المادة    
فلذلك عندما يظن المتكلمون أو الفلاسفة أن هذا الدين مجرد أخبار، ويحيلون ويحاكمون إلى القواعد العقلية والبراهين اليقينية كما يزعمون، يكون منهم الضلال الذي أشرنا إليه، فهذه الطوائف كلها تقول: إن الأخبار التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمان: متواتر وآحاد، والقسمة لا تختص بهم وحدهم، بل يشاركهم فيها كذلك علماء الحديث وعلماء المصطلح، لكن اختصوا هم بما بعد ذلك، وهو قولهم: (فالمتواتر وإن كان قطعي السند غير قطعي الدلالة)، وبالتالي لا تؤخذ منه الأحكام؛ لأنه غير قطعي الدلالة، وإن كان قطعي الثبوت، وشبهتهم: (أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين)، وهذا ما ذكرنا النقل عليه من كلام الإيحي وشيخه الرازي ، فهم يتصورون أن القرآن والسنة مجرد أدلة لفظية وليست أدلة عقلية، ومن هنا جاء الخلل، وبالتالي فشبهتهم أنهم قالوا: الألفاظ تحتمل عشرة أوجه، أو يعللون بأنها لا تفيد اليقين من عشرة أوجه:
الإضمار، أي: قد يضمر كلمة، والتخصيص، والتقييد، والنسخ، والاشتراك، إلى آخر ذلك من الشبهات التي يرون أنها تتعلق بالألفاظ، مع أن العاقل لو تأمل لوجد أن أي قاعدة عقلية، وأي معادلة رياضية -مثلاً- تجزم أنها صحيحة، لا بد أن تصوغها في ألفاظ، وعليه فالمشكلة ليست في كونها دلالةً، أو في كونها براهين لفظية أو غير لفظية، وإنما قد يكون الإشكال في أصل اللغة واللفظ والمتكلم.
أحياناً يكون التقصير في اللغة، فمثلاً: اللغات غير العربية تأتي لمعان كثيرة، وبالتالي لا تستطيع أن توجد لها معنىً بنفس الدقة في اللغة الأخرى، إذاً فالإشكال جاء من ذات اللغة، وأحياناً يكون من ذات المتكلم، مثل أن يكون لدي معنى، لكني لا أستطيع أن أعبر عنه، وإلا فهو له وجود في اللغة، فلو جاء من هو أقدر مني في اللغة لعبر عنه بما يجعلني أقول: نعم، هذا الذي أردت وقصدت.
إذاً: المشكلة ليست مشكلة الألفاظ، وإنما مشكلة اللغة أو المتكلم، فأما اللغة العربية فهي أوسع اللغات وتشمل كل شيء، والله سبحانه وتعالى اختارها وجعلها لغة لكتابه؛ لأن هذه الميزة فيها بلا ريب.
فإذا كان القرآن فالمتكلم هو الله، وإن كانت السنة فالمتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يمكن أن يكون أعظم من بيان الله بيان، أو من بيان رسوله صلى الله عليه وسلم بيان حتى نقول: هذه عبارة ينقصها البيان؟! لا يمكن أبداً، وعليه فيمكن أن يطرأ الإضمار أو التخصيص أو التقييد أو الاشتراك على أي كلام يقال، ولكن مع ذلك يظل كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل كلام يقوله أي أحد، فهو الذي لا يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبهذا قدحوا في دلالة القرآن الكريم على الصفات وعلى غير الصفات، لكن موضوع الصفات هو أهمها وأوضحها.
  1. الرد على من قدم العقل على النقل ورد نصوص الوحي

    يقول رحمه الله: (ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي).
    ففي القانون الكلي: إذا تعارض العقل والنقل فيقدم مقتضى العقل، وقالوا: إنما عرفنا صحة النقل بدليل العقل، فالعقل هو الذي دلنا على أن النقل صحيح، فلو أننا حكمنا مقتضى النقل في تعارضه مع العقل لأبطلنا دلالة العقل، وإذا بطلت دلالة العقل بطل النقل؛ لأنه مبني على دلالته، وما بني على شيء يبطل ببطلانه، وهذه هي شبهتهم، والرد عليها: أن صدق الدليل في دلالته لا يستلزم تحكيمه أو تقديمه، مثل: دلالة الدليل العامي إذا دلل على عالم، فهو في دلالته لا يستلزم تحكيمه وتقديمه، كأن يأتي رجل يسأل عن عالم فيجد عامياً فيدله على عالم، فيتعلم منه العلم النافع الغزير، ثم عند العودة إلى بلاده قال له ذلك العامي: اعرض علي ما تعلمت؛ حتى أقر لك ما أشاء وأرد ما أشاء، فنقول له: لماذا؟ فيقول: أنا الذي دللتك عليه، فلولاي ما عرفته، ولو أنك قدمت كلامه عليَّ لكان ذلك قدحاً في دلالتي، وإذا بطلت دلالتي لك عليه بطل المدلول، وهذا نفس كلامهم، فيقال لكل عاقل: لا يلزم من صدقك في الدلالة على العالم أن تقدَّم عليه أو تحكم فيه، وإلالزام أن تكون أنت العالم، وإذا كنت سأذهب إلى مدينة لأتعلم، وطبقت هذا الدليل وحكمته في كل ما أتعلم، وعملت بقوله: خذ هذا واترك هذا، فنصف العلم الذي سوف أتعلمه عند الشيخ قد يرده، وقد يرد ثلثيه أو ثلاثة أرباعه كما ردوا المتواتر والآحاد، وما السنة إلا المتواتر والآحاد، فرد السنة وهي أكثر من ثلاثة أرباع العلم، أو على الأقل هي الثلثين مثلاً، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه )، فلتكن السنة النصف أو الثلثين، وعليه فالقرآن وفهم القرآن ونفس الدلالة دلالة القرآن والسنة، وبالتالي عندما أحكم هذا العامي في كلام العالم إذاً سأتعلم على يديه مباشرة.
    ومعنى ذلك: أنه يلزم من كلامكم أن نحكم العقول رأساً، فإذا أراد أحد أن يتعلم الصفات، أو يريد عقيدةً حقاً يعتقدها ويدين الله تعالى بها في الصفات، فقالوا: لابد من تعلم القرآن والسنة، وبعد أن تأتي يقولون لك: هذه الآية لا بد أن تؤولها، وهذا الحديث ترده، وهذه الآية كذا، وهذا الكلام احذفه، وكلام الإمام أحمد هذا احذفه.
    إذاً: من بداية الأمر علموني أنتم، ثم إن لازم ذلك أن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تعطيلاً ووبالاً وضياعاً للعقول والأوقات والعياذ بالله؛ لأنه جاء فأخبرهم عن الله بأحاديث كثيرة، في الصفات وفي القدر وفي الرؤية وفي الصراط وفي الميزان وفي يوم القيامة وغيرها، وأخذ عليه الصلاة والسلام يعلمهم وهو في المسجد، وفي غزواته صلى الله عليه وسلم، وبين لهم ما جاء في القرآن، وحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس من أجله، فقتل من قتل، وسبي من سبي، ثم في النهاية نحكم العقل، والذي يعتمد على القواعد من كلام أرسطو و أفلاطون ، وغيرهم من علماء المنطق، وأكثر أسمائهم مجهولة، وبالتالي فهذه العقول موجودة من قبل البعثة، وكتبهم موجودة من قبل البعثة، والقواعد التي قرروها موجودة من قبل البعثة، فإذا كان الدين الحق هو فيها، فلماذا يبعث الله هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكون هذه الأحداث العظيمة، ثم في النهاية نأتي في القرن الثاني ونرجع إلى قول أرسطو وأفلاطون ؟! وما فائدة إنزال هذا القرآن العظيم على النبي عليه الصلاة والسلام؟
    يقول رحمه الله: (ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي، وعزلوا لأجلها النصوص، فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص، ولم يظفروا بقضايا العقول الصحيحة المؤيدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية).
    والمسألة أن القلب كالإناء، إن ملأته بالماء أو بالعسل أو بأي شيء طيب فخير، وإلا فإنه سيمتلئ بضده وخلافه فهؤلاء لما لم يتعلموا دينهم، ولم يأخذوا عقيدتهم في الله تبارك وتعالى من الكتاب والسنة، ومما جاء في الوحي، بل عزلوها وقالوا: لا تفيد اليقين، وأخذوا من كلام هؤلاء الفلاسفة الضلال والمتكلمين، المتأخر يأخذ عن المتقدم، وجعلوا مكان هذا هذا، وأحلوا هذا الباطل والغثاء والأوهام والركام والخلافات والضلالات كما قال شاعرهم: قيل وقالوا، فأحلوها محل كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأقفرت القلوب من النصوص، وحشيت بهذا، وعندما يأتي الموت لا تنفع هذه شيئاً أبداً، لا في القبر ولا يوم القيامة، وإنما هي حيره وتخبط وضلال.
  2. حجة المبتدعة في ردهم لحديث الآحاد وعدم الاستدلال به

    (قالوا: والآحاد لا تفيد العلم، ولا يحتج بها من جهة طريقها) لأنها آحاد، (ولا من جهة متنها) لأنه إذا كان متن المتواتر لا يفيد فكذلك متن الآحاد من باب أولى، (فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم)، وهي أعظم وأوجب وأشرف وأجل المعارف، وجعلوا الطريق إليها كما قال رحمه الله: (وأحالوا الناس إلى قضايا وهمية ومقدمات خيالية، سموها قواطع عقلية، وبراهين يقينية).
    وهذا تعبير جيد، إذ إن ما يسمونه قواطع عقلية وبراهين يقينية فهو في الحقيقة قضايا وهمية ومقدمات خيالية، فصاحب العقل إذا قال: عندي أمور عقلية وعارض بها النص، فاحكم بأن هذا ليس عقلاً، وإنما هو وهم أو خيال، وأما صاحب الكشف أو العلم الباطن وما أشبه ذلك إذا جاء وقال: كشفي أو ذوقي أوصلني إلى كذا وكذا، ووجدت أنه ليس في الكتاب ولا في السنة، بل هو معارض له، فاحكم عليه بأنه خرافة؛ لأنه وحي من الشيطان، بينما المسكين يظن أنه كشف من الله في قلبه، وهذا الشيطان ألقى في قلبه خلاف الحق أو خلاف الآية أو خلاف الحديث، وهذا كله من الشيطان، وعليه فهؤلاء المتكلمون وأمثالهم ما يسمونه قواطع عقلية وبراهين يقينيه هي في الحقيقة قضايا وهمية ومقدمات خيالية، ثم استشهد الشيخ بالآية فقال: (وهي في التحقيق: (( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ))[النور:39]).
    ولذلك يجد الإنسان أول ما يقرأ في كتبهم أنهم يبدءون فيقولون: علم الكلام هو علم يقتدر به على إثبات العقائد الدينية بالبراهين العقلية! وبالتالي قد يقول الإنسان المسكين: إذاً لو عرفته لاستطعت أن أرد وألزم وأفحم كل المناظرين والمجادلين، ولذلك يقولون في التعليل: يا أخي! إذا وجدت يهودياً أو نصرانياً هل تناظره بالقرآن؟! هو كافر بالقرآن، وهل تناقشه بالسنة؟! هو كافر بالسنة، لكن ناظره بالبراهين العقلية فتغلبه -كلام طيب- وهذه البراهين هي علم الكلام، ولذلك كما ذكر الشيخ في الآية أنها كسراب كما ذكر الله تعالى في أعمال الكفار، فاستعار هذا لهذا، والضمآن في الآية: المتعطش، كحال كثير من الناس، إذ إنه متعطش إلى معرفة الله وأسمائه وصفاته، وكيف يرد شبهات المبطلين؟ فيقول لك: الماء أمامك، فإذا ما ذهب وجد السراب، ويظل يجري ويجري من سراب إلى سراب، وفي النهاية عند الموت يدرك أنه لا شيء، كما فعل الرازي و الجويني وغيرهم عندما يأتي الموت فتصبح الحقيقة أمامه واضحة:
    نهاية إقدام العقول عقال            وغاية سعي العالمين ضلال
    ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا            سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
    وقال الغزالي :
    تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل            وعدت إلى تصحيح أول منزل
    وهذه قالها لتلميذه أبي بكر بن العربي وهو سالك طريق التصوف، فعندما جاءه الموت كان صحيح البخاري على صدره، فقال العلماء: البيت الذي قاله الغزالي عندما خرج من بغداد ، وأخذ المخلاء، وتزيا بزي الصوفية ، هذا البيت يصلح هنا عند الموت، عندما كان صحيح البخاري على صدره، فهذا هو موضع أن يقول:
    تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل            وعدت إلى تصحيح أول منزل
    قوله: أول منزل، أي: الكتاب والسنة، إذ إنها هي الأول، وليس ما قلته من قبل، فهم يدركون أن هذا كان سراباً عند الموت، لكن في أثناء حياتهم يظلون يلهثون وراءه، ويظنون أن هذا هو الذي يعطيهم اليقين.
    فهذا المثال أو المثال الآخر وهو قوله تعالى: (( أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ))[النور:40]، وهذا من أعظم الأمثلة البلاغية في القرآن الكريم على عمل الكفار، وعلى حبوطه، وعلى أنهم لا يظفرون ولا يصلون إلى شيء، والمهم هو ما ختم الله تبارك وتعالى به الآيتين: (( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ))[النور:40]، أي: من لم يجعل الله له يقيناً فما له من يقين؟ ومن لم يجعل الله له برهاناً فما له من برهان، وهكذا فالحق واليقين والبرهان والعلم إنما يؤخذ من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما عارض به هؤلاء فهو أوهام أو سراب أو خيالات.