المادة كاملة    
إن سبب الولاية ومحصلها الأعظم الذكر؛ وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم عليه حتى وصل إلى حد تفضيله على الجهاد وعلى كل عمل، كما اهتم به الصحابة أيما اهتمام؛ فكان الفرق جلياً بين قلوب الذاكرين وقلوب الغافلين، ومن ثم كان الحث على مجاهدة النفس على كثرة الذكر.
  1. الولاية.. سببها وكيفية نيلها وأثر الذكر في ذلك

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فما زلنا في شرح حديث الولي من كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله، وقد أطال رحمه الله تعالى في شرح سبب الولاية، وكيف تنال ولاية الله ومحبة الله، وهي قوله في الحديث: ( ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه )، فذكر ما يتقرب به العبد إلى الله تبارك وتعالى من الفرائض أولاً، وأعظم ذلك الصلاة، ثم ذكر أهم وأعظم ما يتقرب به العبد إلى الله تبارك وتعالى من النوافل التي بها تنال محبة الله وولايته، وذكر من ذلك -كما تقدم- قراءة القرآن، ثم ذكر الذكر قال: (ومن ذلك) -أي: من أعظم ما يتقرب إليه من النوافل-: (ذكر الله). ‏
    1. ماهية الذكر الشرعي الصحيح

      ثم حدد الذكر وعرفه فقال: (الذي يتواطأ عليه القلب واللسان) ومن الناس من يذكر الله بلسانه، ولا يذكره بقلبه، ولا يواطئ قلبه لسانه، فأفضل الذكر وأعلاه أن يذكر العبد ربه تبارك وتعالى بلسانه، ويواطىء قلبه لسانه، فلا يذكره -كما يذكر بعض الناس- ذكراً مشوباً بالغفلة، فيكون ألفاظاً ترددها الشفاة واللسان، القلب في غفلة عنها، وإنما هو استحضار لعظمة وإجلال لله تبارك وتعالى بالقلب، وتعظيم وخشوع له، وذلك يتبع ويصاحب ويرافق ذكره تبارك وتعالى باللسان، فإذا قال سبحان الله؛ فإنه يقوله مستحضراً تنزيه الله وتقديسه عز وجل وتعظيمه، وإذا قال: لا إله إلا الله؛ فإنه يقول ذلك مستحضراً ومستصحباً لألوهية الله تبارك وتعالى.. وهكذا كل ذكر من الأذكار يقوله ويواطئ قلبه عليه لسانه.
      ثم ذكر حديث معاذ رضي الله تعالى عنه (قال: ( قلت: يا رسول الله! أخبرني بأفضل الأعمال، وأقربها إلى الله تعالى، قال: أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله ) )، ثم ذكر الحديث القدسي الصحيح المعروف، الذي يقول فيه الله تبارك وتعالى: ( ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرٍ منهم )، وفي الحديث الآخر: ( أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه ) ، وقال الله تبارك وتعالى: (( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ))[البقرة:152].
      ( ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم الذي يرفعون أصواتهم بالتكبير والتهليل -وهم معه في سفر، كما جاء في الحديث- قال لهم: إنكم لا تدعون أصمّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً، وهو معكم )، وفي رواية: ( هو أقرب إليكم من أعناق رواحكم ) ).
      واكتفى رحمه الله في هذا الموضع بهذا ولم يطل؛ لأنه وإنما أراد الإشارة فقط، لكن لو رجعنا إلى آخر حديث ذكره من العشرة الأحاديث التي أضافها إلى الأربعين فصارت بها خمسيناً؛ فإنك تجد هناك كلاماً شافياً تاماً، فلا ينبغي لنا أن نتجاوز الموضوع إلا بعد أن نأتي على طرف منه بإذن الله تبارك وتعالى، وهو عند حديث عبد الله بن بشر قال: ( أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ.. ).
      فهذا الرجل يريد أخصر طريق إلى الجنة، ويريد عملاً يستطيعه ويطيقه، ويأخذه مباشرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأخذ منه ويعمل به من شرائع الإسلام؛ لأنها كثرت، فإنه يسمع الأحاديث والآيات عن الجهاد، وعن الصيام، وعن الصدقة، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن كثير من أبواب الخير، فيرى أنها قد كثرت عليه الشرائع، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد شيئاً محدداً فقال: ( يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فباب نتمسك به جامع ) أي: المطلوب أن تذكر لي باباً أتمسك به، وأرشدني على باب جامع، وأمر عام إذا فعلته أتيت على خير كثير جملة واحدة بعمل واحد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ) أخرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ وأخرجه الترمذي و ابن ماجه و ابن حبان في صحيحه بمعناه.
      ثم ذكر بعد ذلك الحديث الذي أشار إليه هنا وأوجزه وهو: ما خرجه ابن حبان وغيره في صحيحه من حديث معاذ قال: ( آخر ما فارقت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قلت له: أي الأعمال خير وأقرب إلى الله ) ، ومعاذ رضي الله تعالى عنه فارق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بعثه إلى اليمن في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحق بالرفيق الأعلى ومعاذ في اليمن ، وقدم إلى المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا نجد عدة أحاديث فيها استكثار معاذ من الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصيه، فقال له في بعضها: ( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن )، وهناك أحاديث غير هذا الحديث.
    2. شيء من فضائل معاذ بن جبل

      ومعاذ رضي الله تعالى عنه -كما هو معلوم- هو أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام؛ من حرصه على العلم، وهو الذي يأتي يوم القيامة أمام العلماء برتوة، أي متقدماً بمسافة، فهو إمام العلماء رضي الله تعالى عنه؛ من حرصه على الاستزادة من العلم والخير قبل أن يفارق النبي صلى الله عليه وسلم، ويبتعد عنه.
      وقد كان ما توقعه وخشيه؛ فقد قبض صلى الله عليه وسلم وهو هنالك بعيد عنه في اليمن .
      قال في هذا الحديث: ( يا رسول الله! أي الأعمال خير وأقرب إلى الله تعالى؟ )، وذكر: أن هذا آخر ما فارق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء هم الناس الذين وفقهم الله، وأنار قلوبهم، وبصرهم، وأعطاهم هذا الحرص وهذا الخير، فكان آخر ما يوادع عليه
      أن يسأل عن هذا الأمر العظيم فيقول: ( أي الأعمال خير وأقرب إلى الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله ) أي: أن تحسن الخاتمة؛ وذلك بذكر الله تبارك وتعالى، ومن مات كذلك فقد وفق أيما توفيق.
    3. بعض الأدلة في الحث على الذكر

      ثم ذكر الشيخ رحمه الله بعض الأدلة المتفرقة لفضائل الذكر وفوائده والحث عليه، ومن ذلك ما ذكره من الآيات المعروفة مما حث الله تبارك وتعالى فيه عباده المؤمنين على الذكر، كقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ))[الأحزاب:41-42].
      فهذا أمر من الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين بذكره عز وجل، فيدخل فيه الذكر الواجب قطعاً، ومن توابعه الذكر المستحب، كما في قوله تعالى: (( وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ))[الأنفال:45]، فعلق الفلاح وهو: النجاح والسعادة والفوز في الدارين بذكر الله تبارك وتعالى.
      ولما ذكر تبارك وتعالى صفات المؤمنين الكثيرة في سورة الأحزاب ختمها بقوله: (( وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ ))[الأحزاب:35].
      وفي ذلك إشارة إلى أن من كان هذا حاله، ومن كان هذا ديدنه وشأنه؛ فهو الذي أتى على الكل، فـ(الذاكرين الله كثيراً) يدخل فيها المسلمون والمؤمنون القانتون والصابرون والصائمون والمتقون، وكل ذلك من روافد ذكر الله تبارك وتعالى على ما سيوضح إن شاء الله فيما بعد.
      وذكر أيضاً قول الله تبارك وتعالى: (( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ))[آل عمران:191]؛ وذلك في صفات عباده أولي الألباب.
      ثم قال: (وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه) وهو الحديث المشهور المعروف، وهو من أعظم ما ورد في فضل الذكر (قوله صلى الله عليه وسلم: ( سبق المفردون، قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات ) )، والتفريد هو من الانفراد، أن يكون الركب سائراً فيتقدم أحدهم فينفرد قبلهم، فهذا قد فرّد، ولهذا قال: ( سبق المفردون )، والمفرودون: هم الذي يسبقون الناس ويتقدمونهم، قال: ( الذاكرون الله كثيراً والذاكرات ).
    4. معنى: (المهترون) و(المستهترون) كما في بعض الروايات الواردة في فضل الذكر

      وفي رواية للإمام أحمد قال: ( الذي يهترون في ذكر الله )، وفي رواية الترمذي : ( المستهترون في ذكر الله )، ولا تعارض بينهما، وإن كانت رواية الصحيح هي الأولى.
      والبعض قد يخفى عليه معنى: (المهترون) أو (المستهترون)، والشيخ هنا يقول: إن الهتر -كما فسره ابن قتيبة - هو: السقط في الكلام، فكان الرجل عند العرب إذا خرف، وكبر سنه، وأصبح يتكلم بما لا يدرك؛ يقولون: قد هتر في كلامه، ومن هنا أخذت المهاترة، وذكر شاهداً على ذلك الحديث: ( المستبان شيطانان، يتكاذبان ويتهاتران ).
      يقول: من عُمَّر وخرف في ذكر الله تبارك وتعالى. يعني: أن يطول عمره ويكثر كلامه في ذلك، أو أن يكون عامة كلامه كذلك؛ حتى إن من يراه من الناس يظن أنه قد خرف يتكلم بما لا يعقل، كما يشاهد كثير من الناس الذين عندهم مرض، أو حالة نفسية أو عصيبة؛ فيمشي وهو يتكلم مع نفسه، فهؤلاء المؤمنون من كثرة ما يذكرون الله سبحانه وتعالى يظن بهم ذلك، وكأنه يتكلم بما لا يدرك معناه ولا حقيقته.
      فالمقصود: أن فضل الذكر عظيم، وأن المفرد: هو من أكثر من ذكر الله تبارك وتعالى وتعوده حتى أصبح يجري على لسانه، وعلى قلبه، وعلى مشاعره.
      وأهل الجنة يصلون إلى هذه الحالة، كما جاء في الحديث: ( يلهمون التسبيح كما نلهم نحن النفس ) أي: كما نتنفس ونحن لا نشعر، أو نحن نائمون، ونحن نتكلم، ونحن نمشي، فأهل الجنة يلهمون التسبيح كذلك، فكذلك من أكثر من ذكر الله تبارك وتعالى؛ فإنه يلهم ذلك حتى يجري على لسانه في كل حال، كما سيوضح في بعض الأحوال والأوصاف.
    5. أقسام الناس في هذه الحياة الدنيا

      ثم ذكر الحديث الذي خرجه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استكثروا من الباقيات الصالحات، قالوا: وما هن يا رسول الله؟! قال: التكبير، والتسبيح، والتهليل، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله ) )، وقد قال الله تبارك وتعالى في هذه الباقيات: (( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ))[الكهف:46].
      فعندنا معياران وميزانان: فأهل الدنيا الذي لا يفكرون في الآخرة، ولا يذكرون الله، ولا يؤمنون بما وراء هذه الحياة؛ هؤلاء عندهم أن المال والبنين هما كل شيء، وهما زينة الحياة الدنيا، ولا ينكر كونها زينة؛ لكن أن يقتصر الإنسان عليها، ويفضلها، ويعظمها، ولا يفكر في غيرها؛ فهذا مغبون، وهذا خاسر خسارة عظيمة جداً؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الباقيات الصالحات خيراً منها ثواباً وخير أملا، وجعل قول: سبحان، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله خيراً من هذه الدنيا كلها إذا تجردت عن ذكر الله، فليتنافس أهل الدنيا فيها.
      وأما متاع الدنيا الأموال، والممتلكات والمناصب، والبنون، والزوجات، والمتاع مهما كثر، ومهما عظم إذا تجرد عن ذكر الله، وعن إرادة وجه الله؛ فإنه لا يساوي أن يقول المؤمن كلمة واحدة من: سبحان، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فهذه خير من هذا كله.
      فالمؤمن لا ينظر إلى الأشياء كما ينظر إليها من لا يؤمن بالآخرة، فالذين لا يؤمنون بالآخرة همهم كله منصب في هذه الدنيا (( يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ))[الروم:7]، ((بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ))[النمل:66]، فهؤلاء ضل سعيهم في الحياة الدنيا، فلا يؤمنون إلا بها، ولا يعملون ولا يكدحون إلا من أجلها؛ فلذلك يفكرون دائماً فيما يمتلكون من زينتها من الأموال، ومن الأولاد، ومن المتاع، ومن الشهوات، ثم يرحلون وينتقلون عنها فجأة، وهنالك عند الله تبارك وتعالى في الآخرة يتمنى أنه عمل خيراً عوضاً عن هذا كله الذي تركه لوراثة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ ) فذكروا أن مالهم أحب إليهم، والواقع أن حال الناس يدل على أنهم يفضلون مال الوارث؛ لأنهم يخلفون لوارث هذا المال للوارث ولا يقدمونه عند الله عز وجل، فمن كان هذا حاله فإنه يتمنى أنه ذكر الله تبارك وتعالى ولو لمرة واحدة، وأنه لم يكن قد ملك هذه الدنيا كلها، فهذا هو الميزان، وهذا هو المعيار الذي يجب أن يكون عند المؤمنين بالله والمؤمنين بالدار الآخرة، فلا تغرهم كثرة زخارف الحياة الدنيا فمتاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن أتقى.
    6. تفضيل الذكر على الجهاد وتوجيه ذلك

      وهناك أحاديث أخرى وهي كثيرة، وبعضها يشد بعضاً في تفضيل الذكر على جميع العبادات؛ حتى على الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد ذكر طرفاً منها هنا فقال: (جاء من حديث أبي سعيد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيراً، قيل: يا رسول الله! من الغازي في سبيل الله؟ لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر، ويتخضب دماً؛ لكان الذاكرون لله أفضل منه درجة ) ) يعني: إذا كانت العبادة جهاداً فقط من غير ذكر.
      ومن مميزات الذكر: أن كل عامل يستطيع أن يذكر الله مع عمله، فالمجاهد يستطيع أن يذكر الله مع الجهاد، والصائم يستطيع أن يذكر الله مع الصيام، والصلاة كلها ذكر لله تبارك وتعالى، وكذلك المتصدق، وهكذا كل عمل من الأعمال تستطيع أن تجعله مرتبطاً بذكر الله.
      إذاً فذلك لا يعني التفضيل المطلق، لكن إذا وزن هذا مجرداً وهذا مجرداً؛ رجح الذي لسانه رطب من ذكر الله في الأجر والثواب.
      وذكر أيضاً حديث سهل بن معاذ الذي خرجه الإمام أحمد : ( ( أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي الجهاد أعظم أجراً يا رسول الله؟! فقال: أكثرهم لله ذكراً، فقيل له: فأي الصائمين أعظم؟ قال: أكثرهم لله ذكراً، قال: ثم ذكر لنا الصلاة والزكاة والحج والصدقة؛ في كل مرة يقال: أيهم أعظم؟ فيقول: أكثرهم لله ذكراً ) )، إذاً فالذكر يكون مع كل عبادة.
      ولذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، قال: [ ذهب الذاكرون بكل خير ]، فهم خير المجاهدين، وخير الصائمين، وخير المعتمرين، وخير المتصدقين، وخير المتعبدين أياً كانت العبادة.
    7. ذكر النبي لله تعالى على كل أحيانه

      وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه ) فكان صلى الله عليه وسلم هو أكثر الخلق ذكراً لله؛ لأنه كما قال: ( أنا أعلمكم بالله، وأخشاكم له )، فهو أخشى الناس لله، وأعلمهم به، وأتقاهم له.
      فكان يذكر الله تبارك وتعالى على كل أحيانه، أي: قائماً، وقاعداً، وهو يسير، وهو مسافر، وهو مقيم، وهو جنب، وهو طاهر، فيذكر الله بالذكر المناسب لتلك الحال.
    8. آثار السلف في فضل الذكر والحث عليه

      ومما ذكر في فضله: ما ذكره بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فيقول أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: [ الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله يدخل أحدهم الجنة وهو يضحك ].
      وقيل لـأبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: [ إن رجلاً أعتق مائة نسمة -وهذا عمل عظيم- فقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: إن مائة نسمة من مال رجل كثير، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار، وألا يزال لسان أحدكم رطباً من ذكر الله] فأثنى على العمل وقال: هذا العمل عظيم، وخير كثير؛ لكن أفضل من ذلك كذا وكذا؛ حتى يتنبه الناس إلى أن المسألة ليست بالكثرة، فالصحابة رضي الله تعالى عنهم هم أعظم المربين، وأعظم المزكين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالعبرة ليست بالكثرة، فلا تقل: أنفقت مائة ألف، أو مليوناً، أو أعتقت كذا، وعملت كذا، فالفضيلة ليست بالكثرة وليست بالعدد.
      ولهذا أراد أن ينبه من غير أن يغمط صاحب الفضل فضله، فقال: نعم، بأن كون الرجل يعتق مائة هذا كثير، لكن خير من ذلك: [ إيمان ملزوم بالليل والنهار ] أي: أن يكون الإيمان دائماً وحاضراً في الليل والنهار، ثم ذكر أمراً آخر، وهذا الأمر فيه تخفيف، وفيه رحمة للذين لا يجدون المال، فقال: [ وألا يزال لسان أحدكم رطباً من ذكر الله ]، فإن لم يكن عندك رقاب، ولا مال؛ فعندك العمل الذي لا تعذر في تركه، وتستطيعه وتملكه على أي حال ما دام لديك الوعي والعقل، وهو: ذكر الله تبارك وتعالى.
      وقال معاذ رضي الله تعالى عنه: [ لأن أذكر الله من بكرة إلى الليل؛ أحب إليَّ من أن أحمل على جياد في سبيل الله من بكرة إلى الليل ]، وهذا أيضاً -كما قلنا- ليس فيه احتقار لشأن الجهاد، ولكن لأن الناس يقدرون فضل الجهاد، ويعلمون ما فيه من الأجر العظيم، والمشقة في سبيل الله، والشرف الجليل الذي يناله المجاهد؛ لكن أراد أن ينبه إلى أمر آخر؛ حتى لا يغفل عنه الناس، وهو سهل ميسور وهو: أن ذكر الله تبارك وتعالى أحب إلى الله إن قام العبد بحقيقة الذكر، وذكر الله كما ينبغي هو خير من جهاد من غير ذكر كما أشرنا.
    9. تفسير ابن مسعود لقوله تعالى: (حق تقاته)

      (وقال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه في قول الله تبارك وتعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ))[آل عمران:102]، قال: [ (حَقَّ تُقَاتِهِ) أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر ] ).
      وتفسير الصحابة رضي الله تعالى عنهم هو أعظم وأعلى درجات التفسير بعد تفسير القرآن بالقرآن، وتفسيره بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
      إذاً: فمن حق التقوى أن يذكر الله تبارك وتعالى، وخفف الله تبارك وتعالى فقال: (( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ))[التغابن:16]، ولا تعارض بين ذلك، فالأمر بتقواه حق تقاته هو بحسب الاستطاعة، فنص هنا على الاستطاعة بياناً لرحمته تبارك وتعالى، وسعة فضله.
      فالعبد يتقي ربه حق تقاته بتحقيق هذه الثلاثة الأمور: أن يطيعه فلا يعصيه، وأن يذكره فلا ينساه، وأن يشكره فلا يكفره، أي: لا يكفر النعم، وبعض الناس يظن أن الكفر: هو أن يكفر بالله فقط، وهذا غير صحيح، فقد يكفر العبد بنعم الله عز وجل، ولذلك ذكر الله سبحانه وتعالى هذا في القرآن الكريم فقال: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ))[إبراهيم:28]، وقال في الآية الأخرى: (( فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ))[النحل:112]، فالكفر بالنعمة هو نوع من أنواع الكفر والعياذ بالله، وقال: (( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ))[إبراهيم:34]، فإذا كفر العبد نعمة الله تعالى عليه ولم يكفر بالله ولا باليوم الآخر؛ فإنه على خطر: أن يستخدم النعمة في المعصية، فما أعطاه الله من خير ليتقرب به إليه يستخدمه فيما يباعده منه تبارك وتعالى.
      فالشاهد: أن هذا الصفات الثلاث منها: أن يذكر الله تبارك وتعالى فلا ينسى.
    10. كثرة الذكر وعلاقته بالبراءة من النفاق

      وذكر بعض أقول التابعين ومنها: (قول كعب رضي الله تعالى عنه: [ من أكثر ذكر الله برئ من النفاق ] )، قال الحافظ ابن رجب: (ويشهد لهذا المعنى: أن الله تبارك وتعالى وصف المنافقين بأنهم: (( وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ))[النساء:142]).
      إذاً فالمؤمنون يذكرون الله كثيراً، فبمقدار ذكرك لله تبتعد عن هذه الصفة من صفات المنافقين، ومن أكثر ذكر الله كان أبعد عن النفاق، ومن كان قليل الذكر لله فهو أقرب إلى أن يكون قريباً من المنافقين، أو يكون منافقاً خالصاً، والعياذ بالله.
      قال ابن رجب: (ولهذا ختمت سورة المنافقين أيضاً بالأمر بذكر الله وألا يلهي المؤمن عن ذلك مال، قال: ولا ولد، وأن من ألهاه ذلك عن ذكر الله فهو من الخاسرين) (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ))[المنافقون:9]، فأشار في آخر سورة المنافقون إلى أن حال المنافقين هو الإشغال بالأموال، والاشتغال بالأولاد عن ذكر الله تبارك وتعالى.
      (قال الربيع بن أنس عن بعض أصحابه قال: علامة حب الله: كثرة ذكره، فإنك لن تحب شيئاً إلا أكثرت ذكره).
      وهذه قاعدة عظيمة، وكل واحد منا يجد هذا من نفسه، فمن أحب منا شيئاً أكثر من ذكره، فإن كنت تريد أن تحب الله، وأن تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأكثر من ذكر الله، وأكثر من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    11. أحوال السلف الصالح مع ذكر الله

      ثم ذكر بعضاً من أحوال العلماء في هذه العبادة العظيمة نختار منها ما يلي قال: (كان خالد بن معدان يسبح كل يوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ من القرآن) فلا نستغرب من ذلك، فبعض الناس تجده قد تعلق قلبه بالجهاد، فتراه دائماً كلما سمع هيعة مشى إليها، ولا يفتر ولا يتوانى، بل لا تقر عينه إلا بالجهاد، ومنهم من تعلق قلبه بقراءة القرآن؛ فيقرؤه ليلاً ونهاراً، ومنهم من تعلق قلبه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .. وهكذا، فالله تعالى جعلها سبلاً من سبل الخير، ولهذا يحمل قوله تعالى: (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ))[العنكبوت:69] على هذا الشيء، فطرق الخير كثيرة.
    12. سبب الإكثار من العبادات عند التابعين

      فمنهم من علق قلبه بالذكر، وهذا كثير في التابعين ومن بعدهم كثير؛ لأن التابعين ومن بعدهم -كما -هو معلوم- ولدوا في الإسلام، وهذا ملحظ لا بأس أن ننبه عليه وهو: أننا نقرأ مثلاً في سير أعلام النبلاء ، والطبقات الكبرى لـابن سعد ، و حلية الأولياء وغيرها فنجد أن التابعين لديهم إكثار من العبادة، ومن الذكر، ومن الصوم، ومن الزهد في الدنيا، فربما أنك لا تجد هذا عند الصحابة في بعض الأحيان، ومن أسبابه: أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا في وقت كان الدين فيه غير قائم، فأقامه الله تبارك وتعالى بهم، فقد جاهدوا، وهاجروا، وأوذوا، وامتحنوا، وهذا أعظم من مجرد الذكر والعبادة، وأما التابعون فورثوا الإسلام وقد ضرب بجرانه في الأرض.
      فالتابعون عندما كانوا في المدينة ، أو في الكوفة ، أو في البصرة كان المجاهدون يجاهدون في داخل أوروبا ، وعلى أسوار القسطنطينية ، وقد دفع لهم ملك الصين وملوك الهند الجزية، فالإسلام قائم منتشر في الدنيا، فليس كل واحد منهم يتحرك إلى الجهاد، أو إلى الدعوة، أو إلى العمل، وكانت أعطياتهم أيضاً من بيت المال وفيرة جداً، فكان كل واحد من المسلين يأتيه عطاؤه من بيت المال من ثمرة الجهاد، فهو مكتف في دنياه، ولا يذهب إلى الجهاد التطوعي، ويشتغل بالعلم، فأكثر همه أن يجمع العلم، وأن يشتغل بالعبادة، فمن هنا يجلس الواحد منهم يذكر الله كثيراً، ويصلي معظم يومه، فهكذا نجد في سيرهم.
      فسبب هذا أن واقعهم يخالف ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من الحروب، والشدة، والهجرة، والفتن، والأخذ والشد مع الكفار حتى أظهر الله تبارك وتعالى دينه.
    13. من كرامات خالد بن معدان

      فـخالد بن معدان رضي الله تعالى عنه يسبح أربعين ألف تسبيحة، وهذا غير ما يقرأ من القرآن، وأكرمه الله أنه لما مات وضع على سريره ليغسل، فجعل يشير بأصبعه يحركها بالتسبيح، وهذه من جملة الكرامات، وليس ذلك على الله بعزيز.
      وقيل لـعمير بن هانئ : [ ما نرى لسانك يفتر، فكم تسبح كل يوم؟ قال: مائة ألف تسبيحة إلا أن تخطئ الأصابع ]، فهؤلاء هم الناس الذي قلوبهم معلقة بالله، وبذكره.
    14. الحسن البصري ومحمد بن سيرين وذكر الله

      وذكر عن الحسن البصري : أنه إذا لم يحدث، ولم يكن له شغل فإنه يقول: سبحان الله العظيم دائماً، فذكر ذلك لبعض فقهاء مكة ، فقال: [ إن صاحبكم فقيه، ما قالها أحد سبع مرات إلا بني له بيت في الجنة ].
      وزميله ونظيره ابن سيرين رحمه الله كان عامة كلامه: [ سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده ].
      وكان المغيرة بن حكيم الصنعاني إذا هدأت العيون نزل إلى البحر، وقام في الماء يذكر الله مع دواب البحر.
      فيذكر الله خالياً، وهذا شيء عظيم جداً، ولهذا جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله تعالى تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله: ( ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ).
      وكونك تذكر الله وحدك في خلاء، أو في صحراء، أو في البحر هو غير أن تذكره وأنت مع الناس، فكان المغيرة بن حكيم يجلس إلى طرف البحر ويذكر الله، ولا يسمع إلا نقيق الضفادع، وأصوات الحشرات طول الليل، فيذكر الله معها، وهي تذكر الله عز وجل، (( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ))[الإسراء:44]، فكأنه يجاريها ويباريها ويسابقها في هذا التسبيح، وهي لا تهدأ ولا تسكن طوال الليل، فهي تسبح الله، وهو يسبح الله عز وجل معها.
    15. الفرق بين قلوب الذاكرين وقلوب الغافلين

      فبعض الناس يجد راحة وطمأنينة أن ينفرد، وأن يخلوا عن الخلق، وأن يذكر الله مع هذه المخلوقات التي تذكر الله سبحانه وتعالى، وفي وقت أكثر الناس غفلة، أو في لهو، أو لعب، والله المستعان، وأما الآن فماذا يفعل الناس عند البحر؛ وخصوصاً في الليلة المفضلة وعيد الأسبوع: ليلة الجمعة؟ إنك تسمع الغناء، ومزامير الشيطان، واللهو، والطرب، والغيبة، والصراخ، والسكر أحياناً، والعربدة.
      فانظر إلى الفرق بين قلوب المؤمنين، وبين قلوب الغافلين، والعياذ بالله، وما هي إلا لحظات وينتهي العمر كله، فذاك ذهب بحسرة وندامة وخسارة؛ لأنه لا تمر على أحد ساعة لا يذكر الله عز وجل فيها إلا كانت عليه حسرة يوم القيامة.
      وأما الآخر فذهب بالباقيات الصالحات؛ الواحدة منها خير من الدنيا وما فيها سبحان الله، وبحمده، سبحان الله العظيم، وإن لم يذكر فليتفكر في ملكوت السماوات والأرض، والفكر في البحر أمر عجيب، فعظمة الله تبارك وتعالى تظهر في كل شيء؛ ومن أعظم ما تظهر فيه هو: البحر، وما فيه من عجائب خلق الله، وقد جاء في بعض الآثار: أنه يستأذن ربه عز وجل كل يوم ثلاث مرات أن يغرق أهل الأرض؛ لما يرى من المعاصي والفجور، فأفجر أماكن في الدنيا هي الشواطئ في جميع أنحاء العالم، في الدول الكافرة، وفي المجتمعات الإسلامية، والله المستعان.
      ونرى الغربيين وأمثالهم وأذنابهم ممن لا يؤمن بالله، واليوم الآخر أنهم يتحينون ويتحرون الأمواج؛ حتى يقوموا بألعاب معينة، فيلعبون على الموج، وهم غافلون، ويريدون أن يهيج البحر كي يستمتعوا أكثر نسأل الله السلامة والعافية.
      وأما المؤمنون إذا هاج البحر فإنهم يخافون، بل إذا جاء السحاب -وهو الغيث والرحمة والمطر فإنهم يخافون، ( فالنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى عارضاً من السحاب تغير وجهه، فقال له الصحابة: لماذا يا رسول الله؟ إنا إذا رأيناه فرحنا به؛ لأنه يأتي بالمطر، فقال: إن الله تبارك وتعالى أهلك به أمة من الأمم )، وهم أعتى الأمم: (( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ))[الفجر:7] (( الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ ))[الفجر:8]، (( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ))[الأحقاف:24] ظنوه مطراً، (( بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ))[الأحقاف:24]، فليس أي شيء تراه تعتبره وتظنه كما تحبه وتتوقع أن يكون، وإنما توقع أن يكون شيئاً من الذي تخشاه وهو عذاب الله عز وجل، ويستدفع عذاب الله بذكره سبحانه.
      يقول: ( [ نام بعضهم عند إبراهيم بن أدهم -وهو من العباد المعروفين- فقال: فكنت كلما استيقظت من الليل وجدته يذكر الله، فأغتم ثم أعزي نفسي بهذه الآية: (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ))[المائدة:54] ) أي: أنه يغبطه على ذلك الاجتهاد، وتلك الهمة ].
    16. كثرة ذكر المحبوب

      فالله تعالى يمن على من يشاء، فبعض الناس إذا ذكر الله التذّ وارتاح وتنعم، وبعضهم أثقل شيء عليه هو الذكر؛ بحيث لو قلت له قل: سبحان الله إحدى عشرة مرة؛ فإنه
      يجدها كالجبل نعوذ بالله من تلك الغفلة.
      ثم ذكر هذا الكلام العجيب وهو: موقف بلال، فيقول: (كان بلال رضي الله عنه كلما عذبه المشركون في الرمضاء على التوحيد يقول: [أحد أحد -فيذكر الله- فإذا قالوا له قل: اللات والعزى، قال: لا أحسنه] ).
      فلهذا يقول: إن المحب دائماً يشتغل بذكر من أحب، ويلتذ به، ولا يغفل عنه، ولا يهتم بغيره، وكلما قويت المعرفة صار الذكر يجري على لسان الذاكر من غير كلفة، حتى كان بعضهم يجري الذكر على لسانه في منامه: الله الله، أي: ذكر الله.
      قال: (ولهذا يلهم أهل الجنة التسبيح كما يلهمون النفس، وتصير: لا إله إلا الله لهم كالماء البارد لأهل الدنيا) ولو تنظر في ديوان مجنون ليلى فإنك تجده يكثر من ليلى في كل قصيدة، وفي كل شعر؛ لأنها ملكت عليه قلبه، وكذلك أهل الدنيا يكثرون من ذكرها، وكذا من أشغل نفسه بالغناء والطرب، فمن عاش على شيء مات عليه.
      فالمؤمنون الذين وفقهم الله تعالى يشتغلون بذكر الله؛ فيصير يجري على ألسنتهم، فأهم شيء عندهم رضاه، وأهم شيء عندهم طاعته، فهذا عمر رضي الله تعالى عنه لما طعن وهو يصلي بالناس في المحراب في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، سأل الناس أول ما أفاق فقال: [هل صلى الناس؟] سبحان الله! ولم يقل: هل داويتموني؟ وهل أتيتم بالطبيب؟ ولم ير منه ذلك الهلع الذي نجده في أنفسنا نحن الآن، فنعوذ بالله من ضعف الإيمان، وأما هو فأعظم ما في قلبه وأعظم همه: هي تقوى الله وعبادة الله. دخل عليه غلام يجر إزاره فقال له: [يا بني! ارفع إزارك فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك]، فهو ينكر المنكر في تلك الحالة!
      فمهما كان الإنسان مشغولاً؛ فإن الشغل أو الهم الذي هو أعظم شيء عنده يظل على لسانه، وعلى قلبه أينما ذهب، ولذلك انظر إلى من وفقه الله فإنه إذا سافر إلى أي بلد تجده يسأل: هل هذه القرية أو هذه المدينة فيها مسجد؟ وأين أقرب مسجد؟ وتجده يريد أن يستأجر بيتاً قريباً من المسجد، فأهم شيء عنده: ما يقربه من الله.
      وأما الذين لا يريدون الله والدار الآخرة إذا سافر أحدهم فإنه يبحث عن مكان فيه فرجة، وفيه فسحة، وإن كان منحلاً أكثر من ذلك قال: هل فيه مرقص؟ وهل فيه خمر؟ نعوذ بالله.. وهكذا لأن قلبه متعلق بهذا الشيء، فكل إنسان يبحث عما قلبه معلق به.
    17. حال الصحابة مع ذكر الله كما وصفهم الإمام علي

      يقول: (ووصف علي رضي الله تعالى عنه الصحابة يوماً فقال: [كانوا إذا ذكروا الله مادوا كما تميد الشجرة في اليوم الشديد الريح، وجرت دموعهم على ثيابهم] ) أي: كانوا كما جاء في الحديث الصحيح: ( وكأن على رءوسهم الطير )، فالإنسان إذا كان جالساً وعلى رأسه طير، فإن أدنى حركة تجعل الطير يطير، فهذا يدل على شدة خشوعهم إذا ذكر الله، أو وعظوا.
      وانظر إلى حالتنا: فخطيب الجمعة يخطب وكثير من الناس يتمطط، ويتلفت، وبعضهم ينظر إلى الساعة، والذي يتململ؛ فهذا لأن القلوب غافلة إلا من رحم الله.
      وأما الصحابة فكانوا إذا ذكروا مادوا كما تميد الشجرة في اليوم الشديد الريح، وجرت دموعهم على ثيابهم.
    18. لذة الذكر

      (وقال زهير البابي: [إن لله عباداً ذكروه فخرجت نفوسهم إعظاماً واشتياقاً، وقوم ذكروه فوجلت قلوبهم فرقاً -يعني: خوفاً- وهيبة، فلو حرقوا بالنار لم يجدوا مس النار، وآخرون ذكروه في الشتاء فارفضوا عرقاً من خوفه، وقوم ذكروهم فحالت ألوانهم غيراً -أي: تغيرت ألوانهم من شدة خوفهم من الله عز وجل-، وقوم ذكروه فجفت أعينهم سهراً] ).
      ولذة الذكر هذه هي التي قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ما يفعل بي أعدائي، أنا جنتي في صدري).
      وقال: (إني ليمر بي حال أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذه الحال إنهم لفي نعيم).
      أي: حال من ذكر الله، ومناجاته، ومعرفته، وهذه الحال لا يدركها، ولا تخطر إلا على بال من عرف أن أعظم ما تطمئن به القلوب هو: ذكر الله تعالى، (( أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ))[الرعد:28]، فتسكن، وترتاح، وتستقر، وتسعد، فلا قلق، ولا هلع، ولا جزع، ولا قنوط، ولا خوف كما يعتري كثير من الناس، وإنما تعتريه طمأنينة، وسكينة، وراحة، وسعادة.
      وجاء عن مالك بن دينار أنه قال: [ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله]، ومما جاء في بعض الكتب السالفة: يقول الله: [معشر الصديقين! بي فافرحوا، وبذكري فتنعموا].
      وفي أثر آخر قد تقدم قال: [وينيبون إلى الذكر كما تنيب النسور إلى وكورها ]، فالنسور والطيور عموماً مهما مرحت في النهار، وفي الليل فإنها تئوب وتعود إلى وكورها، فترتاح وتستقر، فهذا جزء من أثر قد تقدم ذكره، وقد رواه الإمام أحمد رحمه الله في الزهد عن عطاء بن يسار قال: قال موسى عليه السلام: ( يا رب! من هم أهلك الذين تظلهم تحت ظل عرشك؟ قال: قال: يا موسى هم البريئة أيديهم، الطاهرة قلوبهم، الذين يتحابون بجلالي، الذين إذا ذكرت ذكروا بي، وإذا ذكروا ذكرت بهم، الذين يسبغون الوضوء في المكاره، وينيبون إلى ذكري كما تنيب النسور إلى وكورها، ويكلفون بحبي كما يكلف -الكلف: شدة المحبة- الصبي بحب الناس، ويغضبون لمحارمي إذا استحلت كما يغضب النمر إذا حورب )، فمن صفاتهم أنهم مع هذه الطمأنينة الكاملة، والراحة إلى ذكر الله؛ هم أيضاً يغضبون إذا انتهكت واستحلت محارم الله كما يغضب النمر إذا حورب، والنمر معروف إذا غضب أنه أشد الحيوانات قوة، وأعظمها قفزاً وضرباً وبطشاً، فهم إذا انتهكت محارم الله عز وجل يغضبون كما يغضب النمر إذا حورب.
    19. أوصاف هذه الأمة مع ذكر الله كما في الكتب السابقة

      وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: [أخبرني أهل الكتب أنه سوف تأتي أمة تحب الذكر كما تحب الحمامة وكرها].
      وهذه من صفات هذه الأمة: أنهم الحمّادون، كما جاء فيما ينسب إلى داود عليه السلام في المزامير أن هذه الأمة دائماً يحمدون الله، ويهللون، ويسبحون، ويكبرون على كل أحوالهم، فهم يحبون الذكر كما تحب الحمامة وكرها، فترجع إليه، وتطمئن وترتاح فيه، ولهم أسرع إلى ذكر الله من الإبل إلى وردها يوم ظمأها.
    20. ذكر الله تعالى حال الجهاد

      يقول رحمه الله بعد كلام له: (وهذه كانت حال الرسل والصديقين، كما قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ))[الأنفال:45])، فحتى في حال الجهاد يستعان على مجالدة العدو ومنازلته بذكر الله، فأمر الله تبارك وتعالى هنا بأمرين: بالثبات، وذكر الله كثيراً، فإذا ثبت المؤمنون، وذكروا الله؛ نصرهم الله، وهذا معلوم وواقع قديماً وحديثاً، حتى إن بعض الكفار الذين أسلموا ممن كانوا يحاربون المؤمنين المجاهدين، يذكر ويقول: إننا إذا سمعنا التكبير فإننا نخاف ونرتعب، فلذلك يدخل الهلع في قلوب الكفار إذا سمعوا تكبير المؤمنين، فمن أعظم ما يستعان به على أعداء الله حتى في حال الحرب الثبات، وذكر الله تبارك وتعالى، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا ))[الأنفال:45].
      قال: ويؤيد هذا ما في الترمذي مرفوعاً: يقول الله عز وجل: ( إن عبدي كل عبدي -أي: العبد الصادق- الذي يذكرني وهو ملاقٍ قرنه ) أي: قرينه وخصمه في المعركة، فهو لا ينسى الله، ويذكره سبحانه وهو يلاقي هذا المبارز في المعركة، هذا في حال الجهاد.
    21. ذكر الله أثناء الحج وبعده

      وفي حال الحج وبعد الحج وفي أثناء المناسك وبعدها، قال الله تعالى: (( فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ))[البقرة:200].
      إذاً فذكر الله عز وجل لا ننساه، فلا يقول: قد انتهيت من الحج، ومن المناسك؛ لا، فلا بد من ذكر الله، فيه يبلغ العمل قمته وذروته، ويعظم أجره.
    22. ذكر الله حال صلاة الخوف

      قال: وأيضاً في حالة صلاة الخوف، كما قال تعالى: (( فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ))[النساء:103].
      ثم قال: (( فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ))[النساء:103]، ففي حال الخوف، وملاقاة العدو يؤدون صلاة الخوف، ويذكرون الله عز وجل، (( فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ))[النساء:103] أي: على حالتها المعهودة.
    23. ذكر الله تعالى بعد صلاة الجمعة

      قال: (وقال تعالى في ذكر صلاة الجمعة أيضاً: (( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ))[الجمعة:10]، فأمر بالجمع بين الابتغاء من فضله وكثرة ذكره، فنحن الآن خارجون من ذكر الله في الخطبة والصلاة؛ ومع ذلك فإننا نندب إلى أن نذكر الله، فقد انقضت الصلاة، وانتهت العبادة فاخرج في طلب الرزق؛ لكن لا تخرج فتنسى الله، ولكن: (( وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ))[الجمعة:10]، فأيضاً لا بد من ذكر الله حتى وإن كان الإنسان خارج العبادة.
    24. ذكر الله تعالى في الأسواق

      ولهذا يقول: (ولهذا ورد فضل الذكر في الأسواق) فالذكر في المساجد معروف، والذكر في حلقات الذكر معروف، والذكر في الأسواق فيه حكمة، وهي: أن تكون من المفردين؛ لأنك تذكر وهم غافلون، فهذا مما ينبغي أن تغتنمه: أن تكون ذكراً بين قوم غافلين لاهين سادرين لاعبين، وتكون من العاقلين المستبصرين، ومن أولي الألباب، وهذه نعمة من الله عز وجل عليك، فاذكره حيث يذكرونه، وأحي ذكره حيث يهمله أكثر الناس.
      ولهذا جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من دخل سوقاً يصاح فيه ويباع فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير؛ كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة )، فهذا الذكر يغفل عنه كثير من الناس، وهو غنيمة باردة يستطيع الواحد منا أن يقولها، ويستطيع أن يزيد.
      فأنت تذهب إلى السوق تشتري كما يشتري الخلق، وتقضي غرضك الدنيوي مثل غيرك، لكن فرق بين من يرجع من السوق بغرضه الدنيوي، ومعه هذا الأجر العظيم الهائل الذي لا تكاد العقول تتخيله، وبين من يرجع بنفس الغرض الدنيوي، وربما عاد مغضوباً عليه في دينه والعياذ بالله؛ لأنه نظر إلى حرام، أو تكلم بحرام، أو حلف يميناً كاذبة في البيع أو الشراء، أو فعل شيئاً مما يفعله الغافلون.
      يقول: وفي حديث آخر: ( ذاكر الله في الغافلين كمثل المقاتل عن الفارين، وذاكر الله في الغافلين كشجرة خضراء في وسط شجر يابس ).
      (قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود [ما دام قلب الرجل يذكر الله فهو في صلاة، وإن كان في السوق] ) فانظر كيف فهم الصحابة رضي الله عنهم والتابعون معنى ذكر الله، فليس الذكر وأنت جالس في المسجد فقط، وإنما يكون في المسجد وفي غير المسجد، فتذكر الله تعالى في بيتك، وفي مسجدك، وفي حياتك العامة، وفي كل حين.
      وقال معاذ رضي الله تعالى عنه: [وإني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي ]، فاعمر أوقاتك بالذكر، واجعل ذكراً قبل النوم، وذكراً عند الاستيقاظ من النوم، فتنام على ذكره، وتستيقظ على ذكره، وتقوى بنومك على ذكره، فتكون حياتك ذكراً لله، وأما الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون فهؤلاء هم الملائكة، والملائكة خلق آخر، وقد خلقهم الله تعالى هكذا.
      وأما نحن فلا بد أن ننام، ولا بد أن نأكل، ولابد أن نشرب، ولابد أن نتعب، ولا بد أن نمل، لكن المقصود أن يكون لسانك حاضراً، وقلبك حاضراً مرتبطاً بذكر الله.
      يقول: ولو كنت في السوق، وإن حرك به شفته فهو أفضل، وإن لم يذكر إلا بقلبه فلا بأس، ولو أعلن الذكر بينهم فهو أفضل؛ كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يحيون التكبير في السوق؛ حتى يتنبه الغافلون فيكبروا.
    25. خروج بعض السلف إلى الأسواق للسلام على الناس

      وكان ابن عمر يذهب إلى السوق وليس له أي غرض، فلا يشتري ولا يبيع، لكن يقول: كي نسلم على الناس، فإذا سلم وقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ اكتسب ثلاثين درجة.
    26. الخروج إلى السوق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

      ثم تصور حال أهل السوق إذا كان أحدهم جالس ورأى أحد العلماء، أو من له علم، أو قيمة؛ فإنه إذا كان على منكر حاول أن يغيره، فإن كان يبيع شيئاً حراماً فإنه يحاول أن يبعده حتى لو لم يأمره أو ينهاه، وإن كان ينظر إلى محرم فإنه يغض نظره، وإن كان عنده لهو فإنه يقفله، فذلك فيه فوائد وفيه إنكار، وفيه ذكر لله، وإحياء لذكر الله في مكان الغفلة والغافلين، وأما لو تركت أماكن الغفلة مطلقاً للغافلين فإن الفساد ينتشر، ولا نعني بأماكن الغفلة: أماكن الفساد والرقص، وإنما المقصود الأماكن التي لا غنى للخلق عنها، فلا غنى للخلق عن أن يشتروا ويبيعوا، فلا يتركوا هذا، وإنما اذهب ومر عليهم، وذكرهم وانصحهم، ولهذا ( مر النبي صلى الله عليه وسلم بالسوق فرأى طعاماً يباع، فأدخل يده في الصرة فوجد بللاً فأخرجه، فقال: ما هذا يا صاحب الطعم؟! قال: أصابته السماء يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من غش فليس منا ) وهذا أصل من أصول عمل الاحتساب على أهل البضائع، وهو ما يسمى الآن بمكافحة الغش التجاري، فهذا من الحسبة، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأنكر عليه.
    27. الخروج إلى السوق وذكر الله بين أهل الغفلة

      يقول: (وكان بعض السلف يقصد السوق ليذكر الله فيها بين أهل الغفلة، والتقى رجلان منهم في السوق، فقال أحدها لصاحبه: تعال حتى نذكر الله في غفلة الناس، فخلوا في موضع فذكرا الله، ثم تفرقا، فمات أحدهما، فلقيه الآخر في منامة فقال: أُشعرت أن الله غفر لنا عشية التقينا في السوق). فما يدريك أن هذه اللحظات التي ذكرت فيها ولم تحسب حسابها في المستشفيات، والناس أكثرهم مشغولون، أو في الطائرة أنها تكون سبباً للمغرفة، فالمهم أن المؤمن يتحرى مواطن ومواضع غفلة الخلق فيذكرهم بالله، أو يذكر الله هو على أقل الأحوال إن لم يذكرهم. فإن لم تفعل ذلك، وخالطتهم على ما هم فيه من الغفلة؛ ولو بقي لك الذكر في مواضع الذكر في حالات أخرى؛ فإنك تخسر جزءاً من وقتك، ومن قلبك، ثم بعد ذلك يسري فيك هذا الداء ويزداد، فتصبح وأنت في المسجد -وهو موضع الذكر- تتذكر ما كان في موضع الغفلة، وهكذا حتى ربما تعم الغفلة القلب كله بعد ذلك.
    28. مجاهدة الإنسان نفسه على ذكر الله على كل أحيانه

      وأما إذا كان الإنسان حتى في مواضع الغفلة يذكر؛ فهو يحاول أن ينشر الإيمان الذي في قلبه، وينشر الخير والمعرفة واليقين حتى في أكثر المواضع غفلة، ومن هنا يصدق قول عائشة رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان يذكر الله على كل أحيانه ) فيذكر الله وهو يجاهد، ويذكر الله عند طعامه، وإذا قام عن الطعام، ويذكر الله عند دخول الخلاء، وعند الخروج منه، وعندما يغشى أهله، وعندما يجد إنساناً يقول له: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذا من ذكر الله، وعندما يقوم عن الناس فإنه يسلم أيضاً، وهم جالسون يذكرون الله عز وجل، وإذا سئل عن أهله وولده قال: الحمد لله، وهذا من فضل الله ونعمه، ولو سئل عن دنياه: كيف هي الأموال عندكم؟ وكيف حال الشغل، والبضاعة؟ قال: الحمد لله، هذا من فضل الله.
      فالمهم أن يذكر الله على كل أحيانه، فهذا هو المؤمن المقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن رأى ما يقربه من الله وتزيده رؤيته قرباً وشوقاً إلى الله فذلك أحرى أن يذكر الله، وإن رأى الغفلة وما يقسي القلب فمما يتقوى به على مقاومة هذه القسوة أن يذكر الله، وإن رأى فتنة من فتن الدنيا: إما من المتبرجات، أو من فتن الدنيا الأخرى فإنه يستعين بذكر الله على هذا القلب؛ حتى لا يفتتن بشيء من الدنيا، ويعلم أن هذه الدنيا إذا جردت من ذكر الله فإنها بجميعها -من أولها إلى آخرها- لا تعدل عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تساوي عنده جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء.
      ولهذا قال بعض العلماء شعراً:
      والله لو كانت الدنيا بأجمعها             تبقى علينا ويأتي رزقها رغداً
      ما كان من حق حر أن يذل لها             فكيف وهي متاع يضمحل غدا
      أي: لو كانت الدنيا هذه تبقى دائماً، ويأتي رزقها رغداً، وكانت عوضاً وبدلاً عن الجنة؛ فهي لا تستحق ذلك، فكيف وهي بهذه الضآلة، وكيف هذا وهي لا تدوم! فمتاع الدنيا قليل لا يذكر.
    29. مصاحبة المنغصات والمكدرات لمتاع الدنيا

      ثم إن متاع الدنيا لا يخلو من المنغصات، والمكدرات، والآلام، والمحن، فهذا عبد الرحمن الناصر حكم الأندلس خمسين عاماً، والأندلس كانت جميلة المنظر، حتى كان يقال لها: جنة الله في الأرض في تلك الأيام، وكانت أكثر منطقة في العالم رقياً وحضارة، لا تحلم أوروبا بذلك، وكان قريباً منها قليلاً: بغداد ، و دمشق في الشرق، وأما أوروبا فقد كانت في تخلف كبير.
      فقيل له: كم أيام السرور عندك وقد حكمت الأندلس خمسين عاماً؟ قال: أربعة عشر يوماً فقط!
      حتى إن الأربعة عشر -يوماً ليست صافية؛ ففي أثناء الأربعة عشر يوماً هذه ينام ثمانِ ساعات أو سبع ساعات، وهي ثلث اليوم، ولا بد أن ينظر إلى شيء لا يعجبه، ولا بد أن يذكر هماً من الهموم التي مرت عليه، ومشكلة وقعت له.
      فالمقصود: أن الدنيا متى تجردت عن ذكر الله فليست بشيء، وأما إذا كان الكدح والتعب في رضا الله، وفي طاعة الله، وفيما يقرب إلى الله؛ فهو خير، ولهذا يرغب المؤمنون في طول العمر؛ لأنهم يريدون الاستكثار من الخير ومن الطاعة ومن القربة، وأما أولئك فكما قال الله: (( إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ))[آل عمران:178] والعياذ بالله، وأما المؤمنون فـ: ( خيركم من طال عمره، وحسن عمله )، فهو يريد أن يتقرب إلى الله أكثر.
      فالمقصود: أن نعرف حقارة وقلة الدنيا بالنسبة إلى الآخرة.
      والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.