المادة كاملة    
لقد خلق الله تعالى البشر من أب واحد، وأم واحدة، وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا، وسوى بينهم في الحقوق والواجبات، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى، وسد الشرع كل أبواب ومنافذ العصبية الجاهلية، والتفاضل الهمجي، فحرم التفاخر بالآباء والأحساب والأنساب، وحرم الاحتقار وحرم الهمز واللمز، والتنابز بالألقاب، ورسخ مبدأ المساواة والأخوة، وحث على المسارعة في الأعمال والمسابقة فيها، فهي الميزان الحقيقي للتفاضل، وهي ميدان السباق، ومضمار التنافس.
  1. وحدة الأصل البشري بأجمعه

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد:
    فإنا كنا قد تعرضنا -بفضل الله تبارك وتعالى وتوفيقه- لمسألة عظيمة تتعلق بالتفاضل بين الناس، فقد قال الشيخ -رحمه الله تعالى- قوله: (وأكرمهم عند الله أطوعهم لله، وأتبعهم للقرآن)، وبينا بعض العادات والمعتقدات الجاهلية؛ قديمها وحديثها، في التفاخر بالأنساب والعنصر، أو بالأوطان.. أو بغير ذلك.
    ونريد اليوم -إن شاء الله- أن نأتي على بقية ما يتعلق بهذا الموضوع قبل الدخول في المسألة التي ذكرها الشيخ بعد ذلك وهي: مسألة التفاضل بين الفقير الصابر، والغني الشاكر، وهي ليست من المسائل المؤثرة في العلم، ولا في العمل؛ إلا أن العلماء أكثروا من الحديث فيها، وفيها تفصيل كما ذكر ذلك الشيخ رحمه الله، وذلك يغني ويريح من الجدل الطويل فيها.
    فنقول: كما قال الله تبارك وتعالى: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13]، فالله عز وجل خلق الخلق كلهم من نفس واحدة؛ كما ذكر الله تبارك وتعالى ذلك في أول سورة النساء، وكما جاء في الحديث: ( كلكم لآدم، وآدم من تراب ) ، فكل هذا الجنس البشري هو أصله من آدم، وهذه حقيقة عظيمة لم يكن باستطاعة أحد أن يقولها، أو أن يثبتها جازماً بها إلا من كان لديه وحي من الله عز وجل، والناس لو تركوا بغير الوحي لتخبطوا، ولظن كثير منهم، أن كل طائفة من الناس، أو كل لون لهم أب مستقل.
    1. إنكار علماء الأحياء وحدة الأصل البشري

      وأسوأ من ذلك ما يتخبط فيه من يسمون بعلماء الأحياء؛ فإنهم يزعمون أن مسألة: أب واحد، أو أسرة واحدة من أب وأم، وتفرع منها -أي: من الأسرة- الجنس البشري كله؛ أنها خرافة قديمة، وأن المسألة -كما يزعمون- هي تطور عضوي، وهناك طوائف من الناس في أقاليم معينة قد سبقت في التطور أبناء طوائف أخرى؛ ولهذا يختلفون: في أي مكان ظهر الإنسان القديم، وفي أي منطقة من مناطق العالم يكون تطوره أعظم؟ فالبعض يرى أن الإنسان كان تطوره الأول في الصين ، وأن الإنسان الصيني -كما وجد من خلال الحفريات- قد اكتمل تطوره قبل كذا ألف سنة، فبعضهم يقول: قبل خمسين ألف سنة، أو خمسة وأربعين ألف سنة، والبعض يرى أنه أول ما تطور الإنسان كان في بلاد الرافدين ، وبعضهم يزعمون: أن الإنسان أول ما وجد، وأول ما تطور كان في أفريقيا ، وكان من أسرة سوداء؛ رداً على العنصرية البيضاء.. وهكذا.
      فيختلفون في ذلك، وينكرون القول بأن أصل بني آدم جميعاً هو رجل واحد، أو أسرة واحدة، وتفرع منها هذا الجنس بأكمله.
    2. الرد على من أنكر وحدة الأصل البشري

      ومن أعظم الدلائل على كذبهم -وهي كثيرة، ولا نطيل فيها؛ لأن هذا الموضوع مقدمة فقط: أولاً: أنهم حاولوا -عندما كانوا في ثورة وشدة وحماس التعصب لهذه القضية وهذه النظرية- اكتشاف الحلقات المفقودة بين السلالات البشرية الموجودة وبين المتقدمة، فأخذوا ينقبون الأرض: في الكهوف، والمغارات، وفي مصبات الأنهار، وفي الجزر النائية، وفي المناطق الثلجية المتجمدة؛ ليصلوا إلى ما يدل على هذه الحلقة المفقودة، وأخذ كل منهم يدعي من الكشف ما لم يدعيه الآخر.
    3. التزوير والتدليس عند بعض علماء الأحياء

      فظهرت مجموعة من العلماء الإنجليز أرادوا أن يسجلوا فضل السبق في هذا المقام، فصنعوا جمجمة صناعة كما يخرط الحديد أو غيره، وصنعت بحيث تصبح الحلقة المفقودة التي يريدون ويبحثون عنها، ثم أعلنوا عن أعظم كشف علمي يؤيد نظرية داروين ، ويثبت وجود الحلقة المفقودة، وهم يعتقدون بأن الإنسان الإنجليزي هو أول من تطور من الأجناس البشرية في العالم، وادعوا أنهم وجدوا هذه الجمجمة عند مدينة صغيرة في بريطانيا يسمونها: بلت داون ، فسموها جمجمة بلت داون .
      وينسبون الجماجم إلى المناطق التي وجدت فيها، فهناك جمجمة في ألمانيا ، وجمجمة في الصين ، وجمجمة في أمريكا ، وجمجمة في جنوب أفريقيا ، وجمجمة في وسط أفريقيا ، فهذه أصبحت أعظم وأهم جمجمة اكتشفت، وهي: جمجمة بلت داون .
      فتحير بعض العلماء في ذلك وشكك علماء آخرون في الموضوع، وبعد جهد جهيد فحصوا الجمجمة فوجدوا أنها مصنوعة ومكذوبة، وأعلن العلماء بعد ذلك أنها كذب، وأنها لا أصل ولا حقيقة لها، وأن هؤلاء غشاشون مزورون، ولا يستحقون الألقاب العلمية التي يحملونها، وصارت فضيحة كبيرة جداً تحدثوا عنها في التاريخ الذي يسمونه: التاريخ الطبيعي.
      والمقصود: أن هناك قدراً كبيراً من التزييف، فإذا كان هناك تضليل أو ضلال في فهم الحقائق، أو في استنتاجها؛ فإن هناك تزييفاً متعمداً فيما لم يصلوا فيه إلى نظرية، ولا إلى حقيقة، هذا جانب.
    4. ظهور بطلان إنكار وحدة البشرية بعد ظهور علم الهندسة الوراثية

      الجانب الثاني -وهو أهم، وأصبح الآن لا نقاش فيه-: أن الناس بعد ما تطور علم الأحياء في القرن العشرين، ثم بعد ما توصل إليه في العشرين سنة الأخيرة تقريباً وهو: علم الهندسة الوراثية -كما يسمونه- أو الهندسة الجينية، تبين لهم بما لا يدع مجالاً للشك بطلان تلك النظريات جميعاً، وأصبح كثير من العلماء المتعمقين المختصين يقولون بكل صراحة وبكل وضوح: لا بد لنا من الإيمان، فأبحاثنا وتجاربنا وآخر ما توصل إليه العلم الحديث يقودنا إلى الإيمان المطلق بوحدة الجنس البشري، وأن أصل بني آدم كلهم مهما اختلفت مناطقهم أو ألوانهم رجل وامرأة. فهذه الحقيقة أصبحت مسلمة، وسواء نظرنا إلى الأسبينو، أو نظرنا إلى الأقزام، أو نظرنا إلى العمالقة الموجودين في مناطق معينة من العالم، أو إلى سكان المناطق الاستوائية، أو سكان الجزر النائية التي تبعد آلاف الكيلو مترات عن القارات المعروفة.. كل هؤلاء على اختلافهم لوناً أو حضارة أو فهماً أو تاريخاً؛ يرجعون إلى أب واحد، وأم واحدة، أي: أسرة واحدة فقط، ومنها تفرعت البشرية، أصبحت هذه عندهم حقيقة، وصار هذا يدرس في جامعاتهم؛ لأنهم يطورون مناهجهم، وأما عندنا في العالم الإسلامي فلا يزال يدرس الكلام المتأثر بنظريات القرن التاسع عشر، وأن هذه السلالات تطورت كل سلالة فيها منفردة عن الآخرى. وعندنا كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو قطعي وصريح في ذلك، وهو يغنينا والحمد لله، وليس عندنا شك في هذا، لكن كونهم ينطقون، ويشهدون على أنفسهم بأنفسهم فهذه حقيقة، وهذا برهان من الله عز وجل ساقه إلينا؛ ليؤكد ما نقوله: إن دعوة الله عز وجل، ودين الله ليس فيه فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، وهذه هي القاعدة التي يجب أن يتعامل بها بنو الإنسان.
    5. الفائدة من تصحيح مبدأ: وحدة البشرية

      فلابد من هذا المبدأ كمعتقد؛ لأن الإنسان لو اعتقد ما يقوله هؤلاء الذين يدعون أنهم علماء الأحياء لكفر؛ لأنه خلاف صريح القرآن، فتصحيح هذا المعتقد يترتب عليه هذه العقائد الأخرى ومنها: اعتقاد أن الناس متساوون في الأصل، وأنه لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى؛ إلا من فضله الله عز وجل وهذا أمر آخر، وسيأتي -إن شاء الله- الحديث عنه في النقطة التالية. إذاً: هذه القضية الأولى: وحدة الأصل البشري بأجمعه.
  2. أنواع التفاوت والتفاضل بين البشر

     المرفق    
    1. النوع الأول: تفاوت ليس للإنسان فيه إرادة

      القضية الثانية: أن الله سبحانه وتعالى بحكمته خلق الخلق مختلفين ومتفاضلين ومتفاوتين، وهذا التفاوت على نوعين: نوع ليس للإنسان فيه أي إرادة، كأن يولد مثلاً في الصين ، أو في الهند ، أو يولد من أبوين من طبقة اجتماعية راقية جداً؛ كما لو كان مثلاً من البراهمة في الهند ، أو في طبقة اجتماعية وضيعة جداً؛ كما لو كان مثلاً من الشودرا في الهند ، وكأن يولد في القرن العشرين، أو في القرن الأول أو الرابع أو العاشر.. وغير هذه أمور، فهذه لا قدرة للإنسان، ولا يد ولا دخل له فيها.
    2. ولادة الإنسان في وضع أفضل من ولادته في وضع آخر

      ومع ذلك فإنا نجد أنه ربما تكون ولادته في وضع اجتماعي معين أفضل من ولادته في الوضع الآخر؛ إما في عرف الناس، وإما من حيث الحقيقة.
      فمثلاً: إذا ولد من العرب وليس من العجم هذا لا يد له فيه، لكن من المعلوم أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، وأما الآحاد فلا، فليس كل عربي أفضل من كل عجمي؛ لأن الله سبحانه وتعالى اصطفى العرب، (( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ))[آل عمران:33]، فاصطفى الله تعالى آل إبراهيم، واصطفى من آل إبراهيم العرب، وهم ذرية إسماعيل، وفضلهم على ذرية إسحاق، ثم اصطفى الله سبحانه وتعالى من العرب قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفى من بني هاشم محمداً صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث، فهو صلى الله عليه وسلم خيار من خيار.
      فهذا أمر لا يملكه الإنسان، فلا يستطيع الإنسان أن يقول: لماذا ولدت عربياً، أو ولدت أعجمياً؟ فهذا لا خيار له فيه، ومع ذلك فالفضل فيه وارد، والفضل فيه حق.
    3. ولادة الإنسان في وضع أفضل من وضع آخر كما يزعم البعض

      وهناك اعتبار آخر وهو: أن يولد الإنسان في بيئة ويكون فاضلاً، ولكن لا يد له أيضاً في ذلك، وإنما هذا بسبب عرف باطل وليس بحق، وهذا كما قلنا في البراهمة، أو مثلاً في الفرس؛ فلو ولد وكان من أبناء كسرى فهو لا يد له في ذلك، وكونه كذلك لا يعني أن لهم فضلاً في الحقيقة على بقية الناس، لكن في واقع الناس في ذلك المجتمع أن لهم فضلاً، وهو في الحقيقة ليس له يد في ذلك، وإنما الناس كانوا يفضلون هذا النسب، وهو خطأ منهم، وليس هذا كالأول، فالأول له أصل من الدين، وأما هذا فهم جعلوه كذلك. فهذه فالمسألة اعتبارية وليست حقيقة موضوعية، والأمثلة على ذلك كثيرة: سواء في اللون، أو في العشيرة، أو في الإقليم، أو ما أشبه ذلك، وهذا شبيه بالأحوال المعيشية؛ فإن الله سبحانه وتعالى جعل أناساً يولدون فقراء، وأناساً يولدون أغنياء، فهذا أيضاً مما لا دخل للإنسان فيه.. وهكذا. وكذلك العلم الموروث، وهو غير العلم المكتسب، فالأهلية للعلم أيضاً متفاوتة، فمن الناس من أهله الله لذلك، ومنهم من لم يؤهله الله.
    4. النوع الثاني: تفاوت للإنسان فيه إرادة

      والجانب الآخر: هو الجانب الذي للإنسان فيه إرادة، فيمكن أن يتفاضل فيه الخلق بإراداتهم، بحيث إن كل إنسان يختار ويستطيع أن يتفاضل فيه لو خلي بينه وبين الموانع، وهنا يأتي فضل الله تبارك وتعالى، وفضل هذا الدين الذي هو دين الله الحق، فيكون هذا هو المحك الحقيقي للتفاضل؛ سواء كان في أمور الدين، أو في أمور الدنيا.
  3. الميزان الحقيقي للتفاضل في الإسلام والحث عليه وترسيخه

     المرفق    
    فالمحك الحقيقي للتفاضل هو ما للإنسان فيه إرادة؛ ولذلك يجب أن تزال الحوائل والموانع عن تحقيق أي قدر يستطيع الإنسان أن يصل إليه، ولا يفرض عليه وضع خارجي ويقسر عليه قسراً، فيستحيل أن يفرض على إنسان ما الفقر، ولا يمكن أن يعيش إلا ذلك، وهو باستطاعته أن يبذل جهده ليكون غنياً، وأن يسعى في أرض الله، ويتاجر ويعمل حتى يغنيه الله عز وجل من فضله. وكذلك العلم؛ فلا يجوز أن يحال بين أحد وبين طلب العلم، فيمكن أن يتعلم مهما ولد في بيئة جاهلة، ويمكن أن يكد ويجتهد ويتعلم حتى يصبح عالماً، بل ومن أبرز وأعظم العلماء، ولا يجوز أن يحال بينه وبين ذلك، وهنا بقدر ما يوفق، ويصل إليه من العلم فإنه يكون فضله، وبقدر ما تنزل درجته فهو السبب في ذلك؛ لأن ذلك بإرادته هو.
    1. التفاضل بالإيمان والتقوى

      وأعظم شيء يكون فيه التفاضل هو: الإيمان والتقوى، وهو حقيقة التفاضل، وأي تفاضل تجرد عن الإيمان وعن التقوى فغايته أن يكون من متاع الحياة الدنيا، وفي متاع الحياة الدنيا ينسب الفضل لأهله، والله سبحانه وتعالى لا يقنط صاحب الفضل، بل يؤتي كل ذي فضل فضله في الدنيا أو في الآخرة، لكن ما قيمة الحياة الدنيا وحدها؟ وما متاع الحياة الدنيا؟ إنه متاع غرور زائل، والقيمة الحقيقية هي فيما ينفع عند الله في الدار الآخرة، وما يقرب إلى الله تبارك وتعالى.
      لذلك فخير ما يكون فيه التفاضل، وأعظم ما يكون فيه التفاضل هو: الإيمان والتقوى.
      ولذلك شيخ الإسلام يقول رحمه الله --وقد تقدم معنا هذا في مبحث الإيمان؛ عندما تحدثنا عن تفاضل أهل الإيمان فيه- كما في الإيمان الأوسط : أعظم شيء يكون فيه التفاضل هو الإيمان. ذكر أن التفاضل يكون بالأعمال الظاهرة، بالاستكثار من الأعمال الظاهرة، والتفاضل يكون في الصفات المشتركة بين الآدميين، فإن الناس يتفاضلون في الطول والقصر، والسواد والبياض، والكرم والشجاعة والعلم.. وهكذا غيرها من صفات البشر، فهذه التفاضل فيها، سنة الله عز وجل، وأعظم شيء يكون فيه التفاضل، وأشد شيء يكون فيه التفاضل هو الإيمان.
    2. تفاوت التفاضل في العلم والإيمان

      ولو نظرنا إلى تفاوت الناس في العلم مثلاً؛ فأكثر علماء النفس، أو علماء الطبيعة، أو عامة الخلق يظنون: أن العلم هو أكثر شيء يقع فيه التفاضل، فنقول لهم: لا، إن الإيمان أكثر من ذلك، والدليل على هذا: أننا لو جئنا بأكبر عالم من العلماء في أي مجال، وجئنا بإنسان بدائي تماماً؛ لكان هذا البدائي أن يتعلم حتى يصبح في درجة قريبة إلى حد ما من هذا العالم؛ بحيث يكون التفاوت بينهما محصوراً معدوداً، مع أن العلم أمر عظيم جداً ولا شك، والله سبحانه وتعالى قد جعل تفاوت الخلق فيه بما لا يخفى على عاقل، لكن حتى العلم يكون الأمر فيه في ذلك أقل منه في جانب الإيمان.
    3. بعد التفاضل البدني من التفاضل بالإيمان والتقوى

      وكذلك التفاضل البدني هو في الحقيقة أيضاً تفاضل بعضه قريب من بعض، فلو أتيت بأشد وأسرع الناس جرياً، أو قفزاً، أو قوة في حمل الأثقال، ثم قارنت بينه وبين أقل الناس في هذا الشأن؛ لوجدت أن الفرق ليس بالبون الشاسع الكبير كما هو في ميدان التفاضل في العلم، لكن أعظم من هذين التفاضل هو في الإيمان والتقوى، فإن الرجل يبلغ الدرجة العليا من الجنة، والجنة مائة درجة، وبين كل درجة ودرجة مثل ما بين السماء والأرض كما ثبت ذلك في الحديث، فأي تفاضل فوق هذا التفاضل؟! فهذا شيء لا يكاد العقل أن يتخيله أو يتصوره، وكل ذلك إنما هو بالإيمان، وبالعمل الصالح، وبالتقوى.
      وحسبنا أن نعلم أنه لو أنفق أحد ممن قاتل بعد الفتح؛ فضلاً عما جاء بعد القرون الثلاثة، فضلاً عمن هو في زماننا هذا؛ لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السابقين الأولين، ولا نصيفه، فمثل هذا الفضل العظيم كيف يلحق؟! فهذا شيء فوق الخيال.
      إذاً فالتفاضل في الإيمان، وفي درجات التقوى؛ أمر عظيم جداً.
      وإن كان -كما تقدم في مسألة الولاية- يمكن أن يجمل في درجتين، وكل درجة فيها مستويان: وهم المقربون، السابقون السابقون، وأصحاب اليمين أو المقتصدين.
      وقلنا: إن السابقين أنفسهم درجات، وأصحاب اليمين أيضاً درجات، فمنهم من هو في الدرجة العليا، ويكاد يقرب من السابقين، ومنهم من هو في درجة دنيا، ويكاد يكون قريباً من أهل الضلال، أو المعصية.
      فما بالك بالتفاضل بين أعلى درجات المقربين، وأدنى درجات المقتصدين! فما بالك بالتفاضل والتفاوت بين أعلى درجات المقربين، وأدنى وأحط دركات الكافرين و المنافقين!
      فهذا هو التفاوت الواسع، والبون الشاسع العظيم جداً الذي لا تكاد العقول تتخيله، وهذا هو الذي تصح فيه هذه القاعدة العظيمة، ويصح فيه هذا المبدأ العظيم: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13].
    4. المسارعة والتنافس في درجات التقوى

      ومن هنا يجب على كل إنسان أن يجتهد؛ ليفضل نفسه بتقوى الله عز وجل، وفي هذا فليكن تنافس الخلق، (( وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ))[المطففين:26]، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وهذا هو الميدان والمجال: تقوى الله، والإخلاص له سبحانه في العبودية، فكلما كنت أكثر عبودية لله فهذا هو غاية الفضل الذي يجب أن يسعى إليه كل مخلوق.
      وبالاستكبار عن الله، وبالبعد عن هدى الله سبحانه وتعالى، والاستنكاف عن طاعته؛ بذلك يحقر المرء نفسه، ويصغر قدره، وتهبط وتنزل قيمته في الدنيا والآخرة.
    5. المعيار العادل للتفاضل

      وهذا المعيار معيار عادل لا يستطيع أحد أن يماري أو يجادل فيه، ولا عذر لأحد فيه، فلو أن الفضل كان في غير هذا لجاء الإنسان وله معاذيره، فإن قلت له: لماذا لم تفضل الناس في النسب؟ لقال: أنا ولدت في نسب أقل، أو في نسب وضيع، ولا يملك في ذلك شيئاً، ولا يستطيع أن يغير نسبه، لكنه يستطيع أن يتقي الله، ويستطيع أن يعبد الله، يستطيع أن يكون أكثر خضوعاً وذلاً وتقرباً إلى الله؛ ولو كان أبوه من أكفر الكفار.
      إذاً فهذا المعيار لا عذر لأحد فيه، وجعله الله موضع التنافس، وقطع كل ما عدا ذلك، ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى الساعة، وجعل الحساب بناء على الأعمال لا على الأنساب، قال الله سبحانه وتعالى في آخر سورة المؤمنون: (( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ))[المؤمنون:101]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه )، وفسر ذلك عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه بأنه عند المرور على الصراط.
    6. مرور الناس على الصراط على حسب أعمالهم

      فقد جاء في الحديث الصحيح أن الناس يتفاوتون في المرور على الصراط، فتمر أول طائفة منهم كالبرق الخاطف، ثم تكون الأخرى كأسرع ما تكون الريح، ثم تكون الأخرى كأسرع ما تكون الخيل.. إلى آخره، حتى إن آخرهم يحبو ويكاد أن يسقط، فالذي يسرع أو يبطئ بالإنسان في هذه الحالة هو العمل، ( ومن أبطأ به عمله، لم يسرع به نسبه ).
    7. تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لأهمية العمل وبطلان النسب

      وقد نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاربه: العام منهم والخاص، فعم ثم خص، فقال: ( يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم؛ لا أملك لكم من الله شيئاً )، ثم خص فقال: ( يا بني هاشم! لا أملك لكم من الله شيئاً ) ، ثم خص أكثر فقال: ( يا عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا أملك لك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا أملك لك من الله شيئاً )، ثم خص أكثر من ذلك فقال: ( يا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم! سليني من مالي ما شئت؛ لا أملك لك من الله شيئاً ).
      فهذه قاعدة عظيمة واضحة جلية، وقال في الحديث الصحيح الآخر: ( إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء، وإنما وليي الله، وصالح المؤمنين ).
      فقوله: ( إن آل بني فلان ليسوا لي بأولياء ) أي: وإن كانوا يزعمون أنهم من القرابة، وأنهم أولياء له بذلك، ثم قال: ( وإنما وليي الله، وصالح المؤمنين ).
      وقال في الحديث الآخر: ( إن أوليائي المتقون حيثما كانوا ) .
    8. محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفاخر والتعصب الجاهلي

      فهذه هي القاعدة العظيمة التي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة، وأعلنها وبدأ بنفسه، وعلمها أصحابه، الذين كان التفاخر بالأحساب والأنساب عندهم أصلاً عظيماً، حتى إن الله عز وجل علمهم في الحج فقال: (( فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ))[البقرة:200]؛ لأنهم كانوا إذا أفاضوا من عرفات ، وجاءوا إلى المشعر الحرام، ونزلوا هنالك قام كل منهم ويفتخر: أنا ابن فلان، ونحن آل فلان، ونحن فعلنا وفعلنا.. ويذكر المناقب والمآثر والخلال الحميدة، والأرومات العتيدة.. إلى آخر ما يتناشدون فيه، فأمر الله سبحانه وتعالى عباده الصالحين أن يذكروا الله كما كانوا يذكرون آباءهم أو أشد ذكراً، وأن يعظموا الله عز وجل في مشاعر جعلها شعائر لدينه، وليتقى ويعبد فيها وحده لا شريك له.
      فالمقصود: أن هذه العادات الجاهلية حاربها النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، ولذلك جاء في الحديث الصحيح الآخر: ( لينتهين أقوام عن الفخر بآبائهم، وإنما هم من فحمان جهنم؛ أو ليكونن أهون على الله من الجعل الذي يدهده القذر بأنفه )، فهذا الوصف هو غاية ما يمكن أن تتخيله من الحط من شأن من يفعل هذا الفعل، أو يعتقد هذا الاعتقاد، فشبهه بالجعل الذي يدهده القذر، وهو ما يخرج من الناس، والجعل دابة من الدواب، وهو يقوم بدحرجة ودهدهة وتحريك القذر بأنفه مباشرة، وهذه غاية الوضاعة، وغاية الخسة، وغاية الحقارة.
      فهؤلاء لما كانوا يفتخرون بآبائهم -وهم من فحم جهنم- الذين كانوا في الجاهلية، وإن كانوا في الإسلام فلا يدري الإنسان ما حال آبائه عند الله؛ لذلك عوملوا بنقيض ما يعتقدون، وليكونن أهون على الله من هذا الحيوان القذر الذي لا يتورع أن يدحرج النجاسة بأنفه، وهذا المثل يكفي الإنسان لو تدبره وتصوره، وسيعرف ما الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء المتكبرين.
    9. خطر داء الكبر في الآخرة

      والكبر داء عظيم، ومرض خطير، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )، ويقول صلى الله عليه وسلم: ( يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم ) ، مع أن المتكبرين في الدنيا تجد الواحد منهم يمشي ويظن أنه شامخ بين الناس، وهو مثل الناس، لكن هكذا يظن أنه يمكن أن يخرق الأرض، أو أن يبلغ الجبال طولاً، فيعامل يوم القيامة بنقيض قصده الخبيث، وعكس هذا المرض الذي ما أصاب أمة أو فرداً إلا أهلكه الله عز وجل به؛ لأنه نازع الله عز وجل إزاره ورداءه، فهؤلاء الذين يكونون في هذه الحالة يبعثون يوم القيامة كأمثال الذر.
      إن الناس يبعثون يوم القيامة على خلقة أبيهم آدم كما جاء في الحديث، طولهم ستون ذراعاً، إلا المتكبرين في الدنيا: المتكبرين بملكهم، وبمناصبهم، وبأموالهم، وبشهاداتهم، وبألوانهم، وبأعراقهم، وبأنسابهم.. وبأي شيء، فإنهم يبعثون ويحشرون مثل الذر، فالناس يسألون: أين فلان؟ وأين فلان؟ وإذا بهم مثل الذر يطؤهم الناس بالأقدام؛ لأنهم لا يكادون يُرون أصلاً؛ عقوبة وزجراً لهم قبل الحساب، نسأل الله العفو والعافية.
    10. تحريم احتقار المسلم لأخيه

      ولذلك لا يجوز أن ينطوي قلب المؤمن على شيء من الكبر، أو احتقار أخيه المؤمن، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم )، فهذا يصحح هذا الأصل: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13]، فلا يصح للمسلم أن يحتقر أخاه المسلم لأي سبب كان: من نسب، أو مال، أو وظيفة، أو شهادة، أو عرق، أو جنسية أو غيرها.
      وقوله: ( بحسب امرئ من الشر ) أي: يكفيه شراً، وكأنه قال: لا شر أعظم من هذا، ولا شر فوقه، فإن كان الإنسان يريد أن يبلغ الغاية في الشر فليحقر أخاه المسلم، وقال: (أخاه) ليكون ذلك نكاية له، فالمسلم أخو المسلم؛ فكيف يصح للإنسان أن يحقر أخاه، فكفاه ذلك شراً، وكفاه مقتاً.
      ولما قال أبو ذر رضي الله تعالى عنه لـبلال : يا ابن السوداء! في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنك امرؤ فيك جاهلية )، وفي رواية أخرى: ( انظر حتى لا ترى لك فضلاً على أسود، ولا أحمر إلا بالتقوى ) .
      وجاء في بعض الروايات: أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه نام على الأرض، وأمر ذلك الرجل بأن يطأ بقدمه على صفحة خده؛ تواضعاً لله عز وجل، وتكفيراً عن قوله وتعييره له بأمه: يا ابن السوداء! فقد أحس بمرارة الندم، وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      ومن هنا فإن الفضل كما ذكر الله عز وجل لا يكون إلا بالتقوى، وقد قال العلماء في قول الله عز وجل في ذكر أوصاف القيامة: (( خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ ))[الواقعة:3] أي: أنها ترفع بعض من كانوا وضعاء في الدنيا، وتخفض من كان رفيعاً فيها، ويشمل ذلك بعض التغيرات الكونية، وكذلك التغيرات في عالم البشر، فرب رفيع عزيز كريم عند قومه في الدنيا؛ يكون وضيعاً يوم القيامة، والعكس.
    11. وهم الفخر وسراب الخيلاء

      لقد جعل فخر الجاهلية وخيلاؤها -والعياذ بالله- أبا جهل يقول لـعبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه عندما ارتقى على صدره، وهو غلام أو شاب من هذيل، وكان يرعى الغنم لقريش، ولكن الله عز وجل اصطفاه واختاره وجعله من علماء هذه الأمة الذين شهد الله تعالى لهم ورسوله صلى الله عليه وسلم بالعلم.
      فلما ارتقى على صدره قال أبو جهل : لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الضأن! فحتى وهو عند الموت، وفي حال الاحتضار يرى أن له فضلاً وعلواً ودرجة ومنزلة على غيره من الناس! فانظروا هذا الوهم الكاذب، وهذه الخيلاء وهذا الفخر الذي لا حقيقة له، فلا يستحق صاحبه أو المتفاخر به إلا أن يكون -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- كذلك الجعل الذي يدهده القذر بأنفه، نسأل الله العفو والعافية والسلامة.
    12. ترسيخ النبي لمبدأ المساواة والتفاضل بالأعمال وثمرة ذلك

      فجاء النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الدين العظيم، ورسخت وثبتت هذه القاعدة؛ حتى أصبح الناس جميعاً يعلمون أن الفضل والقدر إنما هو بالتقوى، ولم يعد هناك شيء يميز أحداً عن أحد إلا بذلك، والميزات الأخرى مما اختار الله عز وجل أو اصطفى، أو فضل بعضهم على بعض؛ فإنها تأتي تبعاً لها، فالإنسان وإن كان سباقاً في الشجاعة، أو في الإنفاق فكل ذلك تبع لذلك الأصل العظيم وهو: التقوى.
      فكانت غاية المجتمع هي التقوى، وكان هم كل إنسان منهم أن يجتهد في التقوى، فرسخت عند الناس هذه الحقيقة، وأصبح المجتمع تقياً، وإذا صار المجتمع تقياً، وكانت قاعدة التعامل هي التقوى، وإذا كانت قاعدة التواصل والتواد والتحاب والتراحم هي التقوى؛ فإن الخير سيأتي والبركات ستعم، (( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ))[الأعراف:96]، فجاءت الخيرات، وجاء النعيم، وجاء العز، وجاء الشرف، فأصبح أدنى رجل من هذه الأمة المتقية يُرهب أكبر أعداء الله، ويعادل في عالم الأرض كلها أفضل وأشرف ملوك الروم أو الفرس، وهذه حقيقة عظيمة قررها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم ).
    13. عجز الغرب عن تطبيق مبدأ التكافؤ والمساواة

      وهذا الشيء لم يعرفه العالم من قبل أبداً، ولم يستطع الغرب إلى يومنا هذا أن يصدق، ولا أن يهضم -كما يقولون- هذا المبدأ، فمستحيل أن يصدق الغرب أو الشرق، أو يقرون بأن الدماء تتكافأ؛ فضلاً عن أن يسعى بذمتهم أدناهم. فلا يعقل في الغرب أن تكون دية الوزير، أو الأستاذ البروفيسور مثل دية العامل، وكذلك الفنان إذا كان فناناً كبيراً، ولاعب الرياضة الكبير إذا سقط وانكسرت يده فإنه يعوض بعشرة ملايين دولار، وأما إذا كان عاملاً في مطعم وكسرت يده فقد يعوض بألف دولار، أو عشرة آلاف دولار، فإلى الآن لا يستطيع الغرب أبداً وأتباعهم وأذنابهم الذين أخذوا منهم القوانين الوضعية؛ لا يستطيعون أن يستوعبوا أن الناس سواء في القيمة والمقدار، وأن الدماء تتكافأ! فلو قتل رجل غربي وليكن أمريكياً، وقتل الأمريكان القتلة الذين قتلوه ومائة أو ألفاً معه؛ فإنهم لا يشعرون بأنهم تجاوزوا الحد أبداً؛ لأن هذا في نظرهم هو الشيء الذي يجب أن يكون، وأما العكس فلا يمكن أن يقع؛ لأنهم لا يرون أن دماء الناس والبشر تتكافأ. فالذي علم الناس هذه الحقيقة هو محمد صلى الله عليه وسلم بوحي من الله، ولم يجعلها صلى الله عليه وسلم شعاراً، بل جعلها حقيقة معاشة يقر بها كل أحد، ويطمئن إليها كل أحد، وأما أولئك -حتى في نظرياتهم الخيالية- فلم يستطيعوا ذلك، ولا حتى في قوانينهم الوضعية التي يتلاعب بها إذا خالفت الأهواء السياسية، ولا أن يقروا بذلك.
    14. صورة واقعية من صور مبدأ المساواة والاحترام في الإسلام

      ثم تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: ( ويسعى بذمتهم أدناهم )، ولما أجارت أم هانئ من استجار بها قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ )، فحتى لو كانت امرأة تجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك نأخذ به، وأما الآن فلا يستطيع أي جيش، ولا أي قيادة في العالم أن تجعل أدنى فرد في الأمة يسعى بذمتهم جميعاً، ويعطي الأمان لأي واحد، فهذا مستحيل أبداً، فلا بد من القيادة العليا أن تراجع الوزارة، والوزارة تراجع أعلى مسئول؛ حتى يحصل هذا الشيء، وأما أن يكون الإنسان فعلاً دمه مكافئاً، وجواره مقبولاً على مستوى القائد الأعلى في الدولة الإسلامية فهذه حقيقة لا نقول لم يعرفها غير المسلمين، بل إلى الآن لم يصلوا إليها ولن يصلوا إليها، إلا في ظل الإسلام.
    15. وجود العنصرية في أمريكا وأثرها

      ولذلك قامت الحروب الطاحنة الشرسة بين الولايات الشمالية والولايات الجنوبية في أمريكا من أجل الرق، ومن أجل العبيد، ومن أجل اللون، ومن أجل العنصرية، واستمرت إلى أن كان الاجتماع الذي رتبوه وقننوه، ويدعون إليه، ومع ذلك مهما كتبوا، ومهما أقروا من أنظمة، ومهما ادعوا من تساوي وتسامح؛ فلا يمكن أن يزول ذلك من القلوب؛ لأنها لم تتغير، فكل ما وضع لم يمس شغاف القلوب، ولم يصل إلى أن تتقي الله، وإذا اتقت القلوب الله عز وجل انتفى ذلك كله، وأما أن تظل تربية خارجية، وشعارات تردد فلا يمكن أن يصلوا إلى شيء.
      فإذا ارتكبت الجرائم قيل: إن هذه الجرائم ارتكبها أناس لهم لون معين، أو دين معين، أو من طائفة معينة؛ قالوا: إن هذا بسبب الاضطهاد الاجتماعي الذي تكثر في هذه الأماكن.
      وعندما يحللون الأحداث التي تقع في العالم الإسلامي فإنهم يقولون: إن هذه الجماعات تشعر بالقهر الاجتماعي، فهم ليس لديهم تفسير للحياة إلا من خلال هذه النظريات، فيطبقونها حتى في غير بيئتهم، لكنهم يتكلمون عن واقع موجود، فهناك قهر وهناك اضطهاد، ولا يستطيعون أن يغيروا قلوب الناس، بل إن الذين يدّعون هذه الشعارات، ويدعون الناس إليها لا يستطيعون أن يلتزموا بها كما ينبغي؛ لأنهم لا يتدينون بها، فهي شعارات، وهي حقائق في نظرهم موضوعية، يجب أن تقام، لكنه على صعيد الواقع العملي يقول: أحدهم أنا لا أستطيع أن أطبق ذلك.
      وهكذا حال الناس إذا لم يعرفوا الله، وأعرضوا عن دين الله سبحانه وتعالى.
  4. أنواع التعصب الجاهلي وأثره

     المرفق    
    1. نشوء التقاتل والتهاجر بسبب هذه الجاهليات

      وكل بيئة لها نوع معين من الحرف ومن المهن محتقرة، ونوع آخر معظم ومفضل، ويقع التهاجر، والتنازع، والتخاصم، وتقع العداوات، وكم كانت تتقاتل القبائل من أجل هذه القضية، فيقتتلون من أجل أن رجلاً يمتهن مهنة كذا خطب أو تزوج من القبيلة، فاكتشفوا أنه كان حداداً، أو جزاراً، أو خرازاً مثلاً، فكل منطقة لها جاهليتها، فعندئذ يراد منه أن يطلق امرأته، وهي راضية به، وهو راض بها، بل حتى أهلها وأهله راضون، فقد اتفقوا وتم كل شيء، لكن تجد القبيلة تقول: يجب أن يقع الطلاق؛ لأن القبيلة لا تريد أن يدنس شرفها وكبرياؤها، فتقوم الحروب، فتقتتل الطائفتان، وتقع الملاحم بسبب هذه الجاهلية.
      فجعلوا التفاضل بين الناس حتى في الحرف، وحتى في المهن، وهؤلاء الجاهليون يجعلون مهنة الزراعة هي المهنة والحرفة التي لا عيب فيها؛ لأنها مهنة الأكثرين مثلاً، والزراعة ليس فيها شيء من حيث إنها حرفة، لكن هي التي نيط وركب وقرن بها الذل في الشرع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا تبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد، واشتغلتم بالزرع، وأخذتم بأذناب البقر؛ سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم )، فلو أن التفضيل يكون بالحرف لكان الفلاحون والمزارعون هم الأقل، ولكن من يشتغل بالزرع والحرث، ويتشاغل به عن الجهاد؛ يستحق أن تدنى درجته ومرتبته، وأن يفضل عليه غيره، لكن هم لا ينظرون إلى هذا، وإنما ينظرون إلى مهنة أو حرفة اختاروها هم.
    2. اختلاف المهن عظمة وحقارة باختلاف البلدان

      وقد تكون هذه المهنة والحرفة في مجتمع ما عظيمة جداً، وفي مجتمع آخر حقيرة جداً، فما المعيار في ذلك؟ المعيار عند الناس هي الأهواء فقط، فالصناعة مثلاً أو الحدادة مهنة عظيمة جداً عند الغرب، وعند العرب يحتقرونها، وفي النهاية وصل الغربيون بالصناعة إلى ما وصلوا إليه كما نرى الآن، وتفوقوا على المسلمين في كل شيء، ولما كان المسلمون يحتقرون هذا العمل فإن حب الدنيا جعلهم في الأخير يتتبعون الصناعات، وأصبح الإنسان يفخر بأنه من رجال الصناعة وليس من رجال الزراعة، أو أنه من الموظفين، وغير ذلك، وتجد أن المصانع الكبرى التي تقوم على صناعة الحديد، أو الصلب، أو الفولاذ أو ما أشبه ذلك؛ ما هي إلا تكبير وتضخيم لتلك الصناعة البسيطة التي كان يعملها الصانع، أو الحداد في القبيلة، وكانوا يحتقرونه أشد الاحتقار، فالذي تغير هو حب الدنيا، والتبعية للغرب، وأخذ القيم من الغرب أنساهم ذلك، فهذه أهواء، فهذا التعظيم وهذا التقليل ليس من عند الله عز وجل، وإنما هي أهواء بشرية فقط، ويرتبون على ذلك -كما قلت- بطلان العقد، ولو كانت المسألة في استئناف العقد لقال البعض إنما يتعلق بالكفاءة أو عدم الكفاءة، فالمشكلة أنهم يريدون إبطال العقد بهذا الأمر، وربما اضطروا ذلك المتزوج أو المصاهر إلى أن يهاجر بعيداً في أرض الله حتى لا يراه فيها أحد؛ ما سبب ذلك: أنه خرج وشذ عن هذا العرف، وعن هذا الوضع الاجتماعي الذي ما أنزل الله به من سلطان.
    3. أثر التعصب والتفاخر الجاهلي في هدم الفضائل والمناقب

      وأسوأ من هذا: لو أن أحداً ممن ينتمي في الأصل إلى هذه الحرف، أو المهن؛ بلغ في العلم ما بلغ، وبلغ في الخير ما بلغ، وبلغ في التقوى ما بلغ؛ لرأيت من يقول له قريباً من قول: يا ابن السوداء، أو يابن من يفعل كذا، أو يا من مهنته كذا، أو يا من حرفته كذا.. فمهما بلغ وترقى في الدرجات التي هي محل الرقي الحقيقي: علماً، وتقوى، وفضلاً، وعبادة، وجهاداً؛ فإنه لا يزال ينُظر إليه -عند من تمكنت هذه الجاهلية في قلوبهم- من خلال وضعه، ومن خلال مكانته، ولا ينظر فقط إلى الحرف، وإنما هناك النسب، وهو غير النسب القبلي من حيث الآباء والأجداد، وإنما الانتساب إلى شعب، أو إلى طائفة معينة، كما نسمع الآن في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة مع الأسف الشديد، وهي بهذا تعاني من هذه الخصلة الجاهلية.
    4. التعصب من حيث الشعب والمجتمع

      فإذا كان الإنسان من أبناء البلد أباً عن جد مثلاً فإنه يشعر كأن له ميزة، أو كأن له فضلاً على من قدم وسكن هذه البلاد، واستوطنها، وإن كان هذا الآخر ربما يكون في الأصل من أشرف الناس نسباً، وقد يكون في الأصل من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم هاجروا إلى الهند ، أو إلى جاوة أو إلى المغرب ، ثم عادوا، فلم يتغير شيء، فقد هاجروا وعاشوا ورجعوا، فالمفروض أن تكون مكانتهم وقيمتهم النَّسَبية مكانها، ومع ذلك فالجاهليون من الطرف الآخر ينظرون إليه على أنه مهما بلغ، ومهما فهم، ومهما عمل فلا خير فيه، ولا ينظر إلى معيار التقوى.
    5. ضياع الوقت في العصبية والتنابز

      وفي المقابل أيضاً تجد الآخر يعد أن كل من كان من هذا النوع بدو أجلاف، لا قيمة لهم، ولا لأنسابهم، ولا لأصولهم، ولا لحرمتهم، ولا لأعراقهم، وهذا يحقر هذا، وهذا يحقر هذا، وكل منهم يسخر من الآخر، وهذا بعكس ما أمر الله عز وجل: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ))[الحجرات:11]، فتجد السخرية، والاستهزاء، والتنابز بالألقاب، والتهم، والتشنيع، حتى شكى بعض الإخوان -وهي شكوى عن حق وحقيقة ومشاهدة، والله المستعان- أن كثيراً من المجالس تضيع في هذا الأمر، فإذا كان هناك زملاء في العمل، أو في الجوار، أو في السكن، هذا من تلك الطائفة، وهذا من هذه الطائفة، وهذا من أهل هذه المهنة، وهذا من أهل هذه المهنة؛ فهم في كل الأوقات في جدل ونقاش -جداً أو مزحاً- في التفاضل بين هاتين الطائفتين، أو هاتين القبيلتين، أو هاتين المجموعتين.. إلى آخره.
    6. جاهلية الولاء والتعصب الكروي

      ثم جاء الشيطان ودخل من هذه الفرجة، ووسعها وعمقها، وقال: إن الناس اجتمعوا، فصاروا في المدارس سواء، وفي الوظائف سواء، وفي الأعمال سواء، ونسوا هذه الجاهليات، فأتى بجاهلية جديدة يريد أن يرسخها، وتكون قاعدة للولاء وللبراء، وللمحبة والبغضاء، ولشحن القلوب، ولإضاعة المجالس، ولتفتيت الطاقات، وتبديد الثروات، فجاءهم إبليس بجاهلية الولاء والتعصب الكروي، وهي منطلقة من هذا، فالمنتخب القومي لأي أمة يعبر عن الانتماء القومي، ودعونا هنا نتكلم عن الغرب، فإذا كانت المباراة بين الإنجليز والإيطاليين مثلاً، فإن أي إنجليزي يقابل أي إيطالي قد يدخل معه في عراك في الشارع، وقد حصل هذا كثيراً، لأن المنتخب القومي يحارب حرباً كروية المنتخب القومي الآخر.
      وإذا تنزلنا على مستوى الدولة الواحدة؛ وكانت المباريات بين منتخب مانشستر وفريق آخر من لندن مثلاً فإنك تجد أن كل من كان من هذه المدينة مستعد أن يتشاجر مع مشجعي الفريق الآخر، فهذا جاهلية ما لها أية قيمة، وكذلك لو نزلنا إلى مستوى المدينة الواحدة، كما نجد من الجاهليات المقيتة أن بعض المدن قد يكون فيها قسمان مثلاً؛ بسبب نهر أو جبل يفصلها، فتجد أهل هذا القسم يفخرون على أهل هذا القسم، ومن هنا يأتي الشيطان أيضاً ويجعل لهؤلاء منتخباً، ولهؤلاء منتخباً آخر، وتبدأ الجاهلية والشحناء، وتبدأ العداوات، وتبدأ الأحقاد، وقلّ أن تجد مدينة أو قرية إلا وفيها مثل هذا.
      فسبحان الله! كيف يتلاعب الشيطان بعقول هذه الأمم إلى هذا الحد؟! بل ينزل الأمر إلى أقل من هذا التخطيط الشيطاني الجهنمي، فتجد مثلاً قطاعاً تعليمياً وقطاعاً آخر وظيفياً أو عسكرياً، وتجد بينهما من العداوة والجاهلية الشيء الكثير، فتجد المدني يفتخر على العسكري، والعسكري يفتخر على المدني.. وهكذا، وهذا افتخار ليس له حقيقة، وإنما هو مجرد جدل، ثم يعملون دورة رياضية بين هؤلاء وهؤلاء، فتنشأ مشاكل أخرى وتترسخ العصبية أكثر.
      بل إنك تجد قطاع التعليم قد تفتت حتى أصبح بين المدرسة والمدرسة، بل وبين الفصلين ألف وباء من نفس السنة، فتصبح النزعة العدائية مستحكمة.
    7. التعصب الجاهلي من أجل الحرفة أو المهنة

      وهناك نوع من التفاوت الجاهلي الذي يؤثر أيضاً في هذه الأمة، ويلقي بظلاله الكثيف في مجتمعات المسلمين، ويسبب من التقاطع ومن التنافر، ومن العداوات ما الله به عليم، فمثلاً: لو أخذنا جاهلية أو عنصرية المهنة أو الحرفة، فإنك تجد أنها موجودة، والتفاضل عند الناس لا يكون بالتقوى، كما قال تعالى: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13]، ولا بالكرم، أو العطاء، أو الشجاعة التي يمكن أن يتخلق بها كل أحد، بل أضافوا إلى ذلك هذا النوع من الجاهلية وهو: التفاخر، أو التعاظم، أو التفاضل بحسب المهنة، أو الاحتقار والازدراء بحسب الحرفة أو المهنة، سواء كانت هذه المهنة في الشرع عظيمة، أو أقل شأناً، ولكن لا تجعل معياراً أو مقياساً، فالناس جعلوها كذلك.
  5. نجاح الشيطان اللعين في زرع التعصب والجاهلية في كثير من أبناء هذه الأمة

     المرفق    
    وتتعجب كيف نجح الشيطان هذا النجاح الغريب العجيب في أمة تقرأ ليل نهار: (( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ))[الحجرات:13]، وتقرأ قوله سبحانه وتعالى: (( إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ ))[الأنفال:34]، وتقرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن بني فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله، وصالح المؤمنين )، وقوله: ( المسلم أخو المسلم )، وقوله: ( كونوا عباد الله إخواناً )، وأكثر الناس -إن لم نقل كلهم- لا يشكون في هذه الحقيقة، ولا يمارون فيها كحقيقة ومعتقد نظري، لكن تجدهم في واقعهم في الحياة يغمزون فلاناً: إما لقبيلته، أو لحرفته، أو لجنسيته، أو لقيمته الاجتماعية، أو لغناه، أو لفقره، وما من سبب من الأسباب إلا ويأتي به الشيطان؛ لكي لا يجتمع قلبان من هذه الأمة.
    فهذا هو الهدف، وهذا هو الغرض، والشيطان لا يريد ذلك أبداً؛ ولهذا فأعدى أعدائه هم أولياء الله المتقون الصالحون، وهم النزاع من القبائل كما جاء في الحديث، فتحابوا وتعارفوا على غير أرحام بينهم، أو دنيا تجمعهم، وإنما تلاقوا واجتمعوا على محبة الله، وعلى طاعة الله، ففيهم الأبيض، والأسود، والأحمر، والصغير، والكبير، والعربي، والأعجمي، والقبلي، والحضري.. إلى آخره، فكل هذه الانتماءات لا نظرة لها عندهم على الإطلاق أبداً، وقد ترفعوا عنها؛ لأنهم لا يريدون بأي حال من الأحوال أن يكونوا كذلك الجعل الذي يدهده القذر بأنفه، فهم يتعاونون بمعيار التقوى، وكل منهم يعرف قدر الآخر.
  6. ترفع السلف عن التعصبات الجاهلية والنعرات الشيطانية ووقوع غيرهم فيها

     المرفق    
    ولذلك لو تأملنا سيرة السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم كيف كانت أخوّتهم، وكيف كانت حياتهم؛ فإنا نجد أنهم لم يكن عندهم هذا الاستنكاف، ولا هذا الاستكبار، ولا هذه الجاهلية، ولا هذا الحمق الذي وقع فيه من بعدهم، فكان الإنسان بعلمه، وكان أكثر علماء الأمة بعد التابعين من الموالي كما يسمَّون، أي: ممن ليسوا في الأصل عرباً، وإنما هم من أبناء أرقاء آمنوا بالله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعاشوا في هذه الأمة، وتلقوا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن تابعيهم، فأصبحوا هم علماء الأمة، مثل: عطاء ، و مكحول ، و الحسن البصري ، و نافع ، و عكرمة ، و سالم .. وغيرهم، وهناك قصة مشهورة الله أعلم بصحة إسنادها، وهي طويلة وخلاصتها: أنه لم يكن هناك في عهد التابعين عالم يرجع إليه بعد وفاة فقهاء المدينة من العرب إلا محمد بن شهاب الزهري الإمام المعروف، وأما غيره من العلماء والأئمة كعالم الكوفة ، وعالم البصرة ، وعالم مصر ، وعالم مكة .. فكلهم كانوا من الموالي، ولا يضرهم ذلك، ولم يكن الناس يشعرون بهذا، فكان الموالي هم صفوة وخيرة العلماء في التفسير، والقراءات، والحديث، والفقه، والفتيا، والقضاء وغير ذلك، فسبحان الله! هذا الدين هو حقيقة وليس مجرد شعارات.
    1. وجود التعصب الذميم في أوروبا وأمريكا وسلامة حال المسلمين في كثير من أمورهم من ذلك

      وأما أوروبا و أمريكا فلا نجد إنساناً حكمهم ممن ينظر إليه على أنه خلاف لونهم، أو خلاف انتمائهم الوطني أو القومي، وأما المسلمون فإنهم حتى في مراحل الضعف، وفي مراحل الانحطاط تجد أنه ربما كان القادة والحكام من أبناء هؤلاء، فالمماليك اسمهم المماليك، وقد حملوا راية الجهاد سنوات طويلة، وهم فعلاً كانوا كذلك، وكان قبلهم كذلك كافور وغيره، وكان الأتراك والأكراد.. فما كان أحد يسأل، حتى إنك لو سألت الآن أحداً عن صلاح الدين ، أو عن نور الدين مثلاً فكثير من الناس لا يعرف أصلهما، ولا يهمه ذلك، وهذه القضية لا تغير نظرته إلى هؤلاء وغيرهم لا لوناً، ولا أصلاً؛ لأن هذه الأمور ليس لها قيمة حتى عند عامة الناس؛ إلا من كانت الجاهلية مغروسة فيه، أو أراد أن يثيرها ويبعثها ممن هم من أولياء الشيطان، وأما الواقع العام في الأمة في هذه الأمور أنه لا يوزن الناس بها، ولا ينظر إليها، ولا تعتبر.
    2. من ثمرات تسامح المسلمين وبساطتهم

      ومن هنا استقطبت الأمة الإسلامية من فضل الله سبحانه وتعالى كل أهل العقول، وأهل الخبرة، وأهل الفهم، وأهل الرأي، وأهل الذكاء في العالم كله؛ حتى ولو كانوا من أهل الكتاب، فقد جاءوا إلى المسلمين، فهاجروا من الصين ، وهاجروا من الهند ، وهاجروا من أوروبا ، فالعقول المفكرة تهاجر إلى العالم الإسلامي؛ لأنها تجد الحياة، والحرية، والنور، وتعيش، وتبدع، وتنتج، فمن هنا أصبحت هذه الحضارة أعظم الحضارات الدينية.
    3. التطور قرين التسامح والتساوي

      وهذه سنة طبيعية جعلها الله تعالى في هذا الكون، فانظروا إلى أمريكا ، فإنها لما أخذت بهذه القاعدة صارت في قمة الحضارة المادية الآن؛ لأنها لا تبالي بالعنصرية هنا، فأي عالم منتج ومبدع في أي فن فإنها لا تبالي أياً كان بلده، أو منشؤه، أو لونه، فتأخذه وتعطيه أضعاف أضعاف ما يأخذ في بلده، وتستفيد من خبرته، ويعطى الجنسية، ولا ينظر إلى أي شيء آخر غير ذلك، هذا مع جاهليتهم المقيتة التي لم تتخلص قلوبهم منها، لكنهم في تعاملهم وجدوا أنه يجب أن يكون التعامل على هذا الأساس مع هذه العقول، فينشئون ما يسمى: هجرة الأدمغة، أو شراء الأدمغة، فلا يبالون أياً كان: هندوسياً، أو صينياً، أو بوذياً، أو عربياً، فالمهم أن لديه ميزة تأتي به، فطبيعي في أمة هذا حالها أن تتقدم، وأن تترقى، وأن تجمع خبرات أكثر من غيرها من دول العالم كله؛ لأنها أخذت بسنة من سنن الله تعالى.
      فالحضارة الإسلامية أخذت هذا ببداهة، وليس عن وعي كامل أو تخطيط، والمقيم في بلاد الإسلام من أهل الكتاب له من الحقوق كل ما جعل له الشرع، ولا يستطيع أحد أن يغمطه فضله، فليبدع ولينتج وليعمل كما يشاء، ومن هنا وصلوا إلى حضارة يحسدهم عليها العالم إلى يومنا هذا، ولا نقول في الماضي؛ لأن الغرب في الماضي لم يكن لديهم من العقل ما يستطيع أن يدرك به مقدار الحضارة أصلاً؛ لأنه يراها شعاعاً يبهر عينيه، ولا يعرف كيف يفسره، وأما الآن فقد وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الحضارة، فينظرون إلى ما كان عليه المسلمون، ويتعجبون: كيف كانوا يعيشون؟! ويتمنى بعضهم الآن ممن سأموا حياة المدن، يتمنون أن يعيشوا في الأرياف، وأكثر العلماء والمفكرين هناك يعيشون بعيداً عن المدن الصاخبة والمزدحمة؛ حتى يستطيع أن يفكر.
      كثير منهم يتمنى أن يبني بيتاً على نمط بيوت بغداد أو قرطبة ؛ حيث يكون التكييف فيها طبيعياً، ويكون الجو كذا نقياً، فهم يرون آثاراً وحفريات قديمة، فيتمنى الواحد منهم أن يكون عنده بيت مثل هذه البيوت، مع أنهم الآن يعيشون فيما نرى من حضارة، فما بالك بمن كان معاصراً لأولئك المسلمين.
    4. ميزان الرفعة في الدنيا والآخرة

      إذاً فخير الدنيا، وخير الآخرة -وهي خير وأبقى- كله يكون بالتمسك والاهتداء بهدى الله تبارك وتعالى، وبأن يكون الميزان والمعيار هو التقوى، ولا شيء غير ذلك إلا ما شرعه الله عز وجل، وجعله معياراً، فلا ينكر فضل صاحب نسب، ولا ينكر فضل صاحب مهنة أو عمل فضّله الشرع، فكل ما فضله الشرع فهو مفضل، والمعيار الذي يوزن به الناس هو الشرع، هذا هو المقصود. وأما أن توضع أي اعتبارات جاهلية أخرى فإن الأمة لا تجني من وراء ذلك إلا الفرقة والتمزق، ولا تجني إلا الدمار، وضياع الأعمار، وإهدار الطاقات، وإهدار الثروات، وزرع الضغائن والأحقاد في النفوس والقلوب، ومن هنا يدخل العدو. وهذه الأمة التي يكون هذا حالها إذا جاء العدو وحاربها؛ فإن كل طائفة من طوائفها تتشفى بما يقع على الطائفة الأخرى، حتى إنك لتتعجب أحياناً من حال بعضهم؛ فإذا جاءت معركة يتمنى بعض الجند أو بعض الكتائب من الجيش أن العدو يسلط على الكتيبة الأخرى ويهلكها، مع أنها منهم؛ بسبب الضغائن، والأحقاد، فيفضل الإنسان العدو البعيد وإن كان أشد عداوة، وعدواً للجميع، لكن يقول: هو لم يؤذني، ويقدمه على هذا الذي يعتبره عدواً، وربما كان أخاً له في الإسلام، وليس بينهما ما يوجب العداوة قط، وإنما هو تزيين من الشيطان، وهذه جاهلية مترسخة في أنفسهم، نسأل الله العفو والعافية. فهذه قضية مجملة عامة ما أحببنا أن نتجاوزها إلى غيرها حتى نجلي ونوضح القول فيها ولو على سبيل الإجمال.
    5. بعض المسائل التي يصح فيها التفاضل

      وأما ما عدا ذلك من تفضيل مما جاء به الشرع، أو اختلف فيه العلماء؛ فهذا المتفق عليه، والمنصوص عليه لا نقاش فيه، والمختلف فيه يبحث وينظر فيه، فقد مرت معنا مثلاً مسألة من مسائل التفضيل وهي: تفضيل الملائكة على صالحي البشر أو العكس، وقد تكلم فيها العلماء، وهي ليست مسألة سلفية أثرية كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله، فتكلمنا فيها، فلا تدخل في هذا الباب، وأما مسألة: التفاضل بين الخلفاء الراشدين وبين الصحابة، وما أشبه ذلك، فهذه أيضاً حق، وستأتي إن شاء الله تعالى، ويذكر لكل صاحب فضل فضله، (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ))[المائدة:54].
    6. الناس معادن كمعادن الذهب والفضة

      وكذلك التفاضل بين الناس، فالناس معادن، كما قال صلى الله عليه وسلم، وقال: ( خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام )، فالله سبحانه وتعالى أعطى بعض الفخوذ أو القبائل أو البطون من المناقب -وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم- ما لم يعط غيرها، وهذا أيضاً لا ينكر، ولا يدخل في هذا الباب، لكن هذا ليس مدعاة لأن يفخر أحد على كل أحد، أو يظن أحد أن مجرد انتسابه إلى هذه القبيلة، أو إلى هذا الشرف أنه يكفيه، والأمر كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله: (إن التقوى -التي هي معيار التفاضل- فرض عين، فالعبودية لله تعالى، والتقوى فرض عين على كل إنسان، وفرض العين لا يجزئك فيه عمل غيرك، فالذي يفخر بمجرد نسبه كالعلوية -يقصد الذي يفتخر بنسبه إلى علي رضي الله تعالى عنه- وغيرهم هم كمن يريد أن يشبع بأكل أبيه، أو يشفى من مرضه بعافية أبيه، وهذا لا يمكن، ففرض العين لابد أن يقوم كل أحد عن نفسه، فهذا لك في ذاتك، وهذا له في ذاته، فهذا لا بد منه).
      وأما قوله تعالى: (( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ))[الكهف:82] فهذا ويورث الصلاح للذرية، فليسر على طريقه، ولولا أن الأبناء يرجى فيهم الصلاح لما نفعهم صلاح الأب، فإذا انحرفا وبعدا عما كان عليه الأب لم ينفعهما ذلك، كما بينا من قول صلى الله عليه وسلم، وكذلك من فعل نوح مع ابنه، فقد حذره الله سبحانه وتعالى من ذلك الفعل، وكذلك ما فعل إبراهيم مع أبيه، وقد بين الله سبحانه وتعالى له ذلك، وغيرهم.
      وكذلك ما يتعلق بالزوجات، وقد بين ذلك الله سبحانه وتعالى لما أخبر عن امرأة نوح، وامرأة لوط، فحتى الأنبياء -وهم أعظم الناس عند الله عز وجل منزلة- لا يغني والد منهم عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً، فلم يغن إبراهيم عن أبيه، ولا نوح عن ولده، فما بالك بمن دونهم؟! فهكذا تتقطع كل الأرحام والأنساب إلا تقوى الله عز وجل؛ كما ذكر الله عز وجل في كتابه.
      نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المتقين الصالحين، الهادين المهديين المخلصين، إنه سميع مجيب.
      والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.