المادة كاملة    
إن مما هو معلوم عند أهل السنة والجماعة أن المؤمنين كلهم أولياء الله، على تفاوت درجاتهم، خلافاً للصوفية الذين يزعمون بأن الأولياء فئة أو طبقة خاصة يسمون بالأقطاب أو الأوتاد أو الأبدال.
  1. فوائد معرفة تفصيل الولاية عند الصوفية

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال: [ويجتمع في المؤمن ولاية من وجه، وعداوة من وجه، كما قد يكون فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان. وإن كان في هذا الأصل نزاع لفظي بين أهل السنة ، ونزاع معنوي بينهم وبين أهل البدع، كما تقدم في الإيمان، ولكن موافقة الشارع في اللفظ والمعنى أولى من موافقته في المعنى وحده، قال تعالى: (( وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ))[يوسف:106]، وقال تعالى: (( قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ))[الحجرات:14] الآية. وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وأنهم ليسوا منافقين على أصح القولين. وقال صلى الله عليه وسلم: ( أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر )، وفي رواية: ( إذا اؤتمن خان ) بدل: ( وإذا وعد أخلف )، أخرجاه في الصحيحين.
    وحديث: (شعب الإيمان) تقدم، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ).
    فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخلد في النار، وإن كان معه كثير من النفاق، فهو يعذب في النار على قدر ما معه من ذلك، ثم يخرج من النار.
    فالطاعات من شعب الإيمان، والمعاصي من شعب الكفر، وإن كان رأس شعب الكفر الجحود، ورأس من شعب الإيمان التصديق.
    وأما ما يروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما من جماعة اجتمعت إلا وفيهم ولي لله، لا هم يدرون به، ولا هو يدري بنفسه)، فلا أصل له، وهو كلام باطل؛ فإن الجماعة قد يكونون كفاراً، وقد يكونون فساقاً يموتون على الفسق.
    وأما أولياء الله الكاملون، فهم الموصوفون في قوله تعالى: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ))[يونس:62-64]، الآية.
    والتقوى: هي المذكورة في قوله تعالى: (( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ))[البقرة:177] إلى قوله: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[البقرة:177] ]
    .
    ما يتعلق بذكر أو تفصيل الولاية ودرجات الأولياء عند الصوفية ، فإن هذا مما تفيد معرفته، وله فوائد:
    منها: أن يعلم الإنسان أن الصوفية ضلال -وبعضهم كفار- فهم على بدع عظيمة، منها ما يخرج صاحبه من الملة والعياذ بالله.
    ومنها: أن يعرف الإنسان حقيقة الولاية -كما قدمنا- وحقيقة العداوة حتى لا يلتبس عليه الأمر أو الحق في هذه المسألة.
    ومنها: أنك إذا قرأت كتاباً من كتب الطبقات، أو الكرامات، أو المواعظ والرقائق، أو السلوك وما أشبه ذلك فإنك تستطيع أن تعرف هل هذا الكتاب من كتب أهل السنة ، أم من كتب أهل البدعة، أم مخلوط فيه الحق بالباطل، والبدعة بالسنة، وملبس عليه أو ملبس فيه؟ وكذلك إذا خالطت أو لقيت رجلاً من الناس، وحدثك عن هؤلاء القوم فإنك تستطيع من خلال معرفتك بمصطلحاتهم وشعاراتهم ومراتبهم أن تعلم إلى أي مدى يعتقد هذا المخاطب عقيدة الحق أو عقيدة أخرى قد تكون رأساً في الكفر، كعقائد أهل الحلول والاتحاد، ووحدة الوجود والعياذ بالله.
    فمعرفة هذا تفيد هذه الفوائد وغيرها، ونحن لن نستطرد ونفصل في أمور قد يدق فهمها أو يصعب تصورها على البعض، أو ربما أيضاً تكون فيها بعض من إشغال الوقت بأمور ربما كان غيرها أهم منها؛ لأن الذي يهمنا دائماً هو معرفة الحق على التفصيل، وأما الباطل فإذا عرفناه مجملاً فلا نحتاج إلى أن نعرفه مفصلاً إلا لسبب خاص بذلك، وعلى هذا فلعلنا إن شاء الله نأتي بالأمور التي هي من أوضح ما يمكن، وإلا فكلامهم -كما سنذكر أو نشير إلى بعض مصادرهم- لو رجع الواحد إلى مصادرهم فسيجده أحياناً من الطلاسم التي لا يستطيع أن يفهمها.
    ونحن نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الفلسفات قد انقرضت وذهبت، ولم يبق فيهم من يشرحها أو يعرفها، وإن كان لا بد لكل زمان من فتنة والعياذ بالله، بل إن ما كتبه ابن عربي وابن الفارض وأمثالهما كـابن سبعين ، و صدر الدين القونوي ، والعفيف التلمساني وأشباهم مما أهمل أو ترك إلى حد كبير في العالم الإسلامي، فنجد في هذه الأيام أن بعض الغربيين -أول من بدأ ذلك هم المستشرقون- أخذوا ينشرونه، فأصبح كثير ممن نراهم يسلمون من فلاسفة الغرب يعتقدون هذه العقائد، ويظنون أنها هي الإسلام، ولذلك ربما تأتي هذه المفاسد مرة أخرى في ثوب آخر وفي لون جديد والله المستعان.
    إن الأولياء عند الصوفية هم فئة أو طبقة خاصة ذات رسوم ومعالم وأوصاف ومصطلحات خاصة، بخلاف ما نعتقده كما هو في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعلمه العقلاء جميعاً: أن أولياء الله هم المؤمنون كما قال تعالى: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:62-63].
    فجميع المؤمنين أولياء لله -كما قال الإمام رحمه الله تعالى- وإن كانوا يتفاوتون في الولاية، لكن هؤلاء الصوفية عندهم طبقة أو فئة خاصة معينة يسمون: الأولياء، ثم رأس هؤلاء هو: القطب الأعظم، أو القطب الذي يسمونه أحياناً: الغوث والعياذ بالله، ويقولون: لا يسمى غوثاً إلا عندما يستغاث به!
    ويعتقدون أنه يتصرف في الوجود، وسنذكر صفاته وأحواله فيما بعد. ‏
  2. حقيقة رجال الغيب عند الصوفية

     المرفق    
    ثم بعد ذلك تأتي مجموعة المراتب الأخرى: الأوتاد والأقطاب والأبدال والنجباء والنقباء والنفوس، فهؤلاء عموماً يسميهم الصوفية : رجال الغيب، ولهذا نجد أن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يقول: (إن رجال الغيب هم من الشياطين الذين تعتقدهم الصوفية).
    وهذا المصطلح -أي: رجال الغيب- لم يكن موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين، فيعتقدون بأشخاص وهميين يتصورون ويتشكلون ويتبدلون، ولهم معالم خفية غريبة كما سنرى، ويقال: إن رجال الغيب إنما هم من الشياطين ومردة الجن الذين يسعون إلى إفساد الناس، لبسوا على بعض العباد أو بعض الزهاد وكثير من العوام والسذج البلهاء أنهم رجال غيب، وربما ادعوا أنهم ملائكة، وربما جاء الرجل منهم وادعى أنه هو الخضر ، أو أنه نبي من الأنبياء، أو أنه من الأولياء؛ ليلبس على هذا المسكين فيضله ويضل به أمماً وجموعاً كثيرة، ومن أشهر من كتبوا في هذا الموضوع: ابن عربي صاحب كتاب: الفتوحات المكية ، وقد احتوى على فلسفة عظيمة في بيان أوصاف وأحوال رجال الغيب، لكن لن نستطيع أن نأتي على الكتاب كله أو على جملة منه، فأخذت من تلخيص الشعراني ؛ لأن الشعراني لخص كثيراً مما قاله، وهو تلخيص مفيد وكامل في معرفة ماذا يريد أن يقول ابن عربي، ثم النبهاني وهو متأخر توفي سنة 1350هـ، وقد لخص أيضاً شيئاً من كلام ابن عربي وغيره، وذكر النبهاني مراتب هؤلاء من غير القطب، يقول: (فمنهم النقباء، وهم اثنا عشر نقيباً) وهذا العدد محدود لا يزيدون ولا ينقصون، غير القطب.
    ثم الأوتاد الأربعة، ثم الأبدال الذين هم سبعة كما سنذكر في كلام ابن عربي، يقول: (إن منهم النقباء، وهم اثنا عشر نقيباً) وقال: (ومنهم النجباء، وهم ثمانية)، وهذا في كتابه: جامع كرامات الأولياء ، وهو مطبوع ومحقق، قال: (ومنهم الحواريون) وهو واحد؛ لأن الحواريين في نظر الصوفية رجل واحد في كل زمان، يقول: (لا يكون فيه -أي: زمان- اثنان، فإذا مات ذلك الواحد أقيم غيره حوارياً) يعني يموت حواري ويخلفه آخر، (ومنهم رضي الله تعالى عنهم -كما يقول- الرجبيون) وهؤلاء نوع من الأولياء لا ينالون مقام الولاية إلا في شهر رجب، فيسمون بالرجبيين، (ومنهم الأبدال) وهم سبعة لا يزيدون ولا ينقصون يحفظ الله بهم الأقاليم السبعة كما يعتقد ذلك الصوفية ، وهذا من كلام ابن عربي كما سنوضح إن شاء الله.
    قال: (ومنهم الختم، وهو واحد لا في كل زمان) مثل: الحواري أو القطب، فيختم الله به الولاية المحمدية، فهو خاتم الأولياء، كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء.
    قال: (ومنهم ثلاثمائة رجل على قلب آدم عليه السلام، ومنهم أربعون على قلب نوح عليه السلام، ومنهم سبعة على قلب الخليل إبراهيم عليه السلام، ومنهم خمسة على قلب جبريل عليه السلام، ومنهم ثلاثة على قلب ميكائيل).
    والمسألة كلها وهم من وضع أناس لا يحكمون عقلاً ولا نقلاً، (ومنهم واحد على قلب إسرافيل) فهل هو القطب أو حواري؟ لا تسأل؛ لأنها كلها طلاسم، وكلها لا ضابط لها، قال: (ومنهم ثمانية عشر نفساً، هم الظاهر بأمر الله، عن أمر الله، ومنهم ثمانية رجال يقال لهم: رجال القوة الإلهية) قال: (ومنهم خمسة عشر نفساً هم رجال الحنان والعطف الإلهي) -تعالى الله عما يصفون- وكأن الله عز وجل لا يتحنن أو يعطف أو ينتقم أو يعاقب إلا من خلال هؤلاء، (ومنهم أربعة وعشرون) وهؤلاء أيضاً في كل زمان يسمون برجال الفتح، ربما يكون من شغلهم الفتح على الصوفية مثلاً، (ومنهم رضي الله تعالى عنهم -كما يقول- واحد وعشرون نفساً هم رجال التحت والسفل) أي: أعلى العالم وأسفله، (ثم منهم ثلاثة أنفس هم رجال الإمداد الإلهي والكوني، ومنهم ثلاثة أنفس إلهيون رحمانيون في كل زمان، ومنهم رجل واحد، وقد تكون امرأة في كل زمان -هذا مركب ممتزج- لا يوجد غيره في مقامة، وهو يشبه عيسى عليه السلام، متولد بين الروح والبشر، لا يعلم له أب بشري كما يحكى عن بلقيس أنها تولدت بين الجن والأنس، فهو مركب بين جنسين مختلفين، وهو رجل البرزخ يحفظ الله تعالى به البرزخ) إلى آخر هذا التخريف.
    فلاحظ مشابهته للنصارى ، إذ يقول: إن عيسى عليه السلام متولد بين الروح والبشر، وكأنه مركب من جنسين أو عنصرين، وهذا الكلام باطل؛ لأن عيسى عليه السلام هو بشر بكل معاني الكلمة، والروح إنما أرسله الله سبحانه وتعالى لينفخ في مريم عليها السلام، فليس هو مشاركاً أو جنسه مشاركاً لجنسها، فيتولد منه المسيح عليه السلام، لكن هذا من آثار تشبههم بدين النصارى المحرف الباطل، كما أنهم يأخذون عن اليونان، ويأخذون عن الهندوس، بل عن كل الفرق والنحل الضالة، وهذا الكلام للشعراني ، لكن أكثر كلامه ملخص وموجز من كلام ابن عربي ، أما ابن عربي فيفصل، ونحن نذكر مقاطع من كلام الشعراني ؛ لأنه لخص من الفتوحات المكية.
  3. حقيقة القطبية عند الصوفية

     المرفق    
    يقول الشعراني (بيان أن أكبر الأولياء بعد الصحابة رضي الله تعالى عنهم القطب، ثم الأفراد -على خلاف في ذلك- ثم الإمامان، ثم الأوتاد، ثم الأبدال رضي الله تعالى عنهم).
    وهذا الكلام يقوله الشعراني في كتاب: اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر ، كما أنه يقول في مقدمة كتابه: (إنه وجد الناس طائفتين: طائفة أهل المعقول، وطائفة أهل الكشف). فأراد في كتابه هذا أن يجمع بين المذهبين: مذهب العقل، ومذهب الكشف، فألف كتاب: اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر ، أي: أكابر القوم، فعقد منه هذا المبحث في بيان أن أكبر الأولياء بعد الصحابة هو القطب، فهو استثنى الصحابة حياءً أو استحياءً حتى لا يقال: إنه أكبر أو أفضل من الصحابة، وإلا فمن الأوصاف التي يقولونها: إنه أعظم من كل الأنبياء والملائكة، بل هذه الأوصاف لا تنطبق إلا على مقام الألوهية، فهي أوصاف لله تبارك وتعالى.
    يقول: (ثم الأفراد) على خلاف في ذلك -وبينهم اختلاف وكلها من إملاء ووحي الشياطين- (ثم الإمامان) أي: الأفراد الذين لهم مثل درجة القطب في العلم والمرتبة، لكن القطب لا يكون إلا واحداً، وكأن الإمامان نائبين عن القطب بزعمهم، (ثم الأوتاد) وهم أربعة كما سيذكر، (ثم الأبدال) وهم سبعة، يقول: (فأما القطب فقد ذكر الشيخ في الفتوحات -هذا في الباب الخامس والخمسين ومائتين- أنه لا يتمكن القطب أن يقوم في القطابة إلا بعد أن يحصل معاني الحروف المقطعة التي في أوائل السور، مثل: الم، المص ونحوها، فإذا وقفه الله تعالى على حقائقها ومعانيها تعينت له الخلافة وكان أهلاً لها) وابن عربي ممن ادعى أنه عرفها كلها، ويذكر أشياء مما جرى له ووقع، فتأمل كيف علقوا هذه القطبية أو كونه قطباً على معرفة حقائق الحروف المقطعة في أوائل السور، وهذه ليست تحتها حقائق مجهولة أو غريبة كما يزعمون، وإنما نقول: إنها مما استأثر الله تبارك وتعالى بمرادها وعلمها، أو أنها قد ذكرها الله تعالى وهي من جنس الحروف التي نتكلم بها، وغالباً ما يعقب الله تبارك وتعالى بعد ذكر هذه الحروف بوصف القرآن الكريم، فمثلاً: قال تعالى: (( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ))[البقرة:1-2]، وقوله: (( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ ))[إبراهيم:1]، وقوله: (( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ))[ق:1]، فيعقب بذكر الكتاب وأوصافه؛ ليبين أن كتابه أنزله بلسان عربي مبين من جنس كلامنا وحروفنا، ومع ذلك لا نستطيع أن نأتي به ولو اجتمعت الجن والأنس على أن يأتوا بمثله، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، فتكون فيها إعجاز، وفيها تحدي للعالمين أن يأتوا بمثل هذا القرآن المركب من هذه الحروف، إلى غير ذلك من الأقوال التي يذكرها العلماء رضي الله تعالى عنهم في كتب التفسير، ولا علاقة لها بهذه الخيالات الباطلة الفاسدة التي يدعيها هؤلاء، والمهم أن هذا شرط عندهم. ‏
    1. علامة القطب عند الشاذلي

      يقول الشعراني: (فإن قلت: ما علامة القطب؛ فإن جماعة في عصرنا قد ادعوا القطبية، وليس معنا علم يرد دعواهم؟) فكلما يظهر رجل يدعي أنه القطب، ويدعي أنه معصوم، فيفعل ما يشاء، ويستحل ما يشاء من المحرمات، ولا يتقيد بأمر ولا نهي، ولا يلتزم بحضور جمعة ولا جماعة ولا قراءة قرآن ولا طلب علم، ومع ذلك يدعي أنه قطب، أو تدعى فيه القطبية، حتى إذا مات بنيت على قبره أكبر القباب، وأخذوا يطوفون ويدعون ويستغيثون، حتى في حياته يطلبون منه المدد والعياذ بالله، فإذا عثر أحدهم أو ضل أو فقد ضالة فإنه لا يستغيث بالله، وإنما يستغيث به، فيقول: (كثر هؤلاء) وفعلاً كثروا كثرة عظيمة في كل مكان، فكيف نعرف القطب من غيره؟
      والجواب أشد من السؤال، قال: (فالجواب: قد ذكر الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه -معنى ذلك أن الشاذلي قطب، وأنه يعرف حقيقة الأقطاب-: إن للقطب خمسة عشر علامة: أن يمد بمدد العصمة والرحمة والخلافة والنيابة وحملة العرش العظيم، ويكشف له عن حقيقة الذات) أي: ذات الله! تعالى الله وتبارك عن ذلك، فهو الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، ولا يحيطون به علماً سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن تدرك حقيقته أفهام البشر: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ))[الشورى:11]، ومع ذلك يقول: (يكشف له عن حقيقة الذات، وإحاطة الصفات) أي: صفات الله سبحانه وتعالى، (ويكرم بكرامة الحلم، وأيضاً بالفضل بين الموجودين، وانفصال الأول، عن الأول ومن فصل عنه إلى منتهاه وما ثبت فيه) ومعنى هذا: أن هؤلاء يعتقدون بتوالد المخلوقات كما يدعي ذلك الفلاسفة ، أي: أن كلاً منهم ينفصل عن الآخر، أو ينشأ العقل الأول عن الثاني أو الثالث أو عن الرابع، فيكون من علامته انفصال الأول عن الأول، وأيضاً أن يعلم ما انفصل عنه إلى منتهاه، وما ثبت فيه لم ينفصل كما يبدو، يقول: (يعطي -القطب- حكم ما قبل وما بعد، وحكم ما لا قبل له ولا بعد، وعلم الإحاطة بكل علم ومعلوم، ما بدا من السر الأول إلى منتهاه، ثم يعود إليه) والعياذ بالله.
      فهذه الأوصاف لا يمكن أن يستحقها أحد إلا الله تبارك وتعالى، ومع ذلك يقولون: هذه من علامات القطب.
    2. القطب عند ابن عربي

      ثم يقول: (وقال ابن عربي في الفتوحات : القطب في كل زمان عبد الله، أو عبد الجامع المنعوت بالتخلق والتحقق بمعاني جميع الأسماء الإلهية بحكم الخلافة) أي: متخلق ومتحقق بجميع الأسماء الإلهية، وأحد الصوفيين المعاصرين الذين يدعون إلى الشرك والضلال في البلد الحرام والعياذ بالله يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم متحقق فيه هذا الشيء، وهم يجعلونه للنبي صلى الله عليه وسلم وللأقطاب ولمن شاءوا، فتحقق فيه النعوت أو الأسماء الإلهية نسأل الله العفو والعافية.
      ثم قال: (وهو مرآة الحق تعالى -تعالى الله عما يصفون-، ومجلي النعوت المقدسة، ومحل المظاهر الإلهية، وصاحب الوقت وعين الزمان، وصاحب علم سر القدر -نعوذ بالله- وله علم دهر الدهور).. إلى آخر هذا الكلام الذي لا يصح أن يوصف به أحد كائناً من كان.
      قال: (إلى أن يقول: فالقطب هو الرجل الكامل الذي حصل الأربعة دنانير، والتي كل دينار منها خمسة وعشرون قيراطاً، وبها توزن الرجال، والأربعة الدنانير هم: الرسل والأنبياء والأولياء والمؤمنون، فهو وارثهم كلهم رضي الله عنه).
      فتأمل كيف جعل الأنبياء والرسل والأولياء والمؤمنين أربعة دنانير، وكل دينار فيه خمسة وعشرون قيراطاً، والقطب وارث هؤلاء جميعاً؟!
      إذاً: لا شك أنه -والعياذ بالله- كما يزعمون أفضل من جميع الرسل مجتمعين، ومن جميع الأولياء والأنبياء، ومن جميع المؤمنين مجتمعين، إلى أن يقول: (فإن قلت: فهل يحتاج القطب في توليته إلى مبايعة في دولة الباطن؟) فهنا يتساءل الشعراني ويجيب من كلام ابن عربي فيقول: هل القطب الذي يحكم الباطن يحتاج إلى مبايعة، مثل الخليفة، أي: ما دام أن هذا له مرتبة الخلافة والنيابة عن الله كما يزعمون، فالخلافة في الظاهر يحتاج الخليفة إلى أن يبايعه أهل الحل والعقد، ويجتمع الناس عليه، وهم يريدون من هذا أن يكثروا من الأوصاف مما يمليه الخيال والشياطين.
      قال: (فالجواب: نعم، كما قاله الشيخ ابن عربي في الباب السادس والثلاثين وثلاثمائة، وعبارته: اعلم أن الحق تعالى لا يولي قط عبداً مرتبة القطابة إلا وينصب له سريراً في حضرة المثال يقعده عليه) وينبئ صورة ذلك المثال عن صورة المكانة، كما ينبئ صورة الاستواء على العرش عن صورة إحاطته تعالى، فإذا نصب له ذلك السرير فلا بد أن يخلع عليه جميع الأسماء التي يطلبها العالم أو تطلبه، إلى أن يقول: (فإذا قعد عليه قعد بصورة الخلافة، وأمر الله العالم ببيعته على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، فيدخل في تلك البيعة كل مأمور من أدنى وأعلى، إلا العالون وهم المهيمون في جلال الله عز وجل، العابدون لله تعالى بالذات، لا بأمر إلهي ظاهر على لسان رسول).
      فتأمل تجد أن من يعبد الله بالذات من غير واسطة الرسول، وأن أراد به الملائكة أو نوعاً من الملائكة فمن الممكن أيضاً أن يقال هذا، أي: أن الله تعالى خلقهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فلا يحتاجون أن يبعث إليهم رسولاً، لكن أيضاً يدخل في كلامه بعض البشر الذين يعبدون مباشرة، أي: يعبدون بالذات الإلهي من غير واسطة رسول، فيقول: (فهؤلاء كلهم يبايعون القطب ما عدا هؤلاء، فأول من يدخل عليه: الملأ الأعلى على مراتبهم الأول فالأول) يعني: جبريل وميكائيل وإسرافيل، (فيأخذون بيده على السمع والطاعة) قال: (ولا يتقيدون بمنشط ولا مكره)! وهنا ظهر التناقض مع قوله السابق: يبايعون في المنشط والمكره، ثم يقول هنا: (لأنهم لا يعرفون هاتين الصفتين فيهم) إذ لا يعرف شيء إلا بضده، فهم في منشط لا يعرفون لها طعماً لعدم ذوقهم للمكره.
      ثم يبين كيف أنه كلما يأتي واحد من هؤلاء يبايع القطب يسأله بمسائل من العلم ويجيبه القطب، ومعنى ذلك أن القطب يعلم كل شيء، وأشد من هذا يقول الشيخ: (وقد ذكرنا جميع سؤالات القطابة في جزء مستقل ما سبقنا إليه أحد)، أي: أن ابن عربي يعلم حتى بالأسئلة التي يسألها الملأ الأعلى وغيرهم للقطب، فهو قد أحاط علمه بهذه الأمور التي لا يعلمها إلا خاصة الخاصة في الملأ الأعلى، ولا يجيب عليها إلا القطب والعياذ بالله.
      يقول: (قال الشيخ: وأول من يبايعه: العقل الأول)، وهذا كلام اليونان، (ثم النفس التي يسمونها النفس الكلية، ثم المقدمون من عمار السموات والأرض من الملائكة المسخرة، ثم الأرواح المدبرة للهياكل التي فارقت أجسامها بالموت) وهذا أيضاً من عقائد الفلاسفة والباطنية وأمثالهم، (ثم الجن، ثم المولدات، ثم سائر ما سبح الله تعالى من مكان ومتمكن ومحل وحال فيه إلا العالون من الملائكة).
      فكل هؤلاء يبايعون القطب في خيال هؤلاء الضلال قاتلهم الله، قال: (وكذلك الأفراد من البشر).
      وهنا وضح معنى الذين لا يبايعون القطب نوعان: العالون من الملائكة الذين يعبدون بالذات، والأفراد من البشر الذين يتعبدون مباشرة من غير واسطة رسول؛ لأن الأفراد من البشر لا يدخلون تحت دائرة القطب، وما له فيهم تصرف، أي: لا يتصرف القطب في الأفراد، قال: (إذ هم كمل مثله، مؤهلون لما ناله من القطبية، لكن لما كان الأمر يقتضي أن لا يكون في الزمان إلا واحد يقوم بهذا الأمر تعين ذلك)، أي: من هو متأهل لصفة القطبية أفراد كثيرون، لكن لا يختار منهم قطباً إلا واحداً، والذين لا يختارون فهؤلاء لا يخضعون للقطب؛ لأنهم مثله في الكمال، ولكن لا يتعبدون بأي شريعة ولا باتباع أي رسول نسأل الله العفو والعافية.
      ثم يقول: (من خصائص هذا القطب كما ذكر الشيخ في الباب الخامس والخمسين ومائتين: أن يختلي بالله تعالى وحده)، وهذا من تصور الوثنيين من اليونان وغيرهم، إذ إنهم كما يرون أن لكل ملك وزيراً أو حاجباً يختلي به وحده ويتباحث معه، ثم يوكله في تدبير المملكة، فيجعلون ذلك لله -تعالى عما يصفون- وجعلوا القطب هو الذي يختلي بالله -تعالى الله عن ذلك- ثم يقول: (وهذه المرتبة لا تكون لغيره من الأولياء أبداً، ثم إذا مات القطب الغوث انفرد تعالى بتلك الخلوة لقطب آخر، فلا تقع الخلوة لفردين أبداً).
    3. حكم القطب في عالم الباطن كحكم الخليفة في الوجود عند الصوفية

      ثم ينتقل إلى أن يقول: (ثم اعلم أنه لما كان نصب الإمام واجباً لإقامة الدين وجب أن يكون واحداً) أي: لا بد أن يكون الخليفة واحداً، لا بد أن يكون إمام المسلمين في الظاهر واحداً؛ لئلا يقع التنازع والتضاد والفساد، وكما قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: [لا يجتمع سيفان في غمد]، أي: لا بد أن يكون الخليفة واحداً، ويريدون بهذا أن يقولوا: فحكم هذا الإمام في الوجود حكم القطب في عالم الباطن.
      قال: (وقد يكون من ظهر من الأئمة بالسيف أيضاً قطب الوقت)، إذاً: ربما يجتمع في بعض الخلفاء الظاهرين أن يكون هو القطب في الباطن وفي الظاهر هو الخليفة، قال: (كـأبي بكر و عمر في وقته)! فهو أول شيء جعل أبا بكر و عمر ممن تولي بالسيف، وهذا لا حقيقة له، بل هما رضي الله عنهما ممن أجمعت عليهما الأمة قاطبة حتى ظهرت زندقة عبد الله بن سبأ اليهودي -لعنه الله- وادعى ما ادعى، حتى علي رضي الله عنه الذي ينتمي إليه السبئية ومن اقتفاهم من الشيعة الإمامية وغيرهم أجمعوا على بيعة أبي بكر ثم بيعة عمر رضي الله تعالى عنه، وكذلك الخوارج لا يخالفون ولا يجادلون في بيعة الشيخين وإمامتهما وخلافتهما رضي الله تعالى عنهما.
      إذاً: قد يكون كذلك، وقد لا يكون قطب الوقت، فتكون الخلافة لقطب الوقت الذي لا يكون إلا بصفة العدل، ويكون هذا الخليفة الظاهر من جملة نواب القطب في الباطن، أي: إما أن يكون الخليفة الظاهر للمسلمين هو القطب كما كان أبو بكر و عمر ، وإما أن يكون القطب هو الباطن، والخليفة الذي يحكم المسلمين في الظاهر نائباً عن القطب في الباطن، وكل هذا الكلام تخريفات لم يدعيها لا خليفة ولا حاكم ولا محكوم، بل ولا جاءت في كتاب ولا في سنة ولا في كلام صحابي ولا في كلام تابعي، لكن ملايين من الناس في العالم الإسلامي يعتقدون هذا والعياذ بالله، فيتعبدون ويقدسون ويعظمون هؤلاء الرجال على أنهم أقطاب أو أوتاد أو أبدال إلى غير ذلك من الضلالات.
    4. القطبية في الأئمة المجتهدين عند الصوفية

      فيقول: (واعلم أن القطبية كما أنها قد تكون لولاة الأمور -من الحكام- فهي كذلك قد تكون في الأئمة المجتهدين) أي: كما أن الخلفاء قد يكون فيهم أقطاب فكذلك الأئمة المجتهدون في الفقه قد يكون فيهم أقطاب، بل هي فيهم أظهر، (ويكون تظاهرهم بالاشتغال بالعلم الكسبي حجاباً عليهم؛ لكون القطب من شأنه الخفاء) أي: اشتغال الأئمة الأربعة وغيرهم بالعلم الكسبي الظاهر، كأن يطلب العلم فيرحل إلى الشيخ الفلاني، فمثلاً الإمام الشافعي رحمه الله يذهب إلى الإمام مالك ويتعلم منه، ثم يذهب إلى بغداد ويقابل الإمام أحمد ويسأله عن مسائل وعن أحاديث، وهكذا الأئمة يتعلم بعضهم من بعض، يقول: إن هذا اشتغالهم بالعلم الظاهر حجاب فقط، وهم في الحقيقة أقطاب، ويصلون إلى العلم من غير أن يشتغلوا به، ومن غير أن يطلبوه ويرحلوا إليه ويأخذوه من أهله، والعلم الذي يعطوه علماً لدنياً، لكن يشتغلون بالعلم الظاهر، وبالرحلة في طلب العلم، وبالأخذ عن المشايخ والحلقات والحفظ والتأليف على سبيل الحجاب عليهم؛ لأن القطب لا يكون إلا مخفياً، إذاً كيف يظهرون؟ ولمن يظهرون؟ إن هذا شيء لا يعلمه أحد، حتى عن أهله لم يذكروه ولم يدعوه، ثم كيف عرفتموه أنتم بعد هؤلاء بقرون؟!
      يقول: (قال الشيخ محيي الدين : وقد اجتمعت بالخضر عليه السلام!) وهذا أحد الخرافات التي يذكرها كثيراً، (وسألته عن مقام الإمام الشافعي رحمه الله؟) أي: هل هو قطب أو وتد أو بدل؟ فقال: (كان من الأوتاد الأربعة)! إذاً هناك قطب، وهناك أفراد فيهم صفات القطبية، لكن لم يبايعوا، وتحت الأفراد الأوتاد الأربعة، قال: (فسألته عن مقام الإمام أحمد؟ فقال: هو صديق) ولا أدري ما يقصده؟ فهو ليس بوتد أو قطب أو بدل، والمهم أن هذا جوابه، ثم أطال في ذلك الكلام عن الأقطاب وأنواعهم.
      ثم يقول ابن عربي في بيان جعل الأوتاد أربعة: (إن الله تعالى جعل أربعة من الرسل في الدنيا أحياء بأجسادهم: ثلاثة مشرعون، وهم: إدريس وإلياس وعيسى، وواحد حامل للعلم اللدني وهو الخضر عليه السلام، وإيضاح ذلك أن الدين الحنيفي -الإسلام- له أربعة أركان كأركان البيت، وهي: الرسل والأنبياء والأولياء والمؤمنون، أي: أن الدنانير الأربعة صارت هي الأركان الأربعة، والرسالة هي الركن الجامع للبيت وأركانه، فلا يخلو زمان من رسول يكون فيه، وذلك هو القطب الذي هو محل نظر الحق تعالى من العالم كما يليق بجلاله).
      إذاً: لا بد أن يكون القطب دائماً موجوداً، وهو ركن الرسالة ويمثلها، ثم يقول: (فبالواحد منهم يحفظ الله تعالى الإيمان، وبالثاني يحفظ الله الولاية، وبالثالث يحفظ الله النبوة، وبالرابع يحفظ الله الرسالة) فتكون أربعة أركان وأربعة أوتاد، يقول الشيخ ابن عربي: (ولكل واحد من هؤلاء الأربعة من هذه الأمة في كل زمان شخص على قلبه نائباً عنه مع وجودهم، وأكثر الأولياء لا يعرفون القطب والإمامين والأوتاد لا النواب ولا هؤلاء المرسلون)، إذاً بالإضافة إلى هؤلاء الأربعة كل واحد له نائب، وبهذا نكون قد عرفنا تقريباً شكل الهرم: القطب والأفراد، ثم الأوتاد، وكل واحد من الأوتاد له نائب على مثل قلبه، يقول: أكثر الأولياء لا يعرفون القطب ولا الإمامين ولا الأوتاد ولا النواب، ولا هؤلاء المرسلون الذين ذكرناهم، ولهذا يتطاول كل أحد لنيل هذه المقامات، فكثير من شيوخ الطرق كل منهم يدعي أنه قطب أو بدل أو وتد إلى آخره، فيعلل ابن عربي هذا بأنهم يجهلون هؤلاء، يعني: أنه هو الوحيد الذي يعرف هذه الأقطاب والأوتاد، وشيوخ الطرق لا يفقهون ولا يعرفون هذا.
    5. مراد الصوفية بالقطب

      ثم يقول: (فإن قلت المراد بقولهم: فلان من الأقطاب) -بناءً على مصطلحهم- أي: ما دامت القطبية بهذه الدرجة العميقة فلماذا يقول الصوفية : فلان من الأقطاب، ويلحظ ذلك من قرأ أي كتاب من كتب هؤلاء القوم، فيجده يقول: وكان من الأقطاب؟! فكيف يكون من الأقطاب مع أنه واحد وصفاته بهذا الشكل؟! قال: (فالجواب: أن مرادهم بالقطب في عرفهم: كل من جمع الأحوال والمقامات وإن لم يكن هو القطب الحقيقي) وقد يتوسعون في هذا الإطلاق فيسمون القطب في بلدهم: كل من دار عليه مقام ما من المقامات، وانفرد به في زمانه على أبناء جنسه، فرجل البلد قطب ذلك البلد، ورجل الجماعة قطب تلك الجماعة وهكذا.
      ولكن الأقطاب -المصطلح عليهم- فيما بين القوم لا يكون منهم في الزمان إلا واحد وهو الغوث، أي: أن القطب الحقيقي واحد، ولذلك يتساهلون في الاصطلاح فيزعمون أنه ما من أحد أو جماعة أو بلد إلا ولها قطبها، وعلى هذا يذكرون الحديث الذي ذكره الشيخ هنا، وذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من جماعة اجتمعت إلا وفيهم ولي لله، لا هم يدرون به ولا هو يدري بنفسه )، أي: أي جماعة تجتمع فإن فيهم ولياً، فيجعلونهم رجال غيب مجهولين موهومين، فأي جماعة اجتمعت، وأيما فئة من الناس في أي مكان بأي شكل ففيهم ولي، لكن لا هم يدرون به ولا هو يدري بنفسه!
      إذاً: ما الفائدة؟ وما هذه الولاية؟ وما حقيقتها؟ إن هذا اعتقاد حتى يوهموا عامة الناس، ولذلك -كما قد أوضحنا- فإن من مراد الصوفية ومقاصدهم بهذا: ألا تنكر على أحد، ولا تنكر على جماعة ما فعلوا، حتى لو اجتمعوا على شرب خمر؛ لأنه ما يدريك أن فيهم ولياً لله، فإذا رأيتهم مجتمعين على أي شيء فلا تنكر عليهم؛ لأنه قد يكون فيهم القطب الأعظم، فيريدون بذلك -والعياذ بالله- إسقاط الأمر والنهي، وخاصة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تسلم بكل شيء، وكل ذنب وكل جريمة تفعل، ويستشهدون دائماً بقول الله تعالى -في غير موضعه-: (( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ))[الأنعام:112]، فلا تكلمهم ولا تنكر عليهم، بل يقولون: لا بد من التماس العذر لهم، أي: اجتهد أن تلتمس له العذر، حتى لو وجدته يزني أو يشرب الخمر، بل لو كفر بالله، أو قال: سبحاني سبحاني ما أعظم شأني، أو ما في الجبة إلا الله -تعالى الله عما يقولون- كما قال ذلك: أبو يزيد البسطامي أو الحلاج وأمثالهم، حتى يقولون لك: إن هؤلاء ما كفروا في الظاهر، بل لا بد أن تلتمس لهم العذر؛ لأن هذا كلام عظيم، وله معان خفية لا يدركها المحجوبون أو المغفلون، وهكذا يعنون بذلك أن يظهروا زندقتهم وكفرهم وإلحادهم في كل ملأ، وفي كل اجتماع، ولا ينكر أحد عليهم، فإذا جاء أحد وأنكر عليهم جابهوه بهذه الدعاوى الباطلة.
      وهنا سؤال مهم أيضاً وهو: فإن قيل: هل يكون محل إقامة القطب بـمكة دائماً كما هو مشهور ومتداول بينهم؟ ثم يختلفون في أعماله وأحواله، وكيف يكون؟ ولهذا جاء ابن سبعين الخبيث وكان يستهزئ بالطائفين بالبيت ويقول فيهم قولاً شنيعاً، ثم ذهب إلى غار حراء وتعبد واعتكف فيه ويتوقع أن ينزل عليه الوحي والعياذ بالله، إن هؤلاء في هذا الضلال المبين يعتقدون أن القطب لا يكون إلا في مكة أو كثير منهم.
      الجواب: يقول لك: هو بجسمه حيث شاء الله، لا يتقيد بالمكث في مكان بخصوصه، ويقول: ليس شرطاً أن يكون في مكة ، فيمكن أن يكون في كل مكان لا يتقيد بمكان معين، قال: ومن شأنه الخفاء، أي: ما يظهر على أنه قطب في الحقيقة، فتارة يكون حداداً، وتارة يكون تاجراً، وتارة يبيع الفول ونحو ذلك، والغرض من هذا: ألا تتكلم على أحد، ولا تنكر على أحد، واعتقد ولاية كل أحد، أو توقع ولاية كل أحد، فقد يكون حداداً، وقد يكون تاجراً، وقد يكون طباخاً، وقد يكون حمالاً وهكذا، وقد لاحظتهم بنفسي، فتجد أحياناً الواحد منهم يقول لك: انظر ذاك، ما يدريك أن يكون هذا ولياً، قد يكون القطب واحداً عادياً جداً، ويمكن أن يؤذن المؤذن ويصلي الناس وهو غافل، ويقال لك: لا تتكلم بأي شيء؛ لأنه قد يكون ما ترك الصلاة وجلس هناك إلا وهو القطب والعياذ بالله، وهذا منتشر بين العامة كثيراً، خاصة في مكة وغيرها -نسأل الله العفو والعافية- وهكذا الواحد لا يستطيع أن يتكلم على أحد، ولا ينكر على أحد، ولا يعرف كيف يتعامل مع الناس؛ لأنه احتمال أن يكون هذا هو القطب كما يزعمون.
      يقول الشعراني: (فإن قيل: هل كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم أقطاب؟ وكم عددهم؟ قال: فالجواب: كما قاله الشيخ في الباب الرابع عشر من الفتوحات: إن الأقطاب لا يخلوا عصر منهم، قال: وجملة الأقطاب المكلمين من الأمم السالفة، من عهد آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرون قطباً) يقول ابن عربي: (عددهم خمسة وعشرون أشهدنيهم الحق تعالى) أي: أن الله تعالى أشهد ابن عربي وأراه الخمسة والعشرين- في مشهد قدس في حضرة برزخية، بمدينة قرطبة ، وذكر أسماءهم: الفرق ومداوي الكلوم والبكاء والمرتفع والشفار الماضي والماحق والعاقب إلى آخر هؤلاء، يقول: فهؤلاء هم الأقطاب من آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فنعوذ بالله من هذا الضلال.
      ابن عربي إذا ذكر عند بعض الناس وتكلم فيه قالوا: أنت على مذهب ابن تيمية ؛ ابن تيمية كفر ابن عربي ، وكأنها عداوة شخصية بين ابن عربي وابن تيمية ، ولو ذهبت إلى بلاد الشام فرأيت ما يفعلون عند قبر ابن عربي لرأيت العجب، إذ إن الصوفية يأتونه من جميع أنحاء الأرض، ويعتقدون فيه والعياذ بالله الشرك الأكبر.
      يقول ابن عربي: (واعلم أن لكل بلد أو قرية أو إقليم قطباً غير الغوث، به يحفظ الله تعالى تلك الجهة، سواء كان أهلها مؤمنين أو كفاراً) وكذلك القول في الزهاد والعباد والمتوكلين وغيرهم لا بد لكل صنف منهم قطباً يكون مدارهم عليه، حتى اليهود و النصارى، ثم يقول: (وقد اجتمعت بقطب المتوكلين، فرأيت مقام المتوكل أو التوكل يدور عليه دوران الرحى حين تدور على قطبها)، وهذا هو معنى القطب عندهم، فهم أخذوها من نظرية اليونان في دوران الأفلاك، يقول: (وهو عبد الله بن الأستاذ ببلاد الأندلس ، فقد صحبته زمناً طويلاً) يقول: (وكذلك اجتمعت بقطب الزمان سنة 593هـ بـمدينة فاس في المغرب ، وكان أشل اليد، فتكلمت على مقام القطبية في مجلس كان فيه، فأشار علي أن استره على الحاضرين ففعلت) أي: قال له: لا تتكلم ففعل! مع أنه ربما يكون شيطاناً تلبس، أو ربما أن واحداً رآه يتكلم كلاماً فارغاً فقال له: اسكت، لكنه يقول: أكيد هذا القطب الأعظم قطب الزمان، وأشار عليَّ ألا أفشي أو أتحدث بسر القطبية، يقول: (فإن قلت: فهل مدة معينة للقطبية إذ وليها صاحبها لا يعزل منها حتى تنقضي؟ فالجواب: ليس للقطبية مدة معينة، فقد يمكث القطب في قطبيته: سنة أو أكثر أو أقل إلى يوم أو ساعة؛ فإنها مقام ثقيل، وبعضهم لا يتحمل أن يكون قطباً إلا لساعة واحدة) يقول: لتحمل صاحبها أعباء الممالك الأرضية كلها، ملوكها ورعاياها.
      إذاً: هو الذي يدبر أمرهم -تعالى الله عما يصفون- وهو الذي يعمل كل شيء، فلا يستطيع أحد أن يتحمل الدنيا وما فيها من الملوك والأتباع إلا مثل هذا القدر، ثم ذكر أن بعضهم قطبيته تمكث ثلاثة وثلاثين سنة، وبعضهم أكثر، وبالقطب تحفظ دائرة الوجود كله، وبالإمامين يحفظ الله العالمين: عالم الغيب، وعالم الشهادة، وبالأوتاد يحفظ الله تعالى الجنوب والشمال والمشرق والمغرب، فهو يقسم رجال الغيب والأولياء الكبار على التقسيم الجغرافي تقريباً، ثم بالأبدال -وعددهم سبعة- يحفظ الله الأقاليم السبعة، وهذا علم الجغرافيا القديم قبل أن تكتشف الأمريكيتان واستراليا، ولا أدري كيف علموها؟! يقول: (وبالقطب يحفظ الله جميع هؤلاء؛ لأنه هو الذي يدور عليه أمر عالم الكون كله) ثم ذكر الوراثة فقال: (هل للقطب أن يتصرف في الوراثة فيورثها لأحد أبنائه مثل ملوك الدنيا، كما حدث أيام الدولة الأموية والعباسية؟ قال: لا؛ لأن الإرث الباطن غير الإرث الظاهر).
  4. الأبدال عند الصوفية

     المرفق    
    يقول: (اعلم أن لكل بدل من الأبدال السبعة قدرة تمده من روحانية الأنبياء الكائنين في السموات، فينزل مدد كل بدل من حقيقة صاحبه الذي في السماء، قال: وكذلك أمداد الأيام السبعة تتنزل من هؤلاء الأبدال) لكل يوم مدد يختص به من ذلك البدل، ولذلك أكثر كلمة توجدونها عند الصوفية في الدعاء والاستغاثة هي كلمة: مدد يا فلان، فالأبدال السبعة والأيام سبعة، وكل واحد في يوم يمد، وسماء من السموات السبع يمد.
    يقول: (وإن قلت: فهل يزيد الأبدال وينقصون بحسب الشئون التي يبدلها الحق تعالى، أم هم على عدد واحد لا يزيدون ولا ينقصون؟ يقول: فالجواب: هم سبعة لا يزيدون ولا ينقصون، وبهم يحفظ الله الأقاليم السبعة)؛ لأنه في الجغرافيا القديمة عندهم أن الأقاليم سبعة، ولا يمكن أن يزيد أي إقليم، فلذلك قالوا: إن الأبدال لا يمكن أن يزيدوا، ومن شأنهم العلم بما أودع الله تعالى -النظرية الوثنية اليونانية دائماً نجدها- في الكواكب السيارة من الأمور والأسرار في حركاتها ونزولها في المنازل المقدرة، ولذلك دين هؤلاء مركب من دين الوثنيين، من اليونان والصابئين وأمثالهم؛ لأن القوم الذين بعث الله تبارك وتعالى فيهم إبراهيم عليه السلام، وكان منهم أهل حران الذين كانوا يعبدون الكواكب، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: (( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ))[الأنعام:75]، ثم ذكر: (( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي ))[الأنعام:76] الآيات، فكفر بعبادة الكواكب، ولا تنافي بين كونهم كانوا يعبدون الكواكب وبين كونهم يعبدون الأصنام، كما قال: (( مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ))[الأنبياء:52]، فهم يعبدون الأصنام ويعبدون الكواكب بزعمهم أن لكل كوكب هيكل أرضي، فيبنون هيكلاً للمشتري، وهيكلاً للمريخ، وهيكلاً لكذا من الكواكب، ويصورون أصناماً ويعبدونها ويقصدون بذلك عبادة الإله الذي هو في نظرهم ذلك الكوكب، والمهم أنهم يعتقدون أن تدبير الكون، وأن ما يحصل من إعطاء الناس من الرزق أو الإحياء أو الإماتة أو إنزال المطر أو العافية أو المرض أو كل ما هو من تدبير هذا الكون، إنما يحصل من الكواكب السبعة، فجاء هؤلاء الذين يدعون أنهم من أهل الإسلام ومن أهل الدين، فجعلوا هذه الصفات للأبدال السبعة، وجعلوا لكل إقليم بدلاً من الأبدال يدير شئونه ويصرف أموره، تعالى الله عما يصفون.
    وسموا أبدالاً لأن كل واحد منهم إذا فارق مكانه خلفه آخر على صورته لا يشك الرائي أنه ذلك البدل، فالمشكلة أن البدل واحد في المظهر، لكن في الحقيقة يتبدل، فإذا رآه أحد يظن أنه هو البدل الأول الذي رآه من قبل، بينما يكون ذاك قد مات، وجاء الآخر على نفس صورته، وكل هذا تخريف.
    ثم تكلم عن روحانية الكواكب وما فيها، فيقول: (اعلم يا أخي! أن الله تعالى جعل هذه الأرض التي نحن عليها سبعة أقاليم، واصطفى من عباده المؤمنين سبعة سماهم الأبدال، وجعل لكل بدل إقليماً يمسك الله وجود ذلك الإقليم به)! تعالى الله عن ذلك، فهو سبحانه قادر أن يمسك كل شيء، وأن يدير كل شيء بغير هؤلاء، أو يدبرها عز وجل بواسطة ملائكته الكرام، يقول: (فالإقليم الأول من السماء الأولى...)، وبعد ما ذكر الأقاليم كلها يقول: (قال الشيخ ابن عربي : وقد اجتمعت بهؤلاء الأبدال) فكلما يذكر شيئاً يقول في النهاية: أنا قد قابلتهم فأخذت منهم العلم مباشرة -السبعة بـمكة خلف حطيم الحنابلة- لأنه في أيامهم كانت المنابر أربعة، وكل مذهب يصلي وحده -حين وجدتهم يركعون هناك، فسلمت عليهم وسلموا علي، وتحدثت معهم، فما رأيت أحسن منهم سمتاً، ولا أكثر شغلاً منهم بالله عز وجل، وما رأيت مثلهم إلا سقيط الرفرف بن ساقط العرش بـقونية ، وكان فارسياً رضي الله تعالى عنه، أي: أنه رأى واحداً مثلهم من الفرس في مدينة قونية في تركيا ، وفيها أيضاً نفس المشاهد من الشركيات والضريح الكبير، وأظنه ضريح القطب الذي يسموه: جلال الدين الرومي ، حتى أنني ذات مرة التقيت بواحد من الأتراك فتحدثنا عن قونية ، فجلس يشرح لي وما فهمت ماذا يقصد أول مرة؛ لأنه يعمل مثل الرحى، قلت له: في وسط تركيا ، قال لي: لا، وما فهمت ماذا يريد؟ فجاء أحدهم فترجم وقال لي: فيها ضريح القطب الذي يدور، وأشار لي بالرحى والوتد.
  5. تميز الصوفية بمصطلحات غير ما عند عامة الفرق

     المرفق    
    إن هذا الضلال وهذا الفساد قد عم جميع أنحاء العالم الإسلامي إلا ما رحم الله، فهؤلاء رجال الغيب أو الأقطاب والأوتاد والأبدال أوجزنا الكلام فيهم ولخصناه جداً، كما يعتقد فيهم هؤلاء من كلام ابن عربي الذي نقله عنه الشعراني ، نعرف به أن الأولياء عند هؤلاء القوم - الصوفية - شيء آخر غير ما يعرفه المؤمنون من أنواع الأولياء، ومن أنواع عباد الله المؤمنين الذين آمنوا وكانوا يتقون، فكل من اتقى الله تبارك وتعالى وآمن فهو ولي من أولياء الله، أما هذه الأوصاف فلم تعرف، ولم ترد عن السلف إلا كلمة: البدل، فقد جاءت في حديث مرفوع ذكرنا درجته سابقاً، مع أنه قد توجد كلمات أو مصطلحات عند الصوفية، وهذا أكثر شيء لا أصل له بالمرة، وإنما أحدثوها هم أو نقلوها من الأمم الأخرى، وقد يوجد بعض المصطلحات الشرعية، ولكن هؤلاء القوم يضعونها في غير محلها، فمثلاً: كلمة الملكوت في قوله تعالى: (( قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ))[المؤمنون:88]، وكلمة: الجبروت، إذ إن لهما معنى عاماً عند أهل السنة والجماعة غير المعنى الذي يدعيه الصوفية من أن هناك عالماً اسمه: عالم الملكوت، وعالم آخر اسمه: عالم الجبروت، وكذلك: (الولي) له مصطلح عندنا غير المصطلح عندهم وهكذا.
    وبالتالي فهؤلاء القوم قد تكون البدعة عندهم موضوعة من أصلها، يعني: بأوصافها وأسمائها، وقد يزيدون في بعض المصطلحات الشرعية ما لم يأذن به الله، وقد ينقصون في البعض الآخر، فهم أصحاب هوىً، يحكمون ويتبعون أهواءهم وما تلقيه إليهم شياطينهم الذين قال الله تبارك تعالى عنهم: (( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ))[الأنعام:112]، ولما قيل لـعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه: المختار يزعم أنه يوحى إليه! فهل هذا حق؟ فتأمل ستجد أن دعوى الإلهام أو الكشف أو العلم اللدني أو تلقي الوحي غير الوحي المعروف قديمة، فقال ابن عمر : نعم، ثم ذكر قوله تعالى: (( شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ))[الأنعام:112]، فهم يوحون إلى أوليائهم، وكما قال في الآية الأخرى: (( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ))[الأنعام:121].
    وهذا الوحي الذي يأخذونه ويتلقونه يسطرونه ويكتبونه ويدعون أنه هو الحق، وليتهم يقفون عند هذا، بل يكفرون ويضللون ويبدعون من خالفهم، ولذلك تجد في كلام الشعراني وأمثاله من الطعن على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله والحط من شأنه؛ لأنه كان عدواً لهؤلاء المجرمين المفترين على الله الكذب، المبطلين الذين جعلوا هذا الدين أضحوكة لأعداء الله، فإن كثيراً من عقلاء الفلاسفة وأمثالهم لما يجدون أن هذا هو دين الإسلام كما يدعي هؤلاء يكفرون بهذا الدين، ويسخرون به وبأهله، ويقولون: هذه فلسفة قديمة وثنية مزجت ثم أعيدت إلينا، فلا يؤمنون بها، فيكون هؤلاء سبباً في أن يصد كثير من الخلق عن دين الله؛ لأنهم شوهوه وانتحلوه وأدخلوا فيه ما ليس منه.
    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح أحوال هذه الأمة، وأن يكثر فيها من الأولياء الصادقين الصالحين المصلحين القانتين الأوابين المجاهدين الذاكرين الله كثيراً، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، الذين يعبدون الله تبارك وتعالى ظاهراً وباطناً، ويتقربون إليه بالنوافل بعد الواجبات، فهؤلاء هم الأولياء الذين يوالون في الله، ويعادون في الله، ويعطون لله، ويمنعون لله، ولا يخالفون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء، بل هم أحباب الله الذي يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))[آل عمران:31].
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.