المادة كاملة    
الولاية لها مكانة عظيمة عند الله عز وجل، والمؤمنون كلهم أولياء الله، وهم متفاوتون فيها، فأكملهم إيماناً وتقوى أكملهم ولاية، وقد انحرف الصوفية في مفهوم الولاية، وغلوا وأفرطوا فيها، حيث جعلوا الولاية أعظم مرتبة من النبوة والرسالة، وجعلوا الولاية في غير الأتقياء من المجانين والزنادقة والدجالين وغيرهم.
  1. ولاية الله لعباده وتفسير معنى الولاية

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: أيها الإخوة المؤمنون! جعلني الله وإياكم من أوليائه المتقين. كنا قد وقفنا في الأسبوع الماضي عند قول الشيخ رحمه الله: (فهذه النصوص كلها ثبت فيها موالاة المؤمنين) ونكمل إن شاء الله تعالى بقية هذه الفقرة، والفقرة التي بعدها، وقد نقف عند الآية، والموضوع هو موضوع التفاضل في الولاية، أو درجات الأولياء. قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فهذه النصوص كلها ثبت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأنهم أولياء الله، وأن الله وليهم ومولاهم. فالله يتولى عباده المؤمنين؛ فيحبهم ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، ومن عادى له ولياً فقد بارزه بالمحاربة. وهذه الولاية من رحمته وإحسانه، ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجته إليه. قال تعالى: (( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ))[الإسراء:111] . فالله تعالى ليس له ولي من الذل؛ بل لله العزة جميعاً، خلاف الملوك وغيرهم ممن يتولاه لذله وحاجته إلى ولي ينصره). ثم قال: [والولاية أيضاً نظير الإيمان، فيكون مراد الشيخ أن أهلها في أصلها سواء، وتكون كاملة وناقصة؛ فالكاملة تكون للمؤمنين المتقين، كما قال تعالى: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ))[يونس:62-64] فـ(الذين آمنوا وكانوا يتقون) منصوب على أنه صفة أولياء الله، أو بدل منه، أو بإضمار (أمدح)، أو مرفوع بإضمار (هم)، أو خبر ثان لـ (إن) وأجيز فيه الجر بدلاً من ضمير (عليهم). وعلى هذه الوجوه كلها فالولاية لمن كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون، وهم أهل الوعد المذكور في الآيات الثلاث، وهي عبارة عن موافقة الولي الحميد في محابه ومساخطه، ليست بكثرة صوم ولا صلاة، ولا تملق ولا رياضة. وقيل: (الذين آمنوا) مبتدأ والخبر: (لهم البشرى)، وهو بعيد؛ لقطع الجملة عما قبلها وانتثار نظم الآية]. عندكم كلمة (تملق) وهناك كلمة (تمذق)، والظاهر أن (التمذق) أقرب من جهة ما يفعله الصوفية ، وإن كان ما يفعلونه هو تمزيق وليس (تمذق)، الذين إذا سمعوا شيئاً مما يطربهم من المواعظ أو الأناشيد مزقوا ثيابهم، فربما تكون (التمذق) أقرب شيء، لكن على كل حال المقصود واضح من السياق، أنه لا عبرة بهذه الحركات، بل العبرة بتحقيق العبودية والمتابعة.
    1. معنى الولي والفرق بين ولاية الله للعبد وولاية العبد لغيره من الخلق

      الولي لله عز وجل: هو كل إنسان مؤمن عبد الله سبحانه وتعالى كما سنبين، وهم في هذا على درجات عظيمة جداً نوضحها إن شاء الله، والله تبارك وتعالى يصطفيهم ليكونوا أولياء له رحمة منه بهم، واختياراً واصطفاءً وتكريماً لهم؛ لقربهم منه، أو تقربهم إليه، ولمحبتهم له، فهذا إحسان من الله تبارك وتعالى، ومنة وفضل على هؤلاء الأولياء، وليس بالمعنى المعروف أو المتداول عند المخلوقين، وهو أن الأولياء يكون بعضهم لبعض نصيراً، وتكون الولاية له لحاجة كل منهما للآخر، فالله تبارك وتعالى منزه عن هذا، كما قال تعالى في الآية من آخر سورة الإسراء: (( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ))[الإسراء:111] هذه الأمور من خصائص الله عز وجل.
      أما الخلق فإنهم يتخذون الأولياء لحاجتهم إليهم من الملوك فمن دونهم؛ وذلك أنه كما وضح شيخ الإسلام رحمه الله في رسالة العبودية ، أنه قيل: أي الناس عبد للآخر، الولي الأدنى أو الولي الأعلى؟ لأنه كما قلنا: الولي يطلق على الأدنى -يعني: المتولى- فيقال له: ولي، ويطلق على المتولي، فيقال له: ولي، فإذا قلنا: هذا ولي لله كما جاء في الحديث: ( من عادى لي ولياً ) أي: متولى توليته، وإذا قرأنا قول الله تعالى: (( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ))[البقرة:257] فهو هنا المتولي.
      إذاً: يطلق الولي على الأدنى وعلى الأعلى، المتولي والمتولى، فقالوا: بالنسبة لمن اجتمعوا وتحابوا وتآخوا على غير مرضاة الله، أيهما العبد وأيهما الحاكم؟ أي: أيهما المتولي وأيهما المتولى؟ أيهما المسترق وأيهما الحر أو الآمر؟ فقال بعض الناس: إن العبيد هم الأتباع، فقوم فرعون مثلاً كلهم أتباع، فهم عبيد، وفرعون هو المتحكم والولي والآمر والمتسلط عليهم، وقال البعض: لا، في الحقيقة إنا لو تأملنا لوجدنا أن فرعون هو العبد، وهو الذي يحتاج إليهم؛ لأنه لولاهم لم يكن ملكاً، ولما استطاع أن يدعي الربوبية، فهم السبب الذي جعله يدعي، فيهم ما يدعي ويقول ما يقول في نفسه أو فيهم، وهو محتاج إليهم، فلهذا لا يخرج عن مراضيهم وعما يريدون، وإن كان في الصورة هو الحاكم وهو الآمر، لكنه في الحقيقة هو العبد وهو المأمور، فبقدر ما يتسلطون وكما يريدون يعمل.
      يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (والتحقيق أن كلاً منهما فيه عبودية للآخر)، وهذا هو القول الصحيح، فهؤلاء المتسلطون من جنس فرعون وأمثاله، هؤلاء فيهم عبودية للأتباع؛ لأنهم بالفعل يراعون هؤلاء، ولا يعملون إلا ما يرضيهم غالباً، ويجتهدون في ذلك، فإذا أرادوا أن يعملوا عملاً ويعلمون أنه لا يرضيهم، مهدوا له بتغيير الحقائق لديهم، ونشر وبث ما يشعر أو يفيد بأن هذا أمر محمود، وأن عاقبته حسنة، وأن فيه من الخير والمصالح لكم ما فيه، حتى تتوطأ قلوبهم لذلك، فإذا فعلوا أو عرضوا عليهم ما يريدون وافقوهم عليه، فهم إذاً لا يعملون عملاً إلا ويراعون فيه ما سيقول الأتباع، ومن ذلك مثلاً: قصة هرقل كما ذكر ذلك الإمام البخاري رحمه الله وغيره، فإن هرقل لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم عرف أنه الحق، فلما جمع الأتباع من البطارقة عنده وغيرهم وعرض عليهم الأمر، فحاصوا حيصة وتدافعوا نحو الأبواب، فوجدوا الأبواب مغلقة قد أحكمها سياسة منه، فأعادهم إليه، وقال: إنما فعلت ذلك لأمتحن دينكم، حتى أختبر عقيدتكم وأرى ثباتكم على دين النصرانية ، فلما رأى أنهم لا يريدون هذا الدين رضخ لهم، مع أنه هو في نفسه لو خلي له الأمر لاختار الإسلام.
      إذاً: كثيراً ما يترك الملوك والسلاطين وهؤلاء المتسلطون والمتجبرون رغباتهم، أو يفعلون خلافها ويعملون برغبات الأتباع؛ لأنه في الحقيقة إذا انفض الأتباع لم تبق له أي قيمة، فهو بشر لا قيمة له كسائر الناس، فلو أن فرعون عندما قال: (( أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى ))[النازعات:24] قيل له: قف، كيف تكون ربنا والرب هو الخالق، وأنت معلوم عنك أنك ليس لك ولد؛ لأن الله تعالى جعله عقيماً، وهذا من حكمة الله عز وجل؟
      كذلك لو كنت أنت الرب الذي خلقتنا لخلقت لنفسك ولداً، على كثرة ما أخذت من النساء وحرصت وتزوجت! ومع ذلك لم ترزق بولد.
      إذاً: لو كان لديهم عقول لقالوا ذلك لفرعون، ولو قالوه له لما ادعى الربوبية مرة أخرى، لما قال لهم: (( مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ))[القصص:38] أبداً، فالذي يجعل الطواغيت يتسلطون ويتجبرون هم الأتباع، الذين ينعقون خلفهم، ويصدقون ما يقولون، حتى لو قالوا لهم: الشرق غرب والغرب شرق صدقوا ذلك.
      العبودية من المتبوعين أو المتسلطين للأتباع موجودة، وأما عبودية الأتباع للمتسلطين فهي أيضاً معلومة وظاهرة.
      فإذاً: كما قال شيخ الإسلام : التحقيق أن كلاً منهما فيه عبودية للآخر.
      وكذلك كما ذكر رحمه الله عشاق الصور، الذين يبتليهم الله تعالى بالعشق -والعياذ بالله- حتى ينسى الإنسان عقله ودينه وخلقه، فإن الرجل لو عشق امرأة وفني في حبها حتى تمكن وتزوجها، فإنا نجد أنها تتحكم فيه وتسيطر عليه، مع أنه في الصورة هو الزوج الذي له القوامة، فلو تأملت لوجدت أن كلاً منهما محتاج للآخر، وكلاً منهما فيه عبودية للآخر.. وهكذا، فهي مشتركة من الطرفين.
      هذه هي محبة أو ولاية المخلوقين، أما الله تبارك وتعالى فهو الغني من كل وجه كما قال عز وجل: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ))[فاطر:15].
      وكما قال: (( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ))[آل عمران:97] فالله تبارك وتعالى غني عن العالمين، ليس بحاجة إلى طاعة مطيع، كما لا تضره معصية عاص، وذلك ما ذكره في الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ) سبحان الله العظيم! هو ليس في حاجة أبداً إلينا، وهو الذي كل من في السموات والأرض عبد له، (( كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ))[البقرة:116] إما عبودية اختيارية، كما هي عبودية المؤمنين، وإما عبودية اضطرارية، كما هي عبودية الكافرين، وكل ما خلق الله عز وجل فهو عبد لله، لا يخرج عن ملكه ولا عن تصرفه: (( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ))[المدثر:31] فلا يعجزه شيء سبحانه وتعالى، وبيده ملكوت كل شيء، وعنده خزائن كل شيء.
      إذاً: من كانت هذه هي صفاته وأسماءه الحسنى سبحانه وتعالى، فهو غني عن أن يتخذ ولياً من الذل، فأولياؤه إذاً هم خاصة من خلقه أو أناس من خلقه، تعبدهم الله عز وجل بأوامر فعملوها، فرض عليهم واجبات ففعلوها، ونهاهم عن محظورات فتركوها، فكانوا أولياء لله عز وجل، كما سيأتي في شرح حديث الولي.
      إذاً: هذا هو الفارق بين ولاية الله وبين ولاية المخلوقين.
    2. من فوائد ولاية الله للعبد

      فكنا قد وقفنا عند بيان أن الله سبحانه وتعالى له أولياء يحبهم ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، وأنه (من عادى منهم ولياً فقد بارزه بالمحاربة)، وسنقوم بقراءة ما يتعلق بهذا الحديث العظيم، الذي هذه الكلمة جملة منه، وهو حديث (الولي) الذي سوف يذكره الشارح إن شاء الله فيما بعد، قبل نهاية الفقرة، قال: [وهم قسمان... -إلى أن قال- كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم] ويذكر الحديث، فعندما نأتي على ذكر الحديث كاملاً نشرحه إن شاء الله، ونبين ما فيه من الدلالات العظيمة بإذن الله.
      ثم نبه إلى أن ولاية الله تبارك وتعالى عندما يتولى المخلوقين، ويتخذ منهم أولياء، فإنها من رحمته تبارك وتعالى بهم، ومن إحسانه إليهم، فهم الذين تقربوا إليه بالطاعات، فرحمهم الله تعالى وتقرب إليهم، وتحبب إليهم بالنعم.
  2. التريب الشرعي للأولياء ودرجاتهم

     المرفق    
    انتقل الشيخ رحمه الله إلى موضوع آخر وهو موضوع تفاضل الأولياء؛ لأنه قال: (والولاية أيضاً نظير الإيمان، فيكون مراد الشيخ أن أهلها في أصلها سواء وتكون كاملة وناقصة)، وقوله: (إن أهلها في أصلها سواء) هذا يرجع إلى ما قلنا من أن قوله في الإيمان: (أهله في أصله سواء) أن العبارة خطأ، ولا يصح أن نقول أيضاً: إن أصل الأولياء في الولاية سواء، وإنما نقول: إن الأولياء يتفاوتون، فبعضهم أكثر ولاية لله تبارك وتعالى، وأعظم في درجات الولاية من الآخر. إذاً: هذه المسألة لا نعيدها ولا نكررها، لكن نبين قبل أن نتعرض للآية وما جاء فيها أن للولاية نوعين من الترتيب، ونوعين من الدرجات، ما النوعان من الترتيب؟ ‏
    1. ترتيب الأولياء بحسب الأشخاص

      النوع الأول: هو الترتيب الشرعي المأخوذ من الكتاب ومن السنة، ومما عليه السلف الصالح وهو عقيدة أهل السنة والجماعة ، فلهم ترتيب في الولاية ودرجاتها.
      والنوع الآخر: ترتيب بدعي أحدثه أهل التصوف وأشبابهم من المتفلسفة، فجعلوا للولاية ترتيباً آخر مخالفاً ومغايراً لما جاء عن الشرع.
      فأما ترتيب الأولياء أو درجات الولاية في الشرع، فإنه يبدأ بأفضل الأولياء، وأفضل الأولياء هم الأنبياء، وأفضل الأنبياء هم أولو العزم الخمسة، وأفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم.
      نستطيع أن نأخذه من الآية: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:62-63] فأكثر الناس إيماناً وأكثرهم تقوى هم الأنبياء.
      إذاً: هذه هي المرتبة العليا، وكل مرتبة تحتها مرتبات وكل مرتبة فيها درجات، فالمرتبة الأولى من مراتب الولاية مرتبة النبوة، والأنبياء أيضاً متفاضلون: (( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ))[البقرة:253] كما تقدم في مبحث النبوة والرسالة، فالله سبحانه وتعالى فضلهم حيث قال سبحانه: (( وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ))[الإسراء:55] وأفضلهم أولو العزم، وأفضل أولي العزم محمد صلى الله عليه وسلم.
      أما هذه الأمة فنرتب من جهة درجات ولايتها والأفضلية، فأفضل رجل في هذه الأمة، أو أفضل الأولياء من هذه الأمة هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لا شك في ذلك؛ ولذلك فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يريد أن يبطل كلام الصوفية وغيرهم، بأن الأمة الإسلامية كلها اتفقت سنيها وشيعيها أيضاً على أن أفضل الناس وأفضل هذه الأمة وأفضل الأولياء هو أحد الخلفاء الراشدين، لكن عامة المسلمين أهل السنة والجماعة يقولون: إن أفضل هذه الأمة بعد نبيها الصديق رضي الله تعالى عنه، وأما الرافضة وسائر الشيعة بدرجاتهم فيقولون: إنه علي رضي الله تعالى عنه؛ ليخرج قول الصوفية وأمثالهم عن أن يكون من أقوال هذه الملة من أقوال المسلمين؛ لأن الرسالة رسالة شيخ الإسلام رحمه الله الفرقان هذه رسالة عظيمة جداً، وموجودة في الفتاوى ، ويمكن قرأتموها وهي مخرجة من غير الفتاوى.
      فموضوع المفاضلة ذكره الشيخ في هذه الرسالة فهو يكتب ويسترسل ثم يعقد فصلاً، ثم يسترسل ثم يعقد فصلاً، فتتداخل الموضوعات، بحيث لو أنك أردت أن تلخص هذه الرسالة وترتبها من جديد، إن استطعت أن تركبها تركيباً أو ترتبها ترتيباً آخر، ففي صفحة (223) من مجموع الفتاوى الجزء الحادي عشر، يقول: (وبالجملة اتفقت طوائف السنة و الشيعة -على اختلاف طوائف الشيعة بين الغالي منهم وبين ما هو أدنى اتفقوا مع أهل السنة على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها -وهو أفضل الأولياء- واحد من الخلفاء، ولا يكون من بعد الصحابة) أفضل من الصحابة، هذا القول الذي اتفقت عليه أهل السنة و الشيعة على اختلاف درجاتهم، ومن كان منهم في عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإن بعضهم أظهر القول بأن علياً هو الأفضل؛ ولهذا خطب علي رضي الله تعالى عنه وقال من على المنبر: [ لا أوتين برجل فضلني على أبي بكر و عمر إلا جلدته ثمانين جلدة حد الفرية ] حد الافتراء.
      فالمقصود أن هذا دليل على أنه لا يصح لأحد أن يأتي من بعد فيزعم أو يدعي أن أفضل الأولياء هو رجل آخر من غير جنس الصحابة رضي الله تعالى عنهم، هذا هو المقصود.
      والإجماع منعقد على أن الولي يكون من الصحابة، وإن ضلت فيه الشيعة ، وقالت: إنه علي ، لكن أصل اعتقاد أن الولي لا بد أن يكون من الصحابة هذا حق، بغض النظر عمن عينوا، هذا يرد على من سنذكرهم إن شاء الله فيما بعد.
      فإذاً: عندنا النبي صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأولياء عند الله عز وجل قاطبة من الأنبياء وغيرهم، ثم أفضل الأولياء من هذه الأمة هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ثم ترتيبهم في الولاية كترتيبهم في الفضل المعلوم، فيكون الخلفاء الأربعة الراشدون أفضل ممن بعدهم، وبقية العشرة أفضل ممن دونهم، ثم أصحاب بدر أفضل من غيرهم، ثم أصحاب الشجرة أفضل وأكثر ولاية لله تعالى من غيرهم، ثم عموم الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولو أن الواحد منهم لم ير النبي صلى الله عليه وسلم إلا لحظة واحدة رآه ومات مؤمناً به، فهو أفضل ممن بعده، ثم بعد الصحابة أفضل الناس هم التابعون.
      إذاً: الولاية كما ترون درجات، ودرجاتها بحسب الفضل هكذا.
    2. ترتيب الأولياء بحسب الأعمال

      أما ترتيب الأولياء بغير القرون فهناك ترتيب آخر بحسب الأعمال، أفضل الأولياء بحسب الأعمال، إذا قسمنا الأمة كما قسمها الله تبارك وتعالى فإنها صنفان: السابقون، وأصحاب اليمين، إذاً: هما على هذا الترتيب، فأكثر ولاية لله هم السابقون.
      فالسابقون هم أولياء الله، وكذلك من دونهم أصحاب اليمين من أولياء الله، والمؤمنون كلهم أولياء الله، لكن السابقون أعظم في سلم ودرجة الولاية من أصحاب اليمين.
      فإذاً: إذا قسمنا الناس كما قسم الله سبحانه وتعالى في أول سورة الواقعة وآخرها فهم ثلاثة أصناف، وتكون هذه الأمة صنفين، فمن هذه الأمة السابقون، ومنها أصحاب اليمين، وأما الصنف الثالث فلا يكون من هذه الأمة، وإنما هم أصحاب الشمال، أي: الكفار.
      وهذا التقسيم كما ذكر الشيخ رحمه الله هو موجود في سور أخرى، في سورة الإنسان: (( إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ))[الإنسان:5-6] وفي آية المطففين نفس الشيء أبرار، ولكن بدل عباد الله قال: (( وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ))[المطففين:27-28] في سورة الإنسان: (عباد الله) وفي سورة المطففين: (المقربون) فالمقربون يشربون من هذه العين خالصة نقية، وأما الأبرار الذين هم أدنى درجة فهم يشربون منها ممزوجة.
      فإذاً: أولئك أفضل، وهم الذين يشربون من هذه العين العظيمة المثني عليها من قبل الله عز وجل بالثناء العظيم، وهذا الوصف لا نعلم إلا اسمه وأما حقيقته فهي في علم الغيب عند الله عز وجل، فهؤلاء عباد الله المقربون يشربونها خالصة، وأما الأبرار الذين هم أقل منهم فإنهم يشربونها ممزوجة مخلوطة، فأولئك أفضل من هؤلاء.
      والجنة درجات عظيمة، فمنها درجات عظيمة للمقربين، ومنها درجات عظيمة للأبرار.
      أما في سورة فاطر فإن أقسام هذه الأمة ثلاثة، وإذا قلنا الأقسام وأردنا العالمين فستكون أربعة، فهذه الأقسام الأربعة هي:
      السابقون: (( وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ))[فاطر:32] السابق بالخيرات في سورة (فاطر) هم السابقون في سورة (الواقعة)، وهم عباد الله في سورة (الإنسان)، وهم المقربون في سورة (المطففين).
      المقتصد: (( وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ))[فاطر:32] المقتصد الذي هو من أصحاب اليمين في سورة (الواقعة)، ومن الأبرار في سورة (الإنسان) وفي سورة (المطففين).
      الظالم لنفسه؛ لأن الله تعالى يقول في الآية: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ))[فاطر:32] فالظالم لنفسه هذا هو من جملة الأمة المصطفاة، والسياق هذا يفيدنا زيادة فائدة عما ذكر هنا، وهي أن هذا الظالم لنفسه هو من أهل الجنة ولو باعتبار المآل والعاقبة، ولا يعني ذلك أن الظالم لنفسه يدخل الجنة ابتداء.
      إذاً: عندما ننظر إلى آيات (الواقعة) و(الإنسان) و(المطففين) فهي تتكلم عمن يدخلون الجنة، وتتحدث عن أوصافهم، فهؤلاء هم أهلها، لكن درجاتهم متفاوتة.
      أما الظالم لنفسه فهو من أهل الوعيد، لكنه لا يخلد في النار؛ ولذلك قال الله تعالى بعد هذه الآية: (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ))[فاطر:36] الآية، وهم أهل النار، فهؤلاء مخلدون فيها، فمرتكبو الكبائر والظالمون لأنفسهم من هذه الأمة هم من جملة أهل الجنة، وإن كان منهم من لا يدخل ابتداء، وإنما يدخل عاقبة ومآلاً، بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وشفاعة الشافعين، وتحنن الله عز وجل ورحمته بهم.
      فعلى هذا يكون هؤلاء هم الدرجة الدنيا في الولاية، أدنى درجات الأولياء هم الظالمون لأنفسهم، لكن على كلٍ هم من جملة هذه الأمة.
      فإذاً: تكون هذه الأمة كلها أولياء لله عز وجل، أعلاهم محمد صلى الله عليه وسلم، وبعده صحابته، وأدناهم الظالمون لأنفسهم من أهل الكبائر والمعاصي، الذين هم من أهل التوحيد، كل هؤلاء أولياء لله عز وجل.
      إذاً: فالولاية متفاوتة بحسب ما بين أهل الطبقة الأولى العليا وبين أهل الطبقة الدنيا، وهذا ليس فيه إشكال.
    3. ترتيب الأولياء بحسب السبق للإسلام

      ويمكن أن نقسم الأولياء أو الفضل أيضاً قسمين، فنجعل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تسبوا أصحابي ) هذا القول قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، المقصود بقوله: (أصحابي) هم السابقون الأولون الذين قاتلوا وأنفقوا من قبل الفتح، الذي هو فتح أو صلح الحديبية .
      فيمكن أن نجعلهم طبقتين:
      الطبقة الأولى: الذين قاتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنفقوا من قبل الفتح.
      الطبقة الثانية: الذين أسلموا بعد الفتح، ولا يستوي هؤلاء وهؤلاء كما بين الله تبارك وتعالى في آية الحديد.
      الصحابة أنفسهم درجات أو طبقات في الولاية ومن بعدهم أفضل الناس هم التابعون، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) فهذا دليل على أن التابعين هم أفضل الناس بعد الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكما قال الله عز وجل: (( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ ))[التوبة:100] فهم بعدهم، وهم الذين يلونهم في الفضل، فهم إذاً يلونهم في قوة الإيمان، فهم يلونهم في الولاية.
      إذاً: لا يمكن أن يكون ولي من التابعين أفضل من أحد الصحابة، هذه حقائق واضحة، لكن لها أهمية لأننا عندما نناقش ما قاله الصوفية ، نجد أنهم خرجوا عن هذا خروجاً عظيماً، فمهما بلغ التابعي في العبادة واجتهد فيها، وكان من العلم والفضل والخير والجهاد والصلاح والتقوى والاستقامة، وبلغ ما بلغ من الولاية، فلا يمكن أن يكون أفضل ممن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالصحابة لهم فضل الصحبة الذي لا يعادله أي فضل.
      فلا يصح ولا يمكن أن يأتي أحد فيزعم أن من التابعين -فضلاً عمن بعدهم- من يمكن أن يكون ولياً لله، فضلاً عن أن يأتوا ويقولوا: إن خاتم الأولياء هو رجل يأتي في آخر الزمان، في القرن السادس أو العاشر أو الثاني عشر إلى آخر ما ادعوا وافتروا في هذا.
      إذاً: هذا هو الترتيب بالنسبة لـأهل السنة والجماعة وهو واضح بحسب الفضل والقرون.
  3. الأولياء عند المبتدعة من الصوفية

     المرفق    
    نحن وضحنا هذا الأمر -أمر أقسام الولاية- وهو واضح؛ لأننا نريد أن نبني عليه معرفة التقسيم البدعي عند الصوفية وأمثالهم.
    1. ادعاء الصوفية أن أصل التصوف مأخوذ من أهل الصفة

      يقول: (وقد روي أنه بها غلام للمغيرة بن شعبة ) يعني: من أهل الصفة بعد أن تكلم عن أهل الصفة -لعلنا نلم بهذا- يزعم الصوفية أن أصل التصوف مأخوذ من الصفة، وهذا غير صحيح من ناحية اللغة، كيف تكون النسبة إلى الصفة صوفياً؟! كان يكون صفياً، وهذا لم يعرف في أيام النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين، فكيف تصح النسبة؟ فهم يجعلون هؤلاء منهم، ثم يذكر عنهم زعمهم أن الأقطاب والأبدال والأوتاد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا هم أهل الصفة، مع أن أهل الصفة بالإجماع كانوا يصومون ويصلون ويطيعون الله ورسوله، وكانوا من جملة أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: ما خرجوا عن شريعته، هم من أتباعه، ثم إن الصفة ليست علماً على فئة أو على طائفة، إنما هي مكان يأوي إليه الفقراء، فإذا وجدوا من يأويهم انتقلوا وارتحلوا عن هذا المكان، فليست علماً على فئة لها أوصاف معينة، إنما كانت مأوى الفقراء وعابري السبيل وضيوف الإسلام ونزلائه، فكانوا ينزلون فيه، ثم إذا آواهم الله أو سكنوا أو ذهبوا إلى أحد لم يبق فيها منهم أحد، فيفترون على النبي صلى الله عليه وسلم أن غلاماً كان للمغيرة بن شعبة من أهل الصفة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليه وقال: هذا واحد من السبعة، أي: السبعة الأولياء السريين، كما يعتقد هذا كثير من الناس الآن؛ أنك أنت تمشي في الطريق وتنظر إلى الناس وما تدري ويمكن يكون واحد منهم ولياً لله.
      وفي يوم عرفة يقولون: من المؤكد أن الولي أو القطب الأكبر يحضر ومعه الأولياء، ويقولون: يمكن تكون ماشياً وتنظر إلى واحد قد يكون هو القطب وأنت لا تدري.
      وفي رمضان في العشر الأواخر منه يمكن يكون القطب ظاهراً فيها وأنت لا تدري، ويمكن أن يكون القطب في البيت الحرام، وقد ترى الناس يطوفون وهو واحد منهم، هو الولي السري الذي لا أحد يدري عنه، لكن هو يدري.. وهكذا!
      نقول: هذه أوهام اختلقوها، فيقول الشيخ رحمه الله: (وهذا الحديث -كذب باتفاق أهل العلم).
    2. الأحاديث الواردة في عدد الأولياء والأبدال والنقباء... لدى الصوفية والحكم عليها

      قال: (وكذا -هنا الشاهد- كل حديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدة (الأولياء) و(الأبدال) و(النقباء) و(النجباء) و(الأوتاد) و(الأقطاب)، مثل: أربعة أو سبعة أو اثني عشر أو أربعين أو سبعين أو ثلاثمائة وثلاثة عشر، أو القطب الواحد فليس في ذلك شيء صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينطق السلف بشيء من هذه الألفاظ، إلا بلفظ (الأبدال).
      فهذه الكلمة هي التي جاءت عن السلف، تكلم بها بعض السلف، وكانوا يقولون: فلان من الأبدال، ومستندهم في ذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند وأشار الشيخ إليه هنا.
      قال: (وروي فيهم حديث: ( أنهم أربعون رجلاً وأنهم بـالشام )، وهو في المسند من حديث علي رضي الله عنه، وهو حديث منقطع ليس بثابت، ومعلوم أن علياً ومن معه من الصحابة كانوا أفضل من معاوية ومن معه بـالشام ).
      أي: أن شيخ الإسلام رحمه الله يرد الحديث من جهة السند ومن جهة المتن، أما من جهة السند فيقول: إنه منقطع وليس بمتصل، لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند صحيح متصل، بل هو منقطع.
      ثم من جهة المعنى يقول الشيخ: (إن علياً رضي الله تعالى عنه ومن معه كانوا بـالعراق ، و معاوية رضي الله تعالى عنه ومن معه كانوا بـالشام ، فكيف يكون الأبدال بـالشام ؟) يعني: إذا كانوا بـالشام فأي الطائفتين أفضل؟
      فأهل الشام كان فيها الأبدال، ومعلوم عند المسلمين جميعاً أن الذين كانوا بـالعراق أفضل؛ لأن علياً رضي الله تعالى عنه أفضل من معاوية ، وكان في العراق أيضاً بقية العشرة، مثل: الزبير ، و طلحة ، و سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه بقي حياً بعد أيام الفتنة، وكان أفضل الأمة بعد علي ، لكن في أيام صفين كان أفضل من على وجه الأرض علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، ثم سعد بن أبي وقاص ؛ لأن البقية قد توفاهم الله عز وجل.
      المهم عندنا هذان الاثنان وهما من العشرة، وهما كانا في العراق ، كيف يكون الأبدال أربعين وأفضل الناس ويكونون بـالشام ؟
      إذاً: لا يصح في هذه شيء، فإذا كان الأمر كذلك فمن أين أخذوا هذا الترتيب وهذه الأعداد؟ ما أصل هذا القطب؟ من أين جاءوا به؟
    3. أصل عقيدة الصوفية واختلافهم في أفضل الأولياء

      الصوفية عقيدة مركبة مختلطة من دين الهندوس واليونان والمجوس ، فمن أين أخذوا فكرة القطب الأعظم؟ لقد أخذوها من الفلسفة، والفلاسفة اليونان الذين يجعلون العقل الكلي أو العقل الأول هو العقل الفعال، وبعضهم يجعل العقول عشرة، فالعقل الفعال هو الذي يدير الكون، فهم لا يعترفون بالله، لا يقولون: إن الله سبحانه وتعالى حق كما نعتقد نحن في الله، الذي يدير الكون هي العقول العشرة، العقل الأول ثم الثاني ثم الثالث... إلى العاشر، وعن طريق العاشر يدار هذا الكون، والله في نظرهم علة لوجود الكون، وليس هو خالقاً له كما يعتقد المسلمون.
      ما الذي فعله الصوفية ؟ أحلوا محل العقل القطب، أو محل العقول جعلوا الأقطاب، ثم جاءت الأعداد مقابل مثلاً ما يوجد في بني إسرائيل اثنا عشر نقيباً، قالوا: نقول أيضاً: النقباء، والأبدال: كلمة نقلت عن السلف جاءت من الحديث السابق، فجعلوا أيضاً الأبدال، وذكروا البقية النجباء.. إلى آخره؛ ولذلك تكلفوا في العدد فيقولون: على عدد أهل بدر ، وهؤلاء على عدد العشرة، وهؤلاء على عدد نقباء بني إسرائيل، وهؤلاء على عدد كذا.. فهم تكلفوا أن يقيسوهم على شيء مما هو حق وثابت ومعلوم في الدين.
      إذاً: هذه الفرية والبدعة الكبرى التي ابتدعوها ليس لها أصل في دين الإسلام، وإنما جعلوا الأولياء فئة أو طبقة معينة من الناس، طبقة خرافية خيالية افتراضية توهموها لا حقيقة لها، وهم فقط الموصوفون بالولاية، بغض النظر عن درجاتهم أو رتبهم، فهؤلاء هم الأولياء عندهم، أما بقية المسلمين المؤمنين فليس لهم ذكر عندهم، أو لا يعدون من الأولياء عندهم.
      ثم بعد ذلك إذا مات العبد الصالح ممن يزعمون أنه ولي اتخذوا قبره مسجداً وعظموه وبنوا عليه، واستغاثوا به من دون الله .. وهكذا، ويظنون أن هذا مقتضى كونه ولياً، فإذا أُنكر عليهم هذا الشرك، قالوا: هذا ولي من أولياء الله، وإذا قيل لهم: لماذا تبنون هذا المسجد على القبر؟ قالوا: هذا ضريح ولي من أولياء الله، فأصبحت الولاية -بناء على هذا المفهوم- هي الذريعة التي توصلوا بها إلى الشرك الأكبر والعياذ بالله، وغلب ذلك على سائر أنحاء العالم الإسلامي.
      ومن أعظم الأدلة على كذبهم اختلافهم الشديد في الأولياء وأفضلهم، فكل طائفة تفضل وليها أو شيخ طريقتها، فلو قلت للقادرية : من أفضل الشيوخ؟ لقالوا: الشيخ عبد القادر الجيلاني، وليس عندهم في هذا شك، ولو قلت للشاذلية : من أفضل الأولياء؟ لقالوا: أبو الحسن الشاذلي ، ولو قلت للرفاعية : من أفضل الأولياء؟ لقالوا: الشيخ أحمد الرفاعي ، ولو قلت لأتباع البدوي : من أفضل الأولياء؟ لقالوا: السيد البدوي ، ولو قلت للمهدية من أفضل الأولياء؟ قالوا: السيد المهدي، وهكذا التيجانية لقالوا لك: الشيخ التيجاني ، والنقشبندية يقولون: الشيخ شاه نقشبند ، إلى آخر الطرق الكثيرة جداً التي تعد بالمئات وليس بالعشرات، وكل طريقة تدعي أن شيخها هو القطب الأعظم، وهو الغوث الأكبر والعياذ بالله، وهو أفضل الأولياء قاطبة.
      ومن هنا بنوا ما بنوا كما يزعمون، فمثلاً: الشاذلية يقولون: إن ميزة الشاذلي أنه يأخذ من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، فيأتيه النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، ويخاطبه ويكلمه ويعلمه، فكل إنسان له شيخ وله إسناد متصل إلا شيخنا -كما يزعمون- فإنه يأخذ مباشرة..! وهكذا.
      والمهدية التي ظهرت في السودان كان يدعي المهدي أن الخضر عليه السلام يأتيه مباشرة ويعلمه ويلقنه الدعوة، وهكذا كل طائفة، و التيجاني جاء بأشنع من هذا، وهكذا كل طائفة منهم تدعي أنها تتلقى العلم مباشرة، حتى إن بعضهم ادعى أن الله تعالى خاطبه وكلمه، وقال له: يا عبدي فلان! افعل كذا، كما يذكرون من مخاطبة عبد القادر الجيلاني وأن الله تعالى كلمه، و الشاذلي قال له: يا رب لم سميتني بـالشاذلي ولست بشاذلي؟ قال الله له: ما سميتك بالشاذلي أنت الشاذ لي. يعني: هكذا يفترون والعياذ بالله، لا نستطيع أن نأتي على أوهامهم كلها، وإن شاء الله تعالى نفصل ما يحتاج إلى تفصيل فيما بعد، والمقصود أننا نعلم كيف حصروا مفهوم الولاية بهذه الفئة المعينة المخصوصة، وما يترتب على ذلك من الشركيات والضلالات والخرافات والبدع، نسأل الله العفو والعافية.
    4. حصر الصوفية الولاية في طائفة معينة

      فالأولياء عندهم طائفة معينة مخصوصة من الأمة، وليس عموم الأمة، وهذا مع الأسف كما ترون هو الفهم الموجود عند عامة الناس، يتركون ما جاء في القرآن وما جاء في السنة، ويفهمون هذا الفهم، مع أننا لو تأملنا الحديث ( من عادى لي ولياً ) وإن شاء الله سنوضحه كما قلنا ووعدنا، يقول الله سبحانه وتعالى: ( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) ثم قال: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ) هؤلاء الذين يأتون بالفرائض، ويؤدون الواجبات ولا يزيدون عليها من الأمة هم المقتصدون!
      ثم قال: ( ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ) هؤلاء المتقربون إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائص، وبترك المكروهات بعد ترك المحرمات هم السابقون.
      إذاً: نجد الآيات والأحاديث تدل على هذا المعنى، وهو أن كل من أتى بما افترضه الله تبارك وتعالى عليه وأداه فهو من الأولياء قطعاً؛ لنص الحديث أو لمفهومه، لكن هؤلاء يقولون: لا، الأولياء فئة مخصوصة، أو طائفة مخصوصة من المسلمين، وبقية المسلمين لا يقال عنهم: أولياء، نقول لهم: فمن هذه الفئة؟ كيف ترتبونها؟
    5. ترتيب الأولياء عند الصوفية

      وفي الحقيقة هم مختلفون، لكن نحن نريد الأغلب، أعلى الأولياء وأفضل الأولياء عندهم هو القطب الأعظم، الذي يسمونه: القطب الغوث، ويقولون عياذاً بالله: لا يسمى الغوث إلا عندما يستغاث به والعياذ بالله، والاستغاثة بغير الله شرك أكبر يخرج صاحبه من الملة والعياذ بالله، لكنهم يقولون: هذا القطب الأكبر أو القطب الغوث الذي يستغاث به.
      فهو أعظم الأولياء ورأس الأولياء، والذي سماه بعضهم: خاتم الأولياء، وإن تعجبوا فاعجبوا لمن يقارن أيهما أفضل: خاتم الأنبياء أو خاتم الأولياء والعياذ بالله؟ بل ربما يصرحون بأن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، انظر الضلال والعياذ بالله، وهذا هو مذهب ابن عربي و ابن الفارض وأمثالهما، وعلى ذلك جرى الشعراني وأمثاله ممن كتبوا عن طبقات الأولياء، أو كتبوا في كرامات الأولياء، ولعلنا إن شاء الله نذكر نقولاً عنهم لإيضاح هذا بإذن الله، لكن الآن نبين أصل الفكرة.
      إذاً: عندهم رأس الهرم: القطب الأعظم، ثم عندهم الدرجة الثانية: القطب، وعلى كل حال كل منهم يرتبها كما يشاء، لكن الغالب هكذا: الأقطاب بعدهم الأبدال أو الأوتاد، إذا جعلنا الأوتاد أربعة دائماً فكلما قل العدد فهو أعلى، القطب الهرم هو واحد، وتحته الأبدال مباشرة وهم أربعون، وإذا قلنا: إن الأوتاد أربعة أو اثنا عشر، فإنهم يكونون بعد القطب مباشرة؛ لأنه كلما قل العدد يكون أعلى.
      وعندهم أيضاً النقباء أو النجباء، فإذا كان عدة النجباء أو النقباء كعدة نقباء بني إسرائيل يكون عددهم اثنا عشر، فيكون ترتيبهم هكذا: واحد، أربعة، اثنا عشر، أربعون، أما إذا كان كما يقول بعضهم: النقباء عدتهم كعدة أصحاب بدر فيكونون أدنى شيء ثلاثمائة وأربعة عشر، ويقولون: لا تخلو الأرض منهم، أي: لا يخلو زمان ولا يخلو المكان من هؤلاء، فيكون كل عصر له نبيه وفي نفس الوقت له وليه، وكما أن أفضل الناس من أهل الظاهر الأنبياء، فهناك أفضل الناس من أهل الباطن أو من أهل الحقيقة وهم الأولياء.. وهكذا.
    6. تفضيل الولي على النبي عند الصوفية

      ولديهم شبهة دائماً يكررونها: وهي أن موسى عليه السلام كان أفضل الناس من أهل الشريعة، فهو كان نبياً مرسلاً من أولي العزم، وأما الخضر فقد كان كما يزعمون مجرد ولي فقط، وهو من أهل الباطن ومن أهل الحقيقة، فعلى هذا يكون الولي أفضل من النبي، هذا من جملة شبهاتهم في تفضيل الولي على النبي، أو تفضيل مقام الولاية على مقام النبوة، وبين العبارتين فرق، إذا قلنا: تفضيل الولي على النبي، يعنون به أنه لا بد أن يكون خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، أما إذا قالوا: إن الولاية أفضل من النبوة فيجوز أن يجعلوا النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل، لكنه أفضل باعتباره ولياً لا باعتباره نبياً، فلهذا يقولون:
      مقام النبوة في برزخ            فويق الرسول ودون الولي
      يعني عكسوها تماماً، جعلوا أفضل شيء الولي بعد ذلك النبي ثم الرسول أدنى شيء، والعكس هو الصحيح، وهو أن الأفضل هو الرسول ثم النبي ثم الولي، على اختلاف معنى الرسول عن معنى النبي.
      فإذاً: هم يجعلون النبوة درجة أو مقاماً أدنى من الولاية، فهؤلاء الأولياء لا يخلو منهم زمان ولا يخلو منهم مكان، وصفاتهم هي صفات غير ما يعرفه البشر، يعني أن الأنبياء يعيشون ويتزوجون ويموتون كما ذكر الله سبحانه وتعالى أنه جعل لهم أزواجاً وذرية، ويموتون: (( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ))[الزمر:30].. وهكذا، أما الأولياء فكأنهم عالم آخر، وشيء آخر، وحياة أخرى، وما يسري من نواميس هذا الكون أو سنن الله تعالى في هذا الكون لا تسري عليهم؛ ولهذا يعتقد بعضهم أن الخضر عليه السلام هو القطب الأعظم في جميع العصور، يعني: منذ أول التاريخ إلى نهايته هو القطب، وهو لا يزال يظهر ويلتقي بالأولياء ويحادثهم ويكاشفهم ويخاطبهم .. إلى آخره، فلا يجعلونه بشراً كسائر البشر عاش ومات، بل الخضر عليه السلام كان نبياً، ونقل بعض العلماء الإجماع على ذلك، وجعلوا القول بأنه مجرد ولي من الأقوال الشاذة المخالفة للإجماع، وبيان ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال عندما ذكر قصة موسى وفتاه من أول القصة: (( فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ))[الكهف:65] فالرحمة هذه تطلق على النبوة، كما في قوله تعالى: (( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))[الزخرف:32] فهذه الآية نزلت لما قالوا: (( لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ))[الزخرف:31]، قال تعالى رداً على ذلك: (( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ))[الزخرف:32] فالنبوة التي هي إنزال القرآن هذه رحمة الله، وكذلك أيضاً في قول نوح عليه السلام: (( وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ ))[هود:28] ، وقوله: (( قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ))[يونس:58].
      أيضاً إذا قلنا: إن فضل الله هو إنزال القرآن ورحمته هي النبوة.. وهكذا، فتكون الرحمة جاءت في القرآن بمعنى النبوة.
      وقوله: (( مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ))[الكهف:65] معنى ذلك: أنه يوحى إليه، يقولون: إن العلم اللدني هو الوحي، هم لا يزعمون الوحي لماذا؟ يقولون: إن الرسول أو النبي يأتيه الروح الأمين -روح القدس جبريل عليه السلام- يأتيه بالوحي من الله، أما الولي فقالوا: يقرأ من اللوح المحفوظ مباشرة، تعالى الله عما يصفون، هذا من افتراء الصوفية وأكاذيبهم ودجلهم، يزعمون أنه يطلع ويقرأ مباشرة من اللوح المحفوظ.
      نقول: قول الله عز وجل: (( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ))[الكهف:65] العلم الذي يسمونه (اللدني) هو الوحي الذي آتاه الله الخضر عليه السلام، كما روى الإمام البخاري رحمه الله عدة روايات عن الخضر ولقائه موسى عليهما السلام: ( قال: يا موسى! أنت على علم من الله علمك إياه لا أعلمه، وأنا على علم من الله علمني إياه لا تعلمه ) فهذا نبي وهذا نبي، لكن لدى هذا من العلم ما يحتاج إليه هذا، ولدى هذا من العلم ما يحتاج إليه ذاك.
      أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو أكمل المرسلين وسائر الخلق علماً، ولا يحتاج صلوات الله وسلامه عليه إلى أن يعلمه أحد، بل كل طريق إلى الله مسدود منذ أن بعثه الله إلا طريق محمد صلى الله عليه وسلم، فلا طريق يوصل إلى الله إلا طريق محمد صلى الله عليه وسلم واتباع شرعه صلى الله عليه وسلم، وموسى عليه السلام لم يكن رسولاً إلى الخلق كافة، وإنما كان رسولاً إلى قومه خاصة: (( أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ))[إبراهيم:5] بينما قال في حق النبي صلى الله عليه وسلم: (( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ))[إبراهيم:1] في أول سورة إبراهيم، فانظروا الفرق بين العبارتين، بين من قال الله تعالى: (( لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ))[إبراهيم:1] وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وبين من قال: (( أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ))[إبراهيم:5] وهو موسى عليه السلام، فالله سبحانه وتعالى أرسله إلى فرعون وملئه، وجعل أتباعه هم بني إسرائيل بعد أن أغرق فرعون وملأه، وأنجاهم إلى الأرض التي كتب الله تعالى لهم، فأتباعه هم بنو إسرائيل والأنبياء من بعده، وأفضلهم وأعظمهم موسى عليه السلام، فهو أفضل وأعظم أنبياء بني إسرائيل كلهم، فقد جاء من بعده أنبياء لبني إسرائيل، وكان آخرهم -وهو أفضل الأنبياء من بعد موسى عليه السلام عيسى عليه السلام، قال: (( وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ))[آل عمران:49].
      إذاً: فلا يمنع أن يبعث الله تبارك وتعالى رسلاً في الأمم الأخرى كالفرس أو الترك أو اليونان.. أو غيرهم، قال تعالى: (( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ ))[فاطر:24]، في نفس الوقت الذي يكون فيه رسول من رسل بني إسرائيل في أمته، ويكون لدى هذا من العلم ما ليس لدى هذا.. وهكذا كان الأمر.
      ولذلك في أول الحديث السابق موسى عليه السلام سئل وهو على المنبر: ( هل تعلم أحداً أعلم منك؟ فقال: لا. ) فلم يرد العلم إلى الله عز وجل، بل نفى ذلك ظناً منه أنه لا أحد أعلم منه، فعندئذ أخبره الله عز وجل أن هناك من هو أعلم منك، وهو الرجل الذي تجده في المكان الفلاني على الصفة الفلانية، فذهب هو وفتاه إليه.
      إذاً: ما كان في إمكان موسى عليه السلام أن يقول ذلك؛ لأن الأرض فيها من لم يجب عليه أن يتبعه، أما محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى أرسله للناس كافة بشيراً ونذيراً: (( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ))[الأنبياء:107] فببعثته سد الله تعالى كل طريق يوصل إليه، إلا من طريق اتباعه صلى الله عليه وسلم.
      ثم إن الخضر عليه السلام لما فعل ما فعل، وأنكر عليه موسى ما أنكر، كما بين الله تعالى وقص علينا، وأخذ يبين لموسى عليه السلام تأويل ما لم يستطع عليه صبراً، قال من جملة ما قال: (( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ))[الكهف:82] أي: أنني قد كلفت وأمرت من الله عز وجل، فهو قد فعل ما فعل بما يقتضي العلم الذي قال الله تعالى عنه: (( وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ))[الكهف:65] وهو الوحي الذي أوحى الله تعالى إليه، وما فعل ما فعل إلا بأمر الله ولم يفعله بأمره.
      إذاً هو نبي يوحى إليه من الله عز وجل، ولديه من العلم ما لم يكن لدى موسى، كما أن موسى عليه السلام أعلم بشرائع التوراة ، وهو كتاب الله الذي أنزله عليه، وهو أعلم بحلالها وحرامها وما فيها من الخضر عليه السلام، وهذا بشر وهذا بشر، (( وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ))[الأنبياء:34] كلهم ميتون موسى وكذلك الخضر ، وكلهم ملاق الله عز وجل.
      فما يزعمه الصوفية من أن الخضر عليه السلام كائن أسطوري خيالي وهمي، لا أول لحياته ولا آخر، ويتشكل ويتقلب، ويأتي كلَّ أناس ويذهب إلى أولياء، وأحياناً يعتقدون أنه يذهب إلى جملة من الأولياء في وقت واحد، ثم ما يعتقدون أن الأولياء والأقطاب والأوتاد والأبدال يجتمعون كلهم في ليلة السابع والعشرين من رمضان، أو ليلة النصف من شعبان في مكة ، ويلتقون ويتحادثون.. كل هذه خيالات وأوهام؛ ولهذا يذكر الشيخ رحمه الله في الرد على هذه البدع: أنه لم يصح ولم يثبت من هذه الأسماء شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الناس أو الصالحين إلى أقطاب وأوتاد وأبدال.. وغير ذلك...
  4. مفهوم الأولياء عند أهل السنة والجماعة

     المرفق    
    أما مفهوم أهل السنة والجماعة ، وهذا الذي سوف نوضحه حتى نستكمله، ثم نأتي على أولئك ونرد شبهاتهم، فالأولياء عندهم هم من نص الله تبارك وتعالى عليهم في الآية: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ))[يونس:62-64] في سورة يونس. يقول المصنف رحمه الله تعالى: (فـ (الذين آمنوا وكانوا يتقون) منصوب. يعني: محله النصب؛ لأن (الذين) اسم موصول فلا تظهر عليه الحركات الإعرابية، ولكنه مبني فيكون منصوباً (على أنه صفة أولياء الله). إذاً: يقول: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا ))[يونس:62-63] هذه صفة لهم، فيكون الخبر: (( لَهُمُ الْبُشْرَى ))[يونس:64]. ثم قال: [أو بدل منه] والبدل نوع من الصفة لكنه أخص، فيكون من جهة المعنى واحد، فأولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، وبهذا المؤمنون المتقون هم أولياء الله. ثم قال: [أو بإضمار (أمدح)، يمكن أن نجعل بدل (أمدح) (أعني)، يعني: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ))[يونس:62] من هم؟ يقول: أعني: (( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:63] أو أمدح، يعني أن يكون العامل مضمراً والاسم الموصول في محل نصب]. فالتقدير: أعني أو أمدح أو أريد الذين آمنوا، أو أخص بالمدح: (( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))[يونس:63-64] فعلى هذا يكون (لهم البشرى) استئنافاً، ويكون خبر إن جملة، فلا بد أن يكون المبتدأ والخبر في الآية الأولى، فالمبتدأ: (أولياء) والخبر هو: (( لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ))[يونس:62] فالضمير (هم) في محل رفع خبر، ثم بين من هم أولياؤه فقال: (( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:63]. ثم قال: [أو مرفوع بإضمار (هم)، أيضاً ممكن أن نقول: ((ألا إن أولياء الله)) اسم (إن) و(الذي) هو مبتدأ في الأصل ((لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) في موضع الخبر، ثم ابتدأ مبتدأ ثانياً مقدراً هو (هم) (( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:63] فيكون (الذين آمنوا) خبراً لمبتدأ محذوف تقديره (هم)].<\m> ثم قال: [أو خبر ثان لـ(إن) وهذا يصح ما دام أنه يصح أن يقدر له مبتدأ ثان فيصح أن يكون له خبر ثان، فيكون هناك خبران: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ))[يونس:62-63] ].<\m> ثم قال: [وأجيز فيه الجر]. إذاً: عرفنا وجه النصب إما بدلية أو مفعولية لفعل، وعرفنا وجه الرفع وهو إما خبر ثان أو خبر لمبتدأ محذوف. يعني: ثلاثة أوجه. والجر يمكن أن يصح. ثم قال: [بدلاً من ضمير (عليهم)] فيكون التقدير: لا خوف على الذين آمنوا وكانوا يتقون، وأضعف الوجوه هو الجر. ثم قال: (وعلى هذه الوجوه كلها -على أي وجه قدرت إعراب الآية- فالولاية لمن كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون) أي: مهما قدرنا فأولياء الله هم الذين آمنوا. أي: المؤمنون المتقون، فهي عامة لكل مؤمن تقي. ثم قال: (وهم أهل الوعد المذكور في الآيات الثلاث)، وهي من قوله تعالى: (( لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ...))[يونس:62] إلى: (( لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ))[يونس:64] . ثم قال: (وهي -أي: الولاية- عبارة عن موافقة الولي الحميد -سبحانه وتعالى- في محابه ومساخطه)، فهم يحبون الله ويتقربون إليه بامتثال ما افترض عليهم واجتناب ما حرم عليهم ونهاهم عنه. ثم قال: (وليست بكثرة صوم ولا صلاة) يعني: العبرة فيها ليست بكثرة التعبد، ولكن بموافقة الرسول صلى الله عليه وسلم واتباع السنة. إذاً: الصواب أولى من مجرد الكثرة، وكما قال الحسن رضي الله تعالى عنه وغيره: [ ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولا صدقة، ولكن بشيء وقر في قلبه ]، فقوة الإيمان هي الأساس، وليس كثرة العبادة. (ولا تملق ولا رياضة) يعني بذلك الرد على الصوفية ، الذين يدعون الرياضات والمكاشفات والمجاهدات؛ ليصلوا بها إلى الولاية، حتى يكون من أولياء الله، وهذا ما سنوضحه إن شاء الله فيما بعد. ثم قال: (وقيل: (الذين آمنوا) مبتدأ، والخبر (لهم البشرى)، وهو بعيد؛ لقطع الجملة عما قبلها، وانتثار نظم الآية) هذا وجه ضعيف، وهو أن يكون (لهم البشرى) خبر، قال تعالى: (( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى ))[يونس:63-64] فتكون الجملتان مستأنفتان، والجملة الأولى مبتدؤها وخبرها قد انتهى، وهذا وجه وقول ضعيف. إلى هنا نقف إن شاء الله بعد أن وضحنا درجات الولاية عند أهل السنة أو الترتيب الشرعي للولاية ودرجاتها، وأما أهل البدع ودرجاتهم وترتيبهم فهو كما ذكرنا، ثم نفصل إن شاء الله بعض الشبهات من كلام شيخ الإسلام رحمه الله وغيره، التي يوردها الصوفية وأشباههم على الأولياء. والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.