المادة كاملة    
في الحلقة الماضية والتي قبلها كان الكلام عن مقام النبوة، وكان محصورا فيما يتعلق في النظرة النبوية من خلال التكريم والاصطفاء الرباني للأنبياء، ومن خلال النظرة الوثنية الجاهلية الفلسفية لهؤلاء البشر المختارين من الله تبارك وتعالى.
في هذا اللقاء يتحدث الشيخ عن مقام النبوة من خلال النظرة الوثنية الجاهلية الفلسفية ونظرتهم للأنبياء المصطفين من الله تبارك وتعالى وتأثر الفكر الإسلامي بذلك.
مهد لحديثة بتوضيح مسألة النبوة كمعلم فاصل بين الفكر اللاديني  والفكر الذي يؤمن بالغيب، وكذلك بين الفكر الوثني المشوب والفكر الإسلامي النقي. ووضح المقصود الإسلامي النقي، ونوعي البشرية طوال تاريخيهم الطويل.
ثم تناول تأثر الفكر الإسلامي بالفلسفة وما شابه في أهم قضية (النبوة) مؤكدا أن ليس من منهجه مناقشة الانحرافات عند الفرق الإسلامية بقدر ما هو المقارنة بين المناهج في ذلك.
كما بيّن تأثر الفكر الإسلامي بالفلسفة بقسميها وما نتج عن ذلك من ابتعاد عن المنهج القرآني الواضح، ومن تأويل وانحراف بينما المسألة واضحة في الكتاب والسنة، ونبه إلى خطأ تعريف الاستاذ محمد عبده للنبوة.
بعد ذلك انتقل إلى الفكر القومي العربي الذي تأثر بالصراع اليهودي العربي في العقود الأخيرة، واستهدف بين إسرائيل بالعدواة وحتى أنبيائهم! وبهذا وجد انحراف خطير خارج عن منهج الإسلامي في التعامل مع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
وتسائل كيف تغيب الحقائق الواضحة في القرآن الكريم وهو بين أيديهم ويقرؤونه! وعدد بعض تلك الحقائق من خلال القرآن الكريم ومنها أن الإنبياء جميعهم دعوا إلى الإسلام ولا سيما موضع الخلاف وهو من إبراهيم عليه، ومحمد صلى الله عليه وسلم ما هو إلا متبع له! اليهودية والنصرانية انحراف وقع في أتباع الأنبياء والتاريخ كذلك يؤكد هذه المعاني والحقائق.
ثم ختم حديثة بمجل الانحرافات والمناهج الضالة في مسألة النبوة أهم القضايا في تاريخ الفكر الإنساني عامة، والتي أخذ طوائف من هذه الأمة بنصيبها من الانحراف اتباعا لتلكم المناهج المنحرفة، مع دعوته لكل مسلم بأن يحرر فكره ونظره على منهاج النبوة، ووفق صريح القرآن دون التأثر بتلكم المناهج المنحرفة، وحينها سنجد كل عاقل من أهل الكتاب أو غيرهم يقبل هذه العقيدة الصافية الخالصة، والنقية من شوائب الشرك والنعصرية.
العناصر:
1.تمهيد
2.تأثر الفكر الإسلامي وما شابه في مسألة النبوة
-قسمي الفلسفة اليونانية
-تأثر قضية النبوة مع وضوح المنهج القرآني
-النتيجة
-خطأ تعريف الاستاذ محمد عبده
3.الفكر القومي العربي.
-انحراف القوميون مع وضوح المنهج القرآني
4.خاتمة ومجمل الانحرافات.
5.الفوائد
  1. موقف البشرية من الإيمان بالرسل

     المرفق    
    الحمد الله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد:
    أيها الإخوة المشاهدون! وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، فقد تحدثنا في اللقاء الماضي عن النبوة, وعن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وعن قيمة النبوة وأثرها في العالم كله, وعن الأنبياء إجمالاً, والصفات التي جعلها الله تعالى فيهم، وكيف أنه اختارهم جل وعلا فحظوا بإجماع كل من يؤمن بالله أو من يؤمن بالغيب؛ بأنهم أكمل البشر عقلاً وديناً وخلقاً وفضيلة؛ على ما شاب ذلك لدى كثير من الأمم مما أشرنا إليه وسنوضحه إن شاء الله في هذه الحلقة.
    هذه القضية -قضية النبوة- هي أحد المعالم الفاصلة والرئيسة -الواضحة جداً- بين الفكر اللاديني وبين الفكر الذي يؤمن بالغيب أو العقائد التي تؤمن بالغيب، وفي الوقت نفسه أيضاً بين الفكر الوثني أو الفكر الغيبي المشوب بالوثنية والخرافة والأساطير، وبين الفكر الإسلامي النقي.
    وعندما نقول: الإسلامي أو المسلم فإننا نعني به: كل ما كان على هدى الله تبارك وتعالى وفطرته منذ قديم الأمم إلى أن ظهر الإسلام في مفهومه الشامل والكامل, وفي رسالته الخاتمة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
    فكل الأنبياء من قبل كانوا مسلمين, والدين كان الإسلام, كما قال الله تبارك وتعالى: (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ))[آل عمران:19]، وهم في كل العصور وفي كل الأزمان (( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ ))[فاطر:24]، وهذا النذير يدعوهم إلى الإسلام وإلى الإيمان، الذي هو دين الله تعالى، الذي هو الدين الحنيف, كما قال سبحانه وتعالى: (( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ))[الروم:30]؛ فكل البشر في تاريخهم الطويل منذ آدم عليه السلام إلى أن وقع الشرك والانحراف وأصبحت البشرية نوعين: مؤمن موحد، وكافر مشرك؛ وإلى اليوم نجد هذين المعلمين لم ينقطعا:
    معلم أو مجموعة أو فسطاط إيمان واضح جلي إيماني يؤمن بالله تبارك وتعالى وأنبيائه وكتبه ورسله بلا تفريق (( لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون ))[البقرة:136].
    والآخر الذي وقع في الضلالة والجهل والشرك والغبش، وهذا الذي مع الأسف الشديد يطغى غالباً عند كثير من الباحثين العلمانيين اللادينيين، ثم يتبعهم بعض المسلمين فيجعلون تاريخ البشرية فقط هو هذا الجانب المنحرف الضال، ولا يكادون يأتون على ذكر الأنبياء لا في قليل ولا في كثير.
  2. وقوع الشوائب في الفكر الإسلامي في النبوة

     المرفق    
    الشاهد والذي يهمنا الآن هو أن نوضح أن هذا التاريخ أو هذا المنهج الواضح الذي كان منذ أن بعث الله تبارك وتعالى الرسل الكرام، بعد أن انحرفت البشرية أيام نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإلى اليوم؛ أن هذا المعلم واضح جداً متميز جداً، وأن أي شائبة تشوبه من شوائب الفكر الوثني أو الخرافة أو الأسطورة أو ما أشبه ذلك، فإنها تعكر نقاءه، وتكدر صفوه، هذا -مع الأسف- ما وقع في التاريخ الإسلامي وفي الفكر العقدي الإسلامي الديني.
    نحن في الحقيقة ليس من منهجنا في هذه الحلقات أن نناقش تفصيلات الانحرافات عند الفرق العقدية الإسلامية؛ بقدر ما يهمنا أن نقارن بين مناهج ثلاثة: بين المنهج الإسلامي النقي، والمنهج العلماني ، والمنهج الوثني أو المنهج المنحرف أو المشوب بالأساطير القديمة والحديثة المتلبسة بثوب العلم أو بغيره.
    لكن عندما ألمحنا أو أشرنا في اللقاء الماضي إلى الفلاسفة وإلى مواقفهم، وإلى أن الفكر العلماني اللاديني, وأنه يعتبر أن الفلسفة هي مرحلة راقية من تاريخ التطور الإنساني -يعني: ما قبل الفلسفة ومرحلة الهمجية ثم بعدها مرحلة التطور الفكري- وأن النبوة عندهم إما غامضة لا تذكر, وإما تندرج في مرحلة ما قبل الفلسفة, وإما أنها معادية للتفكير العقلي والتفكير التنويري.. إلى آخر ما هنالك من اختلافات.
    لما كان ذلك فإنه يجدر بنا أن نشير ونوضح أن النظرة إلى النبوة بهذا الشكل بما يشوبه من شوائب، تأثر بها علم الكلام الإسلامي كما تأثرت بها الفلسفة المسماة بالفلسفة الإسلامية.
  3. أقسام الفلسفة اليونانية

     المرفق    
    ببساطة يمكن أن نقول: إن الفلسفة اليونانية وغيرها ممن تأثر بهذه الأفكار هي في الحقيقة تنقسم إلى نوعين:
    النوع الأول: المنتمي إلى أفلاطون ؛ وهو الذي يقوم على الاستنباط أو الاستدلال عن طريق الكشف والإلهام والعرفان، يعني: منبع داخلي، منبع باطني، مصدره في أخذ الحقيقة والمعرفة هو الوجدان, هو الحقيقة الباطنية؛ ولهذا تسمى: نظرية العرفان أو المعرفة أو الغنوص أو الغنوصية, وهذه منتشرة في العالم الشرقي؛ في الصين في الهند , وفي الفلسفة التي أخذت عنهما في الإسلام؛ ولذلك تسمى: الفلسفة الشرقية أو المشرقية أو الإشراقية، ليس المقصود هو الإشراق بقدر ما هو المشرق بمعنى الحكمة التي تعود إلى الإشراق، أو الفلسفة التي مصدرها الوجدان والعرفان الداخلي.
    النوع الثاني: هو ما يعتمد أو يرجع إلى نظريات أرسطو , وهو المعتمد على الاستدلال العقلي, والقياس البرهاني الذي وضع بناء عليه علم المنطق، ثم بعد ذلك حصل التطور الذي حصل في علم المنطق وما بعده, عندما طُورت النظريات في ذلك؛ حتى أفضت في عصر التنوير الأوروبي إلى المذهب العقلي الجامد، الذي أدى في النهاية إلى أن يثور عليه هؤلاء وأن يأتوا بمنطق جديد يخالف المنطق الصوري اليوناني, وظهرت بعد ذلك نظريات اللامعقول أو التي لا تنتمي إلى العقل، وهذه مرحلة أخرى قد يأتي الحديث عنها إن شاء الله فيما بعد.
    المقصود أن هذين منهجان مختلفان متباينان: منهج أفلاطون في الكشف والعرفان والإلهام والذوق والوجدان، ومنهج أرسطو في المنطق والاستدلال والعقل والبرهان.. إلى آخره.
  4. وضوح المنهج القرآني في النبوة

     المرفق    
    التأثر الذي حصل في التاريخ الإسلامي -مع الأسف الشديد في تاريخ الفرق الإسلامية- تأثر هؤلاء وهؤلاء وبالذات في أهم قضية كما أشرنا؛ قضية النبوة -وعندما نقول: أهم قضية لأن كل المعرفة الإلهية, كل ما جاء عن اليوم الآخر هو مبني على النبوة- فمن هنا قضية النبوة تكتسب أهمية خاصة جداً في أي نظرية وفي أي عقيدة وفي أي تفكير. عندما تأثر هؤلاء وهؤلاء نتج هنالك ألوان من الخطأ بالابتعاد عن منهج القرآن الكريم الواضح الجلي في هذا -وعندما نقول: واضح جلي نقصد أنه لا يحتاج إلى شيء من التعقيد الذي أطال فيه أولئك الأقوام-. ‏
    1. وضوح المنهج القرآني في اختيار الله للأنبياء

      فالمنهج القرآني: أن (( اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ))[الحج:75], (( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ))[القصص:68], فالرسل هؤلاء الذين يختارهم الله تبارك وتعالى يؤيدهم بالبينات ويؤيدهم بالبراهين وبالحجج التي هي أعم من أن تكون -كما أشرنا من قبل- معجزات، آيات وخوارق؛ يشهد كل ذي عقل, وكل ذي لب، وكل ناظر بالنظر الفطري السليم أنها لا يمكن أن تكون من عند هؤلاء الناس.
      ثم هم في خُلُقهم وفي سلوكهم أفضل الناس, فهم أكمل الناس حلماً وعقلاً ورأياً وفضيلة وحباً للخير ورحمة بالخلق وعدلاً بينهم.. إلى آخره, وهكذا، من هذا المنطلق الذي أشرنا إلى شيء منه في الحلقة الماضية, ونجده واضحاً في القرآن وفي السنة، لا يكون هناك هذه التعقيدات وهذه الإشكالات في مفهوم النبوة وحقيقتها، ولا تختلط أصلاً هذه المفاهيم بالمفاهيم التي حدثت فيما قبل عند الأمم الأخرى، التي حرفت وشوهت هذا التاريخ؛ فأصبح نوعاً من الغموض، أي أساطير مشوبة بخرافات, مشوبة بشيء من الحق المختلط.
    2. وضوح المنهج القرآني في التفريق بين الألوهية والملائكية والنبوة

      فالأمم القديمة -أقدم ما وصل إلينا تقريباً سومر وما بعد- هناك اختلاط بين مفهوم أن يكون إلهاً, أو أن يكون نبياً, أو أن يكون ملكاً, أو أن يكون حكيماً، بينما في الإسلام المعالم واضحة جداً، هناك رب سبحانه وتعالى, وهو الذي (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ))[الشورى:11]؛ فهذا صفاته هي صفات الكمال المطلقة له تبارك وتعالى، وله الأسماء الحسنى.
      وهناك مخلوق من بني آدم من البشر, من الطبيعة البشرية التي لا تختلف في أصل التركيب والتكوين الجسماني عن بقية البشر؛ ولكن هناك ميزة له أن هناك واسطة بينه وبين الله تبارك وتعالى وهم الملائكة الكرام، فيوحي الله تبارك وتعالى إلى هؤلاء الأنبياء غالب الوحي عن طريق هؤلاء الملائكة، وقد يكون إيحاء مباشراً من الله تبارك وتعالى كما قال تعالى: (( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ))[الشورى:51]؛ فيمكن أن يخاطبه مباشرة كما خاطب آدم وموسى عليهما السلام، ويمكن أن يكون في المنام كما كانت رؤيا إبراهيم عليه السلام، ويمكن أن يكون -وهو الغالب- بأن يبعث الله تبارك وتعالى الرسول الملكي إلى الرسول البشري؛ فيبلغه عن الله عز وجل.
      وهنا تظهر آثار الخير والبركة والنفع؛ فهم مباركون أينما كانوا وحيثما توجهوا, وفي كل أمر يقولونه وفي كل شيء يفعلونه، فصل واضح جداً بين حقيقة الألوهية وبين حقيقة الملَكية -نسبة إلى الملائكة- وبين حقيقة البشرية في الأنبياء.
    3. وضوح المنهج القرآني في وقوع الخطأ من الأنبياء

      وفي نفس الوقت بكل بساطة ووضوح في القرآن وفي السنة، الأنبياء بما أنهم بشر مع أنهم معصومون عن الخطأ فيما يبلغونه عن الله تبارك وتعالى؛ لكنهم قد يخطئون وقد يعصون وقد يذنبون، ولكن الله تبارك وتعالى لا يقرهم على ذلك، فسرعان ما يعودون وما يتوبون وما يستغفرون، وما يجعل الله تبارك وتعالى في الخطيئة هذه ما يرقيهم بهم بدرجات الكمال، كما حدث لآدم عليه السلام, وكما حدث لداود, وكما حدث لغيرهم من الأنبياء في القرآن مما لا مجال لتفصيله. أما في النظرية الأخرى فنحن نجد إما أن يقال -كما اتجه إلى ذلك بعض العلماء-: إن الأنبياء لا يتصور منهم الخطأ مطلقاً؛ لأنه لو أخطأ أو لو جاز عليه الخطأ لجاز أن يخطئ أيضاً فيما يبلغ عن الله؛ وهذا لا يمكن! فأدى بهم ذلك إلى أن يؤولوا كل ما قيل في القرآن من أنّ آدم عصى، أو أن داود أخطأ، أو أن نوحاً سأل الله تعالى فيما يتعلق بموضوع ابنه، أو غيره من الأنبياء. التأويل هذا هو دال على عقيدة فلسفية تجريدية ذهنية؛ وهي: أن هناك كمالاً بشرياً مطلقاً لا يعتريه النقص؛ لأنه لو اعتراه في مسألة لجاز أن يعتريه في أخرى، كما هي العادة في المنطق الرياضي أو في المنطق الذهني المجرد أنه لو جئنا بدليل واحد على خطأ أي قاعدة لاخترمت القاعدة جميعاً؛ لكن الأدلة المنطقية العقلية الذهنية المجردة لا تكون أبداً بواقع الحياة البشرية التي جعلها الله تعالى أرحب وأوسع وأشمل من ذلك. وهذه إلماحة يسيرة في هذا الجانب.
  5. تعريف النبوة بالعرفان وما يترتب عليه من إشكالات

     المرفق    
    المقصود هو الجانب الآخر الذي حدث وكان أكثر انحرافاً وأشمل.
    فالذين رأوا أو نحو المنحى العرفاني الوجداني الباطني الحدسي التخميني.. إلى آخره؛ على مذهب أفلاطون أثَّر هذا في المتصوفة وفي أشباههم فلم يعد هنالك فرق بين الكشف وبين الإلهام وبين الوحي الذي يوحيه الله تبارك وتعالى، فاختلط النبي بالولي؛ بل ربما جعل بعضهم الولي أعلى درجة من النبي, وهكذا أصبحت المسألة خطيرة جداً إلى حد الخروج من الدين والعياذ بالله، والخروج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم, وعن كل كتب الله؛ بدعوى أو بزعم أن النبوة مكتسبة يمكن أن تنال عن طريق الرياضة الروحية المتتابعة، كما يفعل الرهبان في الهند و الصين وغيرها من البوذيين -يسمونهم العارفين- ويتحدثون عن ذلك, وظهرت هذه النظرية الغنوصية العرفانية الباطلة، أو الإشراقية الباطلة, وتأثر بها كثير من المتصوفة المشهورين؛ الذين لا مجال الآن للتفصيل في الحديث عنهم بأسمائهم وذكر انحرافهم, وإنما المقصود أن هذا المنحى الخطير أيضاً اتخذ شكلاً مضاداً للمنحى الكلامي والفلسفي والمنطقي؛ فأدى ذلك إلى أن مفهوم النبوة تعتريه شوائب تكاد أن تكون مشابهة لما حدث منذ المراحل الأولى، عندما حدثت أساطير سومر و بابل والأمم من قبلهم.
    هنالك تصبح قضية حقيقة النبي والأنبياء حقيقة غامضة مبهمة مشوشة, وفي الإمكان أن يدعيها كل أحد، وبذلك لم يعد هناك أي قيمة -مع الأسف الشديد- للمنهج الرباني الواضح الجلي في الفصل التام بين الألوهية وبين النبوة، وبين مقام النبوة من جهة وبين غيرها من البشر من جهة أخرى، الذين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكتسبوا ما أوحاه الله تبارك وتعالى إلى الأنبياء، الذين أهلهم بصفات معينة لتلقي علوم من لدنه عز وجل، لا يمكن للعقل البشري أو الجهد البشري ولا العرفان البشري أن يصل إليها بأي شكل من الأشكال.
    هنا ينبغي أن أنبه إلى أن مثلاً الأستاذ محمد عبده رحمة الله عليه في: رسالة التوحيد وقع في خطأ قريب أو يكاد أن يباشر القضية من ناحية الكشف والخطأ، عندما عرَّف الوحي بأنه عرفان يجده الإنسان في نفسه مع يقينه أنه من الله! في الحقيقة أن هذا الكلام أقرب ما يكون للمدرسة العرفانية الغنوصية الحدسية، التي انتشرت وظهرت -مع أنه مع الأسف شيء عجيب! والشيخ محمد عبده رحمة الله عليه وغفر لنا وله معروف اتجاهه العقلاني المحض، وفي شرحه لكتب العقيدة وفي أيضاً منهجه العقلاني فيما بعد، عندما كاد أو تمرد على كل ما سماه الدراسة في الأزهر وبعبارته: أن يكنس من مخه كل ما تعلمه في الأزهر سواء شرح العقيدة العضدية أو غيرها-
    فالمقصود أن الشيخ مع المنحى العقلي الذي ينحوه غالباً واشتهر عنه؛ إلا أنه في هذه المسألة لم يستطع أو ربما رأى أنه أقرب إلى الفكر المادي أو العقلي؛ مسايرة للنظريات التي رآها في أوروبا -مثل نظرية كونت وأمثاله- أو درسها هناك واطلع عليها؛ فرأى أن يفسر الوحي بما يَقْرُب في الحقيقة من المدرسة العرفانية الغنوصية الأخرى، أصبح مع الأسف الشديد في بعض كتب التفسير كأن للوحي تعريفين! تعريف السلف أو التعريف المأخوذ من القرآن, وتعريف الشيخ محمد عبده .
    وهذا من الخطأ، فلا ينبغي إلا أن تكون قضية الوحي واضحة جلية لا لبس فيها ولا غموض ولا تشويش، كما وضحنا من حيث الفصل بين حقيقة الألوهية وبين الحقيقة البشرية، مع وجود الوساطة الملكية بين هذا وبين هذا.
    فهذه مسألة أحببنا أن ننبه إليها من غير أن يكون منهجنا الخوض في تفصيل الخلاف أو الأخطاء في الفرق الإسلامية؛ لكن ننبه إليها لأننا عندما نقول: إن المنهج الإسلامي هو الحق في هذه القضايا، فإننا لا نعني المنهج الكلامي, ولا منهج الفلاسفة من إشراقيين أو من منطقيين، ولا نعني به أيضاً منهج المتأخرين في هذه الأمة أو أي فرقة من الفرق؛ وإنما نعني المنهج الصافي النقي, الذي اعتمدناه في كل حلقاتنا بإذن الله تبارك وتعالى، والذي نأتي عليه بالأدلة المباشرة والصريحة والواضحة من الكتاب ومن السنة؛ لنقابل به المنهج الآخر.
  6. منهج الفكر القومي العربي في النبوة

     المرفق    
    هنا أيضاً نأتي على منهج آخر أو اتجاه آخر في البحث العلمي، فيما يتعلق بالنبوة والأنبياء وتاريخهم, وما يتصل بذلك -مع أننا قد أوضحنا أن كل بحث في الفرق أو في الأديان؛ فهو تاريخي بشكل ما- أقول: هناك أيضاً من أخطأ في هذه المسألة ولكن من نوع آخر. ‏
    1. استهداف بني إسرائيل بالعداوة حتى الأنبياء منهم

      الخطأ الذي يقع فيه هؤلاء, أو النوع الذي نقصده هو: أن كثيراً من الكتاب والباحثين القوميين العرب تأثروا بالصراع اليهودي العربي في الأحقاب الأخيرة وفي العقود الأخيرة؛ فأخذوا يكتبون في هذه القضايا عن أنبياء بني إسرائيل, وعن تاريخ بني إسرائيل وكأنهم أمة عدو لا بد أن تتحين الفرصة لكي تبطل كل أعمالها؛ لكي تبين خطأها في كل مسألة, لكي تبين أنها أمة معتدية, وأنها أمة وحشية, وأنها أمة همجية؛ فأثر هذا بشكل آخر حتى وجدنا انحرافات خطيرة خارجة عن منهج القرآن والسنة في التعامل مع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سيما أنبياء بني إسرائيل؛ مثل: موسى وسليمان وداود ومن بعدهم، فضلاً عن جزء مهم من تاريخ بني إسرائيل الذي جاء في القرآن الكريم, والذي نحن نؤمن به ونعتقده؛ لأن بني إسرائيل المؤمنين هم جزء من أمة الإسلام العظيمة التي تمتد من آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ من الأمة المسلمة الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى بالإسلام ما داموا متبعين لأي نبي من الأنبياء من غير أي تفريق، ولا تفرق أمة الإسلام في القديم والحديث بين أي نبي من الأنبياء.
      فالأمة الإسلامية أو أمة الإسلام -قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم- المسلمون الحنفاء أتباع أي نبي من الأنبياء؛ كانوا يؤمنون بالأنبياء الذين سبقوا, ويؤمنون بالأنبياء الذين سيأتون، وبعد محمد صلى الله عليه وسلم حيث ختمت النبوة، فالأمة الإسلامية بمعناها الأخير والخاص المعروف الآن في العالم: تؤمن بكل أنبياء الله تعالى ولا تفرق بين أحد منهم.
      الفكر القومي العربي نحى منحاً آخر؛ وهو استهداف بني إسرائيل بالعداوة, حتى أنبياءهم, حتى التوراة ! فنجد كلاماً خطيراً جداً، نجد هناك توجه إلى القول بأن كل ما جاء في سفر التكوين عن الخلق والخليقة منقول من أساطير أقدم, نجد من يقول: إن شريعة موسى عليه السلام منقولة عن شريعة حمورابي ، ثم يقول: إن حمورابي عربي باعتبار أن السامية أكذوبة وتلفيق، فردوا هم على أكذوبة أو تلفيقات الباحثين المستشرقين اليهود عن السامية بأن جعلوا العربية؛ لكن جعلوا العربية مقدسة وجعلوا اليهودية مدنسة! وليس هذا بصحيح..
      نعم هناك تاريخ للعرب ما قبل إسماعيل عليه السلام؛ وهم العرب القديمة, وليست سامية، ونحن نقول: إنهم عرب قدماء -وهذا سنوضحه إن شاء الله وقد أشرنا إليه فيما مضى- لكن ذلك لا يعني أنهم على الحق؛ بل هناك منهم المشرك ومنهم المؤمن ومنهم البر ومنهم الفاجر، ومنهم الطواغيت الكبار كما منهم الأنبياء العظام؛ لكن القوميين العرب جعلوا هذا مقابل هذا، فإما أن يُرجعوا كل فضيلة في التوراة أو في الوحي الذي أوحاه الله لبني إسرائيل إلى أصل عربي بأي شكل من الأشكال ولو بالتلفيق أو بالمجازفة، وإما أن يقولوا: لا. إن هذه كلها أباطيل وأساطير ترجع إلى أساطير سومر والفراعنة وغيرهم، كما يتحدثون إذا تحدثوا عن التوحيد وأنه مأخوذ عن أخناتون .
      حتى الأستاذ عباس محمود العقاد مع تعمقه في هذا، في كتابه: إبراهيم أبو الأنبياء قبل أن تتضح الفكرة القومية بأبعادها التي حدثت فيما بعد أيام الناصرية؛ لكنه مع ذلك كان يجعل الأمرين؛ الإسرائيلية من ناحية، والعربية من ناحية، ويثبت أو يكاد يؤمن بنظرية تطور الدين, ويقارن بين أخناتون وبين عقيدة التوحيد.
      هذه مع الأسف أيضاً إحدى الانحرافات المنهجية التي وقع فيها المفكرون القوميون العرب وأشباههم، حتى أنك تجد الذم والعيب والنقص لديهم لا يسلم منه الأنبياء!
      فيفرحون بأي نقيصة يجدونها منسوبة إلى داود عليه السلام مقابل أن الفلسطينيين -كما يزعمون- أو العرب الأصليين أو الذين يسمونهم فلسطينيين, فهم عندما أصبحت القضية عنصرية عرقية يقولون: حرب داود عليه السلام مع جالوت وما حدث كما قصها الله تعالى في القرآن، تأخذ منحى آخر وكأنها شكل متقدم للصراع العربي الصهيوني المعاصر؛ فكل فضيلة تسلب من هذا الجانب وتعطى للفلسطينيين لـ جالوت ولجيشه، وتؤخذ قضية طالوت وداود كما وقع في التوراة المحرفة وأشد من ذلك أيضاً.
      ونحن إن شاء الله سوف نبين ما وقع في التوراة من تدنيس لمقام النبوة والأنبياء خطأ، إن شاء الله في الحلقة القادمة أو التي بعدها حسب الإمكانية، عندما نبين أن النظرة الكتابية نحن لا نقرها؛ لكن نحن هنا نشير إلى الخطأ الذي قد يحسب على أنه إسلامي! أو يُظن أنه إسلامي!
      والحقيقة أن هؤلاء الكتّاب وإن كانوا مسلمين إلا أنهم وقعوا في أخطاء كبيرة جداً في هذه المسألة الخطيرة والمهمة؛ لأنهم عاملوها أو نظروا إليها بالنظرة القومية العنصرية، وأسقطوا قضايا حديثة على قضايا قديمة والأمر مختلف تماماً، وهو واضح جداً بالنسبة لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، وفي كتب العقيدة وكتب التفسير المسألة هذه لا تحتاج إلى لبس, ولا تحتاج إلى أن تدافع عن أي شيء؛ لأنه عربي أو تثبت عروبته, وإن كان غير ذلك, ولا أن تثبت أن أي أمر آخر أنه باطل وأنه خطأ أو أنه تدنيس أو أنه رجس لمجرد أنه ينتمي إلى الأمة الإسرائيلية, ليس ذلك ولا ذاك.
    2. انحراف القوميين مع وضوح المنهج القرآني

      المنهج القرآني في هذا واضح جداً منذ أن بين الله تبارك وتعالى ذلك منذ الهجرة عندما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، وحدث الاحتكاك المباشر بنيه وبين اليهود في المدينة، فتأتي السور القرآنية ومنها سورة البقرة وآل عمران وغيرها؛ لتبين حقائق عظيمة وجلية، لا ينبغي لأي كاتب مسلم وعربي أن يتغافل عنها؛ بل اللوم على العرب أكثر؛ لأن القرآن بين أيديهم ويقرءونه!
      نجد حقائق واضحة, كل الأنبياء هم على الإسلام, وكلهم دعوا إلى الإسلام والإيمان بالله تبارك وتعالى، ولا سيما موضع الخلاف وهو من إبراهيم عليه السلام فصاعداً.
      إبراهيم عليه السلام (( إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ))[البقرة:131], هذه حقيقة مقررة ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم, وبينها في الآية مائة وواحد وثلاثين من سورة البقرة، ثم يقول: (( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ))[البقرة:132], وقبلها يقول: (( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ))[البقرة:128], يعني: دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وهما يبنيان الكعبة.
      وهناك يأتي السياق القرآني، فبعد أن يؤكد حقيقة أن يعقوب مسلم -لأن الإشكال حدث في ذرية يعقوب عليه السلام والقول بأنهم كانوا يهوداً أو نصارى - (( أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ))[البقرة:133], هذه عقيدة جلية.
      ثم يبين بعد ذلك السياق القرآني الكريم أن اليهود و النصارى (( وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ))[البقرة:135]؛ فيؤكد (( قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ))[البقرة:135], (ملة إبراهيم حنيفاً) هي التي يقول الله فيها: (( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ))[النحل:123], يعني: النبي صلى الله عليه وسلم في هذا ما هو إلا متبع, وفي الآية الأخرى: (( مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ))[الحج:78].
      بين تبارك وتعالى أن أبانا إبراهيم هو أب لنا في مسألة الدين ومسألة الاعتقاد -لا أبوة النسب- أبوة عظيمة، أبوة روحانية جليلة؛ فنحن جميعاً أمة محمد صلى الله عليه وسلم يمكن أن نسمى ويمكن أن يقال: إننا على ملة إبراهيم ولا حرج، ويمكن أن يقال: إننا حنفاء ولا حرج، ومسلمون بهذا المفهوم أيضاً كل ذلك أشبه بالمترادفات اللغوية؛ ولذلك نحن نجد تفاسير السلف لهذه الآية أو لمفهوم كلمة (الحنيفية).
      التفسير والتاريخ الذي حدث بعد ذلك يؤكد هذه المعاني.
      أما تفسير الحنيفية فقد فسرها مجاهد و الربيع بن أنس كما نقل ابن كثير رحمه الله بأن (حنيفاً) أي: متبعاً. قال أبو قلابة : الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم.
      كان هذا المفهوم الراقي العظيم، الإيمان بالرسل جميعاً من أولهم إلى آخرهم!
      ثم يأتي أيضاً قتادة فيقول: الحنيفية: شهادة أن لا إله إلا الله, ويدخل فيها -هذه نقطة مهمة ونحن هنا نذكرها لأهميتها- تحريم الأمهات والبنات والخالات والعمات -يعني: خروجاً عن الشرائع المحرفة في هذا الشأن- وما حرم الله تبارك وتعالى -دخول تحريم الخمر والخنزير وعبادة الأصنام داخلة في الحنيفية- ثم يقول: والختان! الشعائر التي هي من سنن الفطرة!
      ملة إبراهيم عليه السلام هي عقيدة هذه الأمة، عقيدة في الله تبارك وتعالى, وفي الأحكام جملة وهي تحريم الخبائث وإحلال الطيبات، وفي الشعائر التي هي من سنن الفطرة، ومن أعظم وأهم ذلك الختان! ذلك الذي كان معروفاً متداولاً بين العرب، وظل عليه بنو إسرائيل حتى نسخه بولس بدعواه وزعمه الكاذب.
      فسنن الفطرة وخلال الفطرة -فضلاً عن العقائد التي أكبر من ذلك- تنسب إلى إبراهيم عليه السلام, ونحن من أتباع ملة إبراهيم عليه السلام؛ ولذلك أمرنا الله تبارك تعالى بعد هذه الآية مباشرة بأمر نحن نتعبد به ونقرؤه في صلاتنا تذكيراً به يومياً وشبه يومي: (( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ))[البقرة:136], ونبطل بطلاناً شديداً كل من يدعي أن نبياً من الأنبياء كان على غير الإسلام, وأنه كان يهودياً أو نصرانياً.
      اليهودية و النصرانية هي انحراف وقع في أتباع الأنبياء؛ ولذلك عندما يأتي الكلام عن العدل والتفريق بين المخطئ والمذنب منهم لا يأتي الكلام بصفة اليهود أو النصارى في القرآن، اليهود أو النصارى وصف في الأصل للذم للأمة المنحرفة، أما الأصل فهم يسمون أهل الكتاب كما في قوله تعالى: (( لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ ))[آل عمران:113], يعني: أهل الكتاب ليسوا سواء منهم ومنهم، أو قوله تبارك وتعالى: (( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ))[الأعراف:159]؛ فليسوا سواء؛ لذلك قال: (من قوم موسى) يشمل الذين اتبعوه بحق والذين يدّعون غير ذلك، وكذلك عيسى عليه السلام.
      فأفضل الخلق عندنا نحن المسلمين في عقيدتنا الإيمانية الواضحة الجلية هم الأنبياء، وأفضلهم أولو العزم من الرسل، وأفضل من بعدهم هم أتباع الأنبياء.
      فأفضل الناس هم من صحب موسى عليه السلام مؤمناً به، ثم صحب عيسى عليه السلام مؤمناً به وبموسى، ثم من صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهم كانوا طبعاً مؤمنين بموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وكل أنبياء الله (( لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ))[البقرة:285], ثم التابعون من هؤلاء وهؤلاء.
      أما من انحرف ومن ضل ومن ابتدع؛ فنحن نبرأ إلى الله تبارك وتعالى من انحرافه وضلاله وشركه وبدعته، سواء كان من قوم موسى أو من قوم عيسى أو ممن يدعي أنه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فالمسألة عندنا لا عنصرية فيها, ولا قومية فيها بأي شكل من الأشكال، وإنما هو دين جلي واضح مثل الشمس، جعله الله تبارك وتعالى دين الأنبياء جميعاً وقال: (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ))[آل عمران:19], وقال: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ))[آل عمران:85], نؤمن بهم جميعاً ومن انحرف من هؤلاء الأقوام جميعاً فحسابه على الله, وبحسب انحرافه يُعامل، وفي ذلك إيضاح وتجلية لكثير من القضايا التي وقع فيها من أخطأ وضل.
  7. مجمل الانحرافات في المناهج الفكرية وواجب المسلم نحوها

     المرفق    
    أهل الكتاب عندما نسبوا إلى الأنبياء من القبائح والشنائع -ما سوف نأتي عليه في الحلقة القادمة إن شاء الله- أو الفكر القومي العربي الذي يحشد كل طاقته لحمل كل عيب وكل ذنب في التاريخ؛ فيلحقه ببني إسرائيل ولو كان أيضاً بأنبيائهم، وكذلك الفكر الآخر الفكر الأسطوري والفكر الوثني والفكر الشركي الذي ينكر نبوة الأنبياء أو ينفيها، أو يعدهم مجرد أشخاص وأفراد متميزين، وكأنما هم نوع من الفلاسفة، أو الفكر الآخر الباطل الذي يكاد يخلط بين الأنبياء وبين غيرهم في أن الجميع إنما يأتون بما يأتون به من العلوم والمعارف من الذات من الداخل، عن طريق العرفان والغنوصية كما أشرنا أو الكشف أو الإلهام أو ما أشبه ذلك. هذه كلها مناهج ضالة, وقد أخذت هذه الأمة المسلمة -مع الأسف الشديد- بنصيبها كما بين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يتبعون سَنن من كان قبلهم من الأمم، أخذ طوائف من هذه الأمة بنصيبهم من الخطأ والانحراف اتباعاً لتلك المناهج الضالة التي ليست من الإسلام في شيء. أقول: إن هذه القضايا التي أتينا عليها على عجل وعلى إلماحة هي من أهم وأخطر القضايا في تاريخ الفكر الإنساني عامة، التي يجب على كل مسلم أن يحرر فكره ونظره إن كان تاريخياً أو أدبياً أو عقدياً وهو أشد، أن يحرر ذلك كله على منهاج النبوة، أن يجعله على وفق صريح وجلي القرآن، وألا يتأثر لا بقليل ولا بكثير بهذه المناهج الضالة المنحرفة، وعندما نفعل ذلك فسوف نجد أن كل عاقل من أهل الكتاب أو من غيرهم من أمم الأرض، لا بد أن يجد نفسه مضطراً -وبدون أي ممانعة- بأن يقبل هذه العقيدة الصافية الخالصة النقية من شوائب الشرك أو العنصرية, أو ما يسمونه التعامل الخطأ مع الآخر، أما بالنسبة لنا نحن المسلمين فالآخر بما يفهمونه هم ليس هو المقابل العنصري أو المقابل القومي أو المقابل الاقتصادي أو المقابل لشيء ما؛ إنما الآخر هو بمعنى العدو من خالفنا في الدين والعقيدة التي أنزلها الله تبارك وتعالى، وجاء بها محمد صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله. كل من آمن بهذه العقيدة في أمم التاريخ قديمها وحديثها فهو أخ لنا، وهو قريب لنا، ونحبه ونواليه في الله تبارك وتعالى، وكل من خالفها فإننا نبغضه ونعاديه مهما كانت قرابته، ومهما كان انتماؤه. أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفقني وإياكم جميعاً لما يحب ويرضى, وأن ينفعنا بما نسمع ونقول؛ إنه سميع مجيب, والحمد الله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.