المادة كاملة    
بيَّن هذا الدرس أن النوع الثامن من أنواع الشفاعة -وهو إخراج عصاة الموحدين من النار- هو الذي وقع فيه الخلاف بين أهل السنة وبين أهل البدع، مع بيان أن هذه الشفاعة ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل يشاركه فيها الملائكة والنبيون والعلماء والشهداء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات متكررة.
  1. النوع الثامن: إخراج عصاة الموحدين من النار

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ ومن أحاديث هذا النوع حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي } رواه الإمام أحمد رحمه الله.
    وروى البخاري رحمه الله في كتاب التوحيد: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنا معبد بن هلال العنزي قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك وذهبنا معنا بـثابت البناني يسأله لنا عن حديث الشفاعة فإذا هو في قصره فوافيناه يصلي الضحى فاستأذنا فأذن لنا وهو قاعد على فراشه فقلنا لـثابت: لا تسأله عن شي أول من حديث الشفاعة فقال: يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاؤوك يسألونك عن حديث الشفاعة، فقال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: {إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم فيقولون اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن.
    فيأتون إبراهيم فيقول: لستُ لها؛ ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيأتون موسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بعيسى، فإنه روح الله وكلمته.
    فيأتون عيسى، فيقول: لستُ لها، ولكن عليكم بمحمد.
    فيأتوني فأقول: أنا لها فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، واشفع تشفع، وسل تعط.
    فأقول: يارب أمتي أمتي.
    فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان فأنطلق فأفعل.
    ثم أعود فأحمدُه بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً.
    فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، واشفع تشفع، وسل تعط.
    فأقول: يارب أمتي أمتي.
    فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان فأنطلق فأفعل.
    ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً.
    فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع.
    فأقول: يارب أمتي أمتي.
    فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل.
    قال: فلما خرجنا من عند أنس قلت: لو مررنا بـالحسن وهو متوارٍ في منزل أبي خليفة وهو جميع فحدثناه بما حدثنا أنس بن مالك فأتيناه فسلمنا عليه فأذن لنا فقلنا له: يا أبا سعيد جئناك من عند أخيك أنس بن مالك فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة.
    فقال: هيه؟
    فحدثناه بالحديث فأتينا إلى هذا الموضع.
    فقال: هيه؟
    فقلنا: لم يزد لنا على هذا.
    فقال: لقد حدثني وهو جميع منذ عشرين سنة، فما أدري أنسي أم كره أن تتكلوا؟
    فقلنا: يا أبا سعيد فحدثنا.
    فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً، ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم حديثي كما حدثكم.
    قال: ثم أعود الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع، فأقول: يارب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله؟
    فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله
    }.
    وهكذا رواه مسلم.
    وروى الحافظ أبو يعلى عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء} .
    وفي الصحيح من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً قال: {فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضةً من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط الحديث} ] إهـ.

    الشرح:
    هذا النوع من أنواع الشفاعة هو الذي وقع فيه الخلاف بين أهل السنة وبين أهل الضلال والبدعة، واشتد النزاع بينهم، ولا يزال أهل البدع إلى اليوم ينكرون هذه الشفاعة، ويمارون ويجادلون فيها، رغم ثبوتها بالأحاديث الصحيحة المتواترة، ورغم أن دلالتها على كرم الله تعالى وفضله أعظم مما يُخيل إليهم أن فيها ما ينقص وما يغض من قدر الإلهية، لأن الله سبحانه وتعالى لا يحسن به -كما يقولون-: إلا أن يعاقب المذنب؛ بل قالوا: يجب عليه ذلك، كما تجرأ على ذلك من تجرأ.
    1. هذه الشفاعة ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم

      هذا النوع من الشَّفَاعَةِ وهو: إخراج أهل الكبائر من النَّار بعد أن دخلوها، ليست خاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل هي أيضاً للملائكة ولعباد الله الصالحين، وفي هذا دليل عَلَى فداحة الخطأ الذي ذهب إليه من أنكرها، وقد سبق أن ذكرنا أن المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ استدل عَلَى هذا النوع بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {شَفَاعَتِي لِأهْلِ الكَبائِرِ مِنْ أُمَّتي}، والحديث بهذا اللفظ من جهة المعنى لا شك أنه صحيح، لأن الأحاديث في أن الشَّفَاعَة ثابتة لأهل الكبائر كثيرة جداً.
      لكن هذه اللفظة قد تشعر بالاختصاص كأنه يقول: {شَفَاعَتِي لِأهْلِ الكَبائِرِ مِنْ أُمَّتي} وهي ليست كذلك وإن كانت قد تشعر بذلك، فالشَّفَاعَة ليست خاصة بأهل الكبائر بل هي أنواع -كما سبق- وهذا الحديث بهذا اللفظ ضعفه بعض العلماء، وبعضهم مال إِلَى تصحيحه أو تحسينه لكثرة شواهده وطرقه، ومن قال بصحته فهو مصيب لتعدد طرقه من جهة ولصحة معناه وثبوته في الأحاديث الصحيحة المتفق عَلَى صحتها من جهة أخرى.

      قول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا: [وهذه الشَّفَاعَةُ تُشاركُه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضاً]، فلو أخر المُصنِّف هذه الجملة إِلَى آخر حديث أنس عندما يقول: وروى الحافظ أبو يعلى عن عثمان رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، ثُمَّ يأتي بالأحاديث الأخرى حتى يكون الكلام متصلاً، وقال بعد ذلك: وهذه الشَّفَاعَة تتكرر منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع مرات.
      كان ينبغي بعد ذلك، أن يذكر رأس حديث أنس الذي وقعت فيه الشَّفَاعَة أربع مرات حتى تُفهم وتكون أحسن في التنسيق والترتيب، أي: بعد أن يقول: (استمر عَلَى بدعته) يقول: [وهذه الشَّفَاعَة تتكرر منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع مرات] ثُمَّ ينتقل إِلَى حديث البُخَارِيّ، أو نأتي من أحاديث هذا النوع حديث {شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي} وإن كَانَ تقديم الصحيح المتفق عَلَى صحته أولى، ثُمَّ بعد ذلك يذكر ما فيه احتمال، وبعد أن ينتهي من الحديث يقول: [وهذه الشَّفَاعَةُ يشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون].
    2. هذه الشفاعة تتكرر منه صلى الله عليه وسلم أربع مرات

      وقوله: [وهذه الشَّفَاعَةُ تتكرر منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع مرات] أي: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع في أهل الكبائر الذين استحقوا دخول النَّار ودخلوها حقيقة أربع مرات فيذهب ويأتي أربع مرات، كما جَاءَ في هذا الحديث، بخلاف الشَّفَاعَة العظمى فإنها مرة واحدة، وكذلك شفاعته عند دخول أهل الجنة الجنة مرة واحدة.
      فهذا الحديث وبهذه الصفة من أعظم الأدلة الدالة عَلَى أن الإيمان يزيد وينقص، وأن النَّاس متفاوتون في الإيمان، ولهذا يذهب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المرة الأولى ويأذن له ربه في أن يشفع فيمن في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، ثُمَّ ما هو أقل إِلَى الرابعة، فهذه أربع مرات تتكرر منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحسب تفاوت أهل النَّار في أعمالهم، حتى أن آخر من يخرج منها الذي ليس عنده إلا مجرد التوحيد والإقرار لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالوحدانية وللنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشهادة، وغلبته الذنوب والمعاصي فيما دون ذلك.
  2. شرح حديث الشفاعة

     المرفق    
    هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري بسنده إلى معبد بن هلال العنزي قال: {اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك وذهبنا معنا بـثابت البناني } وهذا من خاصة تلاميذ أنس.
    وأنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفه الله سبحانه وتعالى بهذه المهنة العظيمة وهذه المنقبة الجليلة التي يتمناها كل مؤمن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشرف بخدمة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد روى عنه روايات كثيرة، فهو من المكثرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رغم صغر سنه، ولكن الله عز وجل أعطاه الفقه وأعطاه الذكاء والفهم واستجاب الله دعوة نبيه عندما دعا له في أن يطيل عمره فأطال عمره، فكان في ذلك منقبة عظيمة وخير عظيم للأمة الإسلامية.
    وأيضاً أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تزوجه النبي صلى الله عليه وسلم وكانت لا تزال فتاة في ريعان الصبا فتوفي عنها صلى الله عليه وسلم وهي كذلك فبقيت تحدث الناس عما كان يفعل في حياته صلى الله عليه وسلم نحواً من خمسين سنة بعد وفاته عما كان يفعل صلى الله عليه وسلم.
    وهذا أنس خادم النبي عاش بعد عائشة ما يقارب الأربعين سنة أو يزيد فكان يحدث الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان السلف الصالح حريصين على طلب العلم، فاخذوا ثابت لمكانته من أنس وقالوا: نذهب نزور خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه ونسأله عن حديث الشفاعة.
    {فذهبوا إليه، فإذا هو في قصره} أي: في بيته، وكانت تعد لما هم عليه من شظف العيش قصوراً، ولكنها بالنسبة لما كانت عليه قصور
    كسرى وقيصر وملوك الدنيا لا تساوي شيئاً من ذلك، فكان في منزلة رضي الله عنه.
    {فوافيناه يصلى الضحى فاستأذنا} وفي ذلك دليل على مشروعية صلاة الضحى.

    قال: {فأذن لنا وهو قاعد على فراشه، فقلنا لـثابت: لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة} أي: لا تقدم على حديث الشفاعة شيئاً آخر ؛ لأن ذلك كان في آخر عُمْرِ أنس، وفي أيام الحجاج، وكانت الخوارج قد ظهر أمرها وكانت تحارب الحجاج حتى كان لهم دول في جهة فارس وعمان، وكانوا ينكرون الشفاعة، ولهذا ذهبوا يسألوا عن هذه القضية المهمة فيخشون أن يسأل ثابت عن شيء من الأحكام الأخرى، والباقون ساكتون وهذا من الأدب.
    فتقدم ثابت فقال: {يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاؤوك يسألونك عن حديث الشفاعة} بدأ يقدم لهذه الزيارة في هذا الوقت، وأن المقصود بها العلم، وأن هؤلاء ما قصدهم إلا ذلك.
    وكما مر معنا من أن طلق بن حبيب ويزيد الفقير وهما من مشاهير التابعين يقول طلق: " كنت أرى رأي الخوارج وكنت أنكر حديث الشفاعة حتى ذهبت إلى جابر" ، وبعضهم ذهب إلى أنس وبعضهم ذهب إلى غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
    فهذه القضية كانت رائجة، خاصة في البصرة والكوفة لأنها موطن الخوارج.
    وكانوا يقولون: كيف يفعل الكبيرة، ثم يغفر له، أو يُشفع فيه، فهذه شبهة روجها الخوارج، فلاقت آذانا عند بعض الناس ولكن شفاء العي السؤال، وشفاء الجهل العلم، فإذا سمع الإنسان بأمر وأشكل عليه، فلا يجتهد بآرائه الشخصية، ويقول: هذا حلال وهذا حرام وهذه بدعة وهذه سنة ولكن الله يقول: ((فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) [النحل:43] فذهبوا ليأخذوا العلم من أهله، أنس رضي الله عنه حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: {إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض} من الهول والكرب {فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لستُ لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن} ولم يذكر نوح لكن في الأحاديث الأخرى ذكر نوحاً عليه السلام وهذا هو الراجح، فهو إما سقط، وإما خطأ من الحفاظ {فيأتون إبراهيم فيقول: لستُ لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله، فيأتون موسى فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته} .
    فنحن نشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه المتفق عليه {فمن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبد الله ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح، منه وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل} .
    1. معنى قوله: ( روح الله وكلمته )

      قوله: {فإنه رُوحُ الله وكَلِمَتُهُ} إضافة الروح إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هنا لأنها متفردة ومتميزة عن غيرها، والإضافة إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى نوعين:
      إما أن يُضاف إِلَى الله تَعَالَى معنىً من المعاني.
      وإما أن يُضاف إليه ذوات وأعيان، فإذا أضيف إِلَى الله تَعَالَى معاني، مثل: "علم الله، وعزة الله، وحكمة الله، ورحمة الله" فهذه المعاني لا تقوم بذاتها وليست أعياناً وذواتاً مستقلة، فإذا أضيفت إِلَى الله تعالى، فإنها تكون صفاتاً لله عَزَّ وَجَلَّ.

      فإذا أضفنا إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذوات وأعيان مخلوقة، فإنها تكون عَلَى نوعين: نوع منها خاص، ونوع آخر عام يشترك فيه كل من أضيف إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      فمثال العام: السماء والجبال والأرض تكون سماء الله، وأرض الله، وجبل الله وغيرها كثير؛ لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو الذي خلقها.
      وأما إذا أضيف إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الذات أو العين بالمعنى الخاص، مثل الناقة: إذا لقيتُ أنا ناقةً في الصحراء قلتُ: هذه ناقة الله. هذا المعنى العام ناقة الله، بمعنى: مخلوقه، خلقها الله، لكن ((نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا)) التي قالها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى لسان نبيه صالح هذه ناقة خاصة، لأن فيه اختصاص، وروح كل إنسان يُقال لها: روح الله، أي: المخلوقة لله، لكن عيسى عَلَيْهِ السَّلام روح الله فيه اختصاص.
      ووجه الاختصاص: أن عيسى خلق من أم بلا أب فهذه ميزة يختلف بها عن جميع الأرواح، حيث أوكل بها الروح الأمين فنفخها إِلَى الموضع الذي يخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيه الأجنة، ثُمَّ وضعته أمه مريم عليها السلام. وقوله: {وكَلِمَتُهُ}: أي أنه وجد بكلمة "كن"، وهذه أيضاً فيها اختصاص؛ لأن عيسى كَانَ بهذه الكلمة من غير أبٍّ، كما قال تعالى:
      ((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) [آل عمران:59]
      وقوله: {فَيَأْتُونَ عيسى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، ولَكِنْ عَلَيْكُم بمحمد.
      فَيَأْتُونِي فأقول: أَنَا لَهَا، فَأَستأذِنُ عَلَى ربِّي، فَيُؤذَن لِي، ويُلهِمُني مَحَامِد أَحْمَدُهُ بها لا تَحْضُرُنِي الآنَ
      }، فالإِنسَان إذا أخلص وتضرع إِلَى الله وأثنى عليه، فإن ذلك أرجى بقبول الدعاء.
    2. سجود النبي صلى الله عليه وسلم لربه تحت العرش

      ثُمَّ يقول: {فَأَحْمدُهُ بِتَلْكَ المَحَامِدِ وأَخِرُّ له ساجداً، فيُقَالُ: يا مُحَمَّدُ، ارفَعْ رَأَسْكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ واشفَعْ تُشْفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فيُقَالُ: انطلِقْ فَأَخرِجْ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرةٍ مِنْ إيمانٍ، فَأنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ} هَؤُلاءِ أصحاب الصنف الأول، وهذا بعد أن يدخل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أهلُ النَّارِ النارَ ويَدخلُ مَعَ أهلِ النَّارِ العصاة من الموحدين.
      فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {انطلِقْ فَأَخرِجْ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرةٍ مِنْ إيمانٍ، فَأنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ} أي: ما كَانَ فوق مثقال الشعيرة هذا أولى أن يخرج، فهذا هو الحد الأدنى، {فَأنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمدُهُ بِتَلْكَ المَحَامِدِ} يعود فيحمد ربه، هذه المرة الثانية {ثُمَّ أَخِرُّ له ساجداً، فيُقَالُ: يا مُحَمَّدُ، ارفَعْ رَأَسْكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ واشفَعْ تُشْفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي}، هذا دليل شفقته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورحمته بأمته وهذه هي التي ادخرها واختبأها كما ورد ذلك في حديث حسن له طرق أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لكل نبي دعوة مستجابة}.
      قَالَ: {فَأنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمدُهُ بِتَلْكَ المَحَامِدِ}، وهو لا يزال يأمل من ربه الخير والكرم وهو أعلم وأعرف النَّاس بربه -عز وجل- وبكرمه وبسعة رحمته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- .
      فيعود للمرة الثالثة فَيَقُولُ: {ثُمَّ أَخِرُّ له ساجداً، فيُقَالُ: يا مُحَمَّدُ، ارفَعْ رَأَسْكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ واشفَعْ تُشْفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فيُقَالُ: مِثْقَالُ أدنى أدنى أدنى مِثْقَالِ حَبَّة خَرْدَلٍ مِنْ إيمانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنْ النَّارِ، فَأنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ}، وفي رواية أخرى أيضاً في الصحيح {أدنى أدنى مثقال حبة من خردل، فأنطلق فأفعل} فيخرجهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكون قد فعل ذلك ثلاث مرات.
      فهنا توقف أنس في حديثه لـمعبد وزملائه
      .
      {قال معبد: فلما خرجنا من عند أنس قلتُ لبعض أصحابنا: لو مررنا بـالحسن وهو متوارٍ في منزل أبي خليفة } أي: متوارٍ من أصل الفتنة التي كانت في أيام الحجاج وكان يقبض عَلَى العلماء ويعذبهم ويقتلهم كما قتل سعيد بن جبير وغيره.
      فقَالَ: {لو مررنا عليه} كَانَ في قلب ثابت شيء لم يفصح عنه أمام إخوانه قَالَ: {فحدثناه بما حدثنا به أنس بن مالك فأتيناه فسلمنا عليه فأذن لنا فقلنا له: يا أبا سعيد جئناك من عند أخيك أنس بن مالك فلم نر مثلما حدثنا في الشَّفَاعَة، فقَالَ: هيه} أي: هاتوا وأعطوني {فحدثناه بالحديث فانتهى إِلَى هذا الموضع} إِلَى الثلاث الشفاعات التي انتهى إليها الحديث، {فقَالَ: هيه} أي: وماذا بعد ذلك، قالوا: {فقلنا: لم يزد لنا عَلَى هذا قَالَ: لقد حدثني وهو جميع، أي: وهو شاب منذ عشرين سنه، فلا أدري أنسي أم كره أن تتكلوا} وهذا من الأدب فلم يقل هذا غلط، وإنما قَالَ: {فلا أدري أنسي} وهذا يمكن أن يقع من البشر حتى من الصحابة الكرام.

      {فقلنا: يا أبا سعيد فحدثنا، فضحك} من هذه العجلة ومن هذه السرعة في الطلب {وقَالَ: خلق الإِنسَان عجولاً} وهذا هو حال الإِنسَان، قَالَ: {ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم، حدثني كما حدثكم به} أي: القدر الأول الذي رويتموه عنه في الثلاث الشفاعات الأولى حدثني إياه كما نقلتم.
      قَالَ: {ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ} أي: يعود النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المرة الرابعة إِلَى ربه عز وجل {فَأَحْمدُهُ بِتَلْكَ المَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ له ساجداً، فيُقَالُ:: يا مُحَمَّدُ، ارفَعْ رَأَسْكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَه واشفَعْ تُشْفَّعْ، فأقول: يَارَبِّ ائْذَنْ لي فيمَنْ قَالَ: لا إله إلا اللهُ، فَيَقُولُ: وَعِزّتي وَجَلالي وَكِبْريائي وَعَظَمَتي لأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ:: لا إله إلا الله} وهذا يدل عَلَى عظمة وأهمية فضل التوحيد، فيأذن له الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيخرج جميع الموحدين الذين شهدوا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالوحدانية ولنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة.
    3. المحرومون من الشفاعة

      وبعد أن يخرجوا من النَّار لا يبقى فيها بعد ذلك إلا من حبسه القرآن، وهم المُشْرِكُونَ، كما في الروايات الأخرى الصحيحة، وهم المُشْرِكُونَ، كما قال الله تعالى: ((إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ))[المائدة:72].
      فالشرك هنا هو المانع والحابس الذي يحبس والذي يمنع الإِنسَان من الخروج من النار، وكذلك المنافقون النفاق الأكبر قال الله: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ))[النساء:145] وهَؤُلاءِ كذلك محرومون ومحجوبون عن شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال الله له في الدنيا ((إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُم))[التوبة:80] فما بالكم بيَوْمَ القِيَامَةِ، فهَؤُلاءِ الذين ارتكبوا الكفر الأكبر والنفاق الأكبر وسائر نواقض الإسلام المعروفة محرومون من الشَّفَاعَة،
      ولهذا فإن أول وأعظم ما يجب أن ندعو إليه النَّاس هو ما دعى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأنبياء قبله وهو: توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا هو أساس النجاة في الدنيا والآخرة، وما بعد ذلك فهو تبعٌ وفرعٌ له وشعبٌة من شعبه، ثُمَّ نقول بعد ذلك: وهذه الشفاعة يشاركه فيه الملائكة والنبيون والمؤمنون، والدليل عَلَى ذلك.
      قَالَ: [روى الحافظ أبو يعلى عن عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَشْفَعُ يَوْمَ القِيَامَةِ ثَلاثَةٌ: الأنبِيَاءُ، ثُمَّ العُلَمَاءُ، ثُمَّ الشُّهَدَاءُ} وهذا الحديث استدل به المُصنِّف وهو حديث ضعيف؛ بل في سنده وضّاع فهو مما لا يحتج به بهذا اللفظ، ولكن المعنى صحيح فلذلك كَانَ ينبغي للمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ أن يقدم الصحيح الذي بعده، وهو يغني عن ما ذكره الحافظ أبو يعلى وغيره، وقوله: [وفي الصحيح من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً {قَالَ: فيقول الله تعالى: شَفَعَتِ الملائكة، وشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وشَفَعَ المُؤمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إلا أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمَاً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرَاً قَطُّ}]، هذه رواية مسلم.
      وفي رواية عند البُخَارِيّ في كتاب التوحيد يقول: {فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار: بقيت شفاعتي فيقبض قبضةً من النَّار} فهذا الحديث متفق عليه، فإذاً يشفع النبيون والملائكة والمؤمنون ثُمَّ بعد ذلك كما في مسلم قَالَ: {فيتحنن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى من يشاء فيخرج منها أقواماً لم يعملوا خيراً قط}.
    4. معنى قوله: ( لم يعملوا خيراً قط )

      قوله: [فيخرج منها أقواماً لم يعلموا خيراً قط] معنى وذلك: أنهم عملوا حسنات ولكن أكلتها السيئات، حتى لا يأتي أحد فَيَقُولُ: تارك الصلاة يدخل في الشَّفَاعَة ولم يعمل خيراً قط، فالقضية ليست هكذا، لأن في رواية البُخَارِيّ: {الشفعاء يعرفون المشفوع لهم بآثار السجود}كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل ابن آدم تأكله النَّار إلا أثر السجود}.
      فقد يأتي أناس ولا يرون فيه العلامة، وهو ليس بتارك للصلاة، لكن صلّى صلاة وجودها كعدمها، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما قال للمسيء صلاته: {ارجع فصل فإنك لم تصلِ}، فهذا ليس من أهل الصلاة في الحقيقة، ولأنه لا يُرى لها أثراً في نفس الوقت، وهو ليس تاركاً للصلاة؛ لأنه أدى شيئاً وليس مثل الذي لم يؤدِها بالكلية، والله تَعَالَى لا يظلم أحداً شيئاً كما قَالَ: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا))[النساء:40].
      ومثل هذه الحالة، حال الذين في آخر الزمان إذا اندرس الإسلام، فلم يبق إلا اسمه ولم يبق من الدين إلا رسمه، فيأتي القوم الذين لا يدرون ما صلاة، ولا صيام ولا نسك، ولكن يقول الرجل منهم أو المرأة: أدركنا آباءنا يقولون: لا إله إلا الله فنحن نقولها -فهذا الزمان زمان شر- فهو لم يسمع إلا هذه الكلمة ففالها، أفيظلمهم الله عز وجل ويجعلهم مع الذين لم يقولوها؟! ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)).
      ومثل هَؤُلاءِ: الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين وكمّل المائة بالعابد، فلما اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، قالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط -وهو كذلك لم يعمل؛ لكنه نوى أن يعمل الخير- فتقول ملائكة الرحمة: إنه جَاءَ تائباً مقبلاً عَلَى الله عز وجل، فكلمة: [لم يعمل خيراً قط] لانفهمها عَلَى أنه لم يعمل أي حسنة بإطلاق، وكان تاركاً للصلاة عَلَى علم، والقرآن موجود والمساجد يؤذَّن فيها، وهو لا يصلي ولا يقرأ القرآن، وهذا حتى لا يفهم بعض النَّاس أن ذلك يعارض ما ورد في تكفير تارك الصلاة.