المادة كاملة    
في هذا الدرس جملة من الأسباب التي تنال بها الشفاعة، مع ذكر أحد موانعها وهو (اللعن)، كما تضمن أيضاً بيان أقسام الناس في الشفاعة، مع ذكر القسم الأول منهم.
  1. أسباب الشفاعة

     المرفق    
    أسبابُ استحقاقِِ الشَّفَاعَةِ.
    1. تحقيق التوحيد

      يتحقق توحيد العبد لله تَعَالَى بالإخلاص له وإفراده بالعبادة، هذا هو أول الأسباب التي يتوسل بها العبد إِلَى ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أن يشفع فيه نبيه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهذا من فضل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى هذه الأمة، ومن عظيم منته عليها وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      فيختص الله من حقق التوحيد من هذه الأمة بهذه الأفضلية وبهذه الأسبقية وهم السبعون ألفاً الذين حققوا التوحيد، وهم :{الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون} وقد ورد بطرق حسنة: {إن مع كل ألف سبعون ألفاً}بل ورد أيضاً من طريق حسن {أن مع كل واحد من السبعين ألفاً سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب } فهَؤُلاءِ السبعون ألفاً هم الخلاصة، وهم أول من يدخل الجنة من هذه الأمة، وهم أفضلها، ثُمَّ يلحق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مع الواحد منهم سبعون ألفاً فضلاً وكرماً من الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ثُمَّ بعد ذلك يدخل النَّاس من هذه الأمة ومن غيرها فيشتركون في أبواب الجنة الباقية.

      ولهذا تعرف جناية أعداء التوحيد الذين يريدون أن يبطلوا هذا الاستحقاق وذلك بدعوة النَّاس إِلَى فساد العقيدة بالأقوال الباطلة التي تدعو الْمُسْلِمِينَ إِلَى التعلق بذوات المخلوقين من الأَنْبِيَاء والصالحين، والتعلق بآثارهم والتوسل بها -كما يزعمون- وترك التوسل الحقيقي الذي أعظمه ورأسه توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      فهَؤُلاءِ الذين يربطون الْمُسْلِمِينَ بالأموات الغابرين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً هم أكبر الجناة عَلَى هذه الأمة؛ لأنهم يفسدون عليهم أعظم وأرجى ما عندها، وهو تحقيق التوحيد لله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فمن حقق التوحيد نال هذه الشَّفَاعَة، ومن لم يحققه فإنه يهلك هلاكاً يحرمه من الشَّفَاعَة كما قال الله تعالى: ((إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ))[المائدة:72]، فهذا هو أول الأعمال وأعلاها وأفضلها وأرجاها، وهو الذي يجب علينا جميعاً أن نحققه قولاً وعملاً واعتقاداً، وأن ندعو إليه، وأن يكون هو أساس دعوتنا، كما كَانَ أساس دعوات الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم فلا يعبد ولا يطاع إلا الله، ولا يقدم بين يدي الله ورسوله، ولا يرتفع صوت فوق صوت رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا هو تحقيق التوحيد وتحقيق الإيمان.
    2. قراءة القرآن

      والعمل الثاني الذي ينال صاحبه به الشَّفَاعَة هو :
      قراءة القُرْآن كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {اقرءوا القُرْآن فإنه يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ شفيعاً لأصحابه}،
      ((وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً)) [الفرقان:30]، هجر وعده ووعيده فقلَّ أن تراه محققاً لمقتضى ذلك من الخوف من الله ورجاء الدار الآخرة، والرغبة عن هذه الحياة الدنيا.
      بل الواقع المشاهد هو الحرص والجشع والتنافس والتكاثر في هذه الحياة الدنيا، فهذا من أعظم ما هجر من القرآن، وكذلك هجرنا أحكامه فلم نُحل حلاله ولم نُحرم حرامه إلا من رَحِمَهُ اللَّهُ.
      فأصبحنا نرى أن الأحكام التي تحكم حياة الْمُسْلِمِينَ في الغالب هي الأحكام الوضعية، وكذلك الذي يحكم أعرافهم وآدابهم الاجتماعية هو ما نقل عن الغرب من آداب وعادات وتقاليد وليست هي أحكام القُرْآن وآدابه، وهذا من الهجر الذي فعلته الأمة، ولهذا استحقت هذه الأمة ما نزل بها من الذل والهوان.
      فكيف نتوقع لمن يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ ورَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكوه إِلَى ربه ويقول: ((وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً)) كيف ينال الشَّفَاعَة من هذه حالته؟ ولو نظرنا إِلَى حياتنا اليوم، أين نَحْنُ من هذا العمل؟ وأين من يتلو كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ أناء الليل وأناء النهار في البيوت؟! لقد استبدلت بما يسمع من قرآن الشيطان وهو هذه المعازف والمزامير واللهو واللعب في كل بيت وفي كل سيارة وفي كل وقت من أناء الليل وأناء النهار إلا ما شاء الله، أما القُرْآن فلا يتلوه ولا يقرءوه -ولا سيما في البيوت- إلا القلة الذين وفقهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لذلك.
      أما أكثر الْمُسْلِمِينَ فهم عنه غافلون وكثير من الْمُسْلِمِينَ لا يهمه أنه قرأ القُرْآن أو لم يقرأه، فحال الشيطان بينه وبين مصدر النور والهدى والحق والطمأنينة والتقوى واليقين والإيمان، ولهذا أصبحنا أمة ضائعة لا مكان لها في الدنيا بين الأمم ونخشى أن لا يكون لها عند الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ مكان أيضاً بين المرحومين وبين المشفوعين لهم، ولو قارنا بين الأشرطة الخبيثة من أفلام الفيديو وما أشبهها في البيوت أو في محلات البيع بالمصاحف من حيث الكم والعدد، ومن حيث إقبال النَّاس عَلَى هذا وعلى تلك، فسنجد الفرق واضحاً.

      والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أَحْمَد ومسلم رحمهما الله تعالى: {اقرءوا القُرْآن فإنه يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ شفيعاً لأصحابه}، ثُمَّ خص من القُرْآن تلك السورتين العظيمتين البقرة وآل عمران، ثُمَّ خص سورة البقرة بالذات وهي مشتملة عَلَى آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله وأواخرها أيضاً من أعظم ما نزل في كتاب الله عز وجل.

      وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفاضل بين الصحابة بالقرآن، وكان معيار المفاضلة بين النَّاس هو القُرْآن فأكثر النَّاس حفظاً للقرآن هو أجدر بأن يولى قيادة الجيش، وهو أجدر بأن يقدم حتى عند الدفن، هذه هي الأمة القرآنية حقاً، ولهذا فضلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى العالمين وأثنى عليها في الذكر المبين ونصرها وأورثها الدنيا شرقاً وغرباً لما كَانَ معيار التفاضل فيها هو القُرْآن وكان مرجعها في كل أمرها هو القُرْآن مع السنة التي هي شارحة ومبينة ومفسرة.
    3. الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

      الصلاة عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يَوْمَ القِيَامَةِ} فما أيسر وما أسهل هذا العمل وما أعظم بركته وثمرته عند الله.
      الإِنسَان يسمع النداء، الذي يهز الأعماق، ويهز الأسماع ويدقها، في كل يوم خمس مرات الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن لا إله إلا الله هذه الشهادة العظيمة الركن الأول من أركان الإسلام.
      أشهد أن محمداً رَسُول الله، أشهد أن محمداً رَسُول الله، ثُمَّ الدعوة إِلَى الصلاة وإلى الفلاح، ثُمَّ إعادة تكبير الله عَزَّ وَجَلَّ وتعظيمه فوق كل عظيم، والشهادة له أيضاً بالوحدانية لا إله إلا الله، يقول العبد المسلم مثل ما يقول المؤذن، وإنما استثنى أن نقول إذا قَالَ: حي عَلَى الصلاة حي عَلَى الفلاح: "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
      ثُمَّ بعد ذلك نصلي عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونسأل الله له الوسيلة والدرجة العظيمة التي ليست إلا لرجل واحد هو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن قال ذلك حلت له شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليس في هذا العمل مشقة ولا صعوبة؛ ولكن الشيطان يحرص عَلَى أن يشغلنا عن هذا الذكر العظيم، ليحرمنا من الشَّفَاعَة.

      وكم يحرص قطاع الطريق إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من دعاة الشرك والضلال عَلَى حرماننا منه قيقولون: إن كنتم تريدون شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومحبته فهاكم هذه الصلوات، وكم من الأيام تقرأ أنواعاً وألواناً من الصلوات البدعية التي يفتعلها أصحابها ويكتبونها من عند أنفسهم ظانين أنها تقربهم إِلَى الله، وأن هذا دليل وعلامة محبتهم لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      وهذا من تلبيس الشيطان عليهم ليصرفهم من الدعاء الوارد الذي يستحق صاحبه هذا الفضل العظيم إِلَى تلك البدع التي قال فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} فالبدعة مردودة غير مقبولة وصاحبها مأزور غير مأجور فهذا مما يوجب علينا مزيداً من الحرص عَلَى الاتباع وعدم الابتداع، وأن نعرف خطر هَؤُلاءِ قطاع الطريق إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    4. سكنى المدينة

      من الأعمال التي صحت الأحاديث في أن صاحبها ينال بها شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي :
      سكنى المدينة والموت فيها، هذا البلد العظيم مهاجر رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي انبثقت منه أنوار التوحيد والهدى، وأسست فيه دولة الإسلام الأولى.
      وما زالت المدينة المنورة ولله الحمد تشع بالنور والخير في سائر العصور، ولم ينقطع منها الخير ولن ينقطع بإذن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وهذا كما روى الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري وابن عمر وأَبِي هُرَيْرَةَ يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يصبر أحد عَلَى لأواء المدينة فيموت إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يَوْمَ القِيَامَةِ}.
      واللأواء هي: الشدة والمرض والنصب الذي قد يصيب ساكن المدينة، وقد أصيب الصحابة الكرام بها، ومنهم: أبُو بَكْرٍ وبلال وغيرهم بهذه اللأواء أول ما سكنوها، ودعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يبارك الله في المدينة وأن يبارك في مدها وصاعها وأن تنقل حماها إِلَى الجحفة، وأصيب عدد من الناس ومنهم الأعرابي الذي أتاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزوره فقال له: {طهور، فقَالَ: بل حمَّى تفور...إلى آخر ما صدع به، فَقَالَ له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فكذلك إذاً}، وهذا كَانَ مما يعيق هجرة المهاجرين إلا من كَانَ فيهم قوي الإيمان ثابت العزيمة.
    5. أن يصلى عليه جمع من المسلمين

      أن يصلي عليه جمع من الْمُسْلِمِينَ، وقد ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في صحيح مسلم عن عَائِِِشَةَ وأنس وابن عباس أنه قال: {ما من ميت يصلى عليه أمة من الْمُسْلِمِينَ يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه} هذه الرواية "مائة" وفي رواية ابن عباس وحده "أربعون".
      ولو أخذنا بالرواية الأكثر فنقول: إن من صلى عليه مائة من الْمُسْلِمِينَ المؤمنين الموحدين فإنهم يشفعون فيه فيغفر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له بشفاعتهم، وهذا يدلنا عَلَى فضل صلاة الجنازة وعلى أن العبد المسلم -ينتفع بإذن الله- بدعاء إخوانه له وبصلاتهم عليه، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}، فلهذا كَانَ من أفضل الأعمال ومن خيرها، ومن حق المسلم عَلَى المسلم أن يشيع جنازته وأن يصلى عليه.
      وهذا من فضل التعاون عَلَى البر والتقوى، ومن فضل قيام الْمُسْلِمِينَ كل منهم بحق أخيه عليه، وما أكثر ما ضيعت حقوق الْمُسْلِمِينَ بعضهم عَلَى بعض، فالجار لا يقوم بحق جاره، والزوج لا يقوم بحق زوجته، والأخ لا يقوم بحق أخيه، والابن لا يقوم بحق أبيه، وهكذا إلا ما رحم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقليل ما هم.
    6. هذه الأعمال تشمل جميع الأعمال

      لو تأملنا الأعمال السابقة لوجدنا أنه قد نبه عليها لعظمها، ولأنها تشمل جميع الأعمال في الحقيقة؛ فتحقيق التوحيد يشمل كل الأعمال لأنه لا يحقق التوحيد تحقيقاً كاملاً إلا من اجتنب الكبائر، ولهذا كَانَ بعض السلف يسمي الذنوب جميعاً شركاً، ويقول: ما عصى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحدٌ إلا وقد اتبع هواه، وهذا نوع دقيق من الشرك، فهو عبودية القلب لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى باتباع الهوى، فهذا وإن كَانَ لا يسمى شركاً في الاصطلاح ولا يترتب عليه أحكام الشرك لكنه نوع دقيق من الشرك.
      ومن حقق التوحيد، أي: من كَانَ قلبه متمسكاً بالتوحيد، والإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رجاءً وخوفاً وإنابةً ورغبةً ورهبةً وتوكلاً وإجلالاً وتعظيماً؛ فإنه لا يرتكب هذه الكبائر والموبقات، وإن ارتكب شيئاً منها، فإنه سرعان ما يعود، ويستغفر ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويتوب إليه، ويمحو تلك السيئات بهذه الحسنات.

      وكذلك قراءة القرآن: فالذي يقرأ القُرْآن سوف يقرأ التوحيد، والوعد والوعيد والحلال والحرام، والآداب والعبر، وقصص الأَنْبِيَاء ويقرأ الحكمة التي أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في هذا الذكر الحكيم، ويقرأ كل ما من شأنه أن يجعله مطيعاً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في جميع أموره، فيقرأه قراءة المتفقه المتدبر العامل به فيكون يَوْمَ القِيَامَةِ شفيعاً له، فالقرآن يرجع الخير كله إليه.
      وكذلك الصلاة عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخاصة في هذا المقام بعد الأذان، وعندما يقولها الإِنسَان بعد سماع هذا النداء وهذا الذكر، ولما أن تعودنا عليه أصبحنا لا نستغربه، وإلا فهو أمر عجيب لمن تأمله، فكلمة "الله أكبر" تتردد في هذه البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، تتردد في أرجاء الفضاء في كل يوم خمس مرات، هذا الذكر بهذه القوة وبهذا الارتفاع وبهذا العلو حدث عجيب.
      والذين لم يعرفوا هذا الذكر ولا قيمته كمن كَانَ في الجاهلية قبل أن يشرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الآذان أو في الجاهلية الحديثة إذا ذهب الإِنسَان إِلَى بلاد الكفر وافتقد الأذان عندما يعود إِلَى بلاد الإسلام ويسمع الأذان يشعر برهبة هذا الصوت ويتمنى أن يرتفع اسم الله وذكر الله في أجواء الدنيا ويسمعه النَّاس جميعاً.
      ولهذا بعده يقول المؤمن هذه الصلاة عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي جاءنا بهذا النور وبهذا الذكر والذي رفع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اسمه وقرن اسمه به في هذا النداء العظيم، فالصلاة عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الموضع العظيم موضع حث للنفس عَلَى أن تجيب نداء الله وتجيب داعي الله، وتذهب إِلَى بيت الله وتأتي بهذا الركن العظيم الذي هو عمود الإسلام كما قال تعالى: ((إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ))[العنكبوت:45] فهذه الصلاة من أداها حق الأداء وحافظ عليها، فإنها تكون له حصناً من الوقوع في الفواحش ما ظهر منها وما بطن، إذاً فلها علاقة بمعظم الأعمال الصالحة.
      وكذلك من سكن المدينة أيضاً وهذه فضيلة لهذه البلدة الطاهرة، وبالأخص للجيل الأول الذي كَانَ يهاجر إِلَى المدينة ويصبر عَلَى لأوائها فإنه بطبيعة الحال يعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويطلب العلم من هذا البلد الذي لم ينقطع منه العلم ولن ينقطع بإذن الله، فيكون أقرب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإلى العمل بالكتاب والسنة منه في أي بلد آخر، عندما يكون في هذه البلدة التي شهدت قيام المجتمع الإسلامي الأول، وشهدت دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياته من المهاجرين والأنصار، ولا تزال فيها تلك الأماكن التي أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن تزار فضلاً عن المسجد النبوي، وكذلك هناك قباء وهناك البقيع وهناك شهداء أحد وأمثال ذلك، وهذا يستدعي منه المداومة عَلَى الأعمال الصالحة والقربات التي فعلها أُولَئِكَ الجيل الفاضل.
      وكذلك الصلاة عَلَى جنازة المؤمن: هذا الجمع من المؤمنين -الذين يصلون عَلَى أخيهم الميت- إذا صلوا عليه، وهم بقلوب خالصة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وبدعاء وتضرع إليه؛ فإن هذا لا يكون أيضاً إلا ممن حقق الإيمان وممن حقق التوحيد، فهذا يقتضي أن يكون هَؤُلاءِ الداعون عَلَى هذه الدرجة من الفضيلة، وليس أي داعٍ أو مصل كمن صلّى ودعا وهو من أهل الدرجة الفضلى في التقوى والإحسان والإيمان.
    7. ما يمنع من الشفاعة يوم القيامة

      بقي أمر نُص عليه في الأحاديث يمنع صاحبه من أن يكون شفيعاً، فقد روى الإمام مسلم عن أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {إن اللعانين لا يكونوا شهداء ولا شفعاء يَوْمَ القِيَامَةِ} واللعانون بصيغة المبالغة أي: الكثير اللعن؛ لأن اللعن لا يكون إلا من التشكي والغضب ومن ضيق النفس فيكثر الإِنسَان من اللعن، حتى يلعن الرجل زوجته، ويلعن ابنه، ويلعن ثوبه والعياذ بالله، فهذا اللاعن المتسخط الغضوب، الذي يأتي الشيطان عَلَى لسانه بهذه الكلمة، لا يكون يَوْمَ القِيَامَةِ شهيداً ولا شفيعاً.
      ومن هذا أيضاً نستنتج كما استنتجنا في الأول أنه ليس هذا هو العمل الوحيد الذي إذا فعله صاحبه أنه لا يشفع، فجدير بمن ارتكب الكبائر أن لا يكون شهيداً ولا شفيعاً؛ لأن من أتى بالموبقات والكبائر، فإنه يستحق دخول النَّار، إلا أن تشمله رحمة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إذا دخل النَّار، فهذا غاية ما يرجى له أن ينال الشَّفَاعَةَ.
      أما أن يشفع فذلك لا يكون، فمن ارتكب هذه الموبقات، فقد وضع نفسه في منزلة المحروم من أن يكون شفيعاً عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه الخصلة التي نبه عليها هذا الحديث تدلنا عَلَى ما ورائها، وأن العبد لا يكون شفيعاً إلا بمقدار قربه من الله، ولهذا أعظم الشفعاء هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه أكثر الخلق عبادةً وتقوى ومعرفة بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ من بعده الأمثل فالأمثل من الأَنْبِيَاء والصالحين، نسأل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن يجعلنا من المقربين إليه ومن عباده الصالحين إنه سميع مجيب.
  2. الناس في الشفاعة على ثلاثة أصناف

     المرفق    
    يقول المصنف رحمه الله:
    [ ثم إن الناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال: فالمشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا، والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الكبائر.
    وأما أهل السنة والجماعة فيقرون بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر وشفاعة غيره، لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ويحد له حداً، كما في الحديث الصحيح، حديث الشفاعة {إنهم يأتون آدم، ثم نوحاً ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فيقول لهم عيسى عليه السلام: اذهبوا إلى محمد، فإنه عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأذهب، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد ارفع رأسك، وقل يُسمع، واشفع تشفع، فأقول: ربي أمتي فيحدُّ لي حداً، فأدخلهم الجنة، ثم أنطلق فأسجد فيحد لي حداً } ذكرها ثلاث مرات ] إهـ.

    الشرح:
    يقول رحمه الله: ثم إن الناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال.
    فذكر النوع الأول وهم: (المشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم، فهؤلاء يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا) وهؤلاء هم الذين أثبتوا الشفاعة، ولكنهم غلوا فيها حتى جعلوها لغير أهلها وفي غير موضعها، فجعلوا شفاعة من يعظمونه من نبي أو عبد لله صالح كالحال مع من يشفعون في الدنيا إلى ملوك الدنيا، وهذه الشبهة التي يرددها الشيطان دائماً على لسان عباد القبور أو عباد الأولياء، تجد الإنسان منهم إذا قلت له: يا فلان لا تدعو غير الله، يقول لك: أنا ضعيف وجاهل، وذنوبي كثيرة فأنا لا أجرؤ أن أدعو الله -سبحانه وتعالى- مباشرة، ومن جهلي لا أستطيع أن أدعو الله بالدعاء الذي يليق بالله سبحانه وتعالى.
    فيقول: فأنا أتوسل إلى الله بالشيخ فلان، فهو يوصل إلى الله سبحانه وتعالى حالي، ويشرح له سؤالي، لما له من المنزلة العظيمة عند الله التي ليست لي، فيستجيب الله لي بواسطة فلان من الناس، حتى أنهم جعلوا الدعاء الصريح مجرد توسط كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله، فهو يدعو غير الله بـ"يا فلان" وهذا دعاء صريح كما يقول العبد المؤمن: يا رب! وهذا يقول: يا فلان! فإذا قلت له: لم تفعل ذلك؟
    قال: أنا لم أدعه بذاته بل أنا أقصد التوسط والتوسل به إلى الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء جعلوا أن شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا وهي أن الملوك أرباب السلطة ومن شابههم لا يعرفون حال الناس جميعاً بطبيعة الحال ولا يعرفون حاجة فلان أو غناه ولا يعرفون صدقه أو كذبه، فكيف يعطون أو يمنعون؟ فيأتيهم من يعرفوه ويعظموه ويثقوا فيه فيقول: أيها الملك! هذا فلان من الناس حاله كذا، وشأنه كذا، فأعطه فيعطيه، وقد تكون الشفاعة بالعكس فيطلب منعه فيمنعه فإما أن يعطي وإما أن يمنع بناءً على ما أخبره به ذلك الوسيط، الذي لولاه لما علم بحقيقة حال ذلك الرجل، فهذا لا يعلم الحال، بل هو محتاج بطبيعته إلى من يخبره عن حال هؤلاء السائلين، ولأنه لا يملك كل شيء فيعطي كل الناس فتقتصر عطاياه، على من يحبون لكن كيف الحال مع الله سبحانه وتعالى والخلائق كلها تطلب الرزق وتسعى وتغدوا إليه؟
    أولاً: رزقها جميعاً على الله، ويعلمها وهي أمم أمثالنا كما أخبر الله سبحانه وتعالى فهو الذي يرعاها ويرزقها ويعلم أحوالها وكل ما تحتاج إليه وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ولو كان فاجراً كافراً.
    فمن دعاه دعاء اضطرار في ظلمات البر أو البحر استجاب له ونجاه من الكرب وكشف عنه الغم بفضله لأنه هو رب العالمين، فلو لم يرزقهم ولو لم يتفضل عليهم ولو لم يكشف كربهم وينجيهم، فمن الذي يفعل ذلك غيره هل من رب سواه يفعل ذلك؟!
    لا؛ حتى وهم كفار فجار يحاربونه إذا صدقوا في أنه ملجأ منه إلا إليه، فإنه لا يردهم خائبين، فالتوحيد كما يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد: مفزع أوليائه، ومفزع أعدائه، فإذا جاءت الشدة والكرب والغم والضنك لجأ إليه أولياؤه ولجأ إليه أعداؤه ويتوسلون إليه بالتوحيد ويدعونه وحده فيكشف عنهم ذلك الغم والكرب كما قال تعالى: ((فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ))[الأنعام:41] .

    ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى عنده خزائن كل شيء لا تنفذ، فليس مثل ملوك وأغنياء الدنيا الذين لا بد أن يعطوا وأن يحرموا، وهذا في حق الله، فهو الذي لا تنتهي خزائنه ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)) [الحجر:21] وقال في حديث أبي ذر: { يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا على صعيد واحد، ثم سألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر } سواء كانوا على هدى، وتقى، أو على ضلال وعصيان، فالله سبحانه وتعالى يتفضل عليهم جميعاً كما قال: ((كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ))[الإسراء:20] فهو الغني سبحانه وتعالى كل الغنى((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ))[فاطر:15] فهو الذي غناه غنىً مطلقاً، وهو الذي لو سأله الخلق جميعاً فأعطى كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكه شيئاً.
    إذاً: كيف يشبه بملوك الدنيا بأن يطلب ما عنده من الرزق والفضل والخير عن طريق الوسطاء، وأعظم من ذلك: أنه جل شأنه قد أمر الناس أن يدعوه مباشرة كما قال: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر:60]،
    بل جعل دعاء غيره شركاً أكبر وجعله محبطاً للأعمال ومبطلاً لها،
    فمع هذا البيان في كتاب الله عز وجل بأن هذا شأنه وهذه صفته وأنه -سبحانه وتعالى- يأمر عباده أن يدعوه كما قال تعالى:((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)) [البقرة:186] فما حال من يذنب فلا يدعو ربه، بل يدعو غيره سبحانه وتعالى!
    ولو زعم أنه يتوسط به إلى الله سبحانه وتعالى فهذا من الضلال الذي قال الله تعالى فيه: ((وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ))[الرعد:14] ولهذا يأتي هؤلاء المشركون يوم القيامة فيؤمرون بأن يدعو شفعاءهم ويدعو شركاءهم، ولكن أنَّى لهم ذلك:((قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً)) [غافر:74] أين هم ؟
    فيقولون: لم نكن ندعو أي مخلوق، ولم نكن نعبد شيئاً، فما هي إلا أسماء سموها، وأوهام توهموها لا حقيقة لها أبداً، فهي ظنون وخيالات باطلة ليس لها من حقيقة وليس لها من واقع، فلا يجدون يوم القيامة من شفيع ولا ولي ولا حميم يطاع، ولكن أهل التوحيد يجدون ذلك الرب الرحيم الكريم سبحانه وتعالى الذي يدخل من حقق التوحيد منهم وأخلص له وحده الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهنالك يندم المجرمون ويتحسر المشركون .