المادة    
بعد أن انتهى الشيخ رحمه الله من الأدلة وعرضها أخذ في بيان ما وقع فيه الطرفان من عدوان، أي: المتبعين لـأهل السنة والجماعة ومذهب السلف، والمتبعين للمرجئة الفقهاء أو للإمام أبي حنيفة رحمه الله، يقول الشيخ رحمه الله: [وإذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً فلا محذور فيه] ونحن قد قررنا أنه ليس لفظياً بإطلاق، بل لا بد من التفصيل، لكن الشيخ يقول: إذا كان كذلك فلا محذور فيه، ولا شك أنه إذا كان لفظياً من جميع الوجوه فإنه لا محذور فيه وإذا كان لفظياً من وجه حقيقياً من وجه فإن المحذور يكون فيما هو حقيقي، وبالتالي لا يجوز أن يخالف فيه.
  1. الاجتماع في الحق

    وأما الآخر فلا بد من التفصيل فيه أيضاً، فينكر عليهم ما هو حقيقي، ويقروا على ما وافقوا فيه أهل السنة والجماعة ؛ لأن الحق هو الأصل، والحق يجب أن يكون أحب إلى المؤمن من كل أحد، ولأن أي اجتماع لا يكون على الحق فهو شر يجب الحذر منه، والله تبارك وتعالى عندما أمر الأمة بأن تعتصم وأن تتوحد وألا تتفرق لم يجعل الأمر مطلقاً، وإنما قال: (( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ))[آل عمران:103]، فلا بد من وضوح وبيان ما يتوحدوا عليه وما يجتمعوا عليه وما لا يتفرقوا عليه، وهو القرآن والهدى والسنة وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح، وأما إذا كان باطلاً أو خطأ فإن الاجتماع عليه لا يجوز.
  2. الاجتماع عند وجود مفسدتين

    فإن قال قائل: إذا كان الأمر فيه مفسدة ومصلحة، وأجمعت الأمة على ارتكاب أخف الضررين أو أدنى المفسدتين، فتكون قد أجمعت على ما هو مفسدة في الحقيقة، لكنها أدنى المفسدتين، أي: أصغر من غيرها، فإنها في هذه الحالة لا تكون مجتمعة على باطل وضلال وخطأ؛ لأن الذي جمعها قاعدة شرعية، وهي: ارتكاب أخف الضررين، والنظر في المصالح والمفاسد، وبالتالي لم يخرج الأمر عن كون الاجتماع لا يجوز إلا على الحق، ولا يجوز الاجتماع على الباطل المحض، وأمثلة المصالح والمفاسد عظيمة جداً، من أوضحها: حديث الرجل الأعرابي الذي بال في المسجد، إذ إن بوله في المسجد مفسدة لا يستطيع أحد أن يماري في ذلك، لكن نحن أمام مفسدتين: إما أن يظل بوله في حدود المكان الذي بال فيه، وإما أن يزجر وينهر فيقوم فتتنجس ثيابه وبقعة واسعة من المسجد، وعند ذلك بدلاً من أن يكون ذنوباً من ماء يكفي لإزالة النجاسة، نحتاج إلى عشرة وربما إلى مائة ذنوب لتطهير المكان، وربما لا نحصر النجاسة ولا نعلم أين هي، فنحن أمام مفسدتين لا بد من أن ترتكب المفسدة الأخف، وهذا من الحق كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ( لا تزرموه، وتركه حتى قضى بوله )، ثم رش موضع النجاسة بالماء فطهر، ولم يبق بعد ذلك شيء، فزالت المفسدة، والمقصود أن الأمة في طريق دعوتها وعملها قد تبتلى بحالات أوقعت المفسدة من فرقة أو بدعة أو ضلال أو ما أشبه ذلك، والحل أن تتعامل معها بحيث تحصر ولا تنتشر ولا تتسع ولا تمتد، فإذا رأيت أن أمراً معيناً يكون من شأنه أن تحد ولا تنتشر فاعمله وإن بقيت في موضع معين حتى يهيئ الله أن تزال، فهذا يكون من الحق، إذاً فالشاهد أن الاجتماع يكون على الحق، قال تعالى: (( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ))[آل عمران:103]، فيجب أن يكون الاجتماع على دين الله، وأن يكون الاعتصام بحبل الله.
  3. حكم الاجتماع بإقرار الباطل وأثره

    يقول الشيخ رحمه الله: [فلا محذور فيه، سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك] إذاً نقول للشيخ: إذا كان الافتراق فيما هو حقيقي من أوجه الخلاف فهذا لا بد منه، فهل يجوز لـأهل السنة والجماعة أن يتنازلوا عن رأيهم، أو يتراجعوا عنه ويوافقوا مرجئة الفقهاء أو غيرهم على أمر يعلمون أنه حق، وموافق للنصوص، ويوافقون غيرهم فيما يعلمون أنه باطل، وأنه مخالف للنصوص الشرعية؟ لا يجوز أن يتنازل عنه كلية، وأن يترك الحق ويهمل ويغفل ويجتمعا على الباطل، وهذا الذي ذم الله تبارك وتعالى عليه أهل الكتاب، وواقع تاريخهم كذلك ولم يؤد إلى اجتماعهم، بل إلى فرقتهم، رغم أنهم كانوا يعقدون المجامع الدينية أو المقدسة، ويجتهدون أن يتفقوا على رأي واحد، وإذا كان مجمعاً محدوداً فإنه بحسب الطائفة أو المكان أو الإقليم، فإن كان مجمعاً عاماً سموه: الأراضي أو العالمي أو المسكوني نسبة إلى المسكونة، وهي مجمع أرضي يشملها كلها، ويقرون القرارات، ويحرصون على أن يجتمعوا ويتفقوا عليها، لكن الذي يحصل أنهم يتفرقون ويزدادون فرقة بعد كل مجمع تقريباً؛ لأنه ليس من سنة الله أن يترك الإنسان ما يرى أنه حق لمجرد الاجتماع، والمقصود في ذلك الدين والاعتقاد وما فيه نص، وليس المقصود مجرد الآراء والاجتهادات، إذ إنه ينبغي للمؤمن إذا كان مجرد رأي يقابل رأياً ألا ينازع بمجرد رأيه، فإذا رأى أن الأكثرية رأت رأياً فإنه يوافقهم في الأمور الاجتهادية، إذ ليس فيها نص، والأمر كله محض اجتهاد، وليس اجتهاد الأقلية بأولى من اجتهاد الأكثرية، وإنما القضية لها تفصيلها.
  4. الفرقة التي يحذر منها وبيان أثرها

    يقول رحمه الله: ولكن المقصود هنا أن الافتراق شر -ولا شك في ذلك- ولا بد من الحرص على الاجتماع، ومن أصول هذا الدين أن يجتمع المؤمنون به وألا يتفرقوا، ولهذا حذرهم الله تبارك وتعالى: (( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ))[آل عمران:105]، وقال عز وجل: (( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ))[الأنعام:159]، فهؤلاء أهل الكتاب وأكثر الأمم في الدنيا هذا حالهم، إذ إنهم فرقوا دينهم وأصبحوا كما ذكر الله تبارك وتعالى شيعاً وأحزاباً، وكل حزب بما لديهم فرحون، وأصبحوا طوائف وأمماً كل أمة تلعن أختها وتضللها وتكفرها وتبدعها، وهذا من أعظم أسباب الفشل والوهن وضياع ودمار الأمة أياً كانت ومهما كانت قوتها.
    فإذا تفرقت فاعلم أن ذلك بداية ضياعها ودمارها، وهذه سنة الله كما تشهد لها الآيات والأحاديث، ويشهد لها الواقع، فمثلاً ما كان يسمى بـالاتحاد السوفيتي عندما كان مكوناً من عدة جمهوريات وأعراق وعنصريات ومذاهب دينية مختلفة، فبدأ فيه التفكك ولم يبق له وجود، وانتهى ما يسمى الاتحاد السوفيتي ، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يحل بـأمريكا مثل ذلك وأعظم إنه سميع مجيب، وعليه إذا بدأ التفرق في أمة فلا شك أنه بداية لنهايتها ولزوالها بإذن الله تبارك وتعالى.
    وأما هذه الأمة فهي مأمورة بأن تعتصم بحبل الله جميعاً ولا تتفرق، وهذا مما رضيه الله تبارك وتعالى لها، جاء في الحديث الصحيح: (وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تتفرقوا)، وهذه إحدى الثلاث التي رضيها الله تبارك وتعالى لنا، وهي مطلوبة ولا بد منها، ومهما كان المسلمون أمة واحدة ويداً واحدةً كان ذلك أجدر أن ينالوا ما وعدهم الله تبارك وتعالى به من المجد والعزة والتمكين، وكان ذلك أخوف وأوقع في قلوب أعدائهم، ولذا يحرص أعداؤهم على بذر الفرقة والشقاق فيما بينهم، سواء الفرقة العقدية الدينية أو غيرها، ولهذا كثير من الفرق قديماً وحديثاً تنشأ أو تؤيد من قبل أعداء الله، كالطائفة القاديانية التي أنشأها الإنجليز ويؤيدونها إلى الآن، وكثير من الفرق التي في أمريكا ، والباطنية أيضاً التي وراءها اليهود بأيادٍ خفية، مع أن الباطنيين القدامى لهم أصول وجذور يهودية كما هو موضح في كتب التاريخ، فهناك حقائق تاريخية أن أعداء الإسلام حريصون كل الحرص على بذر الفرقة بين المسلمين.
  5. حصول الفرقة في عهد الصحابة وسببها

    فهؤلاء اليهود والمنافقون كانوا كذلك في المدينة ، وذاك المهاجر عندما قال: يا للمهاجرين! والأنصاري قال: يا للأنصار! وسبب ذلك الوقيعة والدس من المنافقين الذين كانوا في المدينة، والذين أرادوا الفرقة بأفضل أمة، بل ما في أمم الدنيا أفضل وأشرف وأطهر من المهاجرين والأنصار، وهل هناك حواريون وأتباع أفضل من هؤلاء الحواريين والأتباع والأصحاب؟لا، ومع ذلك نزغ الشيطان بينهم، فقال هؤلاء: يا للمهاجرين! وقال أولئك: يا للأنصار! مع أنهما وصفان شرعيان، ولم يقل قائلهم: يا لقريش! يا للأوس! ويا للخزرج! وكانت جاهلية واضحة وعنصرية قبلية، وإنما تنادوا باسم الإيمان وباسم شرعي ذكره الله تبارك وتعالى في كتابه، ومع ذلك قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم) فجعلها النبي الكريم دعوى جاهلية مع أنها أسماء شرعية، ولذلك التفرقة إن حملت اسماً أو لافتة شرعية فهي من دعوى الجاهلية، ولا يقول قائل: إن المسألة ترجع إلى حسن النية، إذ لا يوجد أحد أفضل وأحسن وأطهر نيةً من الصحابة أبداً، فهم إن تنادوا فهم يتنادون للحق لا للباطل أبداً.
  6. عمل أهل البدع في الفرقة بين المسلمين واعتمادمهم على حسن النية

    ثم إن كثيراً من الفرق ومنها الخوارج -أوضح مثالاً على ذلك- لم يتهمها أحد من العلماء، ولا حتى في الأحاديث التي وصفهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء النية، وإنما اتهمهم بالغلو؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وعبادتكم إلى عبادتهم)، أي: أنهم مجتهدون في العبادة، حتى أنه أصبح علم يقال على كل من خرج: خارجي، وكان بعض السلف يسمي أهل الأهواء خوارج كما روى اللالكائي رحمه الله، وكل أهل الأهواء يمكن أن يسموا خوارج ؛ لأنهم خرجوا عن الجماعة، والجماعة هي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهؤلاء الخوارج لم يكونوا سيئي النية بالدين كما كانت السبئية و الروافض الأولون ومن شابههم مثلاً، إنما كان عن حسن نية أو عن اجتهاد يرون أنه الصواب، لكنهم لما خرجوا عن الجماعة وفرقوا صفوف المسلمين وقع البلاء، واستحقوا الوعيد والعقوبة، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يسم فرقة ويصفها بكامل أوصافها كما حدث ذلك في الخوارج ، مع أنه روي بعض الأحاديث في القدرية وفي المرجئة ، لكن الغالب والظاهر أنه لم يصح شيء منها كما بين ذلك ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه الموضوعات وغيره في كتب الموضوعات والعلل، والمقصود أن الخوارج لا يمكن لأحد أن يتهمهم بسوء النية، ولهذا لا نسمح لمن يفرق صفوف أهل السنة والجماعة المجتمعين على الحق، وعلى الكتاب والسنة، والساعين إليه الراغبين فيه، وإن أخطأ من أخطأ وقصر من قصر مثلاً، فلا يسمح لأحد بتفريق صفوفهم ولو كان حسن النية، إذ إن حسن نيته له، لكن سوء عمله على الأمة، فخلاصة هذه الأمة هم أهل السنة والجماعة المتبعون للسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، فإذا وقع الشقاق بينهم، وتعادوا أو تهاجروا ضاع هذا الدين، وضاعت هذه الأمة، لكن ما دام أن كل أحد يريد الحق والخير، ويريد الكتاب والسنة، ويريد أن يصل باجتهاده إلى ما يرضي الله عز وجل، فمهما خالفك في الاجتهاد، ولو ظللت أنت وهو تبحثان المسألة شهوراً أو دهوراً، فلا يجوز لك أن تفرق صف المسلمين، وأن تخرجه عن أهل السنة ، وأن ترميه بالابتداع والضلال؛ لأن هذا من البغي والعدوان الذي ذكره الشيخ هنا، والله سبحانه وتعالى يقول: (( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ))[النحل:90].
    يقول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: هذه أجمع آية في كتاب الله فيما يتعلق بالحلال والحرام والخلف، لا فيما يتعلق بأصول الاعتقاد والخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه سن أن تكون نهاية الخطبة بدل ما كان يتلفظ به من قبله، فقد كانت كل طائفة تبغض الأخرى أو تحذر منها أو بل ربما لعنتها، فجعلت هذه الآية الجامعة المانعة: (( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ))[النحل:90].
  7. موقف المسلم عند وقوع الفتنة

    وليس من صفات المؤمنين أبداً أن يقعوا في هذا، أما النزاع والاختلاف فهو أمر طبيعي جبلي، ومحال أن يتفق الناس على أمر واحد وإن كانوا جميعاً يريدون غرضاً أو هدفاً واحداً، حتى أهل الحق الذين يريدون الحق الموافق للكتاب والسنة، ويريدون رضوان الله والجنة، فلا نتوقع أو نفترض أنهم لا بد أن يتفقوا جميعاً على أمر واحد لا سيما في الفتن، إذ إن الفتن شأنها عظيم، فهي كظلمات تموج موج البحر كما في الصحيحين من حديث حذيفة ، فكم من العقول يمكن أن تثبت أمام فتن مظلمة مدلهمة تموج كموج البحر؟! لا بد أن يقع الخلاف وتتشعب الآراء، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم لما وقعت الفتنة تقاتلوا، مع أنهم كانوا جماعة واحدة وأمة واحدة، لكن لما قتل عثمان رضي الله عنه وقعت الفتنة وحصل الاضطراب، فهؤلاء خرجوا إلى الكوفة ، وأولئك ذهبوا إلى مكة ، وآخرون أتوا من هناك، وصار كل واحد له رأي وحل وسبيل ومخرج من هذه الفتنة أو هذا البلاء، فحصل ما حصل، وغشيهم ما غشيهم من المشكلات، فأدى ذلك أن أدخل أهل الإفساد والإيقاع بينهم حتى حصل القتال بينهم في يوم الجمل ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم وقع أشد منه في يوم صفين ، هذا وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتي إن شاء الله عندما نتحدث عن الجماعة -وهو أصل عظيم- كيف قال سعيد بن المسيب رحمه الله عن الفتنة الأولى والثانية والثالثة، إذ إن كل فتنة كانت أشد مما قبلها، فوقعت الفتنة الأولى فلم تبق من أهل بدر أحداً، ثم وقعت الثانية فلم تبق من أهل الحديبية أحداً، ثم وقعت الثالثة ولم تنته وللناس طباخ، أي: عقل، وكلما تأتي فتنة تقضي على طائفة عظيمة من الأمة وتشتتها.
    وكل ما ذكرنا ليس لأن الأطراف في الفتنة من الصحابة، حاشاهم من أن يكونوا سيئي النية، بل كانوا مجتهدين، والخلاف طبيعي أن يقع، وليس أيضاً من كان دونهم كان سيء النية، ولكن يقع سوء النية ويدخل المفسدون والمرجفون عندما يقع الشقاق والفرقة، فتدخل فيه الحشرات السامة، لكن قبل ذلك لا يجدون مدخلاً يدخلون به، لكن لأن سنته سبحانه وتعالى أن الخلاف يقع، وأنه قد يقع ممن هو حسن النية، فإذا تمادت الأمة فيه، ولم تثبت وتصبر على الفتنة كما فعل بعض الصحابة رضي الله تعالى عليهم، إذ وجد أن المخرج هو أن يعتزل الناس كليةً، فاعتزل الفتنة الأولى سعد بن أبي وقاص و أبو هريرة و أبو بكرة و عبد الله بن عمر و عبد الله بن مغفل وغيرهم، و سلمة بن الأكوع رضي الله عنه خرج من المدينة ولم يعد إليها إلا قبل وفاته، كرامة من الله تعالى له أن يموت في أرض الهجرة، مع أن بعضهم ما استطاع إلا أن يخرج؛ لأنها فتنة، فنقول: إن ما يقع الآن في كل زمان وفي كل مكان أعظم مما كان في عهد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ لأنه كلما يأتي زمان تشتد الفتن والخطوب أكثر فأكثر، لكن ذلك بفضل الله تعالى لا يعني أن لا يقوم من هو قائم لله بحجة، وأن لا تكون في الأرض طائفة منصورة تجتمع على الحق، وإنما المشكلة -كما ذكرنا- وأصل الموضوع أن يوجد الخلاف، وأن تبذر الفرقة بين الطائفة المنصورة، بين أهل السنة والجماعة، فهذه هي المصيبة الكبرى، وهذا هو الخطب الذي دونه كل الخطوب، مع أن الأمر دائر بين أمرين: إما أن يكون فيها نص، أو لا يكون، فإن كان فيها نص، فإما أن يكون قطعياً، وإما أن يكون ظنياً في دلالته، فإن كان النص قطعي الدلالة، فيجب على الجميع الالتزام به، ولا يكون من أهل السنة والجماعة من لا يلتزم به في هذه الحالة، وإن كان ظني الدلالة فلا يجوز لأحد أن يحمل الناس على اجتهاده، بل يجوز لكل أن يفهم فهمه واجتهاده الخاص به، وأما إن كان الأمر مما لا نص فيه مطلقاً فكما قال الله تبارك وتعالى: (( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ))[الشورى:38]، فعلى أهل السنة أن يجتمعوا وأن يتشاوروا، وما خرجوا به من رأي فهو الحق إن شاء الله، وكما جاء في حديث ضعيف سنده، لكن معناه صحيح والواقع يؤكده بما له من شواهد: ( عليكم بالجماعة؛ فإنما تكرهونه في الجماعة خير مما تحمدونه في الفرقة )، أي: ماذا نتوقع في الفرقة؟ إن بعض الناس يتصور أن في الفرقة خيراً ما، كأن يتصور أن فيها بياناً للحق مثلاً أو إيضاحاً أو كفاً لباطل أو لبدعة أو لكذا، فهذا الذي يكرهه في الحق في الجماعة خير مما يحمده في الفرقة؛ لأن وقوع الفرقة ومرارتها وألمها وما يلزم عنها، يضيع وينسي تلك الثمرة التي رجوتها وسعيت إليها بالفرقة بين أهل الحق وبين أهل الإيمان وأهل السنة ، فعندما تقع الفرقة وتقارن بين ثمرة الافتراق، وبين هذا المصاب وهذا الخطب وهذا الخلل، يجد كل عاقل أنه لا يساوي تلك الفرقة، ويتمنى أن الفرقة لم تكن، وهذا أحرص ما يحرص عليه الشيطان وهو التحريش بين المؤمنين والإيقاع بنيهم كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
  8. معاملة الناس بالعدل والإنصاف مع التمسك بالحق

    فإذاً كلام الشيخ رحمه الله فيما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق، بسبب ذلك نحمله على المحمل الصحيح، ونوجهه الوجهة الصحيحة، ولا يؤخذ بإطلاقه، فلو يؤخذ على إطلاقه من أن الخلاف لفظي، وأنه لا بد أن تكف كل طائفة عما لديها من الحق، أو ما لديها من قول، حتى لا يقع هذا المحذور، والعدوان والظلم والبغي ليس من صفات المؤمنين، بل حتى مع الكافرين، والعدوان بمعنى الظلم لا بمعنى الاقتتال، والذي هو البغي والظلم والخروج عن العدل وعن الصراط المستقيم وما شرعه الله تبارك وتعالى، فهذا لا يكون، ولو وقع حتى مع الكافرين وجب على المؤمنين أن يرجعوا عنه، وإن لم يعدل المسلمون فمن يعدل كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن أهل الفرق إذا اختلفوا فيما بينهم يرجعون إلى أهل السنة والجماعة ليحكموا بينهم بالعدل، إذ لا يعدل إلا هم، فأهل الإسلام هم أهل العدل بين الملل، وأهل السنة هم أهل العدل بين الفرق، فإن ترك أهل السنة العدل وبغوا وتجاوزوا وحملوا الكلام ما لم يحتمل، وغلوا في رأيهم، وخرجوا عما لا يجوز أو تجاوزوا، فهي المأساة الكبرى؛ لأن المعيار ضاع، والله سبحانه وتعالى عندما قال: (( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ))[الرحمن:7-9] فهذا التكرار في هذه الآيات العظيمة ليدل أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض وجعل قوامها بالحق وبالعدل، وقد وضع الميزان والمعيار الصحيح في كل الأمور فقال: (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) فيجب أن يكون الوزن بالقسط، وهذا أمر الله تبارك وتعالى، لكن هل هذا فقط فيما يوزن أو يكال كما في قوله تعالى: (( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ))[المطففين:1]؟ لا، ولهذا قال في الآية الأخرى: (( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ))[الأنعام:152] فالوزن يكون في القول، ويكون في العمل، وفي وزن الأمم، وفي وزن الفرق، وفي وزن الرجال، فلو جاء أحد وقال: إن اليهود يقولون: إن الله ثالث ثلاثة! فهل نقول: إن كلامك صحيح؟ لا؛ لأننا لا نقر بهذا، وليس عدلاً وليس حقاً -وإن كان اليهود كفاراً لا شك في كفرهم، وإن لم يكفروا بهذا يكفروا بغيره- أن ننسب إليهم ما لم يقولوا، ولا نتأول عليهم أبداً، وإذا قالوا قولاً يحتمل أن يكون حقاً أو يراد به الباطل، قلنا: قولكم هذا يحتمل كذا ويحتمل كذا.