن المسيح, وعن أحداث كثيرة ستأتينا, ونحن الآن نقدم هذه كنماذج فقط.
    بمعنى آخر: منهجية البحث العلمي أيضاً والاطلاع على كل الأحداث تقتضي منهم ألا يكتفوا ويقتصروا بما لديهم؛ بل يبحثوا بما لدى الفرق الأخرى، ولا سيما في مثل هذه التي لا يترتب عليها أي إشكالية.
    طبعاً نحن عندما نتعرض إن شاء الله في لقاء قادم لقضية هجرة الخليل عليه السلام إلى الجنوب وبناء الكعبة نقول: إن لديهم فيها إشكالية؛ وهي أنهم يريدون أن يطمسوا, ويمحوا أي شيء يشير إلى العرب؛ لكن إثبات هذه الحادثة لا إشكالية فيها من هذا الشأن؛ لأنها تتعلق بذات الخليل, وتزيد عظمته عظمة، وتزيد شخصيته عند المؤمنين به من أكثر شعوب أهل الأرض اليوم تعلقاً وتأثيراً بهذا الرجل العظيم.
    إذاً: لماذا نُحِّيت؟ فلنفترض أدنى الفروض هو: أن هذا خلل وتقصير في المنهج العلمي البحثي فيما يُورث عن الأنبياء السابقين، هذا وحده كاف في أن الحادثة أو أن التاريخ الحقيقي للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لم يأخذ ما ينبغي له أن يأخذ من التمحيص والتدقيق والبحث.
  4. حادثة إلقاء إبراهيم عليه السلام في القرآن

     المرفق    
    وهنا أيضاً نعود فنقول: تبرز عظمة الإسلام والقرآن, وأن نبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه جاء بهذا الوحي من عند الله تبارك وتعالى، وإلا فما الذي أدرى هذا النبي العربي الأمي في البيئة الأمية في هذه الأماكن النائية من العالم عن الحضارات في ذلك الوقت! أن يأتي ويتحدث عن هذه الآية العجيبة العظيمة, وبأسلوب عظيم جداً, لو تأملنا مثلاً قول الله تبارك وتعالى كما في سورة الشعراء: (( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ))[الشعراء:69], لاحظ من أول ما تفتتح القصة ليست من صُنع النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من أحد كتاب سيرته الذين كتبوا عنه؛ بل خطاب من رب العالمين تبارك وتعالى, رب هذا الكون والوجود كله, والأمم جميعها المؤمن منها والكافر، يخاطب الذي نقل إلينا هذا الخطاب؛ وهو الرسول الخاتم المصطفى صلوات الله وسلام عليه يقول: (( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ))[الشعراء:69].
    هذا وحي من عند الله تبارك وتعالى لا علاقة له بأن يفترض البشر شيئاً من ذلك كما يزعم أهل الكتاب, وكما يدَّعون، هناك نماذج حقيقة مؤذية من المزاعم الكاذبة التي يدعون أنه صلى الله عليه وسلم أخذها إما عن بعض النصارى كـورقة بن نوفل مثلاً أو غيره ويتلقى عنه كما ذكر الله تبارك وتعالى: (( إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ))[النحل:103]، لو أنه كان كما يزعمون فلمَ يفتعل هذه القصة؟ ولمَ يأتي بها؟! واقع الحكاية من كتاب الله تبارك وتعالى ذاته تنفي ذلك نفياً مطلقاً، الله هو الذي قال: (( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ))[الشعراء:69], ثم جاء بأمر ونبأ لا يعلمه صلوات الله وسلامه عليه، ولا كان يدري ما الكتاب وما القرآن, ولا يدري عن أخبار الأولين, ولا يدري عن أخبار المستقبل أيضاً الذي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن إبراهيم عليه السلام، فإنه صلوات الله وسلامه عليه أخبرنا عن حادثة في المستقبل ستكون يوم القيامة -كما في الصحيح- عندما يبعث الله تبارك وتعالى الخلائق أجمعين فيأتي إبراهيم عليه السلام فيقف بين يدي رب العالمين ويقول: رب إنك وعدتني ألا تخزني يوم يبعثون, وأي خزي أعظم من أن تدخل أبي النار؟ فيخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الحادثة, وكيف في النهاية أن الله تبارك وتعالى يأمر بأن يُمثل في ذِيخ أو ذَيخ وهو الضبع الصغير، يعني: تنتقل صورة أبيه البشرية إلى شكل آخر ثم يرمى في النار؛ لأن الله تعالى يقول: إني قد حرمتها على الكافرين.
    المقصود: أنه ليس هناك حاجة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم يتحدث عن قصة سبقت لإبراهيم الخليل, ولا عن قصص سيأتي له من عند نفسه، ولا سيما أن كلا القصتين مدعاة للتكذيب لدى اليهود , يعني: قابلة للإنكار من اليهود بسبب أنهم دائماً يعادونه ويحاجونه, والمشركون والملحدون في قديم الزمان وحديثه، فما الذي يجعل إنساناً يأتي بما يكذبه به الناس، والمفترض عادة في أي إنسان يأتي بفكرة أن يأتي بما يوافق ما عليه الناس في الأمور التي لا تهمه، حتى يوافقونه فيما هو يريد أن يدعوهم إليه إن كان يدعوهم إلى نفسه أو إلى مكانة له أو إلى عقيدة أو رأي، أما أن يأتي هذا الرسول صلوات الله وسلامه عليه بالأحداث السابقة مما في الماضي البعيد حوالي قبل ألفين وثمانمائة سنة تقريباً ثم ماذا سيكون يوم القيامة! فهذا يدل على أنه ليس من عنده صلوات الله وسلامه عليه؛ وإنما تلا نبأ إبراهيم الخليل كما أمره ربه تبارك وتعالى, وبلغه وأداه إلينا كما جاء إليه.
  5. المقارنة بين الوحي المعصوم والوحي المحرف في حادثة إلقاء الخليل في النار

     المرفق    
    فعلينا بعد ذلك نحن بعقولنا وبفهمنا وباجتهادنا أن نتدبر كلام الله تبارك وتعالى المحفوظ والمعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن نتأمل ونقارنه بما جاء في الكتب القديمة كما أشرنا, حيث هاهنا لا يذكر شيء, أو ما جاء في المدراش أو المدراس، وما جاء عند الكنيسة السريانية وغيرها من فرق النصارى، وأن نتأمل أيضاً ما يقوله التاريخ الآثاري والحضاري عن هذه الواقعة، وفي النهاية سوف نخرج بدون أي شك إلى أن هذا الكلام من عند الله تبارك وتعالى، وأن هذه الآية العظيمة إلقاء إبراهيم الخليل عليه السلام في النار تظل آية من آيات الله تبارك وتعالى، تتحدث عنها الأجيال والأجيال, وتتردد في المحاريب, ويؤمن بها المؤمنون, وتتصدع لها قلوب المنافقين والملحدين إلى قيام الساعة.
    أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفقني وإياكم -أيها الإخوة والأخوات- إلى اتباع ملة أبينا إبراهيم عليه السلام, ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم, ويثبتنا على الفطرة القوية والملة المستقيمة ما دمنا, ويميتنا عليها؛ إنه على كل شيء قدير.
    والحمد الله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.