المادة كاملة    
اتفق الفقهاء من مختلف المذاهب في إثبات أن خبر الواحد يفيد العلم، خلافاً لغيرهم من المتكلمين وأشباههم الذين يرون أن خبر الواحد يفيد الظن.
  1. تابع موقف الأئمة من إفادة خبر الآحاد

     المرفق    
    1. تعقيب ابن القيم رحمه الله على مذهب الحنفية في خبر الآحاد

      يقول ابن القيم رحمه الله تعقيباً على هذا الكلام: (ومن المعلوم لكل ذي حس سليم، وعقل مستقيم، استفاضة أحاديث الرؤية والنداء والنزول والتكليم وغيرها من الصفات، وتلقي الأمة لها بالقبول أعظم بكثير من استفاضة حديث اختلاف المتبايعين، وحديث: ( لا وصية لوارث )، وحديث: ( فرض الجدة.. ) وغيرها -أي: هذه أهم من تلك ولا شك- بل لا نسبة بين استفاضة أحاديث الصفات واستفاضة هذه الأحاديث، فهل يسوغ لعاقل يقول: إن هذه توجب العلم وتلك لا توجبه إلا أن يكون مباهتاً. وأصحاب البهتان لا جدال معهم: (( وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا ))[الأنعام:25]، وقال تعالى: (( وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ))[الحجر:14-15]، فأصحاب البهتان والهوى لا يقبلون الحق ولا يريدونه، ويصرون على ما يريدون أن يعتقدوا أنه الحق، وهؤلاء لا جدال معهم، لكن من كانت لديه بصيرة، ومحبة للحق، ومعرفة له، وطلب له، وجد أن هذه الأحاديث في الصفات أكثر استفاضة، وأولى بأن تتلقى بالقبول من تلك التي هي في الأحكام العملية).
    2. خبر الآحاد عند الإمام الشافعي

      ونوجز ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى بعد ذلك، إذ لا حاجة للإطالة فيه، وهي: أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قد ينقل أو يقال: إن كلامه مختلف في قبول خبر الآحاد، ففي كتابه اختلاف مالك صرح بأن خبر الآحاد يفيد العلم، وفي الرسالة قال ما يشعر بخلاف ذلك، ولو نظرنا إلى كلامه في الرسالة لاتضح لنا كما قال ابن القيم رحمه الله: إنه يرى أنه يفيد العلم؛ لأن الذي قال في الرسالة هو: فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه، فيكون الخبر محتملاً للتأويل. أي: ليس نصاً صريحاً، أو ليست دلالته قطعية، إذ تحتمل ألفاظه أكثر من دلالة وكما هو معلوم كثير من الأحاديث تحتمل أكثر من دلالة، بل حتى في الآيات، فهل الباء في قوله تعالى: (( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ))[المائدة:6]للعموم أم ماذا؟
      وهل اللمس في قوله تعالى: (( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ))[النساء:43] يراد به اللمس المعروف أم الوطء؟
      إن لفظ الآية ولفظ الحديث قد يحتمل، يقول: وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد، فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصاً منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو شك في هذا شاك لم نقل له تب، وقلنا: ليس لك إن كنت عالماً أن تشك، كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنا من ذلك.
      إذاً لو لو دققنا النظر لوجدنا أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لا يقول إنه لا يفيد العلم، لكن يقول: حديث الآحاد الذي دلالته محتملة ليس مثل نص الكتاب، وليس مثل الحديث المتواتر أو قطعي الدلالة، وهذا حق، إذ إن غاية ما يقوله الشافعي رحمه الله تعالى: أن العلم متفاوت، ونحن نقول ذلك كما قرر الشيخ رحمه الله تعالى، يقول: إن يكون العلم المستفاد من خبر الآحاد، نفى الشافعي رحمه الله تعالى أن يكون هذا العلم مساوياً للعلم المستفاد من نص الكتاب وخبر المتواتر، وهذا حق، فإن العلم بتفاوت في القوة والضعف، فالعلم الذي نأخذه من خبر الآحاد ليس كالعلم الذي نأخذه من خبر متواتر، وليس المتواتر من الأحاديث كالعلم المأخوذ من نص الكتاب، لكن يقول: ولو شك في هذا شاك لم نقل له: تب، فماذا يقصد الإمام الشافعي بذلك؟ إنما نكفر أو نضلل من رد ما كان صريحاً من الأخبار، أما ما كانت دلالته محتملة فإنا لا نقول له: تب من بدعتك أو ضلالتك أو كفرك؛ لأن بعض العلماء يكفر رد من خبر الآحاد، والكلام فيه تفصيل وكلام طويل، لكن المقصود أن من رد خبر الآحاد فإنه أقل ما يقال فيه: إنه مبتدع؛ لأنه رد الحديث برأيه أو هواه أو بما يراه معقولاً في نظره، فنقول: يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: نحن لا نقول له: تب إذا كانت الدلالة محتملة، ولكن نقول له: يجب عليك أن تعمل به، كما يجب عليك لو كنت قاضياً أن تقضي بشهادة الشاهدين، مع احتمال أن يكون الشاهدان كاذبين، فكذلك بهذا الحديث مجرد احتمال أن يكون الراوي غلط أو نسي، أو أن الدلالة غير صريحة نقول: هذا الاحتمال يجعلنا لا نقول لك: تب، ولكن نقول لك: يجب أن تعمل، ويجب أن تحكم به.
    3. أخبار الآحاد عند الحنابلة

      وأما مذهب الحنابلة كما هو منقول عن القاضي أبي يعلى نقله ابن القيم رحمه الله تعالى أنه ذكر عن الإمام أحمد أنه قال: (أحاديث الرؤية نؤمن بها، ونعلم أنها حق، قال القاضي: فقطع على العلم بها، وهذا هو اللائق بمذهب الإمام أحمد رحمه الله كما ذكر الشيخ من قبل).
      ثم ذكر في نهاية كلام القاضي أبي يعلى كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في استدراكه عليه، وهو: (أن الطرق غير منحصرة، متى يفيد خبر الآحاد العلم؟ فنقول: لا حصر لذلك؛ لأن القرائن كثيرة، فما يحتف به من القرائن والأحوال في ذلك كثيرة، وقد ذكرنا بعضاً منها، فالواحد إن كان خبراً عن الله في القرآن، أو كان خبراً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إن كان من آحاد الصحابة، وكثير من القرائن تجعل خبر الواحد قطعياً، فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: إن هذه لا تنحصر، وابن القيم يفصل ذلك فيقول: أخبار الآحاد الموجبة للعلم لا تنحصر، بل يجد المخبر علماً لا يشك فيه بكثير منها.
      ففي حياتنا اليومية تأتينا أخبار آحاد، ومع ذلك تعطينا وتفيدنا القطع واليقين، فكيف بما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هو منقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن النقلة الأثبات؟!).
      قال: (كما إذا أخبر من لم يجرب عليه كذباً قط بخبر أنه شاهده؛ فإنه يجزم به جزماً ضرورياً، أو يقارب الضرورة.
      أي: أن أي واحد من الناس إذا أخبره من لا يشك في صدقه: أنني اليوم -مثلاً- رأيت كذا وكذا؛ فإنه يجد ذلك علماً ضرورياً لا يحتاج معه إلى استدلال، فهو ثقة مأمون مطمأن إليه، لم يجرب عليه كذباً، وبالتالي فإنك تقطع به، وتنقله من غير شك، وهذا واقع في حياتنا، يقول: وكما إذا أخبر بخبر عليه فيه ضرر من الأخبار فأخبر به تديناً وخشية لله تبارك وتعالى، كما إذا أتى بنفسه اختياراً، وأخبر عن حد ارتكبه ويطلب التطهير منه. كالذي حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مع قصة ماعز ، ومثله لو جاء إليك شخص آحاد وأخبرك وقال فعلت كذا وكذا على سبيل الخشية والتدين، ويريد منك أن تفتح له باباً للتوبة، أي: كيف يتوب ويتطهر من ذلك؟ فما الذي يجعلك تشك في خبره؟ وما الذي يحمله على أن يكذب حتى يرجم أو يجلد أو يغرم أو يعزر؟ إن هذا يفيد عندك يقيناً أنه صادق، وأن ذلك الأمر قد وقع، فيقول: لا بينة ولا يمين لا مخافة.. إلى آخره، فماذا يلحقه؟ أو أخبر المفتي بأمر فعله ليحصل له المخرج منه -هذا واضح مثله- أو أخبر الطبيب بألمٍ يجده ليرجو من ذلك أنه يعالجه. فهل نقول: هذا خبر واحد ويمكن أن يكون كذاباً، بل نطمئن لكلامه؛ لأنه يخبر عن أمر له في نفسه، ثم ما الذي يحمله أن يذهب ويدعي المرض ويأخذ الدواء وهو غير مريض؟ المقصود أن الناس في الأصل يتعاملون على أن هذا يفيدهم علماً، فيقطعون به ويجزمون به، يقول: إلى أضعاف أضعاف ذلك من الأخبار التي يقطع السامع بصدق المخبر بها، فكيف ينشرح صدراً وينطلق لساناً بأن خبر الصديق ، و عمر بن الخطاب ، و عثمان بن عفان ، و علي بن أبي طالب ، و عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم إذا قالوا: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، أنها لا تفيد علماً البتة؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!).
      أي: إذا كنا نسلم بمثل هذه الأخبار في هذه الأمور العادية ونقطع بها، فالأولى والأحرى أن نقطع بما يقوله هؤلاء الأئمة الأعلام الأجلاء الثقات، الذين هم أعلى الأمة درجةً في الإيمان واليقين والتثبت والأمانة والصدق والإخلاص، وأن نجزم به، ولا يحل لنا بحال من الأحوال أن نقول: إن أخبارهم لا تفيد اليقين أو العلم. ثم يقول: (ونحن نشهد بالله أن هؤلاء كانوا إذا خبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر جزم بصدقهم) أي: الرسول صلى الله عليه وسلم (بل نشهد بالله أن سالماً ، و نافعاً ، و سعيد بن المسيب وأمثالهم بهذه المنزلة) انتقل إلى التابعين (بل مالك ، و الأوزاعي و الليث ونحوهم كذلك، فلا يقع عندنا ولا عند من عرف القوم والاحتمال فيما يقول فيه مالك : سمعت نافعاً يقول: سمعت ابن عمر يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول) لا يقع في هذا احتمال أبداً (ونحن قاطعون بخطأ منازعينا في ذلك) فـابن القيم رحمه الله تعالى يجزم بأننا نقطع بالخطأ، إذ إن المسألة ليست اجتهادية، أي: لا نقول: كلامنا صواب يحتمل الخطأ، وكلام غيرنا خطأ يحتمل الصواب، بل نقول: كلامنا حق، وكلام غيرنا باطل لا يحتمل الصواب لوضوحها عندنا.
    4. أخبار الآحاد عند الحنفية

      ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
      فنواصل النقل عن ابن القيم في مسألة خبر الآحاد، قال رحمه الله: (وصرحت الحنفية بأن الخبر المستفيض يوجب العلم، ومثلوا له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث )، فقالوا: مع أنه إنما روي من طريق الآحاد) والوصية جاءت في القرآن، لكن جاء بعد ذلك آيات الميراث، فقال العلماء: إنها ناسخة لها، وقال البعض: إن الوصية تظل في حدود ما يجوز للإنسان أن يوصي به وهو الثلث، والثلث كثير كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لـسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهذا لغير الورثة، أما الورثة فلا وصية لهم عملاً بحديث: ( إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث )، وأيضاً حديث ابن مسعود رضي الله عنه في المتبايعين إذا اختلفا، فالقول قول البائع أو يترادان، وهو أيضاً في الأحكام العملية الفرعية، وكذلك حديث عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس، وقوله: ( سنوا بهم سنة أهل الكتاب )، فهو حكم عملي فرعي، وليس من العلميات أو الاعتقاديات الخبرية، وكذلك حديث المغيرة بن شعبة و محمد بن مسلمة في إعطاء الجدة السدس كما سبق.
      يقول الحنفية: قد اتفق الخلف والسلف على استعمال حكم هذه الأخبار حين سمعوها، فدل ذلك من أمرها على صحة مخرجها وسلامتها، وإن كان قد خالف فيها قوم فإنها عندنا شذوذ ولا يعتد بهم في الإجماع. أي: أن هناك كثيراً من الأحاديث التي تترتب عليها أحكام عملية، ولكن الأمة تكاد تكون مجمعة عليها مع أنها آحاد، ولا يخالف فيها إلا من شذ، ومنها: حديث: ( إنما الأعمال بالنيات )، فالأمة مجمعة على أن كل عمل لا بد فيه من النية، وكل قربة لا بد فيها من النية.
      ومنها: حديث: ( نهى النبي عن بيع الولاء وهبته ) كما مثل بهذا شيخ الإسلام رحمه الله.
      ومنها: ( أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر )، أي: لم يدخلها عام الفتح محرماً، وهذا أيضاً آحاد، لكنه مقطوع به عند الأمة، أي: لم تختلف الأمة بأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة غير محرم.
      ومنها: الجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها. فقد اتفقت عليه الأمة.
      ومنها أيضاً: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. فقد اتفقت عليه الأمة مع أنه آحاد.
      وكذلك ما اتفقت عليه الأمة، وقد كان الخلاف فيه في أول الأمر، مثل: أن الغسل يجب بالجماع وإن لم ينزل، فقد اتفقت عليه الأمة، وإن كان بين الصحابة في أول الأمر شيء من الخلاف.
      ومنها: أن المطلقة ثلاثاً لا تحل للزوج الأول حتى تنكح زوجاً آخر، وليس فقط مجرد العقد.
      ومنها: حديث الطهارة أو الوضوء: ( لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ )، فهو آحاد، ومع ذلك فالأمة مجمعة على ذلك.
      ومنها أيضاً: الولاء لمن أعتق، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الولاء لمن أعتق )، فكل فقهاء الإسلام على هذا، مع أنه أيضاً آحاد.
      ومنها: زكاة الفطر، فهي ثابتة أيضاً بالآحاد، ومع ذلك فالأمة مجمعة عليها.
      إذاً كثير من الأحاديث قد أجمعت الأمة عليها، وهي أحاديث آحاد، ولم يخالف فيها أحد، وما مثل به القاضي أبو بكر الرازي الحنفي هو جزء أمثلة وغيره كثير، فيقول: (إنما قلنا: ما كان هذا سبيله من الأخبار فإنه يوجب العلم بصحة مخبريه من قبل أنا إذا وجدنا السلف الصالح قد اتفقوا على قبول خبر هذا وصفه من غير تثبت فيه ولا معارضة بالأصول) أي: إذا كان الخبر هذا شأنه وحاله، فإنا قد وجدنا السلف الصالح قبلوه من غير تثبت وتردد فيه، بل وأجمع عليه السلف، وأما قوله: أو معارضة بأصول، أي: لم يقولوا: هذا الخبر تعارضه الأصول، وهذا عند الحنفية مشهور، إذ إن بعض الأخبار تعارضها الأصول، فيردون الخبر، أو بخبر مثله، أي: إذا تعارضت الأحاديث، وهذه مسألة أخرى خارجة عن موضوع كلامنا؛ لأننا نتكلم في رد الحديث لمجرد أنه آحاد، أما إذا قال: أنا لا أعمل بهذا الحديث؛ لأن عندي حديثاً يعارضه هو أقوى منه أو ناسخ له، فهذه مسألة أخرى من باب الترجيح، والجمع إن أمكن وإلا فالترجيح، يقول: مع علمنا بمذاهبهم في قبول الأخبار -إذا كان هذا حالهم رضي الله تعالى عنهم- والنظر فيها وعرضها على الأصول، دلنا ذلك من أمورهم على أنهم لم يصيروا إلى حكمة إلا من حيث ثبت عندهم صحته واستقامته، فأوجب لنا العلم بصحته. وبالتالي فهو يفيد العلم.
      قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذا لفظ أبي بكر الرازي في كتابه: أصول الفقه ، وهو من أئمة الحنفية.
      وعليه فالحنفية كالشافعية يرون أن أحاديث الآحاد تفيد اليقين أو العلم.
  2. حكم من يجحد خبر الواحد الثابت

     المرفق    
    يقول: (وقد ذهبت جماعة من أهل الأصول على أن الإجماع إذا انعقد على العمل بخبر الواحد صار كالمتواتر، حكى ذلك ابن برهان واختار أنه لا يصير، وذهب جماعة إلى أن الواحد إذا ادعى على جماعة بحضرتهم صدقه فسكتوا، كان سكوتهم تصديقاً له، فيكون كالمتواتر) وهذا مما يستأنس به وإن لم نجزم به (وذهب جماعة من أصحاب الإمام أحمد إلى تكفير من يجحد ما ثبت بخبر الواحد العدل. أي: من جحد حديثاً ثبت صحة سنده ومتنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذهب جماعة من أصحاب أحمد إلى تكفيره، قال: والتكفير مذهب إسحاق بن راهويه). أي: أن ابن القيم رحمه الله تعالى يريد أن يقول: إن بعض العلماء ومنهم الإمام المعروف إسحاق بن راهويه ، والذي يقارب الإمام أحمد رحمه الله تعالى في علمه وتمكنه في الحديث، وهو إمام من أئمة مذهب أهل الحديث، ومعه طائفة من أصحاب الإمام أحمد ، وطائفة من الفقهاء الذين رأوا أن خبر الواحد تلقته الأمة بالقبول، وعملت به؛ أنه يصير كالإجماع، ومنكر الإجماع عندهم كافر، يقول: هذه الثلاثة من مجموعها يقال: إن من رد خبر الواحد فهو كافر.
    إذاً المسألة خطيرة جداً، وليست القضية قضية خلاف، بل ينبني عليها تكفير المخالف، ولا يكتفى بتضليله أو بتبديعه، والشيخ هنا لا يقصد موضوع التكفير بالذات، لكن ليقوي كلام الجمهور أو كلام أهل السنة والجماعة الذين يقولون: إن خبر الواحد يفيد العلم.
  3. شبهة من يرى بأن خبر الآحاد يفيد الظن وأثر ذلك في إضلال الخلق

     المرفق    
    والشبهة التي ضلوا فيها، والمنزلق الذي وقعوا فيه كما قال رحمه الله تعالى: (إنما أتي منكر إفادة خبر الواحد العلم من جهة القياس) القياس الفاسد (فإنه قاس المخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرع عام للأمة، أو بصفة من صفات الله تبارك وتعالى على خبر الشاهد في قضية معينة).
    وقد ذكرنا سابقاً الأقوال فقال بعضهم: (لا يجوز أن نقبل الحديث إلا إذا كان راويان فأكثر) وقلنا ما حجتهم والذين قالوا: ثلاثة أو أربعة قالوا: القياس على الشهادة، ولذلك نجد هذا في كتب الأصول، إذ إن كثيراً من الأصوليين المتكلمين يقولون: لا بد من اثنين، أي: لا يقبل الخبر العدل إلا إذا رواه اثنان، قياساً على الشهادة، يقول ابن القيم رحمه الله هذا قياس فاسد؛ لأنهم قاسوا من أخبر عن الله، عن حكم عام للأمة، عن صفة من صفات الله على شاهد في قضية من قضايا الحقوق الدنيوية، ويا بعد ما بينهما، فإن المخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قدر أنه كذب عمداً أو خطأً ولم يظهر ما يدل على كذبه لزم من ذلك إضلال الخلق.
    ففرق بين هذا وذاك، فما يتعلق بالتشريع يختلف عما يتعلق بحقوق العباد، فلو شهد شاهدان على أن هذا المال لفلان ابن فلان، وحكم القاضي بذلك، وفي الحقيقة الأمر خلاف ذلك، فإنه لا يترتب عليه أكثر من كونه يأثم هو والشهود، والله تبارك وتعالى يوم القيامة يجازيهم على شهادة الكذب والزور، ويجازي ذلك أيضاً على دعواه الباطلة، ويرد لصاحب الحق حقه من حسنات ذلك الظالم، وهذا غاية ما في الأمر، أما لو أن أحداً كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافترى عليه وقال: إن الله حرم كذا، أو إن الله أحل كذا، أو إن الله تبارك وتعالى من صفته كذا وكذا، أو أن في عذاب القبر كذا، أو أن الميزان أو الصراط كذا، أو أنه يقع يوم القيامة كذا، ولم يتبين هذا الحق مطلقاً، ولم يجد من يبينه، ولا من يكشفه؛ فإن الذي يترتب عليه هو إضلال الخلق، والاعتقاد في الله وفي دين الله خلاف الحق، وأن يتعبدوا بالباطل، وأن يحرموا الحلال، أو يحلوا الحرام، فالله سبحانه وتعالى ينزه شرعه ودينه، وتتنزه حكمته سبحانه وتعالى وأفعاله أن يكون فيها هذا، أن يسكت أو يقر أو يريد ذلك سبحانه وتعالى، وكذلك أن يقره، أو يسكت عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يسكت عنه علماء الأمة فلا يبينوا حكمه، أي: تطبق الأمة كلها عليه وتعمل به وهو حديث موضوع لا يمكن أبداً أن يقع ذلك، ولهذا يوضح رحمه الله تعالى فيقول: (إذ الكلام في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول، وعملت بموجبه، وأثبتت به صفات الرب وأفعاله؛ فإن ما يجب قبوله شرعاً من الأخبار لا يكون باطلاً في نفس الأمر، لا سيما إذا قبلته الأمة كلهم).
    فهذا موضوع الخلاف بيننا وبينهم -الخبر الذي هذا حاله- وهكذا يجب أن يقال في كل دليل: يجب اتباعه شرعاً. أي: يجب أن يقال: إن كل دليل يجب اتباعه شرعاً لا يكون إلا حقاً، وهذه قاعدة، ولو قلنا غير ذلك لجاز أن تتعبد الأمة بالباطل، وهذا محال على الله تبارك وتعالى أن يجمعها عليه؛ فإنها لا تجتمع على ضلال، أما إذا تعبد بعضها به، لكن البعض الآخر أنكر، فإن الله يقيم الحجة على من تعبد بالباطل بمن أنكره وبين أنه باطل، وبالتالي فما دام حقاً فيكون مدلوله ثابتاً في نفس الأمر، وقوله: يكون مدلوله ثابتاً في نفس الأمر. ليس مجرد أنه ثابت من جهة العمل، لكن ثابت في الواقع ونفس الأمر، فهو مطابق للواقع، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قاله على الحقيقة، وليس مجرد أنه ما دام جاءنا حديث نعمل به، مع احتمال أنه لم يقله، فنقول: لا، يجب أن نعتقد أنه ثابت وواقع في نفس الأمر. يقول: (هذا فيما يخبر به عن شرع الرب تعالى وأسمائه وصفاته، قال: بخلاف الشهادة المعينة على مشهود عليه معين، فهذه لا يكون مقتضاها ثابتاً في نفس الأمر.
    مثلما قلنا: لو شهد جماعة على مبلغ من المال أو أرض فلا يشترط أن يكون مدلول الشهادة ثابتاً في نفس الأمر) قال: (وحرف المسألة) يبدوا لي أنها محرفة، فإما أن تكون: وحقيقة المسألة، أو وسر المسألة، والأقرب: وحقيقة المسألة، قال: (إنه لا يجوز أن يكون الخبر الذي تعبد الله به الأمة، وتعرف به إليهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات أسمائه وصفاته كذباً باطلاً في نفس الأمر؛ فإنه من حجج الله على عباده، وحجج الله لا تكون باطلاً، ولا تكون كذباً، بل لا بد أن تكون حقاً في الواقع ونفس الأمر).
  4. مدى صحة تكافؤ أدلة الحق مع أدلة الباطل

     المرفق    
    الاحتمال الثاني: لو قال قائل: هل يجوز أن تتكافأ أدلة الحق وأدلة الباطل فيشتبه الأمر ويلتبس على الإنسان؟ لا يجوز، فكيف بأن يكون الحق باطلاً والباطل حقاً؟!
    يقول: (ولا يجوز أن تتكافأ أدلة الحق والباطل، ولا يجوز أن يكون الكذب على الله وشرعه ودينه مشتبهاً للوحي الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وتعبد به خلقه، بحيث لا يتميز هذا من هذا، فإن الفرق بين الحق والباطل، والصدق والكذب، ووحي الشيطان ووحي الملك عن الله، أظهر من أن يشتبه أحدهما بالآخر). وبالتالي فالفرق عظيم جداً في المعرفة، وهو فرق جلي، وليس كمثل شهادة الشهود على أمر من الأمور، إذ إنه هنا إما حق ووحي ونور أوحاه الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم أخبر به أصحابه، وحدثوا به، ونقله إلينا الثقات العدول عنهم، وإما إفك باطل مفترىً اختلقه أحد الوضاعين، ونسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسألة في هذا عظيمة جداً، وليست مثل: أن يشهد شاهدان على أن هذا المال لفلان، فيعارضهما شاهدان في ذلك، فتشتبه المسألة على القاضي لمن يحكم؟ لا، فهذا حق نور، وهذا باطل صريح لا خفاء فيه، لكن على من يقع الاشتباه؟ إن وقع اشتباه فهو دليل على ضعف فيمن اشتبه عليه ذلك، ولهذا تروج البدع والأحاديث المكذوبة، وتنتشر الأحاديث الموضوعة المختلقة على الجهلة، إما جهلاً مطلقاً، وإما جهلاً خاصاً، أي: الجهل بالحديث وطرقه وصحته وأسانيده ورجاله، ولو كان عالماً في النحو أو عالماً بالفقه، لكن ليس لديه علم بالحديث، ومعرفة صحيحه من سقيمه، فقد يشتبه عليه الأمر، لكن نحن نتكلم في أهل الفن وفي حملته، وهم أهل الحديث المتقنون، ولذلك لما رد الله تعالى على القائلين: بأن القرآن قول كاهن أو قول شاعر وما أشبه ذلك مما افتراه المشركون، بين سبحانه وتعالى كذبهم بنوع الواسطة التي بين النبي والكاهن أو الشاعر، وهذا أمر.
    والأمر الآخر: نوعية القول الذي يقوله الشاعر أو الكاهن أو النبي، فلا الواسطة كالواسطة، ولا الكلام كالكلام، فكيف يشتبه هذا بهذا: (( هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ))[الشعراء:221-222]، (( يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ ))[الشعراء:223]، وهذا نفي أو تأكيد لما قال: (( وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ))[الشعراء:210-212]، أي: لا يمكن أن يصلوا إليه أبداً، ثم الشياطين تنزل على هؤلاء، فالكهان واسطتهم ووحيهم يأتي من الشياطين، حالهم: أفاكون دجالون كاذبون، وبالتالي لا يمكن أن يكون ذلك شبيهاً بهذا الحق، ولم يجعل الله تبارك وتعالى الشعراء كما يقول بعض الأدباء في كتب الأدب وغيرها: إن كل شاعر له جني، إذ إن الله تعالى لم يجعل ذلك إلى الواسطة، لكن جعله إلى حال الشعراء، أي: هل يشتبه حال الشاعر بحال النبي؟ قال: (( وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ))[الشعراء:224]، فإذا كان اتباعهم غاوين فهم أغوى الغاوين، ورأس الغواية إلا من استثناهم الله، والكلام في شعراء الجاهلية وأشباههم، فهل يختلط هذا بهذا؟! أو هل يختلط من يتبعه الصديقون الأطهار الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر الأمناء البررة الأتقياء، بمن يتبعه الرعاع والأراذل أينما ذهب؟ أو هل يقارن هؤلاء صحبة الشعراء بصحبة الأنبياء؟ لا يمكن، قال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ ))[الشعراء:225] هل يكون هذا كالقرآن؟ إن القرآن فصل عدل في الأحكام، صدق في الأخبار، حق فيما يخبر به عن كل شيء، وعن كل ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم -حتى من غير القرآن- فهو حق وعدل، فهل يشتبه بكلام الشعراء الذين هم في كل واد يهيمون، فلا يتركون حقاً ولا باطلاً، يقولون الحق والباطل، يمدحون النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يمدحون الطواغيت والكهان الدجالين وغيرهم، وهذا في المدح، وأما في الهجاء فيهجون الأفاضل الأبرياء، ويقذفون المحصنات الغافلات المؤمنات، ويهجون أيضاً المجرمين، فهم في كل واد يهيمون، وما يمدحه اليوم يذمه غداً، وحياتهم هكذا، فليس لهم مبدأ، وأكبر شاعر وأشهر شاعر عند العرب هو المتنبي ، ونصف ديوانه في مدح كافور ، إذ جعله أسطورة تاريخية، وفي النهاية هجا كافوراً :
    عيد بأية حال عدت يا عيد             بما مضى أم لأمرٍ فيك تجديد
    فليس لهم ثبات مبدأ، وهكذا إذا أراد الشاعر أن يتحدث عن مدينة من المدن يقول: هذه جنة الدنيا، هذه أجمل ما فوق الأرض، ثم إذا انتقل لبلد آخر قال: هذه أجمل وأفضل شيء، وكلما ذهب إلى ثالث ورابع قال ذلك، وكذلك إذا مدح كريماً قال: هذا أكرم الناس، هذا أكرم الخلق، وكلما مدح واحداً يصبغ عليه من الصفات ما قالها في الأول والثاني والثالث والعاشر، إذاً هم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، والنبي صلى الله عليه وسلم بخلاف ذلك كله، فهو يفعل ما يقول صلوات الله وسلامه عليه من العبادة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخير والفضيلة وهكذا، والمقصود: لا يشتبه هذا بهذا أبداً من جهة موضوع كل من القولين أو من الأمرين، فلذلك الخبراء بهذا العلم إذا جيء له بحديث أول ما ينظر إليه يقول: هذا الحديث لا يمكن أن يصح بدون أن يتأكد، أو يبحث عن سنده؛ لأنه أصبح لديه خبره، فهو يعلم أن هذا كذب.
    وعليه فالمقصود أنه لا يلتبس نور الشمس بظلام الليل أبداً، والوحي الحق الذي ثبت أنه وحي مثل نور الشمس، والمختلق الموضوع على كلام الرازي يمكن بعض الناس يختلق أحاديث أو يضعها، فهو مثل ظلام الليل ليس بينهما اشتباه إلا عند ضعيف البصر أو الأعمى.
    1. إمكانية تمييز الحق من الباطل في أحاديث الآحاد

      يقول: (وقد جعل الله على الحق نوراً كنور الشمس، يظهر للبصائر المستنيرة، وألبس الباطل ظلمة كظلمة الليل، وليس بمستنكر أن يشتبه الليل بالنهار على أعمى البصر والعياذ بالله، كما يشتبه الحق والباطل على أعمى البصيرة والعياذ بالله. قال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه في وصيته) أي: عند موته ووصيته ثابتة بالأسانيد الصحيحة وهي وصية عظيمة جداً، ذكر فيها ما يجب على طالب العلم قال: (تلق الحق ممن قاله، فإن على الحق نوراً).
      قالوا: كيف نتقي جدال المنافقين بالقرآن؟ وكيف نقبل كلمة المنافق وإن كانت حقاً؟ قال: اقبل الحق أو تلقى الحق؛ فإن على الحق نوراً ولو كان القائل به منافقاً. أي: خذه واقبله وصحح قلبك؛ لأنك إذا جليت قلبك ونظفته يعرف الحق؛ لأن على الحق نوراً يقبله القلب السليم، ويصدقه بإذن الله، وتأمل هذا الكلام العظيم لـابن القيم رحمه الله: (ولكن لما أظلمت القلوب، وعميت البصائر بالإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وازدادت الظلمة باكتفائها بآراء الرجال، التبس عليها الحق والباطل). وهذا حق، فوالله ما ضل الناس، وما التبست عليهم الحقائق إلا عندما أظلمت القلوب، وعميت البصائر بالإعراض عن منبع الوحي النقي، والأخذ من الكتاب والسنة الصحيحة أخذاً مباشراً، والأخذ من كلام السلف أخذاًَ مباشراً، واكتفوا بالآراء والأقيسة وكلام الرجال وما أشبه ذلك، فضاعوا وتاهوا إلا من رحم الله، فكيف بالضياع العظيم وهو الإعراض عن هذا الدين بالكلية؟ حتى ما كان من اجتهاد البشر، ككلام الفقهاء وأمثاله، والأخذ من النظريات والمناهج والفلسفات الجاهلية اليونانية أو الأوروبية الحديثة، أو أي نظرية، فهذا لا شك أنه العمى المطبق، والظلمة الكاملة التامة لأهلها والعياذ بالله، والحق والنور إنما يأتي بالأخذ والتلقي المباشر من الكتاب والسنة، وكلام علماء السلف من الصحابة ومن بعدهم، ثم بعد ذلك الاستعانة على ما غمض وصعب بأفهام العلماء، لكن أن يبدأ الإنسان، أو أن يضل مكتفياً بآراء الرجال وخلافاتهم، فإنه يتوه ويضيع وتلتبس عليه الأمور، وليس هذا مجال التفصيل فيه هنا، لكن نقول: عندما حدث هذا الالتباس والاشتباه جوزت هذه القلوب على أحاديثه الصحيحة التي رواها أعدل الأمة وأصدقها أن تكون كذباً، وجوزت على الأحاديث الباطلة المكذوبة المختلفة التي توافق أهوائها أن تكون صدقاً فاحتجت بها، ثم عاد ليقول: (وسر المسألة أن خبر العدول الثقات الذي أوجب الله تعالى على المسلمين العمل به هل يجوز أن يكون في نفس الأمر كذباً وخطأً، ولا ينصب الله تبارك وتعالى دليلاً على ذلك؟
      من قال: إنه يوجب العلم يقول: لا يجوز ذلك، بل متى وجدت الشروط الموجبة للعمل به وجب ثبوت مخبره في نفس الأمر)، أي: ما دام قد تحققت شروط العمل به، فلا يجوز أن يشرع الله لنا ما يجب علينا أن نعمل به إلا وهو حق ثابت في نفس الأمر، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قاله، قال: (وعلى هذا تنازعوا في كفر تاركه. أي: وقع الخلاف في تكفير من لم يعمل بحديث الآحاد؛ لكونه من الحجج العلمية، كما تكلموا في كفر جاحد الإجماع). أي: أن من رد الخبر الصحيح اعتقاداً لغلط الناقل أو كذبه، أو لاعتقاد الرازي أن المعصوم لا يقول هذا، أو لاعتقاد نسخه ونحوه، فرده اجتهاداً وحرصاً على نصر الحق؛ فإنه لا يكفر بذلك ولا يفسق، أما مجرد أن أحداً لا يعمل بحديث آحاد، أو يرده لاعتقاد أنه غير ثابت، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يقول هذا الكلام، أو أن الناقل أخطأ أو كذب وأمثال ذلك؛ فهذا لا يكفر؛ لأنه لم يقصد مضادة ومحادة الوحي، وإنما يقول: هذا عندي غير ثابت، وهو مجتهد في ذلك إذا كان أهلاً للاجتهاد.
  5. موقف ابن تيمية من كلام الإمام أحمد في خبر الآحاد

     المرفق    
    1. خبر الآحاد عند شيخ الإسلام ابن تيمية

      وهناك كلام نفيس جداً لـشيخ الإسلام رحمه الله ينقله الشيخ بعد هذا الكلام، يقول: (قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد قسم الأخبار إلى: تواتر وآحاد، فقال بعد ذكر التواتر: وأما القسم الثاني من الأخبار) يعني الآحاد فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل، ونحوه ولم يتواتر لفظه ولا معناه، ولكن تلقته الأمة بالقبول عملاً به أو تصديقاً له. كخبر عمر رضي الله تعالى عنه: ( إنما الأعمال بالنيات... ) وبقية الأخبار التي ذكرنا.
      يقول: (فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، سواء الجماهير من الأولين والآخرين، أما السلف فلم يكن بينهم في ذلك نزاع)، ولم يقل أحد من الصحابة والتابعين من السلف: إن خبر الآحاد لا يؤخذ -والحمد لله- فهو إجماع على ذلك، (وأما الخلف، فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة، والمسألة منقولة في كتب: الحنفية والمالكية والشافعية والحنبلية، مثل: السرخسي و أبي بكر الرازي من الحنفية، والشيخ و أبي حامد الإسفراييني ، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي من الشافعية، وابن خويز منداد من المالكية، والقاضي أبي يعلى و ابن أبي موسى و ابن الخطاب وغيرهم من الحنبلية، وأبي إسحاق السراييني و ابن فورك و أبي إسحاق النظام من المتكلمين) حتى من المتكلمين من هو على مذهب الجمهور وعلى مذهب السلف، وإنما نازع في ذلك طائفة كـابن الباقلاني ومن تبعه مثل أبي المعالي و الغزالي ،وهؤلاء أشاعرة .
      إذاً فالذي خالف في ذلك المتكلمون الأشاعرة ، و ابن عقيل ، ثم تعرض لكلام أبي عمرو بن الصلاح الإمام الحافظ في مقدمته : علوم الحديث، وأنه رحمه الله تعالى ذكر القائلين بهذا القول، لكن لم يستوفهم ولم يبينهم، فيظن الظان الرآي لكلامه أنه لم يقله إلا هؤلاء، وبين ابن القيم رحمه الله السبب في ذلك، وهو أن الذين يبحثون في هذه المسألة ينقبون في كتب المتأخرين ولا يتقدمون، فإنه يكون غاية ما يرجعون إليه كلام ابن الحاجب ، فإن ارتفعوا في السند أخذوا كلام الآمدي صاحب الأحكام و أبكار الأفهام وغيرهما من الكتب، فإن ارتفعوا عن الآمدي ارتفعوا إلى ابن الخطيب وهو ابن الفخر الرازي ، وإن ارتفعوا أكثر فإلى الغزالي و الجويني و الباقلاني ، فهم لا ينقلون كلام الأئمة من القرون الثلاثة وغيرهم، إلى أن قال: (والحجة على قول الجمهور أن تلقي الأمة للخبر تصديقاً وعملاً يعد إجماعاً منهم) لا بد أن نضيف كلمة: (يعد) أو (يكون) إجماعاً منهم (والأمة لا تجتمع على ضلالة، كما لو اجتمعت على موجب عموم أو مطلق أو اسم حقيقة أو على موجب قياس، فإنها لا تجتمع على خطأ، وإن كان الواحد منهم لو جرد النظر إليه لم يؤمن عليه الخطأ) أي: أن الواحد من الصحابة أو التابعين يمكن أن يخطئ في الحفظ وفي النقل، لكن الأمة بمجموعها لا تجتمع على خطأ، والحمد لله.
      يقول: (الأمة معصومة عن الخطأ في روايتها ورأيها ورؤياها) وهذه عبارة عظيمة، والرواية المراد بها: نقل الحديث -بمعناه العام- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي معصومة في النقل والرواية، والرأي هو اجتهاد، فإذا اجتهد علماء الأمة وفقهاؤها، ثم أجمعوا على أمر واتفقوا عليه؛ فإنه يكون معصوماً بإذن الله تعالى، إذ لا يمكن أن يجتمعوا على الباطل أو يخرج الحق عنهم، والرؤيا: ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في رؤيا أصحابه؟ قال: ( أرى رؤياكم قد تواطأت أنها في العشر الأواخر، فالتمسوها في العشر الأواخر )، فصحح النبي صلى الله عليه وسلم تواطؤ الرؤيا، فكيف بتواطئ روايتهم، والذي يشاهدونه وينقلونه على الحقيقة؟ وهذا استدلال قيم منه رحمه الله فيقول: ( أرى رؤياكم قد تواطأت على أنها في العشر الأواخر، فمن كان منكم متحريها فليتحرها في السبع الأواخر ).
      ثم قال رحمه الله: (واعلم أن جمهور أحاديث البخاري و مسلم من هذا الباب) أي: من باب ما تلقته الأمة بالقبول؛ لأن المنتقد عليهم أحاديث معدودة، والمنتقد لهم منازع في انتقاده أيضاً، كالإمام الدارقطني رحمه الله تعالى، فإما أن يجاب عنه إجابة كلية، وإما إجابة تفصيلية، فنجمل الإجابة فنقول: إن ما تلقته الأمة بالقبول فهو مقبول وثابت، وإن كان قد ينازعك فيقول: أنا من الأمة وقد خالفت، ونقول: ما انتقد عليهما منه ما كان النقد في غير محله، بمعنى: أن الخطأ من الناقد والحق معهما، وهذا أكثر ما انتقد على البخاري ، مع أن الحق معه رحمه الله، وليس مع الدارقطني ولا غيره، وهذا أحد الأجوبة.
      والأمر الثاني: أن يكون الناقد نظر إلى الشرط، بمعنى: أن هذا الحديث ليس على شرط البخاري ، لكنه يصح على غير شرطهما، لكن فقط الانتقاد موجه إلى أنه ليس على ما اشترطاه.
      وأمر آخر: أن يكون ما انتقد عليهما حق، لكنه في الشواهد والمتابعات وليس في الأصل، وهذا كثير عند مسلم .
      وأمر آخر أن يقال: إن ما ضعفته أيه المنتقد قد صححاه، وليس قبولنا لتضعيفك بأولى من قبولنا لتصحيحهما، إذ هما أئمة ثقات أثبات بهذه الدرجة من العلم، والواحد منهما إن لم نقل: إنه أوثق منك فهو مثلك، فليس أخذنا لكلامك بأولى من أخذنا لكلامهم، فأقل ما في الأمر أنهما تساويا، لكن الأمة أجمعت على تلقي هذين الكتابين بالقبول، فيكون تلقي الأمة لهما بالقبول مرجحاً لهما، ورد على انتقادك لهما، والشيخ رحمه الله تعالى عبارته دقيقة، إذ قال: (واعلم أن جمهور أحاديث البخاري و مسلم). فقال: جمهور الأحاديث وليس كل لفظ فيها.
      إذاً ما كان من المتابعات والشواهد، ما كان من الألفاظ في الصحيحين غيره ثابت معترض عليه باعتراض صحيح لا يدخل في هذا؛ لأنه ليس كل لفظ في الصحيحين ثابت، أما الحديث فصحيح، ففرق بين هذا وهذا، فلو جزمنا أن كل حديث في الصحيحين صحيح قطعاً فلا يلزم من ذلك أن كل لفظ فيهما صحيح قطعاً، بل هناك أربعة أحاديث يمكن أن يجزم بأنها غير صحيحة بجميع ألفاظها، وهي في صحيح مسلم بينها ابن تيمية رحمه الله تعالى.
      إذاً يقول الشيخ ابن تيمية رحمه الله: (إن الأمة معصومة في تلقيها لأحاديث الصحيحين بالقبول، والأمر ليس كما قال الفخر الرازي : إنهما ما كانا عالمين بالغيوب، وأن الزنادقة وضعوا أحاديث، وكان الذي في قلوبهما يقبلان أحاديثهما، فأدخلوا في الصحيحين أحاديث مكذوبة وموضوعة، وليس الأمر كذلك، إذ إن الطعن في الصحيحين طعن في عدالة وتواطؤ وتلقي الأمة لهما بالقبول).
      لكن قد يرد سؤالاً وهو: إذاً فالاعتبار بكلام من؟
      قال الشيخ ابن تيمية رحمه الله: (ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول والتصديق فهو محصل للعلم مفيد لليقين، ولا عبرة بمن عداه من المتكلمين والأصوليين، فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به دون غيرهم -من العلوم- كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها دون المتكلمين والنحاة والأطباء). هل يقبل كلام الأطباء أو المتكلمين في الأحكام الفقهية؟ لا، فإذاً الاعتبار في الإجماع في كل فن هو باعتبار أهل ذلك العلم، وحملة ذلك الفن، وكذلك يقول: (لا يعتبر في الإجماع على صدق الحديث أو عدم صدقه إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله، وهم علماء أهل الحديث العالمون بأحوال نبيهم صلى الله عليه وسلم، الضابطون لأقواله وأفعاله، المعتنون بها أشد من عناية المقلدين لأقوال متبوعيهم) أي: إذا جاءك الشافعي أو الحنفي أو الحنبلي أو المالكي وقال: أنا متأكد أن هذا الكلام قاله إمامي، وهو مروي براوية فلان ابن فلان عنه، فنقول: عناية واهتمام المحدثين لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد من عنايتكم بكلام إمامكم المقلد المتبوع.
      إذاً لا بد أن يكون كلامهم حقاً، فلذلك إذا قال أحد: هذا ليس من مذهب مالك ، أو هذا من مذهب مالك ، لأني أعرف طرقه وأصوله، قلنا: فكذلك علماء الحديث يجزمون ويعلمون أن هذا الحديث من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ليس من كلامه؛ لمعرفتهم لكلامه صلى الله عليه وسلم.
    2. تعقيب ابن تيمية على كلام الإمام أحمد في خبر الآحاد

      يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الاستشهاد على هذا بعد أن بين أن الإمام أحمد يقول: (إن أحاديث الآحاد تفيد العلم كما تفيد العمل) فقد استشهد رحمه الله على ذلك بأن الإمام أحمد يشهد للعشرة المبشرين بأعيانهم بأنهم في الجنة، وهذا يدل على أنه يفيد العلم؛ لأنه حكم على معين، يقول: (قال الذين يقولون: أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم تفيد العلم لهم أدلة، منها: قول الله تعالى: (( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ))[النجم:3-5]، فالذي لا ينطق عن الهوى هو النبي صلى الله عليه وسلم، فكل ما يقوله حق) ثم يقول: (وقال تعالى آمراً لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: ((إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ))[الأنعام:50]، وهذا مثل قوله في الآية الأخرى: (( قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ ))[الأنبياء:45]، وبالتالي فالكلام كله وحي، ولا مجال فيه لغير ذلك) يقول: (وقال تعالى: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))[الحجر:9]، فقد تكفل الله تبارك وتعالى بحفظ هذا الدين، وقال تعالى: (( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ))[النحل:44]، فوجه الشاهد من الآية: أن السنة مبينة الوحي، ومبين الوحي وحي، فالله تبارك وتعالى أنزل إليه الذكر، وأوكل إليه بيان هذا الذكر، وبيان الحق حق، وإذا كان البيان معصوماً فإن مبينه أيضاً معصوم).
      قال: (قالوا: فعلم أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين كله وحي من عند الله، وكل وحي من عند الله فهو ذكر أنزله الله، فقد قال تعالى: (( وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ))[النساء:113]، فالكتاب القرآن، والحكمة السنة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وإني أوتيت الكتاب ومثله معه ) ) -والمثل هو السنة- فأخبر أنه أوتي السنة كما أوتي الكتاب، والله تعالى قد ضمن حفظ ما أوحاه إليه وأنزله عليه؛ ليقيم به حجته على العباد إلى آخر الدهر) أي: إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إلى أن تأتي الريح الطيبة فتقبض أرواح المؤمنيين، ويرفع القرآن من الدنيا، وحجة الله على عباده قائمة، وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع من كل أحد، ولا بد أن يجد الحجة عليه قائمة، ولا اعتراض عليه لوجه من الوجوه، يقول: (وقالوا: فلو جاز على هذه الأخبار أن تكون كذباً لم تكن من عند الله، ولا كانت مما أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وآتاه إياه تفصيلاً لكتابه وتبييناً له، وكيف تقوم حجته على خلقه بما يجوز أن يكون كذباً في نفس الأمر). كما تزعمون أنتم في أحاديث الآحاد؟! يقول: فإن السنة تجري مجرى تفسير الكتاب وبيان المراد، فهي التي تعرفنا مراد الله من كتابه، فلو جاز أن تكون كذباً وغلطاً لبطلت حجة الله على العباد. ومثل ما بينته السنة من الكتاب: الصلوات الخمس، بينما هؤلاء القرآنيون -كما يزعمون- يقولون: إن الصلاة صلاتان؛ لأن القرآن ليس فيه إلا: (( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ))[الإسراء:78]، فهما صلاتان في الصباح وفي المساء، فانظر إلى هذا الكفر والعياذ بالله، بينما المسلمون جميعاً: المبتدع والضال والمهتدي وأهل السنة و الروافض و الصوفية وغيرهم مجمعون على أنها خمس صلوات، لكن هل هذه الخمس موجودة في القرآن بركعاتها؟ لا، فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم، في السنة، وعليه فلا غنى بالكتاب عن السنة، بالوحي المحفوظ لفظه ومعناه عن الوحي المبين له، والذي هو اللوح المحفوظ بحفظ النقلة الأثبات، فإذا كانت حجة الله لا تقوم على العباد إلا به، فلا بد أن يكون داخلاً في المحفوظ، فلو أن أحداً يتعبد الله بصلاتين في اليوم فهل يقبل ذلك منه؟ وكيف تكون الحجة قائمة عليه بأن الصلوات خمس؟ وبماذا تكون قائمة عليه؟ بالسنة، إذاً السنة داخلة في الوحي وفي البيان وفي الشرع فيما يجب على كل أحد أن يعتقده، وأن يعمل به، فهي من جملة حجة الله على الخلق؛ فإذا فرق أحد فجعل السنة غير مقبولة، أو لا تفيد العلم، أو شكك فيها؛ لأنها آحاد -وأكثر السنة آحاد- فقد فرق بينهما، وعلى هذا يقول: إن حجة الله على العباد لم تقم. فلو صلى الرجل صلاتين في اليوم لكان ذلك كافياً، وهذا لا يقوله إلا هذه الشرذمة الخبيثة التي هي الباطنية أقرب وليست من فرق الإسلام، فهي خارجة عن الإسلام بإجماع المسلمين، ثم يقول: (ولقال كل من احتج عليه بسنة تبين القرآن وتفسيره، قال: هذا في خبر واحد لا يفيد العلم، فلا تقوم عليّ حجة بما لا يفيد العلم، وهذا طرد هذا المذهب الفاسد).
      أي: يطرد هذا المذهب الفاسد كمابينا في كلام الرازي وأمثاله، فكل من قلت له: هذا حلال وهذا حرام يقول لك: هذا خبر آحاد، فلا تقوم الحجة على أحد والعياذ بالله، يقول: واطراد الناس له من يطردهم -أي: أبعدهم عن العلم والإيمان- والذي يقتضي منهم العجب أنهم لا يرجعون إلى أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجة أنها لا تفيد العلم، ويرجعون إلى الخيالات الذهنية، والشبهات الباطلة التي تلقوها عن أهل الفلسفة والتجهم والاعتزال، ويزعمون أنها براهين عقلية، يقول الشيخ رحمه الله: العجيب من أمر هؤلاء القوم أنهم لا يرجعون إلى أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: هذه أحاديث آحاد، وهذه ظنية لا تفيد العلم ونحو ذلك، وبالتالي إلى أي شيء ترجعون في الكلام فيما تريدون الكلام فيه من أمور الدين، وأعظم ذلك وأجله معرفة الله وما يليق به مما لا يليق به تبارك وتعالى؟ قالوا: نرجع إلى الأصول العقلية! ولكن ما هي الأصول العقلية أو هذه القواعد العقلية أو البراهين الجدلية؟ قالوا: كلام منقول عن أهل التفلسف، أو كلام المعتزلة كـالنظام والعلاف وأشباههم من الملاحدة ، وكل هذا مرجعه في الحقيقة إلى اليونانيين إلى الإغريق، ونحن نقول: عجباً لكم يا من تقولون: إن ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر خبر آحاد يحتمل الحق والباطل، يحتمل وقوعه ويحتمل عدم وقوعه، ويحتمل بأنه قد قيل ويحتمل عدم ذلك، وتأخذون كلام أرسطو و أفلاطون وغيرهما الذين بينكم وبينهم مئات أو ألوف السنين، وهنالك شيء آخر غير الانقطاع وهي اللغة، إذ إن كلام أرسطو و أفلاطون باللغة اليونانية القديمة، وأنتم تأخذون الكلام بالكلام العربي، فمن الذي قال لكم: إن هذا كلام أرسطو و أفلاطون وهو بلغة أخرى، وبينك وبينهم هذه القرون الطويلة، ولا سند متصل بينك وبينهم، ثم تجعلون كلامهم حجة قطعية لا تقبل النقاش وتقولون: قال المعلم الأول، وقال: أفلاطون ، والمعلم الأول عندهم أرسطو ، فسبحان الله! فأين عقولكم؟ ولو ثبت عندنا -فرضاً- أن أرسطو قال هذا الكلام بالسند الصحيح المتصل الذي يشبه: مالك عن نافع عن ابن عمر ، لقلنا لكم: وهل أرسطو نبي حتى يؤخذ عنه؟ وعلى فرض أنه لو صح عندنا أسانيد صحيحة إلى عبد الله بن أبي أنه قال كذا وكذا، وعندنا أسانيد صحيحة إلى أبي جهل أنه قال كذا وكذا، فهل كلام هؤلاء مع ثبوت الكلام وصحة السند إليهم حق؟ إنه باطل، وأرسطو و أفلاطون أكفر منهم، وأجهل بالله من هؤلاء، ومع ذلك فلا سند ولا متصل بينكم وبينهم، واللغة مختلفة وهم بهذه المثابة.
      إذاً فكيف تعارضون ما جاء في الكتاب وما جاء في السنة لا سيما ما جاء فيها صحيح ثابت، وتقولون: هذا خبر آحاد، بتلك الأقوال التي هي من كلام الجهمية و الفلاسفة ، وكلها ترجع في النهاية إلى كلام اليونان، وربما يرجع شيء منها إلى كلام البراهمة ، فهم أكفر وأكفر؟! فهذا دليل على بطلان هذا المذهب.
    3. أقسام العلم بالتواتر عن ابن تيمية

      يقول: (فكما أن العلم بالتواتر ينقسم إلى عام وخاص فيتواتر عند الخاصة ما لا يكون معلوماً لغيرهم، فضلاً عن أن يتواتر عندهم) وهذا معلوم، فقد يتواتر عند الأطباء ما لا نعلمه نحن، فضلاً أن نتواتر عليه، إذ إنه ليس شرطاً؛ لأننا قد لا نعلم به أصلاً؛ لأنا لسنا من أهل الطب والهندسة أو غير ذلك.
      يقول: إذاً فأهل الحديث لشدة عنايتهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وضبطهم لأقواله وأفعاله وأحواله يعلمون من ذلك علماً لا يشكون به مما لا شعور لغيرهم به البتة، فخبر أبي بكر وعمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن مسعود رضي الله عنهم ونحوهم يفيد العلم الجازم الذي يلتحق عندهم بقسم الضروريات عند أهل الحديث، وعند الجهمية والمعتزلة وغيرهم من أهل الكلام لا يفيد علماً؛ لأنهم ليسوا من أهل هذا العلم والعياذ بالله، فقد أعمى الله بصائرهم عنه. يقول: (وكذلك يعلمون بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وعند الجهمية رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك). بل إلى الآن الإباضية في عُمان توزع كتاب الحق الدامغ وينكرون فيه الرؤية، فيقولون: لا يمكن؛ لجهلهم بالحديث، لكن المعتبر هو أهل هذا الفن، يقول: (وكذلك يعلمون) أهل الحديث (بالضرورة أن نبيهم صلى الله عليه وسلم أخبر عن خروج قوم من النار بالشفاعة، وعند المعتزلة والخوارج لم يقل ذلك). بل إلى الآن المعتزلة والخوارج ينكرون الشفاعة، وأهل السنة والجماعة يثبتون شفاعته صلى الله عليه وسلم، وشفاعة الملائكة، وشفاعة الصالحين في قوم من أهل النار دخلوها أن يخرجوا منها بفضل الله تبارك وتعالى، ثم بشفاعة هؤلاء الشافعين الذين يشفعهم الله تعالى فيهم، ثم قال: (وبالجملة فهم جازمون بأكثر الأحاديث الصحيحة، قاطعون بصحتها عنه وغيرهم لا علم عنده بذلك). والمقصود أن هذا القسم من الأخبار يوجب العلم عند أكثر العقلاء.
      والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.