المادة كاملة    
في هذا اللقاء يتحدث الشيخ عن نشأة الحضارة على الطريقة والمنهجية التي سار عليها وهي المقارنة بين مصادر المعرفة الثلاث: الوحي المعصوم، والوحي المحرف المبدل، والعلم البشري المجرد عن الوحي.
بداية يؤكد على ارتباط نشأة الحضارة بالعقيدة والدين الذي نشأ عليه الإنسان وعلمه إياه الله تبارك وتعالى، فلا يمكن أن تكون قضية تاريخية مجردة بل هي قضية إيمانية عقدية.
ويبدأ حديثة بالمنهج التطوري الذي يقوم على نظرتين: التطور العضوي لدارون، والتطور الفكري لكونت. مستعرضا ملخص نظرية دارون ولمحات تبين بطلانها حيث لم تَرْق لتكون نظرية متكاملة، كما أن هناك بيئة وأفكار ومشاكل محلية ظهرت فيها تختص بالدين النصراني الكنسي المحرف بالدرجة الأولى. ثم على عجل أورد أمرين أديان إلى انهيار النظرية: ما يتعلق بالشكل -اكتشاف العمالقة- وما يتعلق الجينات الناقلات للوراثة. ثم يذكر عوامل أخرى كعلوم اللغة والدلالة، والحالة الأسرية، الشعور بالمعبود والتقرب إليه، وتكوين المجتمع والدولة، والمشاعر الإنسانية.
بعد ذلك انتقل إلى المنهج الثاني: منهج الوحي المحرف حيث المشكلة أيضا قائمة لكن بشكل آخر، وكأن الله تبارك وتعالى تعمد تجهيل الإنسان! الأمر الذي أدى إلى نفرة شديدة بين العلم والدين.
(وفي اللقاء التالي يتحدث عن المنهج الإسلامي منهج الوحي المعصوم في نشأة الحضارة)
 العناصر:
1.مقدمة.
2.المنهج التطوري
-ملخص نظرية دارون
-لمحات تبين بطلانها
-أمران أديان إلى انهيارها
-عوامل أخرى
3.منهج الوحي المحرف
-تعمد تجهيل الإنسان.
4.الخاتمة.
  1. نشأة الحضارة وتطور الإنسان في المنهج التطوري

     المرفق    
    الحمد الله رب العالمين، الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد:
    فقد تحدثنا أيها الإخوة والأخوات! في اللقاء الماضي عما يسمى: العصر الحجري، كما يطلق عليه الذين يؤمنون بالتطور الفكري والعضوي، والآن نتحدث في هذا اللقاء عن نشأة الحضارة على طريقتنا ومنهجنا في هذه اللقاءات, وهو المقارنة بين مصادر المعرفة أو مصادر التلقي الثلاثة:
    الوحي المحفوظ المعصوم.
    والوحي المحرف المبدل.
    والعلم البشري المجرد عن الوحي.
    لنرى بعد ذلك أين الحقيقة, وكيف نصل إلى عين الحقيقة بإذن الله تبارك وتعالى.
    من المعلوم أن نشأة الحضارة ترتبط ارتباطاً مهماً جداً بالعقيدة وبالدين الذي نشأ عليه الإنسان, أو علمه الله تبارك وتعالى إياه، فهي قضية لا يمكن أن تكون قضية تاريخية مجردة؛ بل هي قضية إيمانية عقدية أيضاً.
    ونحن الآن سوف نبدأ بالمنهج التطوري، ثم ننتقل إلى منهج الوحي المحرف والمبدل، ثم نختم ذلك بالوحي المحفوظ من القرآن والسنة الصحيحة بإذن الله تبارك وتعالى.
    المنهج التطوري كما ألمحنا في لقاء ماض هو: الذي يقوم على نظريتي التطور، إذا قلنا: إن عمدة الفكر التطوري الحديث يقوم على نظريتين:
    نظرية التطور العضوي لـ داروين .
    ونظرية التطور الفكري لـ كونت .
    فعليهما تدور نظريات أخرى, ومنهما تتفرع علوم كثيرة, أو هي مبنية عليهما.
    1. مفهوم نظرية التطور

      نحن نشاهد في هذا المنهج أنه لا يفترض مطلقاً أن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق الإنسان، -قد لا ينفونه لكن لا يفترضونه- ولا يفترضون مطلقاً أن الإنسان له دين أرقى وأسمى من الحياة المجردة، وأن هذا الإنسان له مشاعره وله إنسانيته وله روح في هذا البدن؛ وأنه مكوّن من الروح ومن البدن العضوي المشاهد، وغير ذلك من الأمور التي هي في الحقيقة لا أصل لها علمي وإنما هي افتراضات أو ظنيّات، أو هكذا أقيمت اعتباطاً بناء على المعركة الطويلة والعنيفة التي دارت في أوروبا بين العلم والدين، أو النظريات اليونانية القديمة التي كانت تصور الإله فيها -الخالق تبارك وتعالى- محدوداً أو ضيقاً، أو يجعلونه بعيداً عن حقيقة الكون وتدبير أمور هذا الكون -وهذا ما سنعرض له إن شاء الله في حلقات قادمة.
      ملخص هذه النظرية -كما رأينا في الحلقة الماضية- أن الإنسان بدأ بدائياً همجياً في التفكير وفي التعامل مع البيئة وفي طريقة المعيشة وفي طريقة الحياة، وأنه كان ساذجاً تماماً, فهو لا يملك إلا اليدين اللتين ليس فيهما أية أداة، ويتأمل في هذا الكون ويمشي, فاعتمد في مراحل طويلة من حياته -بناء على كلامهم- على مجرد التقاط الثمر المتساقط في الأرض, أو الصيد أو الرعي.
      مراحل طويلة جداً كما يعتقدون، وقد قسمت العصور الحجرية في الحقيقة إلى أقسام كثيرة لا داعي لذكرها, وهي كلها محصورة ضمن أحقاب زمنية -الحقبة القديمة والوسطى والحديثة- لكن كلها أقسام لا حاجة للإطالة فيها؛ لأنها كما سوف نرى افتراضات لا تقوم على حقيقة.
      المقصود أن مراحل طويلة جداً قبل أن ينتقل الإنسان إلى مرحلة الزراعة, ومن ثم تبدأ عنده مسألة الكتابة، وهم يعتبرون الكتابة هي أهم فاصل ومعلم بين عصر ما قبل التاريخ وعصر التاريخ، وبين ما قبل الحضارة وعصر الحضارة.
      لا شك أن الكتابة تطور حضاري مهم جداً؛ لكن نحن دائماً نرجع للأصل هل بالفعل كان الإنسان كذلك؟! أو بناء على أي أمر, وبناء على أي دليل بنيتم أنه كان كذلك ثم تعلم الكتابة؟!
      المفترض الواضح الذي جاءت به الأديان جميعاً أن الإنسان في مرحلة الرعي، أو المجتمعات البشرية التي لم تكتب أو لا تكتب؛ أنها انحطاط عن مرحلة قبلها كانت فيها متعلمة, أو كان الأصل فيها التعلم.
      كما أن الأصل كان التوحيد ثم وقعت في الشرك والخرافة والأساطير؛ فكذلك الأصل هو أنها متعلمة ومتحضرة وتزرع ثم تنحط، وكم شَهِدنا وكم رأينا من مجتمعات في القديم وفي التاريخ المكتوب كانت حضارية ثم انتقلت إلى الرعي، انحطاط وتقهقر حضاري من مدنية راقية أو إمبراطورية واسعة إلى مجتمعات رعي، وهذا شيء مشاهد.
    2. القول بالتطور العضوي نتيجة لتطور الآلة التي يكتشفها

      على كل ليس المراد المناقشة بالتفصيل، المراد هو إثبات أنها لا تقوم على أية حقيقة علمية في الواقع؛ بل هناك كلام نأسف أن يصدر عن مسلمين مثل السيد: محمد غلاب الذي أشرنا إليه في الحلقة الماضية عندما تكلم عن هذه القضية، لا يقول فقط: إن الإنسان تطور؛ بل يجعل التطور عملية تبادلية ما بين الآلة التي يكتشفها الإنسان، وما بين التطور العضوي للإنسان نفسه! بدون افتراض خالق ولا مدبر على الإطلاق.
      مثلاً يقول: الإنسان انتقل من مرحلة اليد المجردة إلى مرحلة الآلة، ثم يقول: إن الآلات نفسها أدت إلى تطور عضوي في الإنسان، فاستخدام اليد لأي غرض أدَّى أو أثر على شكل الجمجمة وحجم المخ وشكل الهيكل العظمي العام، وهكذا كل تطور عضوي يكون نتيجة لتطور حضاري يدوي والعكس أيضاً.
      ثم يقول: وهكذا سارت عجلة التطور البشري تطور عضوي -يعني: في اليد- يؤدي إلى تطور بشري وهو صناعة الآلات, وهذه الصناعة والتطور البشري المستحدث يؤدي بدوره إلى تطور عضوي جديد, وهو استواء الجمجمة على الهيكل العظمي واستدارة الجمجمة، كما أن اكتشاف النار وطهي الطعام وهو تطور بشري أدَّى -كما يقول- إلى صغر حجم الفك, وكذلك ظهور اللغة وضرورة التعبير بأصوات متنوعة على شكل معين على لغة معينة أدى إلى تطور الحبال الصوتية وتطور المخ أيضاً.
      إلى أن يقول: فالإنسان الصانع قد ساعد على تطور نفسه حتى انتهى إلى ما نطلق عليه الإنسان العاقل.
      وهكذا نجد أن مثل هذا الكلام -مع الأسف- كثير ورائج ومنتشر، الكلام بهذا الشكل لا يقول به إلا أشدُّ الدّاروينيين تعصباً في القرن التاسع عشر, أول ما اكتشفت النظرية, أو عندما بدأت الهواجس تدور حولها، أما الآن فهو أقرب إلى الخرافة والهراء عند علماء الأحياء والطبيعة والتاريخ عموماً.
    3. الرد على نظرية التطور

      بغض النظر عن الرد التفصيلي لنظرية داروين نأتي فقط على لمحات تبين بطلانها، وإلا فقد كفانا العلم مئونة ذلك, والرد عليها بالمنهج العلمي يحتاج إلى لقاءات طويلة جداً، أما بمنهج الوحي ومنهج القرآن, وما قررته معظم الأديان في الجملة على خلاف التفاصيل؛ فهو خلاف ذلك تماماً، وهي أيضاً خلاف الفطرة البشرية التي فطر الله تبارك وتعالى الناس عليها.
      أولاً: الداروينية بكل أحوالها لم ترقَ إلى أن تتحول إلى نظرية متكاملة سليمة؛ فهي نظرية مجازاً أو بالأصح هي فرضية، والذين جاءوا بعدها من المتعصبين لها بشدة أحدثوا ما سُمي الداروينية الجديدة، وعدَّلوا فيها كثيراً ولم ترتقِ بعد التعديلات إلى أن تكون نظرية.
      الأمر الآخر: أن هناك بيئة وأفكاراً محلية أو مشاكل محلية في البيئة التي ظهرت فيها الداروينية أدت إلى أن تكون هذه المعركة الضخمة الهائلة التي يقال ربما عنها حقيقة: أنها أكبر معركة فكرية في تاريخ البشرية؛ وهي المعركة بين المؤيدين للخلق وبين القائلين بالتطور، هذه المشكلات الخاصة تختص بالدين النصراني أو الكنسي المحرف بالدرجة الأولى؛ لأن الأديان الأخرى التي لا تؤمن بعقيدة الخطيئة الأصلية تؤمن بآدم عليه السلام على أنه أول البشر، ولا يكاد يترتب على ذلك أمر عقدي، أما الدين الكنسي بعد أن حرف وبدل على يد بولس في القرن الأول الميلادي، فإنه يعتمد اعتماداً أساسياً على الخطيئة الأصلية، والخطيئة الأصلية هذه الموروثة الذي فعلها آدم، وإذا كان آدم قد ارتكب وفعل الخطيئة -كما يعتقدون- فإن أي شيء يمس وجود آدم أو يشكك في وجوده كما ذكر في التوراة ؛ فإن ذلك يعني بطلان أو انهيار العقيدة النصرانية جملة وتفصيلاً؛ وهذا الذي حصل فعلاً في التاريخ.
      فكثير من الناس حتى أن بعض المسلمين مثل الشيخ: نديم الجسر رحمه الله, ومن كان في عصره، لم يأخذوا الأمر أكثر من كونه نظرية قابلة لأن تتعايش ولو جانباً بشيء ما مع الوحي، إذا افترضنا أن الخالق سبحانه وتعالى هو الذي جعل الإنسان يرتقي أو يتطور في مراحل من التطور! لا إشكال في ذلك؛ لكن بالنسبة للعقيدة النصرانية الأمر -كما قلنا- يرتبط بأصل الاعتقاد الذي لا يمكن أن يكون النصراني نصرانياً إلا بالإيمان به، وهو الخطيئة الأصلية الموروثة التي ارتكبها في نظرهم آدم.
      ولذلك كثير من العلماء بعد أن تحرروا من قبضة الكنيسة, وبعد أن وجدوا أنفسهم يتجرءون عليها في عقائد كثيرة جداً، وكأن داروين ألهمهم السلاح الذي به يقضون عليها قضاء مبرماً؛ نجد أن التعصب وصل بهم إلى القول: أننا لا يمكن أن نفرط في نظرية التطور بل نؤمن بها. فقال بعضهم: لأنه لا بديل عنها إلا الخلق المباشر وهذا غير معقول.
      فقد استبعدوا استبعاداً مباشراً في فكرهم أن يؤمنوا بنظرية الخلق المباشر, وأن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان؛ ولذلك يتشبثون بها حتى لو ضعفت, وحتى وإن هزلت, وحتى وإن ظهر زيفها لسبب نفسي ذاتي، وليس لقضية علمية أو دليل عقلي. ومن هنا ليكونت دي نوي -وهو مفكر عالمي تلميذ ألكسيس كاريل صاحب الإنسان ذلك المجهول- يقول: إن الاضطهاد والطغيان والاستبداد لم ينتهِ ولكنه انتقل إلى الطرف الآخر, يعني: انتقل من اضطهاد الكنيسة للعلماء إلى اضطهاد العلماء لرجال الدين أو الفكر الديني، فهو اضطهاد وتعصب فقط انتقل من طرف إلى طرف، وكما قال بعضهم: إن العلم أصبح بقرة مقدسة، كما أن الإنسان الهندي قد يكون عالم ذرة, أو قد يكون عالم فلك, أو قد يكون مهندس كمبيوتر, أو قد يكون ذا عقل في أي مجال، ولكنه مع ذلك يقدس البقرة ولا يفرط فيها -الهندي الملتزم بدينه طبعاً.
      فنجده يقول: هكذا الأمر الآن تقديس هذه النظريات أشبه بتقديس البقرة, ليس لصحتها ولا لضرورتها، ولكن لأن هذا أمر ألفوه وتعودوه, ولا يريدون الانتقال إلى البديل الآخر.
    4. الحلقة المفقودة في النظرية الداروينية بين القرد والإنسان

      هنا نشير إلى ظواهر -ما يمكن أن نسميه- التجاذب الشديد, والعنف المضاد، المشكلة كيف تطورت إلى حد عنيف جداً بين الطرفين، فنأتي على حادثة مهمة جداً.
      يعترف داروين والداروينيون بأن حلقة مفقودة في سلسلة التطور البشري ما بين القرد والإنسان، هذه الحلقة المفقودة يقرّون بها، وهي التي جعلت الآخرين يقولون: ليس القضية قضية حلقة؛ بل القضية قضية أنه لا يوجد أصلاً سلسلة؛ لكن لما بقيت هذه الحلقة مفقودة كانت ثغرة أو مطعناً أو مدخلاً على الداروينيين أمام خصومهم، فماذا فعلوا؟!
      أراد اثنان من علماء الداروينية أن يحلَّا المعضلة فظهرا فجأة وقالا: إنه بالقرب من بلتداون -وهي مدينة في بريطانيا- عثرنا فيها على جمجمة تثبت أو تسد الحلقة والفجوة المفقودة، وهلل الداروينيون في جميع أنحاء العالم بهذا الاكتشاف العظيم، وجاءوا به, ووجدوا أنها تسد الثغرة؛ فلا هي بجمجمة قرد ولا هي جمجمة بشر, وبعد هذا التهليل الطويل والهالة الضخمة التي اتخذتها، راودت الشكوك بعض العلماء أنفسهم وأخذتهم الشكوك في ذلك، فبعد فترة من الزمن وتقدم التحليلات والمعامل والمختبرات، أرادوا أن يتأكدوا من هذه الجمجمة أو هذا الفك، فتبين بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه الجمجمة مزورة وملفقة -يعني: مفبركة كما يقولون- وأنها لا حقيقة لها على الإطلاق.
      وظهر بذلك أنها بالفعل مجرد عقائد وأهواء وأغراض وخصومات، وليست مبنية على العلم الدقيق المجرد، ثم أصبحت معروفة في تاريخ الجيولوجيا الطبيعية أو الداروينية أو ما أشبه ذلك بأكذوبة أو خدعة بلتداون -نسبوها إلى المدينة- وأنه لا يوجد أبداً بأي شكل من الأشكال ما يسدُّ هذه الثغرة.
      طبعاً هذا كان في أول القرن العشرين -قبل حوالي مائة سنة تقريباً أو أقل- لكن الحقيقة أن هناك ما هو أكثر من ذلك، وهذا من حكمة الله -التي سوف نشاهدها نحن في هذه اللقاءات إن شاء الله تبارك وتعالى- أن الزمن يزيد الحق ظهوراً ونصاعة, والزمن يزيد الباطل انكشافاً وزيفاً، سبحان الله! وهذه من حكمة الله تبارك وتعالى ومن رحمته في هذا الكون.
    5. أمور أدت إلى انهيار نظرية التطور

      هناك أمران -لأننا حقيقة مضطرون أن نضغط الموضوع وليس هذا مجالنا- أديا إلى انهيار النظرية الداروينية:
      الأول: يتعلق بالشكل. والثاني: يتعلق بالأعماق ثم بعد ذلك عوامل أخرى.
      المتعلق بالشكل أنهم اكتشفوا أو تأكد لديهم أن هناك أجيالاً بشرية تمثل شكلاً لا يمكن أبداً أن يكون ناشئاً أو متطوراً عن القردة ولا عن غيرها، وهم: العمالقة!
      مع الزمن بين حين وآخر، إما من خلال القبور العملاقة -هي قبور عظيمة جداً- وإما من خلال الثلوج يُكتشف بشر عمالقة كما جاء في الكتب القديمة أو ربما أكبر من ذلك، وهذه الحقيقة سنقرّرها إن شاء الله من خلال الأدلة النقلية، ونتحدث عنها إن شاء الله من خلال قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله خلق آدم على صورته طوله ستون ذراعاً واستمر الخلق ينقص..) كما جاء في الحديث.
      فالقضية ليست في الشكل الذي ربما يقال ما بين الإنسان في بعض المناطق وشكل القردة، هناك عمالقة من البشر لا يشبهم على الإطلاق أي حيوان, ولم يوجد أي عملاق من الحيوان يشبه هؤلاء العمالقة على الإطلاق.
      هذا في الشكل والمظهر فقط؛ لكن ما هو أعمق وأهمّ من ذلك ما يتعلق بالمورّثات أو الجينات الناقلات للوراثة، لم يكن داروين ولا الجيل الذي بعده قد اكتشفوا أو عرفوا هذه الناقلات وهذه الجينات، ولا هذا العلم، هو علم حديث جديد آخر ما اكتشف فيه -ولا يزال تحت البحث حتى الآن- هو الرمز أو ما يسمى الشفرة أو الكود الوراثي، الذي من خلاله يريدون الآن أن يعالجوا بعض الأمراض الوراثية, وأن يتقدموا بالعلم البشري، كما أعلن ذلك الرئيس الأمريكي قبل بضع سنوات, وأن هذا -كما كتب له العلماء- يعتبر أكبر اكتشاف علمي تحقق في القرن العشرين، وربما يستمر كذلك في القرن الحادي والعشرين.
      المقصود أن هذا علم عظيم جداً متعلق بالوراثة وعلم الهندسة الوراثية لم يعرف من قبل، ولم يكن لدى داروين وأتباعه أي تصور عنه.
      هناك أيضاً قضايا أخرى تطورت بعد داروين وهي علوم اللغة وعلوم الدلالة، من المتفق عليه أن الحضارة واللغة مترابطتان، وهذا أمر مهم جداً سنرى أثره عندما -إن شاء الله- نتكلم عن الوحي المحفوظ، وكيف ربط بين هاتين القضيتين: (( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ))[البقرة:31].
      المقصود أن اللغة مرتبطة بالحضارة، والحضارة مرتبطة باللغة، فإذا وجدنا إنساناً ينطق -فضلاً عن أنه يكتب- فمعنى ذلك: أنه بالفعل هناك حضارة.
      الواقع البشري أن اللغة والكتابة تكاد تكون ميزة بشرية فريدة بالإجماع -نقول: تكاد لأنه لا يزال من يخالف في هذا- المدرسة القوية الصوت في العالم التي من أقطابها نعوم تشومسكي تقول بهذا؛ أن اللغة سمة بشرية فريدة لا نظير لها على الإطلاق في عالم الحيوان بأي شكل من الأشكال؛ لأن اللغة تقوم على ركنين: -باختصار أيضاً لا نطيل في هذا- الركن الأول: المخالطة؛ فلو طفلاً وضع في غرفة وأغلق عليه سنين طويلة فإنه لا ينطق، بالمخالطة يكتسب الإنسان اللغة، لكن هناك ما هو أهم من المخالطة وهو قابلية النطق, الإمكانية، التفكير الكامل في الإنسان الذي يجعله ينطق ويتكلم ويفهم.
      نوضح هذا بمثال: أحد علماء اللغة قيل له: إن اللغة اليابانية صعبة فأراد أن يتعلم اللغة اليابانية ويقارنها ببعض اللغات، فذهب إلى اليابان واصطحب معه أسرته، واستمر يبحث عدة سنوات في اللغة اليابانية، يقول: عجزت عن استيعاب قواعدها أو عن فهمها كما يفهما أي ياباني! لكن المفاجأة كانت من طفله؛ كان عمره أربع سنوات؛ فإذا بذلك الطفل ينطلق ويتكلم مع الأطفال اليابانيين وكأنه ياباني! وإذا في ذاكرة الطفل التي لا يدري عنها شيئاً ولا حتى يدري عنها أبوه نظام وقواعد للغة اليابانية المعقدة الصعبة.
      وبذلك كان هذا العالم ممن انضموا إلى نعوم تشومسكي وقالوا له: إن هذا بالفعل يؤكد أن اللغة سمة بشرية متفردة, والبحوث اللغوية تؤيد ذلك، فلا وجود لمشابهة أو مشاركة بين الإنسان وبين أي حيوان آخر في هذا الشأن.
      ولذلك نجد أن تشومسكي كم مرة يتحداهم ويقول: خذوا أي قرد أو خذوا أي ببغاء وعلموه عقوداً أو قروناً كما تشاءون، ثم ائتوني بها وقد تكون لديها شيء من التفكير أو شيء من المقدرة اللغوية, أما أن تردد بعض الحروف أو بعض الكلمات ترديداً فهذا لا يدل على اللغة على الإطلاق.
      طبعاً الطرف الآخر اشتط في العداوة وقالوا: لأن نعوم تشومسكي يهودي -طبعاً هو كذلك- ولأنه يؤمن بـ التوراة ويؤمن بكلام أرسطو وما أشبه ذلك من التهم؛ فأصبح كأنها داروينية ومعركة داروينية جديدة؛ لكنها حول النطق وعدم النطق، مع أنه ليس بالضرورة أن الذين يرون أن اللغة ليست سمة بشرية أنهم يؤمنون بنظرية داروين على أية حال؛ لكن نحن نأتي بها في سياق أن علوم اللغة أثبتت هذه الميزة العظيمة؛ التي ميز الله تبارك وتعالى بها الإنسان منذ أول ما خلقه (( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ))[البقرة:31].
      تأتي قضية أيضاً الكتابة؛ أهمية الكتابة وكون الكتابة مبنية على اللغة وكون الإنسان يكتب، يمكن أيضاً أن نعيد نفس الكلام فنقول: ائتونا بأي حيوان في التاريخ كتب شيئاً أو رسم لوحة فنية ولو كانت بدائية, أو عمل أي عمل يدل على أن بإمكانه أن يكتب! فأيضاً هذا يؤكد من جديد أن الإنسان إن كان أمياً ينطق، وإذا كان يكتب فهو أعقد بكثير وأبعد بكثير جداً من أن يكون ذلك شيئاً مشتركاً بينه وبين أي حيوان من الحيوانات التي خلقها الله تبارك وتعالى.
      فيتميز الإنسان مع ذلك أيضاً بالكتابة, سبحان الله تعالى: (( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ))[العلق:4-5], ولولا ذلك لما نُقلت الحضارات, ولما نقل العلم، ولما كانت هذه الطريقة العظيمة من التواصل البشري التي هيأ الله تبارك وتعالى بها للناس نعماً لا يحصيها إلا الله، ولا يثني عليه تبارك وتعالى بها إلا الأخيار الصالحون الذين يقدرون نِعم الله عز وجل، ويؤمنون بأنه فعلاً رحيم بهذا الإنسان, وأنه خلقه بهذا الشكل وبهذه الصفات والخصائص المميزة؛ لأمر عظيم وحكمة جليلة؛ وهي أن يعبد الله وحده لا شريك له.
      هناك أيضاً أمور كثيرة -لا نطيل فيها- لكن تدل على أن الإنسان متميز تماماً، منها: الأسرة والحالة الأسرية، وفرق هائل جداً ما بين الإنسان وما بين غيره في هذا الأمر.
      هناك أيضاً وضع الدين وهو أعظم وأسمى، نجد الشعور بالمعبود والتقرب إليه، والتأله، والتضرع، هذه من الخصائص البشرية المميزة جداً التي لا نكاد نجدها عند العالم الحيواني.
      هناك أيضاً تكوين المجتمع وتكوين الدولة، فنحن نجد أن الحيوانات التي تعيش في قطعان هي في قطعان كما كانت وكما عرفت منذ أقدم العصور، بينما الإنسان يطور بشكل دائم البيئة التي يعيش فيها، يطور علاقته الاجتماعية وعلاقاته الأسرية، ويغير في معتقداته ومعبوداته إما بالاهتداء والاقتداء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وإما بالانحراف إذا أضلته الشياطين.
      الفن كما أشرنا هو أحد معالم ما يميز الإنسان عن الحيوان في هذا الجانب، وكذلك التطلع الدائم للأمام, والتطلع للتقدم وللتفوق، ومحاولة تطوير ذاته، بمعنى: أنه مهما قيل عن القردة بأنها ذكية، أو مهما كانت الثعالب؛ فإننا نجد أن طريقتها في الحياة وتسلقها للأشجار أو حفرها للجحور لم تتغير! أو سباحتها في المياه لم تتغير!
      أما الإنسان فهو أينما وجد حريص على التطوير وعلى التغير؛ يشتاق إليه ويتطلع إليه، فلا نتصور أن مجموعة من القردة تجتمع وتبني قارباً يقوده أحدهم وهو يجدف به على النهر! منذ قديم العصور وهي تقفز فوق الأشجار ولم تبن مدينة أو ترصف طريقاً وتعبده لمجيئها وهكذا.
      أما الإنسان فإنه لديه هذه القابلية، ولديه هذه الإمكانية؛ سواء فعلها بالفعل أو أنها موجودة لديه بالقوة، فهو على أية حال هي كامنة فيه، وهي موجودة فيه منذ أقدم العصور، ولا يستطيع أحد أن يقول: أنه نشأ على غير ذلك, ثم -كما قرأنا في كلام غلّاب وغيره- أن البيئة أثرت فيه، وهو أثر في البيئة، بمعنى: أن الطعام جعل المخ يكبر أو جعل الفك يغلظ أو ما أشبه ذلك، كله كلام ليس عليه أي دليل على الإطلاق, وإنما الواضح هو التميز والتفرد الذي ميز الله تبارك وتعالى به الإنسان.
      من هنا نستطيع القول: إن الحضارة البشرية نشأت مع نشأة الإنسان، ولكنها تختلف في أدواتها وفي مراحلها، وتختلف في مقدرة الإنسان على تطويع بعض الأمور أو عدمه بما وهبه الله تبارك وتعالى، وتختلف أنها قدر ترتفع في الرقي المادي وقد تنزل، فقد ترتفع فيما هو أهم من ذلك وهو الدين والتوحيد وترتقي فعلاً، وقد تهبط إلى مستوى الضلال والشرك والخرافة والأسطورة، كل ذلك موجود إلا أن الحضارة واللغة وخصائص البشر الأخرى -الأسرة والمجتمع والمشاعر الإنسانية- كل ذلك موجود مع خلق الإنسان عندما خلقه الله تبارك وتعالى.
      هذا ما يتعلق بالفقرة الأولى, وبعد ذلك ننتقل إلى الفقرة الثانية؛ وهي الإيمان أو النظرة والتصور كما جاء في الوحي المبدل والمحرف.
  2. نشأة الحضارة وتطور الإنسان في منهج الوحي المحرف

     المرفق    
    إذا انتقلنا إلى المنهج الثاني فإننا نجد أن المشكلة قائمة ولكن بشكل آخر، فإذا كان التطوّريون يرون أن الإنسان ولد غبياً أو همجياً ساذجاً بحكم الطبيعة -كما يقولون- والمدة الطويلة التي بقي خلالها يتطور شيئاً فشيئاً حتى وصل إلى وضعه الحضاري الحالي. ‏
    1. إخبار الكتب المحرفة بتجهيل الله للإنسان

      فإننا نجد مع الأسف الشديد التوراة المحرفة, والدين النصراني المحرف؛ يأتي بالقضية وكأن الله تبارك وتعالى تعمد تجهيل الإنسان, وهذا أدى إلى نفرة شديدة بين العلم وبين الدين في معظم -بل وفي كل تقريباً- عصور التاريخ الأوروبي.
      نقرأ الآن مباشرة من سفر التكوين في الكتاب المقدس؛ فنجد أن في الإصحاح المتعلق بجنة عدن -هو حسب الطبعات وهي تختلف تقريباً؛ لكنها لا تكاد تختلف شيئاً ذو بال- يقول: أخذ الرب الإله آدم وأسكنه في جنة عدن ليَفْلَحها ويحرسها -بغض النظر عن أن الجنة تحرث- وأوصى الرب الإله آدم قال: من جميع شجرة الجنة تأكل، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها؛ فيوم تأكل منها موتاً تموت.
      ذكر كيف وقعت الخطيئة، يقول في الذي بعده: إن الحية -ويقصدون بها الشيطان ولا يقولون: الشيطان- كانت أحيا الحيوانات البرية؛ فقالت للمرأة: - حواء-: أحقاً قال الله: لا تأكلا من جميع شجر الجنة. فقالت المرأة للحية: من ثمر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله: لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا.
      فقالت الحية للمرأة: لن تموتا -كذبت قول الله وردت الكلام- ولكن الله يعرف أنكما يوم تأكلان من ثمر تلك الشجرة تنفتح أعينكما وتصيران مثل الله تعرفان الخير والشر -تعالى الله عن ذلك- يقول مؤلف التكوين: فرأت المرأة أن الشجرة طيبة للمأكل وشهية للعين, وأنها باعثة للفهم -يعني: أكلت منها لأنها مغرية من حيث المأكل ومن حيث المنظر ومن حيث أنها تبعث على الفهم والذكاء! وهذا موجود في هذه الطبعة كما هو موجود أيضاً في الطبعة الإنجليزية طبعة الملك جورج والطبعات المتوالية التي نقلت منها.
      المقصود أنه عندما أكلا منها: انفتحت أعينهما فعرفا أنهما عريانان, فخاطا من ورق التين, وصنعا لهما مآزر. وبعد ذلك تأتي القصة الغريبة ويقول: أن الله تعالى قال: لمَ تختبئ مني يا آدم؟ فيقول: لأني عريان. يقول: من عرفك أنك عريان؟! أكلت من شجرة الخير والشر فعرفت أنك عريان؟ وتبدأ قصة السقوط في الخطيئة.
      إذاً هناك تعمد لأن يكون الإنسان جاهلاً لا يعرف الخير من الشر, إذا أخذنا بحرفية ما في التوراة ؛ وبذلك تكون العقلية اليهودية و النصرانية استنبطت في أعماقها أن الله تبارك وتعالى يريد تجهيل الإنسان, ولا يريد تعليمه الأسماء كلها -كما جاء في القرآن- ولا يريد أن يعرّفه؛ بل يريد أن يجعله لا يعرف الخير من الشر, وحذره أن يأكل من الشجرة, والإنسان بطاعته للشيطان وبأكله من الشجرة أصبح يعرف الخير من الشر.
      هم لم يقولوا هذا في أول الأمر، هم قالوا: الإنسان لما أكل من الشجرة المحرمة وقع في الخطيئة؛ فلذلك -كما يزعمون- احتاج أن يأتي المسيح عليه السلام فيُصلب ليكفر عن الخطيئة! -العقيدة الباطلة التي سوف نبين بطلانها إن شاء الله تبارك وتعالى بالتفصيل- بعد قرون طويلة نظروا إلى منطوق اللفظ، وهو: أن الإنسان عندما عرف الخير وعرف الشر إنما عرفه عن طريق التمرد على الله وطاعة الشيطان!
    2. تطابق الوحي المحرف مع نظرية سرقة النار من الآلهة

      يتطابق هذا مع نظرية يونانية معروفة أثرت في الفكر الغربي تأثيراً كبيراً، والتي مع ما ورد في التوراة جعلت العلم والدين ينفصلان انفصالاً كثيراً ترتب على ذلك آثار سيئة، وهي نظرية بروميثوس الذي سرق النار من الآلهة، وأن الرب -كما تصوره الأساطير اليونانية- تعمّد تجهيل الإنسان، ولم يرد أن الإنسان يأخذ النار؛ لأنه لو عرف النار فسوف يرتقي ويتحضر ويتغلب عليه، لكن استطاع بروميثوس أن يسرق النار وبعد ذلك عوقب بعقوبة شديدة؛ عاقبته بها الآلهة أو الأرباب كما يزعمون.
      من التكوين النفسي الديني, وكذلك التكوين النفسي الأسطوري نشأ لدى الإنسان الغربي, ولدى الحضارة الغربية الشعور بأن أي تقدم وأي اختراع فهو قهر للطبيعية, قهر للرب، وكأنه يغتصب اغتصاباً, وليس منة من الله تبارك وتعالى وعطاء ورحمة وتعليماً كما جاء في القرآن.
      أيها الإخوة والأخوات! نتوقف هنا بعد أن رأينا كيف يلتقي المنهج العلماني اللاديني مع المنهج المحرف أو الدين المحرف؛ في هذه النظرة القاتمة والمعتمة لنشأة الحضارة, ولتطوّر الإنسان، على أمل أننا بإذن الله تبارك وتعالى نبين النظرة الإسلامية وفق التصور الإسلامي الصحيح؛ الذي لا يمكن للعقل أن يرده بأي شكل من الأشكال.
      نسأل الله أن يوفقا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح والهدى القويم.
      وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.