المادة    
قال رحمه الله: [وأما اليوم الآخر فهم أشد الناس تكذيباً به وإنكاراً له، وعندهم أن هذا العالم لا يخرب] أي: أزلي أبدي، لا يخرب ولا ينقض نظامه، [ولا تنشق السماوات ولا تنفطر، ولا تنكدر النجوم، ولا تكور الشمس والقمر]، فهم يكذبون ما ذكره الله من ذلك، [ولا يقوم الناس من قبورهم، ويبعثون إلى جنة ونار، كل هذا عندهم أمثال مضروبة لتفهيم العوام، لا حقيقة لها في الخارج كما يفهم منها أتباع الرسل].
وهذا حتى نعرف أن الشر في كل زمان ومكان له أساس واحد، فلو ظهرت اليوم فرقة عندها كفر وضلال؛ لوجدنا أن ما جاءت به من الكفر والضلال، أو الانحراف والبدع، يرجع إلى شيء موجود من قديم الزمان، قال تعالى: ((أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ))[الذاريات:53]، فهناك قدر من التشابه بين ضلال الفرق القديمة وضلال الفرق الحديثة.
  1. قول الفلاسفة بأن الجنة والنار إنما هي أمثال ولا حقيقة لها

    إن الفلاسفة لا يرون خالقاً ولا وحياً ولا شرعاً، والعاقل عندهم يفهم ويعرف بالعقل، فيتعظ وينزجر ويرتدع، ويعرف أن هذا يليق وهذا لا يليق، وأن هذا كمال وهذا نقص.. قالوا: لكن أكثر العوام وأكثر الناس كالبهائم، فلو قيل لأحدهم: إن الحكمة كذا.. وإن هذا لا يليق .. والعقل يمنع كذا.. فإنه لن يفهم ذلك، فلذلك جاء بعض الحكماء الذين كان عندهم نوع من الحكمة التربوية، أو المصلحين، ونقول: مصلحين؛ لأن الذي يقال في أوروبا وفي أمريكا اليوم: أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم مجرد مصلحين أو زعماء إصلاح، وليس هناك وحي ولا غيره، فهي نفس الفكرة، لكنهم عرضوها بشكل آخر.
    فهؤلاء المصلحون لما رأوا العوام كالدواب وكالأنعام، حثوهم على فعل الخير وترك الشر، ولكنهم لم يفهموا ولم يلتزموا؛ فضربوا لهم أمثالاً وقالوا: إن هناك جنة وناراً، فمن عمل الخير دخل الجنة، ومن عمل الشر دخل النار، فرغبوهم بهذه الأمثال وخوفوهم وضحكوا عليهم، وهذا وإن كان هذا فيه كذب كما هو مذكور، إلا أن فيه مصلحة لهؤلاء العوام الذين لا يفهمون!!
    إذاً: معنى ذلك: أولاً: أن الفلاسفة لا يحتاجون إلى هذا الكذب -والذي هو الوحي- ولهذا يرون أنفسهم فوق الدعوات.
    ولذلك يقول بعض الكتاب الغربيين: إن الإسلام أحدث انقلاباً عظيماً في حياة العرب، وحولهم من أمة همجية صحراوية إلى أمة ذات مجد وعراقة، ونبيهم إنما هو مجرد رجل وزعيم عبقري، عنده قوة تخييل وقوة نفس وقوة إدراك.
    والفلاسفة المعاصرون والمستشرقون قد لا يقولون بهذه الثلاثة الأمور نصاً، لكن المقصود والمؤدى واحد، فالدين عندهم سياسة مدنية، والنبوة مكتسبة.. وهكذا.
    إذاً: فهم لا يحتاجون إلى الوحي ولا إلى الدين؛ لأنه تخيلات لمصحلة العامة الذي لا يفهمون.
    ثانياً: يقولون: إن الله لم يرسل الأنبياء، وإنما هم دجالون كذبوا على الله وكذبوا على الناس، لكن هذا الكذب لمصلحة الجمهور.
    ولهذا فإن غلاة الشيعة وغلاة الصوفية والفلاسفة والقرامطة والباطنية.. كلها تلتقي في أصل واحد، فـالفلاسفة يقولون: إنه يمكن أن يهذب الإنسان نفسه بما جاءت به الرسل، فإذا تهذب عقله وأصبح لديه ملكة قوية، فإنه حينئذ يترك ما جاءت به الرسل ويفكر لنفسه. وكذلك الصوفية يقولون: على الأنسان أن يتعبد، فيصلي ويصوم ويحج، فإذا أتاه اليقين فلا حاجة حينئذ للعبادة؛ لأن الغرض من العبادة أن تصفو النفس حتى يصبح الإنسان قادراً على التلقي والكشف، فتكشف له الأمور ويخاطب، كما يقولون، ولو أن شخصاً وصل إلى درجة المكاشفة وهو لا زال يصلي، فإن هذا لا يليق به؛ لأن هذه العبادة إنما هي للعوام المريدين الذين هم في أول الطريق!
    ولهذا فإن ابن سبعين -وقد كان صوفياً- كان يبيت في غار حراء ليالي رجاء أن يأتيه الوحي فلا يأتيه، ثم ينزل إلى الحرم ويجلس عند الكعبة، ويرى الناس يطوفون، فيقول: إن هؤلاء يدورون كما تدور الحمر بالرحى! ولهذا كانوا كفاراً مرتدين خارجين عن دين الإسلام، وخارجين عن كل الملل، ولذلك فلو أن نصرانياً بل يهودياً أراد أن يترك اليهودية ويدخل في دين الفلسفة، فلا نقره؛ لأنه قد بدل دينه، على مفهوم بعض العلماء لقوله صلى الله عليه وسلم: {من بدل دينه فاقتلوه}، وذلك لأنه خرج من دين كتابي إلى ملة غير كتابية، وإلى مبدأ كفري خبيث.
    ويعتقد الفلاسفة أن الأرواح هي التي تبعث فقط، أما الأجسام فلا تبعث، والعذاب والنعيم إنما يكون على الروح فقط، فليس هناك بعث حقيقي، ولا حساب، ولا ميزان، ولا صراط، ولا جنة ولا نار، وإنما هذه الأمور عبارة عن خيال بلا حقيقة.
    وهذه المسألة من المسائل التي يكفر بها الفلاسفة ويخرجون بها عن الملة عياذاً بالله!