المادة كاملة    
إن مما قرره علماء أهل السنة والجماعة أن الإيمان ليس واحداً، وأن أهله ليسوا في أصله سواء، بل الإيمان يزيد وينقص، وأهله يتفاضلون فيه، خلافاً لبعض الفرق الأخرى.
  1. حقيقة الإيمان وتفاوت الناس فيه

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: (وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالحقيقة ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى) وفي بعض النسخ: (بالخشية والتقى) بدل قوله: (بالحقيقة) ففي العبارة الأولى يشير إلى أن الكل مشتركون في أصل التصديق، ولكن التصديق يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت، كما تقدم تنظيره بقوة البصر وضعفه. وفي العبارة الأخرى يشير إلى التفاوت بين المؤمنين بأعمال القلوب، وأما التصديق فلا تفاوت فيه، والمعنى الأول أظهر قوة، والله أعلم بالصواب].
    هذا الموضوع من موضوعات الإيمان، وهو يؤكد ما سبق أن قلناه: إن الإمام أبا جعفر الطحاوي لم يلتزم ترتيب وتهذيب عبارات هذه العقيدة، بحيث يجعل جملاً أو قواعد كل باب منها مجتمعة، إنما فرق الكلام في القدر وفي الإيمان وغيرها من الموضوعات كما تقدم، وكان حق هذه العبارة أن تكون في أولى عبارات الإيمان عند قوله: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان) أو قبل ذلك؛ لأنه تكلم في موضوع الإيمان بالله وحقيقة الإيمان وأصول الإيمان عند أهل السنة والجماعة ، وعند غيرهم من الفرق الأخرى، مثل: الأصول الخمسة عند المعتزلة ، ثم تكلم عن الملائكة، والمفاضلة بين الملائكة وبين صالحي البشر، ثم الإيمان بالكتب، ثم قال: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين.. إلخ)، وقد بينا أن المقصود بها هو معاملة أهل القبلة، أي: من هم أهل القبلة؟ وكيف نعاملهم؟ ولماذا نسميهم؟ وعلى أي أساس نعاملهم؟ إن القاعدة في هذا هو الحديث الصحيح الذي رواه أنس بن مالك ، وحديث عبد الله بن عمرو ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: ( من صلَى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا ).
    ثم دخل في موضوع: (ولا نجادل في القرآن) فخرج عن موضوع الإيمان إلى موضوع آخر له علاقة، لكن ليس من موضوعات الإيمان، ثم عاد إلى موضوع آخر له علاقة بأهل القبلة فقال: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) وبينا ما في هذه العبارة من خلل، ووضحنا أحكامها، ووضحنا حكم الكبيرة، سواءً كانت كبيرة عملية كالزنا وشرب الخمر وغيرها كما جاء في الحديث: ( لا يزني الزاني حين يزني هو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب المنتهب وهو مؤمن ) فهذه الأربعة المقصود بها الكبائر العملية، وكذلك بينا حكم الكبائر الاعتقادية أو العلمية، وهي البدع التي لا توصل صاحبها إلى الخروج من الملة، وكذلك النفاق وأنواعه، ثم ذكر أنواع الكفر وأنواعه قبل أن يبين ما هو الإيمان والخلاف فيه، ثم تناول موضوع الحكم بغير ما أنزل الله، ومتى يكون كفراً أكبر؟ ومتى يكون كفراً أصغر؟ ثم بينا الرد على المرجئة ، ثم انتقل إلى الفقرة التي تقول: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفوا عنهم...) وهي تبحث في الخوف والرجاء، ومتى يُغلَّب أحدهما على الآخر، ثم انتقل إلى سقوط العقوبة عن المسيء بأحد عشر سبباً.
    ثم قال: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام) وموضوعها تابع للخوف والرجاء.
    ثم قال: (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بححود ما أدخله فيه)، وقلنا: هذه العبارة فيها خطأ، وهو حصر الكفر بالجحود، مع أنه قد يكون كفر إباء واستكبار وإعراض وشك ونفاق بدون جحود، وأكثر الملاحظات والانتقادات على الإمام الطحاوي هي في موضوع الإيمان.
    ثم قال: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وجميع ما صح...) والعبارة هذه تشمل إلى آخر ما قال: (والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن) لكن الشارح هو الذي أطال فيها والطحاوي قال: (والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان) فكانت التكملة لو قال: (وأهله في أصله سواء) أو: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء)، لكن أدخل بينهما قوله: (وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق).
    1. خطأ من يزعم بأن الإيمان واحد

      قال: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء) فهل هذه العبارة صحيحة ومتفقة مع ما قررناه من عقيدة أهل السنة والجماعة في موضوع الإيمان وحقيقته أم أن الأمر غير ذلك؟ بعد أن ذكر الشيخ مذهب الكرامية و الجهمية ، والاختلاف بين أبي حنيفة والأئمة الباقين قال في بداية هذه الفقرة: (ولهذا والله أعلم -قال الشيخ رحمه الله: وأهله في أصله سواء) وقبل ذلك قال: (وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه: أنه عاص لله ورسوله مستحق الوعيد)، وكلامه هذا هو ما جرى بين أهل السنة وبين أبي حنيفة والأئمة الباقين من خلاف، ثم قال: (ولا خلاف بين أهل السنة أن الله أراد من العباد القول والعمل).
      فقوله: (وقد أجمعوا) يعني به أهل السنة ، وعلى كلامهم يكون أهل السنة مرجئتهم وغير مرجئتهم على أساس أن الإمام أبا حنيفة ومن معه هم مرجئة أهل السنة ، وليسوا من المرجئة الغلاة ، أي: أن أهل السنة ومنهم المرجئة وأهل الحديث أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، ولكنه لم يعمل بجوارحه: أنه عاص مستحق للوعيد، وبينا أن الأئمة الأربعة كلهم بما أنهم فقهاء وقضاة، بل كان أكثر القضاة في أيام الدولة العباسية -وهي أطول فترة في تاريخ الإسلام، ثم جاءت بعدهم الدولة العثمانية- حنفية، فهل كانوا يتركون الزاني والشارب والسارق أم يقيمون عليه الحد؟ يقيمون عليه الحد؛ لأنهم فقهاء يفتون بأنه عاص مستحق للعقوبة، وقضاة يحكمون عليه فيعاقب، إذاً الأئمة الثلاثة وعامة أهل الحديث مجمعون مع أهل السنة على أن تارك العمل مستحق للوعيد، وهذا قدر مشترك بينهم، لكن الخلاف فيمن يقول: (إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً، فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق وعمر رضي الله تعالى عنهما!
      وبالتالي لا يكون الناس في أصل التصديق سواء، هذا قول بعض المرجئة الحنفية وليس كلهم، لكن يقال: قولهم هذا على سبيل التغليب؛ لأن من لم يقل بقولهم غالباً يعد من أهل السنة، يقول: (فإيماني كإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبريل وميكائيل عليهم السلام، وهذا غلو منه)، أي: لا يجوز لأحد أن يقول: إن إيماني كإيمان جبريل أو كإيمان أبي بكر و عمر ! ويعني به أصل التصديق عند العبد، أي: يقول: أعمالي ليست كأعمال أبي بكر و عمر ، حتى الإيمان الذي عند أي شخص آخر مقر ومصدق، إذ ليسوا فيه سواء، وهنا الشارح أتى بدليل عقلي: وهو أن الكفر مع الإيمان مثل العمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومن يرى الخط الثخين دون الرفيع إلا بزجاجة ونحوها، فالناس كلهم مبصرون، والمقصود بالأعمى: الكافر: (( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ))[الإسراء:72] فتنظر إلى المبصرين، فالبصر الحسي المشاهد أن الناس فيه درجات، أي: يتفاوتون فيه، لكن ليسوا عمياناً، وبالتالي فالتفاوت حاصل في النظر المشاهد، فهذا مَثَلٌ لتفاوت الناس في الإيمان أيضاً؛ لأن الإيمان هو النور والكفر هو الظلمات، ولهذا ضرب الله المثل لنوره في قلب عبده المؤمن فقال: (( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ ))[النور:35]، وقال في آخر الآيات: (( وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ))[النور:40]، فهؤلاء في الظلمات ليسوا بخارجين منها، وهذا مَثَلُ الكفار، وهذه هي القضية الفلسفية التي بسببها أخطأ الحنفية المرجئة والفقهاء، إذ يقولون: أصل البصر واحد يتفق فيه الناس، لكن بعضهم نظره أقوى من بعض، أي: هناك قدر مشترك ونسبة بسيطة يشتركون فيها كلهم، فالذي هو أدنى قدر من الإبصار يتفق فيه الجميع، وما زاد على ذلك يتفاوت فيه الجميع، وهذا في الواقع، فهل يسلم أحد بذلك؟ لو أن شخصاً نظره كامل يرى الإبرة في مكان بعيد، ووجد إنساناً لا يرى إلا من خلف الزجاجة، فقال صاحب الزجاجة للآخر: أنا وأنت في أصل النظر سواء، لكن أنت زائد علي بزيادة أخرى في الفروع، أي: أنا وأنت نختلف، والمبصرون وكل أهل النظر يتفاوتون، وهذا هو الكلام الصحيح، فمن أين جاء الخطأ؟ إنهم حينما جعلوا الإيمان أجزاء وليس حقيقة واحدة أو شيئاً واحداً تصوروا أن يوجد جزء بالكامل مع وجود شيء قليل من الجزء الآخر، يعني: الجزء الأول يوجد كاملاً، والجزء الثاني يوجد قليلاً عند البعض كثيراً عند البعض، مع أن الأمر غير ذلك، إذ إنه حقيقة واحدة أو ماهية واحدة بتعبير المناطقة ، فهم يقولون: وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالحقيقة أو في الخشية والتقى، فهل نعتبر أن الحقيقة أو الخشية فرعاً؛ لأن لازم كلمة (أصل) يكون الباقي فرع؟ أو هل يصح أن نقول: الناس في أصل الإيمان سواء، لكن فروع الإيمان تختلف؟ لو ضربنا مثالاً للشجرة فقلنا: لو وجدنا شجراً متساوياً في مكان واحد، في تربة واحدة، ويسقى بماء واحد، وهذا هو الأصل أن الناس يأخذون من القرآن ومن السنة كل شيء، فما الذي يحصل؟ ينمو الشجر، فهل يمكن أن تنمو شجرة بحيث تكون الجذوع كلها متساوية وبعض فروعها كبيرة والأخرى صغيرة أم أنه بقدر نماء الأصل تكبر الفروع؟ إن هذا أمر حسي مشاهد، فبقدر نماء الجذع يكون نماء الفروع، وهذا هو التناسب، وهذا الذي ذكره الله عز وجل فقال: (( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ))[إبراهيم:24] فالإيمان كهذه الشجرة، أي: شجرة لا إله إلا الله، والجذور كلما كانت أقوى وكلما ارتوت من الماء كلما ظهر ذلك على الجذع، وكلما قوي الجذع وكبر كلما قويت الأغصان الفرعية، وكلما قويت وكثرت الأغصان كلما كان الثمر والجني أكثر، وهذا أمر معروف ومشاهد ومحسوس في جميع الأشجار، أما أن يدعي مدع أن لديه شجرة لها أصول كثيرة تحت الأرض، ثم يكون البارز فوق الأرض غصناً صغيراً! فإننا نقول: هذا غير معقول، ولا يمكن إلا إذا كان واحد قطعها، ونحن لا نتكلم عن حالة عارضة، وإنما نتكلم عن الحالة السوية الأصلية، إذ لا يمكن أن تكون سواء إلا إذا اقتلعنا هذه فوجدنا جذورها ضعيفة على قدرها، وتلك جذورها عميقة على قدرها، وقلنا: أوضح من ذلك: مثال السفينة، فلكي تسير في الماء لابد أن يكون أصلها أسفل والباقي فوق، فهل يعقل أن يقول شخص، إن أصل السفن واحد، والتفاضل بينهما بما فوق أم أنه بمقدار حجمها وسعتها يكون أصلها أيضاً؟ إذا كان الأصل كبيراً وطويلاً وعريضاً، فكذلك ما فوقه وهكذا، فإذاً هي سفينة واحدة لو أخرجتها من الماء فإن أصلها وفرعها سواء، ولو تصورت أن أصلها كأصل سفينة كبيرة، ولا يوجد إلا قارب صغير في الأعلى، لكنت مخطئاً، ولما كانت هذه هي حقيقة السفينة، وهي جزء واحد الظاهر منه والباطن، فالأصل أن ما في القلب كله واحد، والخطأ يكون واضحاً عندما نقول: إن أصل الإيمان واحد ونعني به عملاً واحداً، فيكون خطئاً مركباً أنهم يعنون به عملاً واحداً من أعمال الإيمان الباطنة وهو التصديق، بينما نحن قررنا: أن أعمال القلب والأعمال الباطنة كثيرة، مثل: الحب والخوف والرجاء والإخلاص والصبر واليقين، فلماذا التصديق وحده إذاً؟
      كل هذه الأعمال متلازمة وشيء واحد، أو ماهية واحدة بالنسبة إلى كل إنسان، إذ إن كل إنسان إيمانه بالنسبة له شيء واحد، فبقدر قوته يقوى ظاهراً وباطناً، أصلاً وفرعاً، بغض النظر عن قضية ما معنى الأصل وما معنى الفرع؟ فهذه قضية فيها خلاف طويل، لكن المهم أنه يقوى أعلاه وأسفلاه وظاهره وباطنه، إما أن يقوى جميعه، وإما أن يضعف جميعه، وليس هنالك جزء منفصل يسمى الإيمان الباطن، ثم هناك جزء منفصل يسمى العمل الظاهر، ولذلك قلنا في بداية شرح موضوع الإيمان عند قولنا: (إن الإيمان قول باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان): أيهما أفضل: هذه العبارة أم قول: الإيمان قول وعمل؟ قول وعمل؛ لأن العبارة الثلاثية توهم الانفصال، فقول باللسان هو مجرد النطق بالشهادة، واعتقاد بالجنان هو عمل القلب، وعمل بالأركان هو عمل الجوارح، وكأنه يمكن أن تنفصل، فمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله بلسانه فقد أتى بثلث الإيمان، ولا يمكن الإتيان ثلثه إلا ممن كان مقراً مصدقاً بقلبه، وأيضاً عاملاً بجوارحه، ولو أن أحداً عمل بجوارحه لكنه لم يؤمن بقلبه فلا ينفعه، إذ إنها متلازمة، فأفضل شيء أن نقول: قول وعمل، ونعني بالقول قولان: قول القلب، وقول اللسان، والعمل عملان: عمل القلب، وعمل الجوارح، فبذلك يكون التركيب، فكل عمل من الأعمال يتركب من هذه الحقيقة.
    2. تفاوت أهل الإيمان في الأعمال

      وأوضح من ذلك: الصلاة، فهي مثال واضح لحقيقة الإيمان، فإذا أردت أن تعرف حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة فخذ مثالاً واضحاً لا اختلاف بيننا وبينهم فيه، وهو الصلاة، فهي أعظم الأركان العملية في حياة المؤمن وفي عقيدته، فانظر إلى ظاهر الصلاة وباطن الصلاة وأقوال الصلاة وأعمال الصلاة، فكذلك الإيمان، فباطن الصلاة هو الإخلاص لله تعالى، فيصلي صادقاً لا كاذباً، يصلي موقناً لا شاكاً فيها، ثم يصحب ذلك الخشية والطمأنينة، وهكذا في أفعالها وأقوالها، فهذا جانب باطن، والجانب الظاهر: الركوع والسجود والقيام، والجانب القولي: التكبير وقراءة الفاتحة وغيرها، فكلها يتركب منها شيء واحد هو الصلاة، ولا تستطيع أن تفرق بين البعض والبعض في الحالة الصحيحة، فلو أن شخصاً أتى وكبر وقرأ الفاتحة وهو لا يريد الصلاة، ولا يرجو ما عند الله، ولا يؤمن بها، فإن هذا في الحقيقة غير مصلٍ، وهو ما نسميه منافقاً بالنسبة للإيمان الذي في ظاهره يظهر أعمال الإسلام وهو في الحقيقة غير مؤمن، وإنما هو كاذب في دعوى الإيمان، ولذلك أعظم وصف يوصف به المنافق: كاذب، قال تعالى: (( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ))[التوبة:107] وقال في آخر التوبة: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ))[التوبة:119]، بعد أن بين أحوال المنافقين في هذه السورة أظهر وصفاً للمنافقين هو الكذب؛ لأنه يظهر خلاف ما يبطن والعكس، فهل يمكن أن يكون أحد خاشعاً في صلاته، مخلصاً يخشى الله، ويرجو ما عنده، وموقناً مصدقاً بها، وكل هذه الأعمال القلبية موجودة لديه، ثم لا يظهر أثر ذلك على جوارحه، بمعنى: أنك لو رأيت إنساناً يعبث ويتلفت ويتحرك في صلاته، فهل تستطيع أن تقول: إن لديه خشوعاً وطمأنينة وخشية؟ لا يمكن ذلك، ولهذا قال بعض السلف: (لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه) فالباطن إذا وجد يستلزم الظاهر ولا بد، أما الظاهر فقد يوجد من غير باطن، فلو فصلنا وجزأنا هذا الباطن لكان ذلك أشد، إذ إنه يمكن أن يوجد أصل نسميه: أصل الباطن، مثل: أصل الصلاة، إذ يشترك فيها الناس كلهم، والتفاضل بينهم إنما هو في الأركان وفي المتسحبات، فكيف يفهم هذا الكلام؟ نقول: الصلاة يتفاوت فيها الناس، فمنهم من يصلي بخشوع وطمأنينة، ومنهم من لا يصلي كذلك، لكن ما الأصل الذي يشتركون فيه؟ في الحقيقة لا يشتركون إلا في اسم الصلاة، أي: أن هذا مصل -في الاسم- فقط، أما من حيث الحقيقة فلا يتفقون ولا يشتركون في شيء، بل نقول: يتفاوت أهل الصلاة في الصلاة، وكذلك أهل الحج يتفاوتون؛ لأن الحج يشمل أعمال ظاهرة وباطنة، وكذلك الصوم، مع أنه أقرب أن يكون عملاً باطناً، لكن في الحقيقة يظهر أثر التفاوت فيما بينهم على الجوارح، وحقائق القلب أيضاً متفاوتة.
      إذاً لا يوجد عمل من أعمال الإيمان إلا وأهله يتفاوتون فيه، فكذلك أصل الإيمان وأصل الدين، إذ أهله متفاوتون فيه، فقول الشيخ: (والإيمان واحد) خطأ، إذ ليس الإيمان واحداً، بل الإيمان متفاوت.
    3. تخطئة المصنف في قوله: وأهله في أصله سواء

      وقوله: (وأهله في أصله سواء) العبارة خطأ، وكانت العبارة صحيحة بغض النظر عن خطئها في الواقع، ولكي نصحح العبارة لا بد أن نقول: والإيمان واحد، وأهله فيه سواء. فأصبحت العبارة غير متناقضة، لكنها خطأ في العقيدة من ناحية اللفظ فقط، أو نقول: وأصل الإيمان واحد، وأهله فيه سواء، أي: في أصله، ويتفاضلون بالخشية والتقى، والعبارة غير صحيحة، فهي مضطربة ومتناقضة، والصحيح أن نقول: والإيمان يزيد وينقص. وهي مقابل قوله: الإيمان واحد، وأهله يتفاوتون فيه، فهذا هو الكلام الصحيح الموافق والمطابق لعقيدة أهل السنة والجماعة وإجماع السلف، وحقيقة الإيمان واحدة، وأهله متفاوتون فيه على معنى أن الإيمان له حقيقة أو ماهية واحدة، أي: أن الإيمان في ذاته شيء واحد، لكن بالنسبة لأهله فهم متفاوتون فيه، فنقول: هل يوجد شيء بذاته خارج أفراده؟ إذا قلنا: إن حقيقته واحدة، وأهله متفاوتون، فهذه هي القضية المنطقية التي يقولها المناطقة ، ونرد عليهم فنقول: أنتم تقولون: إن ماهية الإيمان واحدة، لكن الأفراد يتفاوتون ويختلفون، ويضربون مثالاً فيقولون: الإنسان حيوان ناطق، فالإنسانية واحدة، أو الحيوانية والمناطقية ماهية واحدة، لكن الأفراد أو الأعيان يختلفون فيها، فنسأل: هل توجد الناطقية والحيوانية في خارج الأفراد؟ هل توجد أيضاً الماهية الإيمانية خارج الأفراد؟ لا توجد، إنما توجد تصوراً فقط، فأنا أصور الإيمان بأنه قول وعمل، ويتركب من كذا وكذا، لكن بالنسبة للأفراد في الخارج فلا يوجد إلا الأعيان، أما الماهيات المجردة فلا توجد إلا في الأذهان، لذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكرر هذه العبارة: (خلطوا ما في الأعيان بما في الأذهان)، أي: المتكلمون والفلاسفة ، فعندما نقول: حقيقة الإيمان واحدة، ليس لها معنى، إذ ما معنى أن تكون حقيقة الإيمان واحدة، وأهله يتفاضلون فيه؟ لأننا نقول: الإيمان تعريفه كذا، فهذا التصور الذي في الذهن هو التعريف، وحده -كما يسميه المناطقة - واحد، لكن التفاوت بين أهله طبيعي، لهذا نقول: الإيمان متفاوت؛ لأنه أصلاً لا يوجد إلا في أهله، وأهله في أصلهم متفاوتون، والإيمان متفاوت، بل نزيد إيضاحاً عندما نقول: الإيمان نعني به: ما يؤمن به، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله... إلخ )، وقال تعالى: (( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ... ))[البقرة:285]، فهل ما يؤمن به واحد؟ أي: هل ما دعا إليه نوح عليه السلام هو نفس ما دعا إليه محمد في مجموع واحد، أم يتحدون في شيء ويختلفون في شيء؟ يتحدون في الملة، أي: في العقيدة والتوحيد، أما الشرائع و الأحكام فإنهم يختلفون، إذاً يتفقون في الجملة ويختلفون على التفصيل، فعندما بعث الله نوحاً كان يطلب من قومه أن يؤمنوا به، لكن هل كان على نوح أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ))[آل عمران:81]؟ فما بعث الله رسولاً ولا نبياً إلا أخذ عليه العهد بالإقرار والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا موضوع آخر، أي: هل كان يجب على قوم نوح أن يؤمنوا بإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام؟ لا، ولذلك لما بعث الله موسى كان مما يجب أن يؤمن به قومه أن يؤمنوا بإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف، لكن عيسى ويحيى وداود وسليمان لم يكن يجب عليهم أن يؤمنوا بهم؛ لأنهم لما يأتوا بعد، بينما نحن يجب علينا أن نؤمن بهؤلاء جميعاً، من محمد صلى الله عليه وسلم إلى آدم، وعليه فكل أمة تؤمن بالرسل، لكن من الرسل؟ تفصيلها يختلف، وأما بالنسبة للكتب فقد أنزل الله صحف إبراهيم، فكان واجباً عليه وعلى قومه أن يؤمنوا بهذه الصحف، ولا يجب عليهم أن يؤمنوا بـالتوراة، ما نزلت؛ لأنها بعد، كذلك لا يجب على أهل التوراة أن يؤمنوا بـالإنجيل؛ لأنه ما نزل بعد، كما لا يجب عليهم أن يؤمنوا بالقرآن كله؛ لأنه ما نزل بعد، لكن لما نزل القرآن وجب علينا أن نؤمن بالجميع، ولما نزل الإنجيل وجب على أهله أن يؤمنوا بـ التوراة وبـ صحف إبراهيم وهكذا، إذاً الإيمان بالكتب متفاوت، ما يؤمن به اختلف، والتمثيل بهذا واضح، وقد يقال: هذا بالنسبة لما قبل بعثة صلى الله عليه وسلم، فهل هذا واقع في هذه الأمة أيضاً؟ وهل هناك تفاوت فيما يؤمن به؟ نعم، وذلك بحسب الشرائع والتدرج، والصحابة أنفسهم في أول الأمر -آمنوا بشيء، ثم زاد فآمنوا به، ثم زاد حتى اكتمل الدين، وما بعدهم بحسب العلم والبلاغ، ولذلك هل إيمان الراسخ في العلم من العلماء مثل إيمان العامي حديث عهد بالبادية؟ لأن ما يؤمن به يختلف، فهذا يؤمن بالقرآن على التفصيل، وهذا يؤمن بالسنة على التفصيل، فهو يحفظها أو يحفظ جملة كبيرة منها، سواء من الأحكام الفقهية أو غيرها، فيؤمن بأشياء كثيرة، لكن هذا الذي جاء من البادية يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم حق، وأن والله واحد، وأن الصلاة واجبة، وأن الزكاة واجبة، وأن الصوم واجب، ولا يعلم غير هذا.
      إذاً ما يؤمن به متفاوت، وبالتالي أليس طبيعياً قطعاً أن المؤمنين متفاوتون؟! نعم؛ لأنه إذا اختلف الناس في نفس ما يؤمن به لا بد أن يكونوا مختلفين فيما بينهم، وهذا يدل على أن القول بأن أهل الإيمان فيه سواء خطأ، فلا نقول: في أصله، ولا نقول: إن الإيمان واحد، كل هذا الكلام خطأ بحسب الإجمال والتفصيل، وبحسب البلاغ والعلم كلها، فالإجمال والتفصيل كما ذكرنا في الأنبياء السابقين، إلا أننا نقول في هذه الأمة نفسها، فمن قرأ كتاب الله وجد فيه خمسة وعشرين رسولاً، فلا يستطيع أن يؤمن بأربعة وعشرين ويترك واحداً، لكن عامياً من العوام نعلمه بأن يؤمن بذلك، حتى في الصلاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد علم الرجل المسيء في صلاته الأركان، لكن العالم وطالب العلم الذي يعرف مستحبات وأدعية في الصلاة؛ فإنه يؤمن بشيء أكثر، ويؤدي الصلاة أكثر، وهكذا فرق بين الإجمال والتفصيل، وهكذا في كل أمور العبادات حتى في الحج، فحج الفقيه المستبصر الذي يحج كما حج النبي صلى الله عليه وسلم ليس كحج أي واحد من العامة، حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه عروة بن مضرس في مزدلفة فقال له الرسول من صلَى صلاتنا هذه وكان بالأمس قد وقف المقصود المبيت بـعرفة في ساعة من ليل أو نهار فقدتم حجه وتم نسكه أهم شيء في الحج أن تكون قد وقفت في عرفة ثم بت في مزدلفة ، لكن الإهلال متى يكون؟ هل يكون من البيت أو من الميقات أو إذا استقر على الدابة أو قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟ وماذا يقول؟ ثم يطوف طواف القدوم، ثم يظل في منى إلى يوم التروية فيصلي بها خمسة فروض، فهذه أشياء كثيرة ما جاءت، والمهم أن هذا الرجل أدى الشيء الذي يسقط عنه به ركن الإسلام، كما أن ذلك في صلاته قد علمه النبي عليه الصلاة والسلام ما يكون به قد أدى الصلاة، لكن يتعلم بعد ذلك ويزداد.
      وكذلك التفاوت في الصدقة يكون في جنسها، بغض النظر عن الكثرة والقلة؛ لأن الله يقول: (( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ))[آل عمران:92] ويقول: (( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ ))[البقرة:267]، فإذا كنت الآخذ فلا تأخذ إلا على إغماض، أما إذا كنت المعطي فلا تيممه، ولكن الجنس، فقد يكون أفضل ما عندي أقل ما عند الآخر، فبعض الناس أحسن ما عنده سيارة قديمة، وبعض الأغنياء أحسن ما عنده سيارة حديثة جديدةً، لكن الذي عنده سيارة قديمة قد تصدق بأفضل ما عنده، فنال البر؛ لأنه أنفق أفضل ما يحب، وكذلك ليست العبرة بالكثرة، وإنما العبرة بالإخلاص، فهذا دفع ريالاً وذلك دفع ريالاً، لكن بينهما من التفاوت ما الله به عليم، فهذا أعطى الريال عن إخلاص ويقين، وهو صحيح شحيح يرجو الغنى ويخشى الفقر، وله ذرية وعيال، والريال بالنسبة له شيء كثير، أما الآخر فأعطى ألف درهم مجرداً عن ذلك، وربما شابها شوائب من الرياء والعياذ بالله، فيكون قد سبق درهم ألف درهم، وبالتالي فالتفاوت يحصل في الكمية والنوعية والإجمال والتفصيل.
      القول: (بأن الإيمان واحد) خطأ، والصحيح: أن الإيمان متفاضل متفاوت، أي: يزيد وينقص كما أجمع السلف الصالح، وقد ذكرنا الأدلة على الزيادة والنقصان من القرآن ومن السنة، ونقلنا أحد عشر نقلاً للإجماع على ذلك.
      إذاً هذا الموضوع من جهة تقريره مفروغ منه، ولكن نريد إيضاحه وبيانه بهذه الأمثلة النقلية والعقلية التي يتبين بها أن عبارة الشيخ هذه في غير محلها، فإذا أردنا أن نصححها نقول: (والإيمان يزيد وينقص، وأهله يتفاضلون فيه)، ولا إشكال بعد ذلك فيها.
    4. معنى قول المصنف: والتفاضل بينهم بالحقيقة

      ثم يقول المصنف: (والتفاضل بينهم بالحقيقة)، وفي بعض النسخ: (بالخشية والتقى) بدل قوله: بالحقيقة، ففي العبارة الأولى: (والتفاضل بينهم بالحقيقة ومخالفة الهوى) يشير إلى أن الكل مشتركون في أصل التصديق، ولكن التصديق في حقيقته بعضه أقوى من بعض كما تقدم تنظيره بقوة النظر وضعفه، وكأن العبارة: والتفاضل بينهم بالحقيقة.
      إذاً يقول: التفاضل بينهم وإن كانوا مشتركين في أصل التصديق؛ فإنهم في حقيقة التصديق متفاضلون، وما دام الكلام خطأ فالعبارة كلها خاطئة، ولكن نوضحها فقط، وفي العبارة الأخرى: (بالخشية والتقوى) وهي عندي أخف وأوجه، أي: أن يكون التفاضل بالخشية، فإذا قال: بالحقيقة فكيف يكون الإيمان واحداً؟ إن معناه أن حقيقته واحدة، لكن يمكن أن يكون أولى أو أقرب وأخف خطأً أن يقول: والتفاضل بينهم بالخشية، يقول الشيخ: وفي العبارة الأخرى، أي: التفاضل بينهم بالخشية والتقى، يشير إلى أن التفاوت بين المؤمنين بأعمال القلوب، وأما التصديق فلا تفاوت فيه، فنضيف كلمة: (الأخرى)، فنقول: بأعمال القلوب الأخرى؛ لأننا متفقين على أن التصديق عمل من أعمال القلوب، فالقضية عندنا ليست أن التصديق أصل، ثم يبني عليه أعمال القلوب، ثم يبني عليه أعمال الجوارح، وإنما القضية عندنا أن أعمال القلوب كلها شيء واحد، فمنها التصديق، ثم أعمال الجوارح فوقها ولازمة لها وجزء مكمل لها، فإذاً كيف يكون التصديق عملاً من أعمال القلب يتفق فيه جميع أهل الإيمان، وأعمال أخرى من أعمال القلب يتفاوتون فيها؟ هذا شيء صعب تصوره، أو أن يكون في الواقع؛ لأن المشاهد أن أعمال الجوارح يمكن أن تنفصل، فيمكن أن يكون هذا يصلي وذاك يجاهد وذاك يحج، والانفصال بين أعمال الجوارح واضح؛ لأنها ظاهرة، أما أعمال القلب فأصعب ما يكون أن تنفصل، بحيث يكون عنده صدق كامل، والخشية تكون أقل، فالصدق والخشية واليقين كلها جملة من أعمال الباطن المخفي الغيبي، فيصعب في الحقيقة الفصل بينها، كما أنه غير ممكن أن نجعل بعضها أصلاً وبعضها فرعاً، ونجعل بعضا لا تفاوت فيه وبعضها فيه تفاوت، إذ إن كلها عمل باطن، وكلها غير قابلة للتجزئة، بل هي متداخلة، فلو أنك وصفت إنساناً بأنه صادق في إيمانه، فإن معنى ذلك أنه متوكل على الله، وأنه يخشى الله، وأنه موقن بالله، ويخاف الله ويرجو ما عنده ولو قلت: هذا إنسان موقن، أو أن الله وصفه بأنه من الموقنين، فإن معنى ذلك أيضاً: أنه يكون خائفاً وراجياً وصابراً ومتوكلاً إلى آخره، إذاً فالتلازم بين أعمال القلوب أقوى بكثير من أعمال الجوارح التي يمكن أن تنفصل، أما أعمال القلب فلا بد من التلازم فيها بينها.
      وهذا هو السبب الذي جعل الشيخ يقول: (والمعنى الأول أظهر قوة)، أي: بالنسبة للعبارتين، ولأن الشيخ نفسه مضطرب متردد، وإن كان أقل اضطراباً من شيخه الماتن وأوضح في الاتجاه إلى ما أجمع عليه السلف، ولكنه لم يتخل كلية عن مذهب المرجئة الحنفية ، فيميل إليه أحياناً ويخلط شيئاً بها، فأظهر قوة فقط من الأولى، ولكن ليس معنى هذا أنه لا خطأ فيها، وقد يقول قائل: قد يكون قصد بالتصديق: قول القلب، فيكون عندنا أعمال القلب شيء، وقول القلب شيء وهو التصديق، وبالتالي يكون قوله: التفاوت بين المؤمنين إنما هو في الأعمال التي هي أعمال القلب وأعمال الجوارح، وأما التصديق الذي هو أصل الدين فلا تفاوت فيه، فهم في الحقيقة يقولون هذا، لكن قلنا: كيف يفرق بين أعمال القلوب فيجعل واحداً منها وحده هو الأصل، ويجعل الباقية هي الفروع؟ أو لماذا نجعل التصديق: قول القلب، ونخرج عمل القلب؟ لما قلنا: يقول المرجئة : الأعمال غير داخلة في الإيمان ألا نقول: إن أول ما نلزمهم به: ماذا تقصدون بالأعمال؟ فإذا قالوا: الأعمال غير داخلة في الإيمان، فنقول: ماذا تعنون بالأعمال؟ الغالب أو ما ينصرف إليه الذهن في أول الأمر أنهم يعنون: أعمال الجوارح، لكن في الحقيقة نقول لهم: إن أقوى إلزام نلزم به المرجئة الحنفية بحيث يصيرون مع أهل السنة أو مع المرجئة هو: ما تقولون في عمل القلب؟ فإن قالوا: نحن ندخل أعمال القلب في الإيمان، وعندما نقول: الأعمال غير داخلة في الإيمان، فنعني به عمل الجوارح فقط، إذاً نقول لهم: يلزمكم إدخال أعمال الجوارح، فأنتم في الحقيقة عدتم إلى عقيدة أهل السنة والجماعة ، لكنكم لا تريدون الإقرار بها، وإلا في الواقع إذا قلت: إن الإخلاص واليقين والصبر والإيمان والخشية والإنابة والرغبة كل هذه من الإيمان، فلماذا تقول: إن الإيمان واحد؟ ولم تقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان؟ هذه هي أعمال القلب، وإذا أدخلت أعمال القلب فلا بد أن تتبعها أعمال الجوارح، وهؤلاء يكون النزاع معهم لفظي؛ لأنه يقول: أعمال الجوارح واجبة، وأنا أعاقب من تركها، وأعمال القلب عندي داخلة من جملة الإيمان، إذاً لم لا تقل: أعمال الجوارح من الإيمان؟ فالخلاف لفظي، أما إن قال: أنا أقصد أعمال الباطن والظاهر فالإيمان عندي هو التصديق فقط، أما أعمال القلب وأعمال الجوارح فكلها غير داخلة في الإيمان، قلنا: إنكم بهذا القول أصبحتم من المرجئة الغلاة ، وإلا كيف يخرج أحد الرغبة والرهبة والخشوع والخشية من الإيمان وهي أعمال قلبية باطنة؟! لا يخرجها من هذا إلا من غلا، ولا يبقى بينك وبينهم فرق إلا أن الجهمية يقولون: المعرفة، وأنتم تقولون: التصديق، ونلزمهم بعد ذلك فنقول: التصديق المجرد كالمعرفة المجردة، والخلاف بينهما مجرد لفظ، أما إن قلتم: تصديق يستلزم الأعمال، وتدخل فيه الأعمال، فإذاً ترجعون إلى ما قلنا من عقيدة أهل السنة والجماعة .