المادة كاملة    
في هذا اللقاء يستكمل الشيخ حديثه حول وجود الكون ثم الوجود البشري من خلال القرآن الكريم ومنهج الوحي المحفوظ، الذي جاء فيه ما يسد الفجوات ويغني عن التضارب والمعركة بين الدين والعلم.
أكد في حديثه على الأِحْكَام والتفصيل في القرآن الكريم وأهمية التدبر، فهو بيان وشفاء ورحمة وهدى وموعظة وذكرى. كما يبين ما جاء في القران المعلم والحد الفاصل بين العهدين الذي جاء في القرآن الكريم.
ثم عرض تسلسلا بدءا من خلق السموات والأرض وآدم عليه السلام، ثم عشرة قرون على التوحيد يعقبها قرون الانحراف، ثم إرسال نوح عليه السلام، ثم قوم عاد وثمود وبعدهما فجوة تاريخية يمكن أن نسدها بقوم تبع وذي القرنين والتاريخ اليماني، بعد هذه الفجوة أصحاب الرس، ثم إبراهيم عليه السلام وقوم لوط، ثم أصحاب مدين، حتى تجبر فرعون وبعثة موسى عليه السلام، وبعد ذلك نرى آمادا وأحقابا قريبة من المعلم الجيولوجي "عصر الجليد".
بعد ذلك نبه إلى مسألة أن عمر الكون سبعة آلاف سنة لا أصل لها في الإسلام مطلقا، وختم باستنباط الأمام البقاعي في حساب عمر الدنيا وكيف أنه لم يؤد إلى أي إشكال في الدين أو تناقض مع القرآن والسنة، ويستكمل في اللقاء القادم أقوال ونماذج لعلماء الإسلام في ذلك.
العناصر :
1.مقدمة.
2.القرآن العجب ومعالجته نشأة الكون ووجود الخليقة الإنسانية.
3.في القرآن الكريم معلم فاصل بين عهدين.
4.بداية الكون ونشأة الخليقة.
-آدم عليه السلام.
-عشرة قرون على التوحيد
-قرون الانحراف
-إرسال نوح عليه السلام
-قوم عاد وثمود
-فجوة وكيف نسدها؟! (التاريخ اليماني، قوم تبع، ذو القرنين)
-أصحاب الرس
-إبراهيم عليه السلام وقوم لوط
-مدْين
-فرعون
-المعلم الجيولوجي
5.الخاتمة.
 
  1. تاريخ الأمم في القرآن الكريم

     المرفق    
    إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد:
    أيها الإخوة والأخوات! فقد تحدثنا في اللقاء السابق عن التطلع الدائم للبشرية لمعرفة الغيب، والبحث الدائم عن الحقيقة، والشوق الدائم إلى معرفة هذا المجهول, وإلى معالجة القضايا الخفية، وأن هذا نهم لا يشبع، وأخذنا مثالاً ونموذجاً على ذلك؛ وهي القضية الكبرى التي دائماً تفكير البشر فيها: وهي قضية نشأة هذا الكون, ونشأة هذه الخليقة الإنسانية, ثم نشأة هذه الحضارة.
    واستعرضنا مشكلة عويصة جداً في هذه القضية, وفي هذا الموضوع, وهي مشكلة النقد التاريخي للكتب المقدسة, الذي ظهر في أوروبا , والذي أثر في الفكر الغربي تأثيراً كبيراً وخطيراً جداً، ولا تزال آثاره الآن على المناهج الدراسية والمقررات العلمية, وفي كل مجالات البحث والعلم في العالم كله, وليس فقط في أوروبا أو في الغرب.
    وكان آخر ما وقفنا عليه في هذه القضية هي قضية سعة الأبعاد التاريخية التي لدى الغربيين، وكيف أنها ضئيلة وصغيرة في ذلك الوقت عندهم في أيام عصر النهضة ثم التنوير -يعني: في القرن الثامن عشر الأوروبي الميلادي- وكيف أنها بالمقارنة مع التصور العربي للتاريخ نجد أن الفرق كبير، وأن العرب أقرب إلى الدقة من حيث عمق البعد التاريخي في نظرتهم إلى الأجيال أو القرون الماضية.
    ونحن إن شاء الله الآن نستكمل الحديث من خلال القرآن الكريم.. وكيف عالج القرآن الكريم هذه القضية؟!
    1. شمول القرآن لقصص أخبار الأمم السابقة

      هذا القرآن الكريم هو حق كما قالت عنه الجن: (( إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ))[الجن:1], فهو كلام عجب، ولا يمكن لأحد أن يصف القرآن بأعظم مما جاء في وصف القرآن في القرآن: (( كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ))[هود:1]؛ فهذا الإحكام وهذا التفصيل في الأحكام, وفي أخبار الأولين والآخرين, وفي تقرير العقائد, وفي كل مشكلة يحتاج إليها البشر، وفي كل إشكال؛ شفاء لما في الصدور من الشكوك والوساوس، فهو بيان وهو شفاء وهو حكمة وهو رحمة وهو هدى وهو موعظة وهو ذكرى.. إلى غير ذلك مما هو حديث شيق عظيم؛ ولكنه ليس هو موضوع مقامي هذا؛ وهو هذه المنزلة العظيمة للقرآن في هذا الشأن.
      فالله تبارك وتعالى قال في هذا الخصوص: (( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ))[النمل:76], (أكثر) يعني: أكثر القضايا العامة المهمة وأكثر المشاكل الحقيقية التي إذا حُلَّت انكشفت المشكلات, وذهبت الشبهات وانجلت، فإما أن يؤمنوا بالحق وإما ألا يؤمنوا عن جحود وليس عن ضعف في الحجة، وهذا يَصدق على كل من يسمع القرآن؛ إن كان مؤمناً به وإن كان غير مؤمن لا يملك إلا أن يوقن بأنه عجب, وأن فيه التفصيل، وأن فيه البيان، وأن فيه الحكمة؛ لكن قصرت أفهام الناس عن الاستنباط مع أنه ميسَّر! (( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ))[القمر:17], فهو ميسر في الحقيقة؛ لكن ضعف اللغة وعدم الالتفات أحياناً إليه! -مع الأسف الشديد- حتى في الدراسات التاريخية والحضارية, والدراسات التي تتعلق بهذا الموضوع -موضوع نشأة الكون, ونشأة الحضارة, ونشأة الإنسان, وأحوال الأمم الماضية- والتي تشمل كليات وتخصصات الجامعات؛ حتى في الجامعات الإسلامية، ومع ذلك نجد الرجوع إلى القرآن إما قليل أو نادر, وأحياناً لا يكاد يُلتفت إليه! وهذا من العجب, ومن الإغفال, فالمشكلة هي أن الناس لم تأت إلى هذا المنهل العذب الصافي الذي فيه الشفاء وفيه البيان, وليست من أي شيء آخر.
      مَن وفقه الله تبارك وتعالى وفقهه في الدين كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين), إذا تفقه من تفقه في الدين ومن تدبر القرآن ولم يكن على قلبه قفل فإنه يجد من العجائب ما يتلذذ به، وما يرتاح إليه, وما يشفي كل هذه التساؤلات التي ترد على الذهن، وعلى الإنسان في أي مرحلة من المراحل, وفي أي مشكلة وأي قضية؛ كما قال حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: [ما من شبهة إلا وجوابها في كتاب الله علمها من علمها وجهلها من جهلها].
      فلنأت إذاً على قضية الوجود الإنساني, أو وجود الكون, ثم الوجود البشري، ثم كيف جاء في القرآن ما يسد هذه الفجوات والثغرات ويُغني عن هذا التضارب وهذا الفصام النكد، والمعركة بين الدين -كما يقولون- وبين العلم وبين الأسطورة أيضاً من ناحية أخرى.
    2. إخبار القرآن بوقت نزول التوراة الذي كان فاصلاً بين عهدين

      العرب -كما قلنا في الحلقة الماضية- لديهم حد فاصل معروف؛ وهو أن هناك عرباً بائدة أو عرب عاربة، وهي بمعنى تاريخ قديم, وتاريخ حديث؛ والحديث يبدأ من العرب المستعربة أي: من ذرية إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام، فهنا حدٌ وضع.
      لما جاء القرآن جاءنا بمعلم وبفاصل جديد أوسع وأجلى وأعم من قضية ما كان متعارف عليه عند اليونان والرومان، وكذلك ما كان عند العرب في الجاهلية.
      هناك آيات -كما قلت- نحتاج أن نتدبرها قليلاً قليلاً، ولا نهمل أي معنى أو أي جزئية تتعلق بهذا الموضوع، وسوف نكتشف من مجموع آيات في كتاب الله تبارك وتعالى عجائب وحقائق كثيرة جداً.
      مثلاً: في سورة القصص بعد أن بيَّن الله تبارك وتعالى التفصيل المحكم والبيان في قصة موسى وفرعون ذكر الله سبحانه وتعالى معلماً تاريخياً قلَّ من ينتبه له؛ ولكن تنبه له الصحابة رضي الله تعالى عنهم؛ وهو قول الله تبارك وتعالى: (( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى ))[القصص:43], فنلاحظ ملحظاً هنا؛ وهو أن هناك كتاباً -الذي هو التوراة- نزل، وأن ما قبله سماهم الله تبارك وتعالى القرون الأولى.
      ونجد في سورة طه أن فرعون يقول لموسى عليه السلام: (( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ))[طه:51-52], ونجد أنه في عدة مواضع يأتي مثل ذلك, كما في قوله: (( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ))[آل عمران:11], (( وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ ))[الحاقة:9], وهكذا.
      ففي مواضع كثيرة نجد أن إنزال التوراة على موسى عليه السلام -بعد أن أغرق الله تبارك وتعالى فرعون ونجاه, وذهب إلى الأرض المباركة وإلى جبل الطور- كان معلماً وفاصلاً بين عهدين:
      العهد الذي يمكن أن نسميه القرون الأولى.
      والعهد الذي يمكن أن نسميه القرون الأخرى أو المتأخرة.
      وفي هذا حكم ومعان وقضايا تاريخية عجيبة، فمثلاً: أن الله عز وجل لم يهلك أمة من الأمم المكذبة والكافرة بعامة؛ من بعد أن أنزل التوراة على موسى عليه السلام.
      يعني: أصبحت السنن التاريخية، والسنن التي جعلها الله في هذا الكون تعمل تلقائياً، فأصبح الجهاد فرضاً على المؤمنين, والإبلاغ والبيان فرضاً على المؤمنين مقابل الكافرين, وينصر الله تبارك وتعالى ويعز دينه في النهاية، وإن كانت الحرب بينهم دولاً: (( وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ))[آل عمران:140]؛ لكن المهم أن السنن البشرية الكونية العامة تعمل.
      ما قبل ذلك -يعني: من فرعون فما سبق- هناك إهلاك وتدمير عام للكافرين وإنجاء فقط للمؤمنين، وهذا واضح جداً في كتاب الله تبارك وتعالى, وفي التاريخ المعروف عن تاريخ الأنبياء في التوراة وفي التاريخ العام.
      إذاً: نجد أن هذا النوع من التضاد أو التنافر، يعني: عندما اكتشف الغربيون الآثار الفرعونية واكتشفوا اللغة الهيروغليفية وغيرها، أحسوا وشعروا بأنهم اكتشفوا التاريخ القديم، بينما نحن نقول: إن هذا هو آخر ما في التاريخ القديم، ومِن بعده يبدأ التاريخ الحديث والمعروف؛ والذي هو نزول التوراة!
      متى أُنزلت؟ طبعاً هناك تقديرات أنها حوالي عام ألف وثلاثمائة إلى ألف وأربعمائة, يعني: في القرن الثالث عشر وربما القرن الرابع عشر قبل الميلاد, من الألف الذي هو تاريخ داود وسليمان عليهما السلام قبل المسيح بألف سنة تقريباً؛ من هنا التاريخ الحاضر معروف معرفة شبه كلية جيدة تماما ًكما أشرنا في اللقاء الماضي.
      بمعنى آخر: نحن الآن عندما نريد أن نحل المشكلة التاريخية التي وقعت في كل نسخ التوراة ؛ العبرية أو اليونانية أو السامرية, والتي جعلت أوروبا تقع في هذه المعركة الكبيرة ولم تجد مخرجاً ولا متخلصاً إلا أن تكفر بـ التوراة وبتواريخها؛ إلا من ظل منهم متعصباً مثلما أشرنا إلى حاكم ولاية أركنسو المنافس للرئيس كلينتون مثلاً وغيره من هؤلاء.
  2. بداية الخليقة في المنظور الإسلامي

     المرفق    
    إذا أردنا أن نمضي إلى عمق هذه المشكلة, وأردنا أن نبحث عن الحل في كيف نستطيع أن نجد المخرج من هذا ونسد الفجوات؛ فإننا عند ذلك يمكننا أن نجد ذلك في القرآن, وفي هذه المعالم الواضحة. والسؤال هو: هل نبدأ بهذه ما دام لدينا معالم واضحة في الأخير؟ أم نبدأ من الأول؛ لأن لدينا معالم واضحة في بداية الكون وبداية آدم عليه السلام؟ الواقع أن عندنا علم في البداية نثق ونطمئن به, وعندنا علم في النهاية نثق ونطمئن به، والمشكلة هي الفجوة بين هؤلاء؛ فإن شئنا بدأنا من الأول وإن شئنا بدأنا من الآخر, لا إشكال. فلمَ لا نبدأ من الأول؟! ‏
    1. المراد بالأيام التي خلق الله فيها السموات والأرض

      البداية من الأول نقول: إن الله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام، وكل علماء التاريخ بل علماء التفسير المسلمين واضح لديهم أن هذه الأيام الستة هي: أحقاب وآماد ودهور لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى, وليست الأيام المعروفة لدينا؛ التي إنما جاءت بعد خلق الشمس وبعد أن خلق الكون؛ المقصود هذه الأحقاب الطويلة لعله يأتي لها لقاء خاص إن شاء الله؛ لكن نحن نتكلم الآن منذ أن خلق الله تبارك وتعالى آدم عليه السلام وهو ذروة أو هو تاج الخليقة, الذي به ختمت هذه العملية العجيبة العظمية من خلق هذا الكون العظيم الهائل.
    2. عمر آدم عليه السلام وفترة استمرار الخليقة على التوحيد بعد موته

      فآدم عليه السلام -ونحن لن نتكلم عن حياته في الجنة- كما نعلم بالحديث الصحيح الذي أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم؛ (أنه عاش على هذه الأرض أو كتب عمره ليعيش فيه هذه الأرض ألف سنة)، وألف سنة بالسنوات المعروفة لدينا طبعاً على الأرض، فإذاً الأيام هي بالأيام المعروفة لدينا, في الحديث أنه (أعطى نبي الله تبارك وتعالى داود أربعين سنة من عمره)، فعلى ظاهر الحديث أنه لم يعش الألف سنة كاملة، وإنما تسعمائة وستين عاماً عاشها آدم عليه السلام، إذاً هذه فترة معروفة.
      هناك فترة معروفة بعد هذا, وأمد بعد هذا، وهو في الأثر الصحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه (أنه كان من بعد آدم عشرة قرون على التوحيد, ثم وقع الشرك فيهم, فأرسل الله تبارك وتعالى نوحاً عليه السلام).
      إذاً: لدينا عشرة قرون على التوحيد من بعد آدم عليه السلام من ذريته، هذه القرون العشرة الله أعلم كم كانوا يعيشون؟! لكن نعرف من خلال عموم الأدلة أن أعمارهم أيضاً كانت طويلة.
      وفي الأثر الذي ذكرناه عن ابن عباسلم يقل: عشرة ملوك؛ لكن في التاريخ الأسطوري -كما رأينا في الحلقة الماضية- أن هناك عشرة ملوك أو عشرة قرون، وأنهم عُمّروا أربعمائة واثنين وثلاثين ألف سنة, ونحن لا نجزم بهذا؛ لأنه ليس لدينا شيء ثابت من الكتاب والسنة عن هذا؛ لكن هل العشرة هم العشرة أو غير ذلك؟ الله أعلم.
      إنما المهم أن هناك حقبة طويلة لا يعلم مداها إلا الله تبارك وتعالى؛ ظلت فيها البشرية على التوحيد (( كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ))[يونس:19], ما في سورة يونس (فاختلفوا) يوضح ما في سورة البقرة (( فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ))[البقرة:213], يعني: اختلفوا وقعوا في الشرك فبعث الله النبيين وأولهم نوح عليه الصلاة والسلام.
      فإذاً من هنا نعرف أنه بالإضافة إلى عمر آدم عليه السلام ليس كما في التوراة ؛ بل هناك هذه القرون وهي الأجيال الطويلة الأمد التي لا يعلم مداها إلى الله تبارك وتعالى عشرة.
    3. قرون الانحراف ما بين آدم ونوح عليهما السلام

      ثم بعد ذلك لما وقع الشرك في قوم نوح نستطيع أن نقول: جاءت إذاً قرون الانحراف, ونحن لا ندري كم هذه القرون، لكن من حقنا أن نفترض -كما حدث في كل الأمم وكل الأنبياء- أن الشرك عندما ينتشر ويعم ويطغى فإن الله سبحانه وتعالى يبعث رسولاً يردهم إلى التوحيد، ومن هنا ننفي كل الخرافات التي تقول: إن الذي علم البشرية التوحيد هو أخناتون أو غيره، هذا كله لا حقيقة له على الإطلاق, وسوف نبين ذلك حتى من الديانة الفرعونية نفسها -إن شاء الله تبارك وتعالى في حلقة قادمة.
      المقصود: أن الانحراف والوقوع في الشرك كان بفترة معينة وكان بشكل معين، هذا الشكل وضحه بكل جلاء أيضاً الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وهو: (أن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً -المذكورة في سورة نوح عليه السلام- أسماء رجال صالحين، ولكن الناس الذين جاءوا من بعدهم أرادوا تعظيماً وإجلالاً لهم واقتداء بهم في عبادة الله تبارك وتعالى وفي توحيده؛ صوروهم لتكون لديهم قدوة أمامهم ماثلة، -وهذا دليل على أن التصوير والنحت قديم ومعرف في تلك العصور القديمة المتعمقة- ثم بعد ذلك وقعوا في الشرك، وجاء الشيطان إليهم حتى عبدوا هذه الصور).
      ما لدينا الآن من الآثار المنقبة أو من صور قديمة عن بقايا هذه الأمم -في حضارة ما بين النهرين بالذات- يكشف لنا حقيقة أن المصوَّرين الموجودين هم أشبه ما يكون بالمصلي الخاشع في حالة وضع يده على صدره في الصلاة، وهي الحالة الإسلامية التوحيدية التي لا يشارك المسلمين فيها أية أمة من الأمم في حالة الصلاة، مما يدل على أن هذه الصور إما قديمة أو منقولة عن تلك الصور الأولى ولا يهمنا هذا.
      المقصود: أن هذه الصور تؤكد الحقيقة العظيمة وهي: أن البشرية كانت على التوحيد, وأن هؤلاء فعلاً صوَّروهم في حالة الصلاة, وبعضهم بلحية وافرة؛ بل إنهم في بعض الأحيان في حالة تشبه حالة الإحرام أيضاً للعبادة. ومعلوم أن الأنبياء جميعاً من آدم إلى نوح إلى غيرهم كلهم حجوا البيت الحرام في مكة المشرفة، وكانت الكعبة مبنية ومعروفة إلى أن تقادم العهد وهُدمت، ثم جاء إبراهيم عليه السلام فأراه الله تبارك وتعالى مكان البيت كما قال تعالى: (( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ))[الحج:26], فبوأ له مكانه فعرفه، فأعاد بناءه على القواعد, كما قال تعالى: (( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ))[البقرة:127]؛ فالقواعد والأساسات كانت موجودة, ثم رفعها إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة السلام.
      إذاً نحن نقول: إن فترة الانحراف هذه فترة لا يعلمها إلا الله.
    4. إرسال نوح عليه السلام ومدة حياته

      بعد ذلك يأتي لدينا معلم واضح فاصل؛ وهو: إرسال نوح عليه السلام. ونحن لا نعلم كم عمِّر عليه السلام؛ لأنه ليس لدينا في القرآن ولا في السنة شيء، إلا أن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فهذا لبثه في قومه. أما عمره من قبل فلا ندري! وكذلك أيضاً بعد أن أهلك الله تعالى هؤلاء الكافرين، ومنَّ على نوح عليه السلام ومن معه بالنجاة في الفلك المشحون, وجعل ذريته هم الباقين، لا ندري كم عاش بعد ذلك، فالله أعلم. إذاً: مدة الدعوة هي هذه المدة المعروفة، وهي مدة ليست بسهلة ولا يسيرة ولا هينة.
    5. قوم عاد وثمود

      ثم بعد ذلك نجد الفرق الهائل والكبير بين القرآن وبين التوراة في هذا الشأن!
      فإذا كانت التوراة تقول: إن إبراهيم عليه السلام ولد في حياة نوح! فهذه مفارقة عجيبة بالنسبة للعرب في الجاهلية فضلاً عن صريح القرآن في الإسلام؛ فنحن نجد في القرآن غير ذلك تماماً.
      نجد أن الله سبحانه وتعالى ذكر أمماً بعد ذلك, وبتفصيل وبتأكيد؛ فمثلاً: قوم عاد جاءوا بعد قوم نوح, يقول الله تبارك وتعالى: (( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ))[الأعراف:69]؛ فبين أنه من بعد قوم نوح جاء قوم عاد, ثم بعد ذلك جاءت ثمود، قال: (( وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ ))[الأعراف:74], فهذا ترتيب قطعي صريح؛ أن الأمتين العظيمتين هاتين كانتا في المرحلة ما بين نوح وما بين إبراهيم عليه السلام، وأيضاً بعدهم أمم وقرون أخرى إلى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.
      لكن كم بقيت عاد؟ هذا أيضاً لا ندري. فعاد فيما يظهر من الدراسات الحديثة والأخبار والآثار القديمة -من مجموعها- نحن نجملها الآن, وعندما نأتي على بعض المواضع كبناء الأهرامات أو غيره قد نفصل أكثر إن شاء الله- نقول: هناك أمد بعيد, وهناك حضارة عظيمة، ودولة هائلة, وهناك منشآت ضخمة، وهناك جزء كبير من تاريخ البشرية المهم جداً؛ تحت اسم (عاد) أو (عاد الأولى) التي هي (( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ))[الفجر:7], وما يدل على ذلك ما سنعرضه إن شاء الله في بابه من عظم خِلْقة قوم عاد, وأنهم لا يزالون من القرون الأولى العظيمة الخِلقة؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما أنزل آدم عليه السلام إلى الأرض كان طوله ستين ذراعاً، كان (مثل النخلة السحوق) كما جاء في بعض الأحاديث الصحيحة.
      وعاد لا تزال على الخلقة العظيمة حتى أن شامبليون الذي فك رموز حروف: حجر رشيد يقول: إن هذه المعابد والمعالم العظيمة الهائلة في مصر إنما بناها قوم طول أحدهم مائة قدم, وطبعاً مائة قدم أكثر من ثلاثين متراً.
      فهنا نجد حضارة هائلة جداً, ونشير إلى قضية مهمة -إن شاء الله سيأتي لها تفصيل أيضاً- عندما يقال هذا عن عاد فنحن نجزم أن عاداً تسكن جزيرة العرب، كما قال تعالى: (( وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ ))[الأحقاف:21], والأحقاف كانت في جزيرة العرب قطعاً، إذاً: المكمن الحقيقي في آثار عاد ليس ما بين النهرين ولا مصر؛ مع أنه من الممكن امتدادها إلى هذه البلاد, وأن تكون أنشأت وشادت وعمرت ما لا يعلمه إلا الله, وبقيت بعض آثارهم؛ لكن المكان الحقيقي لآثار عاد ولأخبارها هو جزيرة العرب التي سوف نرى فيما بعد أنها مهد الحضارات، ولا سيما القسم الجنوبي منها.
      وقد اكتشف في السنوات الأخيرة عدة حجارة مكتوب عليها: لا إله إلا الله هود نبي الله؛ بل العجيب أن نجد أن هذا مذكور في كتب علماءنا، كما في تفسير ابن كثير، وفي تاريخ ابن عساكر، وفي الدر المنثور للإمام السيوطي؛ مذكور فيها: أنه وُجد حجارة مكتوب عليها: فلانة حُبّى وسلمى تشهدان أن لا إله إلا الله وأن هوداً رسول الله.
      فالحضارة تلك حضارة قديمة موغلة في القدم، أقدم مما يتحدثون عنه في كثير مما اكتشفوا في بلاد الرافدين أو في مصر .
      نحن لا زلنا في السياق العام ولم ندخل في التفاصيل؛ لكن نشير إشارات فقط.
      فعلى هذا إذاً هناك حقبة طويلة شملت عاداً, ثم بعد ذلك أهلك الله تبارك وتعالى الكافرين منهم وبقي المؤمنون ما شاء الله أن يبقوا، ثم جاءت السنة الثابتة والدائمة في حياة البشرية أن يقعوا في الشرك وأن ينحرفوا، فكانت الأمة التي جاءت من بعد هي أمة ثمود وهم قوم صالح عليه السلام, وهم أصحاب الناقة, وهم أيضاً في جزيرة العرب، ولا يعلم إلا الله تبارك وتعالى كم عاشت هذه الأمة قبل أن يبعث فيهم, وكم بقي فيهم, ثم جاءهم العذاب؛ فأهلكوا وانتهت بذلك أيضاً هذه الأمة من بعد قوم عاد.
    6. إخبار القرآن عن قرون تاريخية بين أصحاب الرس وثمود

      ثم من بعد ذلك تأتي أيضاً أمم أخرى، نحن إذا أردنا أن نعرف كيف نسد هذه الثغرة وهذه الفجوة في الأمم الأخرى؛ فينبغي لنا أن نجمع بين آيتين من كتاب الله تبارك وتعالى أو ثلاث, ويمكن أن نستنبطها من مجموع آيات؛ فإذا جمعنا كل قصص القرآن وما يدل عليه ووضعناها أمامنا؛ فمن مجموع هذه الآيات نستنبط فعلاً حقائق عجيبة.
      هنا في هذه المسألة نشير إلى نوع جليل عظيم من أنواع التفسير؛ وهو تفسير القرآن بالقرآن -ونشيد بالذات بما فعله شيخنا العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمة الله تبارك وتعالى عليه في كتابه الجليل: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ؛ فقد أبدع في ذلك وجمع شتات ما كان من قبل, وأعطانا منهجاً في هذا الشأن.
      إذا جمعنا الآيات المتعلقة بهذا نجد خلاصة عجيبة ومتميزة في هذا الشأن، فمثلاً: ذكر الله تبارك وتعالى في سورة إبراهيم: (( قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ))[إبراهيم:9] فذكر قروناً لا يعلمها إلا الله.
      ونجد أنه في سورة الفرقان قال: (( وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ))[الفرقان:38], فهنا فجوة موجودة في التاريخ؛ لكن بماذا نحلها؟!
      نحلها بأن نعلم أن هناك قروناً كثيرة، وهذا الكثير لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وأن هذه الفجوة موجودة بعد ثمود, وكما حقق شيخنا رحمة الله تبارك وتعالى عليه في أضواء البيان ؛ أن هذه القرون الكثيرة هي ما بين أصحاب الرس من جهة وقوم نوح وعاد وثمود من جهة.
      إذاً: في هذه الفترة قرون كثيرة لا يعلمها إلا الله، يقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه كما روى ابن جرير وغيره: [كذب النسّابون؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: (( وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ))[إبراهيم:9]].
      إذاً: كل سلسلة النسب التي نجدها في بعض الكتب -مع الأسف الشديد- تتحدث عن نسب النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء قبله إلى آدم عليه السلام كاذبة، ولم تكن مبنية على حق أبداً, وسوف نعرض إن شاء الله نماذج من ذلك, ونبين كيف أنه كذب وقول بغير علم بالفعل كما قال رضي الله تعالى عنه.
      حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنه يزيد في هذا عند موضع في سورة إبراهيم عليه السلام ويقول: [ما بعد معد بن عدنان فلا حقيقة له].
      يعني: أن اليقين في ما يعرفه العرب: هو نسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى معد بن عدنان ، أما ما بعده فلا يقين؛ بل قال: [ثلاثون قرناً بين عدنان وإسماعيل], ومعنى ذلك: أننا إذا حسبنا القرن يعادل تقريباً خمسة وعشرين سنة أو ما بين عشرين سنة إلى ثلاثين سنة, والقرون الأولى كانت أعمارها أطول وأكثر، فيمكن أن نقول: إن ألف سنة وأكثر من ذلك منطقة مجهولة لا يعلمها هؤلاء.
      إذا وضعنا هذا في اعتبارنا ووضعنا أن هناك ما بين ثمود وما بين أصحاب الرس هذه الفجوة، ثم نجد بعد ذلك أن أصحاب الرس لا نعلم حقيقتهم -فعلاً كما ذكر الشيخ الشنقيطي رحمة الله تبارك وتعالى عليه- ولم يأت في الكتاب ولا في السنة ما يبين حقيقتهم ولا تاريخهم؛ فيظل هناك مرحلة معينة كان فيها هؤلاء القوم.
    7. قوم تبع وذي القرنين

      في هذه المرحلة وعند هذه الفجوة التي لا نعلمها تماماً نأتي على ذكر نوع من التاريخ لا ينبغي إغفاله على الإطلاق، لماذا يؤخذ التاريخ الروماني أو التاريخ المصري -كالأسر الثلاثين أو غيرها- أو تاريخ سومر و بابل وآشور, ونترك هذا التاريخ؛ لأنه كما يقول بعض المؤرخين: عبارة عن منقولات وأشعار وأخبار العرب، لماذا نهمل جانب العرب؟!
      ونعني بذلك التاريخ: التاريخ اليماني الذي تحدث عنه بالذات العلامة النسابة المشهور عبيد بن شرية وكتاب التيجان وغيره التي قد نعرض لبعضها إن شاء الله.
      المقصود: أن في التاريخ اليماني سوف نجد أن هناك أُمماً يمكن أن نضعها في هذه الفجوة والله تبارك وتعالى أعلم، فالذي في القرآن -نحن نتكلم فقط عن القرآن والتفصيل فيما بعد- ذكر الله تعالى قوم تبّع، فيمكننا أن نفترض أن قوم تبع في مرحلة ما من هذه المراحل, والله تعالى أعلم.
      كذلك يمكننا أن نفترض أن ذا القرنين وما فعله وما أعطاه الله من الأسباب أن يبلغ مشرق الشمس ومغربها وما بين ذلك؛ أنه في هذه المرحلة، حتى يكون لدينا بعض ما يمكن أن يسد هذه الفجوة وهذه الثغرة التي قلنا: إنها ثغرة تاريخية موجودة ما بين القرون المعروفة أو التاريخ الحديث؛ -الذي يبتدئ من إنزال التوراة ونعرف آخر أمة من التاريخ القديم وهي قوم فرعون- وما بين آخر الأمم تلك التي نفترض أنها ثمود وأن بعدها أصحاب الرس مثلاً.
    8. قوم إبراهيم وقوم لوط عليهما السلام

      بعد ذلك تأتي أمم متتابعة, كما رأينا تتابع قوم نوح وعاد وثمود، نجد أمماً متتابعة ومتقاربة أيضاً وهم قوم إبراهيم وقوم لوط, بنص القرآن -وهذا معروف- وأنه بعد القرون التي سبقت هذه الثلاثة بكثير من الزمن كما يظهر.
      فهنا جاء تعاصر قوم إبراهيم وقوم لوط؛ لأن الضيوف الملائكة المكرمين لما مروا على إبراهيم عليه السلام (( قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ))[هود:70], وعذبهم الله تبارك وتعالى بعد ذلك, وكان إبراهيم عليه السلام حي.
    9. قوم شعيب

      وبعدهم أو قريباً منهم تأتي الأمة العظيمة الأخرى، وهم أصحاب مدين، كما يظهر أيضاً -وهذه من الأخبار الأقرب للتصديق- أن قوم مدين قريبون من إبراهيم عليه السلام، وبالطبع وبالجزم نجزم يقيناً أنهم بعد إبراهيم عليه السلام وبعد قوم لوط.
    10. قوم موسى

      ثم بعد ذلك أحقاب أو آماد لا يعلمها إلا الله، ثم تأتي قصة تجبر فرعون وطغيانه, وماذا عمل فرعون، وكيف أن الله تبارك وتعالى أعطاه وأمده وكانت فتنة له, حتى بعث الله تبارك وتعالى موسى عليه السلام، ونحن لا نسلم لما في التوراة أنه قطعي يعني: أن بينهما أربعة قرون وشيء؛ لكن يمكن أن يكون أكثر وأطول منه قليلاً.
  3. العصر الجليدي والفرق بينه وبين الطوفان

     المرفق    
    وبعد ذلك نكتشف أن لدينا في الحقيقة آماداً وأحقاباً طويلة وبعيدة تقترب تقريباً من المعلم الجيولوجي الواضح وهو: عصر الجليد. إذا قلنا: إن عصر الجليد يمتد ما بين ثمانية آلاف إلى عشرة آلاف سنة قبل الميلاد, ويمكن أن نضم هاتين السلسلتين إلى بعضها؛ فنجد أن هناك تقارباً.
    وطبعاً نحن نؤكد هنا ونقول: لا يفسر الجليد بأنه الطوفان كما يزعم ويدعي البعض، فالجليد شيء والطوفان شيء آخر في حقيقته وفي ذاته؛ لأن الله تبارك وتعالى صرح في القرآن بأن الطوفان هو ماء؛ فتح أبواب السماء بماء منهمر, وأمر الأرض أن تتفجر عيوناً وتُـخرج منها الماء، فهو ليس جليداً بصريح القرآن, وإنما هو حدثٌ حدث في تلك الدهور القديمة لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى, وقصة الطوفان هي قصة منتشرة وجدها علماء الأنتربولوجيا الثقافية؛ أن كل الشعوب في العالم من شعوب المحيط الهادي إلى أمريكا الجنوبية إلى شعوب الشرق الأوسط كل الشعوب وكل الحضارات تؤمن بالطوفان.
    وطبعاً هناك حقائق تاريخية يؤمن بها الجميع؛ منها: أن أب البشرية واحد عند جميع القبائل وعند جميع الأمم، ومنها: أن حدث طوفان عم الأرض جميعاً، حتى أن الملحدين منهم يقولون: هذه ضلالة مشتركه بين الأمم. ونحن نقول: بل هذه حقيقة مشتركة أنزلها الله تبارك وتعالى، وثابتة في أذهان الناس ويتوارثونها جيلاً بعد جيل, مهما انحرفوا عن الحق وعن اليقين وعن الكتاب والسنة.
  4. الموقف الإسلامي من تحديد عمر الدنيا بسبعة آلاف سنة

     المرفق    
    هذا يدلنا على خطأ منهجي كبير جداً -به نختم هذه الحلقة الطيبة المباركة إن شاء الله- وهو: لماذا يُنقل عن أهل الكتاب في أمور مثل هذه؛ فيأتي الملحدون أو المنافقون أو الذين يريدون أن يدسوا الشبهات علينا ويقولون: إن لديكم في كتب التفسير عمر الكون كله وعمر الدنيا سبعة آلاف سنة!
    هذا لا أصل له في الإسلام، لا في الكتاب ولا في السنة, وإنما هو منقول عن علماء أهل الكتاب من كتبهم، وهذا من جملة ما ينقل؛ ولكن نحن نقول: ما ينقل عن أهل الكتاب فهو مكان التمحيص, إذا كان ما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة هو محل تمحيص -نتأكد من سنده ونتأكد من متنه- فكيف بما ينقل عن أهل الكتاب! المقصود أن تحديد عمر الدنيا بهذه المدة أو بأشباهها خطأ, وهو معروف عند الأمة اليهودية وعند أهل الكتاب، أما عندنا في الإسلام فلم تحدد بهذا؛ بل باليقين أن هناك آماداً بعيدة طويلة جداً.
    نشير هنا إلى لفتة عجيبة قلّ ما يتنبه إليها, والعجيب أنها جاءت من عالم إسلامي نشأ في عصر مقارب جداً لعصر النهضة الأوروبي! حيث احتدمت المعارك في قضية قدم العالم وفي تاريخ الأرض، وهو أن الإمام البقاعي رحمه الله تبارك وتعالى قال: إن المدة من آدم إلى عهده تعادل مائة ألف سنة، هكذا نص، وطبعاً هو استند في ذلك بحساب حسبه من حديث للنبي صلى الله عليه وسلم, يعني: بطريقة استنباط: تحويل الزمن إلى كسور، ولعلنا نوضحها إن شاء الله في اللقاء القادم بإذن الله تبارك وتعالى، ونبين أنه لو أنا عملنا بهذا الحساب فمعنى ذلك: أن بيننا وبين آدم عليه السلام مائتي ألف سنة، يعني: على كلام البقاعي رحمه الله؛ لأنه وقع في النصف؛ ما بين الهجرة وما بين عصرنا الحاضر تقريباً، فإذاً يمكن أن تكون مائتي ألف سنة, والله تعالى أعلم.
    نحن لا نجزم لكن نقول: إن علماء المسلمين كانوا يقررون هذه الحقائق ببداهة وببساطة ويستنبطونها، ولم يدل ذلك والحمد لله على أي إشكال أو تناقض مع القرآن أو مع السنة؛ إلا ما أخذوا من أهل الكتاب فتقع فيه الأخطاء ويثبت الزمن أنه خطأ وأنه باطل، لكن ما ثبت في الكتاب والسنة لا يمكن على الإطلاق أن يكون إلا الحق والصواب، وإن شاء الله في الحلقة القادمة بإذن الله تبارك وتعالى نأتي بما ذكره علماء المسلمين في هذه القضية مما يدل على ما ذكرنا.
    نسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك لنا ولكم في أوقاتنا, وأن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى؛ إنه سميع مجيب.
    والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد.