يقول رحمه الله: (ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي).
ففي القانون الكلي: إذا تعارض العقل والنقل فيقدم مقتضى العقل، وقالوا: إنما عرفنا صحة النقل بدليل العقل، فالعقل هو الذي دلنا على أن النقل صحيح، فلو أننا حكمنا مقتضى النقل في تعارضه مع العقل لأبطلنا دلالة العقل، وإذا بطلت دلالة العقل بطل النقل؛ لأنه مبني على دلالته، وما بني على شيء يبطل ببطلانه، وهذه هي شبهتهم، والرد عليها: أن صدق الدليل في دلالته لا يستلزم تحكيمه أو تقديمه، مثل: دلالة الدليل العامي إذا دلل على عالم، فهو في دلالته لا يستلزم تحكيمه وتقديمه، كأن يأتي رجل يسأل عن عالم فيجد عامياً فيدله على عالم، فيتعلم منه العلم النافع الغزير، ثم عند العودة إلى بلاده قال له ذلك العامي: اعرض علي ما تعلمت؛ حتى أقر لك ما أشاء وأرد ما أشاء، فنقول له: لماذا؟ فيقول: أنا الذي دللتك عليه، فلولاي ما عرفته، ولو أنك قدمت كلامه عليَّ لكان ذلك قدحاً في دلالتي، وإذا بطلت دلالتي لك عليه بطل المدلول، وهذا نفس كلامهم، فيقال لكل عاقل: لا يلزم من صدقك في الدلالة على العالم أن تقدَّم عليه أو تحكم فيه، وإلالزام أن تكون أنت العالم، وإذا كنت سأذهب إلى مدينة لأتعلم، وطبقت هذا الدليل وحكمته في كل ما أتعلم، وعملت بقوله: خذ هذا واترك هذا، فنصف العلم الذي سوف أتعلمه عند الشيخ قد يرده، وقد يرد ثلثيه أو ثلاثة أرباعه كما ردوا المتواتر والآحاد، وما السنة إلا المتواتر والآحاد، فرد السنة وهي أكثر من ثلاثة أرباع العلم، أو على الأقل هي الثلثين مثلاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه )، فلتكن السنة النصف أو الثلثين، وعليه فالقرآن وفهم القرآن ونفس الدلالة دلالة القرآن والسنة، وبالتالي عندما أحكم هذا العامي في كلام العالم إذاً سأتعلم على يديه مباشرة.
ومعنى ذلك: أنه يلزم من كلامكم أن نحكم العقول رأساً، فإذا أراد أحد أن يتعلم الصفات، أو يريد عقيدةً حقاً يعتقدها ويدين الله تعالى بها في الصفات، فقالوا: لابد من تعلم القرآن والسنة، وبعد أن تأتي يقولون لك: هذه الآية لا بد أن تؤولها، وهذا الحديث ترده، وهذه الآية كذا، وهذا الكلام احذفه، وكلام الإمام أحمد هذا احذفه.
إذاً: من بداية الأمر علموني أنتم، ثم إن لازم ذلك أن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تعطيلاً ووبالاً وضياعاً للعقول والأوقات والعياذ بالله؛ لأنه جاء فأخبرهم عن الله بأحاديث كثيرة، في الصفات وفي القدر وفي الرؤية وفي الصراط وفي الميزان وفي يوم القيامة وغيرها، وأخذ عليه الصلاة والسلام يعلمهم وهو في المسجد، وفي غزواته صلى الله عليه وسلم، وبين لهم ما جاء في القرآن، وحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس من أجله، فقتل من قتل، وسبي من سبي، ثم في النهاية نحكم العقل، والذي يعتمد على القواعد من كلام أرسطو و أفلاطون ، وغيرهم من علماء المنطق، وأكثر أسمائهم مجهولة، وبالتالي فهذه العقول موجودة من قبل البعثة، وكتبهم موجودة من قبل البعثة، والقواعد التي قرروها موجودة من قبل البعثة، فإذا كان الدين الحق هو فيها، فلماذا يبعث الله هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكون هذه الأحداث العظيمة، ثم في النهاية نأتي في القرن الثاني ونرجع إلى قول أرسطو وأفلاطون ؟! وما فائدة إنزال هذا القرآن العظيم على النبي عليه الصلاة والسلام؟
يقول رحمه الله: (ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي، وعزلوا لأجلها النصوص، فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص، ولم يظفروا بقضايا العقول الصحيحة المؤيدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية).
والمسألة أن القلب كالإناء، إن ملأته بالماء أو بالعسل أو بأي شيء طيب فخير، وإلا فإنه سيمتلئ بضده وخلافه فهؤلاء لما لم يتعلموا دينهم، ولم يأخذوا عقيدتهم في الله تبارك وتعالى من الكتاب والسنة، ومما جاء في الوحي، بل عزلوها وقالوا: لا تفيد اليقين، وأخذوا من كلام هؤلاء الفلاسفة الضلال والمتكلمين، المتأخر يأخذ عن المتقدم، وجعلوا مكان هذا هذا، وأحلوا هذا الباطل والغثاء والأوهام والركام والخلافات والضلالات كما قال شاعرهم: قيل وقالوا، فأحلوها محل كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأقفرت القلوب من النصوص، وحشيت بهذا، وعندما يأتي الموت لا تنفع هذه شيئاً أبداً، لا في القبر ولا يوم القيامة، وإنما هي حيره وتخبط وضلال.