المادة    
  1. المثال الأول: إلقاء موسى عليه السلام للألواح

    قال الشيخ رحمه الله: (ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليس المخبر كالمعاين )، وبين ذلك، فقال: وموسى عليه السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوها ألقاها) فالله تبارك وتعالى أخبر موسى عليه السلام فقال: (( فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ))[طه:85]، فأخبره الله تعالى بعد أن أنزل عليه الألواح، وهذه الألواح هي كتاب الله: التوراة الذي خطه الله له بيده -كما في الحديث المتفق عليه- عندما حاجه آدم عليه السلام به ( قال آدم: أنت موسى الذي كلمه الله، وكتب له التوراة بيده. فقال: (( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ))[الأعراف:145] )، وكان هذا في غاية التكريم لموسى عليه السلام، أي: أن ينزل عليه وأن يعطى هذه الألواح وهذا الفرقان، والله عز وجل اختار موسى عليه السلام واصطفاه لذلك، وأناب موسى عنه أخاه هارون ليكون قائماً مقامه في بني إسرائيل، وذهب موسى إلى ميقات ربه ليتلقى هذا الفرقان، وهذه المكرمة العظيمة من الله تبارك وتعالى، فأخبره الله تعالى بأنه قد فتن قومه من بعده، وأنهم قد اتبعوا هذا الدجال الأفاك السامري الذي جعله الله تبارك وتعالى فتنة، والله يفتن الأمم بما يشاء، والدجال الأكبر يأتي في آخر الزمان، لكن في كل أمة وفي كل حين وفي كل عصر دجاجلة أقل، فهذا كان دجال بني إسرائيل الذي افتتنوا به، وبالتالي فماذا نتوقع أن يكون الأثر في نفس موسى عندما يرجع إلى قومه فيجدهم على خير مما كانوا عليه، فيبلغهم دين الله وكتابه، فيزدادوا إيماناً، ويظن أنهم في غاية الشوق عندما يرجع إليهم بالنور والوحي والهدى والخير؟
    إن ربه تبارك وتعالى عندما أخبره بذلك -وهو حق، وكلامه حق، وقوله حق- لا بد أن يألم، وأن يحزن، وأن يغضب، وأن يأسف، وأن يأسى على هذه الأمة العتية العصية العنيدة التي تأبى إلا الاعوجاج، وترفض الاستقامة في كل مرحلة، وهم في ظل حكم الفراعنة، وهم بعد التيه بعد الخروج، وهم في هذه الحالة دائماً، وهكذا قدر الله تعالى عليها، فلا بد أن يقع لديه هذا الأثر، ولذلك لما وصل ورآهم يعبدون العجل كيف كان وقع الأمر عليه؟ وماذا فعل؟ ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه.
    ولذلك اشتد عليه الغضب فجاء من جهتين: من جهة الألواح، وهي أعز ما لدى موسى عليه السلام، وهي من الأهمية بمكان، ومن جهة أخيه هارون عليه السلام الذي سأل الله سبحانه وتعالى أن يشدد به أزره، وأن يشركه في أمره، وأن يجعله وزيراً له ومبلغاً وداعية معه، وهو أفضل الأمة بعده، وهو الذي جاهد بني إسرائيل على ألا يعبدوا العجل، وكل ذلك لم يشفع، بل أخذ يجره موسى عليه السلام، وغضب عليه وألم، وكأنه يحمله المسئولية في هذا الذي قد وقع، وبالتالي فظهر أثر الغضب في الكتاب ومع الرسول الذي هو هارون، ولا شك أن الإنسان يألم عندما يرى الناس ينحرفون ويضلون، وخاصة إذا كان الهدى بين أيديهم والحق أمامهم، فيكون الألم أكثر وأعظم، والشاهد أنه كما قال صلى الله عليه وسلم: ( ليس الخبر كالمعاينة ) أو: ( ليس المخبر كالمعاين )، ثم ذكر قصة موسى عليه السلام، وأنه غضب وألقى الألواح لما عاين وليس لما أخبر؛ لأن النفس البشرية ركب فيها ذلك، وهكذا النفس البشرية عندما تعاين يكون الوقع والتأثير عليها أشد، وإن كان المخبر أوثق وأصدق، فالمخبر في هذه الحالة هو الله تبارك وتعالى، ولا شك في خبره، ولا شك أن موسى عليه السلام قد أيقن وصدق به تمام الصدق، لكنه لما عاين وأيقن ورأى وأبصر وسمع ازداد الأمر عنده، وازداد الغضب والألم والأسى لديه، ولو أن موسى عليه السلام فوجئ وما أخبر، فكيف يكون الغضب؟ إن الإنسان إذا بلِّغ بشيء يخف عليه إذا رآه، وإن كان أيضاً إذا رآه أشد مما كان في حالة الإخبار فقط، لكن من حكمة الله ولطفه، وهو يعلم عز وجل أن عبده ورسوله موسى عليه السلام شديد وقوي، والله سبحانه وتعالى جعله بهذه القوة ليواجه أعتى طواغيت الأرض، فهو قوي مع نفسه كما حصل في قصته مع الخضر، وقوي مع فرعون، وقوي مع من يستصرخه على عدوه، وقوي في مواقفه، فحصلت منه هذه القوة والشدة في هذا الموقف، مع أنه قد أخبر، فكيف لو لم يخبر؟! إن هذا يدل على أن الخبر ليس كالمعاينة، وليس المخبر كالمعاين كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله والحاكم وسنده صحيح.
    يقول الشيخ: (وليس ذلك لشك موسى في خبر الله) أي: ليس إلقاؤه الألواح عندما رآهم يعبدون غير الله لشك في خبر الله، فلم يغضب عندما أخبر، يقول: (لكن المخبر وإن جزم بصدق المخبر فقد لا يتصور المخبر به في نفسه، كما يتصوره إذا عاينه).
    إذاً: الشاهد من قصة موسى عليه السلام: أن العبد إذا آمن وبلغه عن الله تبارك وتعالى خبر أو أمر أو نهى، فإنه وإن صدق به في قلبه، فهو ليس كمن امتثل ذلك الأمر والتزمه وعمل به، فإن ذلك يرى ما لا يرى الآخر، إذ إن كل إنسان من المؤمنين يصدق أو يؤمن أو ينقاد أو يلتزم لخبر الله يجد في نفسه من آثار العمل إذا التزم بصدق وإخلاص ويقين أعظم مما لو كان الإلتزام أقل، فكيف لو لم يعمل وإنما اكتفى بمجرد قول القلب؟ أي: أنه صدق بما جاء عن الله، أو ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لم يعمل، فإن أثر ذلك عليه أقل بكثير، فإذا عمل، وعمل باستجماع لشروط العمل من الخشوع والإخلاص واليقين وغير ذلك؛ فإن الأثر يظهر أكبر فأكبر، وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه، وهذا هو المثال الأول الذي ذكره الشارح رحمه الله.
  2. المثال الثاني: طلب إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى

    وأما المثال الثاني: فهو قوله: (كما قال إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ))[البقرة:260])، فالسؤال من الله عز وجل؛ لأن هذا أمر يؤمن به عباد الله جميعاً، والخليل إبراهيم عليه السلام الذي جعله الله تبارك وتعالى إماماً للناس في الإيمان، وجعله قدوة للعالمين، وجعل من بعده من الأنبياء تبعاً له، وأفضلهم وأعظمهم وأعمهم رسالة ودعوة هو محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يقول الله تبارك وتعالى له: (( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ))[النحل:123]، وهذا إمام المؤمنين الموحدين يسأله ربه عز وجل: (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ)؟ وفي هذا السؤال نوع إنكار، (قَالَ: بَلَى) أي: مؤمن موقن لا شك في قدرتك، وفي أنك كما ذكرت: (( وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ))[البقرة:260] هذه مرحلة عليا من اليقين، وليس اطمئنان القلب بمجرد تصديق الخبر، فغير الخليل عليه السلام يطمئن قلبه بأن يعلم أن الخبر حق وأنه صدق، وهذا يكفي، وربما بعض الناس يكون على الدرجة الدنيا من ذلك، فإذا علم أن المخبر صادق اطمأن قلبه نوع اطمئنان لكن (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) في كلام الخليل أمر آخر؛ لأن كل إنسان اطمئنانه ويقينه وإخلاصه بحسبه وبدرجة قلبه، وإبراهيم الخليل عليه السلام في الذروة وفي الدرجة العليا من اليقين، فهو يريد أن يصل إلى قمة عالية شاهقة من اليقين لا يرقى إليها بعد ذلك أدنى احتمال أن يتطرق إليه شك في ذلك، وهذا سؤال من إبراهيم عليه السلام لربه عز وجل رغبة منه في أن يصل إلى هذه الذروة العليا من اليقين بخبر الله، وبما وعد به الله تبارك وتعالى، وخاصة في هذا الأمر؛ لأن الناس أكثر ما ينكرون ويجحدون البعث، فقال تعالى: (( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ))[التغابن:7]، وقال: (( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ ))[النحل:38]، فسبحان الله العظيم كيف تصل بهم الجرأة على الله عز وجل أن يقسموا الأيمان المغلظة لا يبعث الله من يموت؟! إن أكثر الخلق الذين لا يعرفون الله عز وجل، أو الذين لم يدخل اليقين في قلوبهم، يصعب عليهم إما كلية أو بشيء مع الشك: الإيمان والإقرار بالبعث بعد الموت، وهذه القضية أهم القضايا التي يأتي الحديث عنها في القرآن مع المشركين بعد الإقرار بوحدانية الله تبارك وتعالى، لكن جميع الرسل قد دعوا إليها وقرروها، فلهذا لما يقول الله تبارك وتعالى: (( وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ))[النحل:38]، علل ذلك في الآية التي بعدها فقال: (( لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ))[النحل:39]، فأول شيء أنه مستحيل أن لا يكون هناك بعث بعد الموت والناس مختلفون، فالرسل مع أممهم، والمؤمنون مع الكافرين، والظلمة مع الأبرياء، فلو لم يكن هناك يوم آخر لما بين الله تبارك وتعالى هذا الاختلاف، ولما حكم بين العباد، ولو كانت الأمور فقط في حدود هذه الدنيا لكان هناك شعور بأن خالق هذا الكون الحكيم العليم سبحانه وتعالى الذي أتقن كل شيء صنعه، والذي جعل هذا الكون يسير في دقة محكمة عجيبة جداً في الليل والنهار، وحركة الكواكب، وحركة الإنسان، وحركة الأعضاء، كل شيء في دقة عجيبة محكمة، ثم نأتي في جانب أفعال العباد، وما يقع بينهم من اختلاف، فلا نرى هذه الحكمة، إذ نرى الظالم الجبار الغاشم المتجبر المتغطرس يقتل في عباد الله، ويفني ويظلم ويسرق ويعمر الدهر الطويل، ثم يموت، ويموت قبله كثير من المظلومين والمسحوقين والمكلومين، فهل انتهى الأمر؟ لا يمكن هذا، إذاً لا بد من هذا لبيان الاختلاف والحكم بينهم، ثم أمر آخر: (( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ ))[النحل:39]، فلو كان الأمر كذلك، أي: لو لم يقم الله تعالى القيامة، ولم يبعث الخلق، وقد جاءت رسله تقول للناس: إن قيامة ستقوم، وإن حساباً لابد منه، وإن بعثاً وجزاءاً سيكون، فيكون عدم ذلك تصديقاً للكافرين الذين أنكروا، فيكذبهم تبارك وتعالى، ويصدق ما أخبرت به أنبياؤه ورسله من قبل، والشاهد أن قصة إحياء الموتى أو الإيمان بالبعث -وهي قضية عظيمة جداً- التي قرنها الله تبارك وتعالى كثيراً بالإيمان به في القرآن، من أعظم أمور الاعتقاد، فإذا كمل يقين الإنسان واعتقاده بالبعث بعد الموت كملت بقية الأمور وهانت، فإبراهيم الخليل عليه السلام لما سأل الله تبارك وتعالى ذلك، إنما سأله ليكمل إيمانه بهذه القضية التي هي أصل كل القضايا في عالم الإيمان بالغيب الذي لم يأت، قال: (( بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ))[البقرة:260] فإذا كان قلب الخليل ازداد اطمئناناً، أي: اطمأن وأيقن بعد أن رأى ما أمره الله تبارك وتعالى أن يفعله، ثم رأى كيف أحياها الله عز وجل، فكان أكثر منه قبل ذلك وهو يسأل الله، فما بالك بمن هو دون الخليل عليه السلام؟! وهكذا فالناس تتفاوت أحوالهم، فهو عندما رأى ازداد إيمانه أكثر مما كان عليه في حالة الخبر، وكذلك الإنسان إذا عمل عين العمل الذي أمر به، كان أكثر إيماناً وأقوى منه في حالة أنه مخبر ومصدق به، فلو أخبرك إنسان أن الله تبارك وتعالى أوجب عليك الحج، أو أوجب عليك الصيام مثلاً، وآمنت بذلك وأيقنت، فإن الإيمان في هذه الحالة ليس مثل أن يأتي شهر رمضان فتصوم، وتذهب إلى البلد الحرام وتعتكف وتقوم، وإنما الإيمان في هذه الحالة يفرق كثيراً جداً عن حالة الإيمان في أول الأمر، وربما نحن لا ندرك هذا كثيراً، ولكن ينبغي أن يكون ذلك، ولا بد أن قدراً منه موجود، لكن إذا أردتم المثال الأوضح فانظروا إلى من يسلم ويؤمن حديثاً، واقرءوا ما يكتبون، أو إن جالستموهم فاسمعوا ما يقولون، إنهم يقولون شيء عجيب جداً، بينما نحن نسمع الأذان -والحمد لله- منذ أن خلقنا، وربما لا يؤثر فينا، إذا قال القائل: الله أكبر الله أكبر، لكن بعضهم يقول: أنا كنت أسمع هذا الصوت فيشد أعصابي، وأتوقف عن العمل، ولا أفهم ما يقول، ويقول للذين معه: ماذا يقول؟ فيترجم له ويقول: إن الله تعالى أكبر وأعظم من كل شيء، وبعد ذلك يخبره أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يدعوه إلى الصلاة، فيقول: ما هي الصلاة؟ فيقال له: الصلاة كذا كذا، ويتكرر هذا فيبدأ يفكر، فإذا أسلم وجاء يخبرك بأن أول ما كان يشدهم -كما حدثني كثير منهم- أحياناً في التلفزيون في القناة الثانية أو الأولى: رؤية الكعبة والناس يصلون، ويتحدث كثير منهم أن هذا المنظر قد أثر فيه تأثيراً عجيباً جداً، وبعض من أسلم قريباً يقول: إنا كنا نجلس قبل أن نسلم مجموعة أمام التلفزيون ننظر في الطواف وصلاة التراويح في رمضان، مع أن هذا الموقف عندنا أمر عادي؛ لأننا ألفناه، لكن بالنسبة للذي لم يؤمن ولم يطمئن قلبه بالإيمان يعتبر شيئاً مثل الخيال، كذلك من رأى المحرمين ثم أسلم وذهب بنفسه فرأى البيت عجب أكثر، وبعضهم يكاد يذهل، وبعضهم يقول للذين معه: لا أريد أن أخرج، دعوني أبقى ساعات طويلة أتأمل في هذه الكعبة، وأتأمل في هؤلاء الناس، وأسمع القرآن، وأسمع الأذان.
    إذاً: الشاهد أن هذه حقيقة: ( ليس الخبر كالمعاينة )، وهي تظهر بتفاوت بين الناس، فبعضهم أشد ظهوراً عنده من بعض بحسب حاله وقوة الإحساس لديه، ولهذا الصحابة رضي الله عنهم كانت الحاسة عندهم قوية، وكان لديهم الشعور بأن هذه الآية تخاطب أعماق القلب، وهذا الحديث عندما يقوله صلى الله عليه وسلم، وهذه الموعظة التي يقولها، ومواعظ الصحابة، ومواعظ كبار التابعين، تجد كل هذا عبارات لو قلناها نحن أو قرأها أخ منا فلربما لا نتأثر بها، لكنها كانت تحفر في أعماق قلوبهم، وهي نفس الكلمات والعبارات، وهذا لأن القضية عندهم ليست بكثرة الكلام ولا بترتيب العبادات، وإنما الملقي يلقي بيقين وإيمان، وأعماق قلبه التي لا يمكن أن تخضع لحساباتنا، أو لما ينظر إليه الآن من الإرسال والاستقبال المعروف في حياتنا، فهذه خارج نطاق التفكير البشري أصلاً، لكن الله سبحانه وتعالى جعلها سراً مودعاً بين القلوب، فهذا يخاطب بذلك الخطاب والآخر يستمع، فإذا سمع وعى قلبه، والقصص في هذا كثيرة، ومنها: ذلك الرجل الذي جاء من البادية إلى المسجد في عهد السلف، فأراد أن يتعلم دينه وأن يسمع عن هذا الدين وعن هذا القرآن، ويعرف أمر الله سبحانه وتعالى، فجلس في حلقة من المسجد واستمع إلى قارئ يقرأ: (( إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا ))[الزلزلة:1] هذه السورة كم نقرأها؟ وكم نسمعها؟ إننا نحتاج إلى مجلدات حتى نعيها، بينما هو يسمع قوله تعالى: (( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه ))[الزلزلة:7-8]، قال: حسبي موعظة، فهو سمع الإيمان بالبعث، وما يقع عند قيام الساعة من الزلزلة والرهب والذعر والأهوال، وعلم أنه إن عمل مثقال ذرة من الخير رآها، وإن عمل مثقال ذرة من الشر رآها، إذاً ماذا بقي؟ كفى بها موعظة، وتحول إلى عابد من العباد، وهكذا فالقصد هو أن نحرك وأن نحيي هذه القلوب لتكون كتلك القلوب، فإذا أُخبرنا عن الله وعن دين الله وعن أمر الله وعن أي أمر من أمور الغيب، أو من أشراط الساعة، أو مما يقع في هذه الدنيا قبل قيام الساعة، أو عما يكون في البرزخ من الحساب والنعيم أو العذاب، أو عما يكون يوم القيامة، فإنه يجب علينا أن نستيقن ذلك، وأن يتحول ذلك إلى عمل يظهر أثره على جوارحنا، وحينئذٍ نرى أننا بقدر ما نتمثل وبما نعمل يزداد إيماننا، ويزداد علمنا وشعورنا بما أخبرنا به، وهذه هي القضية الثالثة، فالأولى: كانت في التفاوت في القوة والضعف، والثانية: في الإجمال والتفصيل، والثالثة: في الامتثال في العمل.