المادة كاملة    
إن السنة النبوية قد نقلها إلينا جيل الصحابة الكرام الذين عاشوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن كل ما وصلنا منها من طرق متعددة، بل منها المتواتر، ومنها الآحاد، وقد جرى السلف الصالح على قبول ما صح وثبت، سواء كان متواتراً، أو آحاداً، وللعلماء على هذا أدلة صريحة من السنة ومن سير الصحابة.
  1. إفادة خبر الآحاد للعلم أو الظن

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    بعد أن ذكرنا أدلة من يردون الآحاد نرجع بعون الله تبارك وتعالى إلى ما قرره الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في الرد على شبهاتهم، وبمعنى أخص في تقرير حقيقة خبر الواحد، وهل يفيد العلم أو الظن؟ وبيان القول الراجح والصحيح في ذلك مع نقول يذكرها رحمه الله عن سلف الأمة وأئمتها وكبار علمائها. ‏
    1. القرائن وأثرها في إفادة خبر الآحاد العلم

      يقول رحمه الله: (فصل خبر الواحد بحسب الدليل الدال عليه) فالمذهب الحق الذي عليه علماء أهل السنة والجماعة في خبر الواحد أن لا يقال إنه لا يفيد العلم مطلقاً كما فعل ذلك الذين يردون السنة النبوية جملة، وكذلك لا يقال فيه: إنه يفيد العلم مطلقاً بأي شكل ورد، بل لا بد من التفصيل، يقول رحمه الله: (فتارةً يجزم بكذبه لقيام دليل كذبه) أي: أحياناًً يكون خبر الواحد مجزوماً بكذبه، وذلك إما لكون الراوي معلوماً بالكذب، وإما لكونه أخطأ خطأً ظاهراً بيناً، فلو كان الراوي صدوقاً أو ثقة ولكنه أخطأ خطأً ظاهراً بيناً يخالف ما رواه الثقات الذين لا شك في خبرهم ونقلهم فإن ذلك يعد جزماً برد روايته تلك، بسبب خطئه أو كذبه بمعنى مخالفته للواقع، وليس بالضرورة لأنه تعمد الكذب، ولكن قد يكون أيضاً الجزم بكذبه مبنياً على أن ناقله ممن يتعمد الكذب وثبتت مخالفته؛ لأن الكذب لا يقتضي أنه لا يصدق في أي شيء، فـ الوضاع أيضاً قد يروي ما هو صحيح ثابت وليس شرطاً أن يكذب في كل شيء لكن لما ثبت أنه يتعمد الكذب حرمت الرواية عنه مطلقاً تثبتاً.
      ثم يقول رحمه الله: (وتارةً يظن كذبه إذا كان دليل كذبه ظنياً) فمن أخبار الآحاد من لا نستطيع أن نجزم بأنها كذب، ولكن هناك ظن، والكذب فيها وارد، فهذا أقل درجة، فيقال فيه إنه في درجة الظن؛ لأن دليل كذبه ظني.
      قال رحمه الله: (وتارةً يتوقف فيه فلا يترجح صدقه ولا كذبه إذا لم يقم دليل أحدهما) وهذا مما لا يخفى وقوعه، والإنسان كثيراً يجد نفسه متوقفاً لا يجزم بصدق الخبر ولا بكذبه، سواء كان ذلك عند فحصه لأسانيد الحديث أو الآثار أو الأخبار أو حتى في حياته العامة، فتأتيه أحياناً أخبار لا يستطيع أن يجزم بكذبها ولا أن يجزم بصحتها ولذلك يتوقف في الخبر.
      قال رحمه الله: (وتارةً يترجح صدقه ولا يجزم به) أي: وتارةً يترجح لديه أن هذا الخبر صادق ولكن لا على سبيل القطع والجزم فإذا أخبره واحد من الناس وهو ثقة عنده بخبر فهو يعرف صدقه لكنه لم يستطع أن يجزم به؛ لأنه يتوقع أن يشاهده، أو أن يخبره به غيره، أو كان في أمر فيه غرابة، ويحتاج أن يتأكد وأن يتثبت فيه، مع أنه لا يكذب هذا المخبر ولم يعهد عليه كذباً، لكن خبره لم يورث لديه اليقين والقطع بصدقه، وإنما ظن ظناً غالباً أنه صادق، وهذا أيضاً حق وواقع في الأسانيد، وكذلك في الأخبار في حياة الناس.
      قال رحمه الله: (وتارةً يجزم بصدقه جزماً لا يبقى معك شك فيه، وهذا هو الذي يفيد العلم القطعي أو العلم الضروري) وهذا مجمل القول الصحيح الذي عليه أهل الحق وأهل السنة والجماعة وأئمة الجرح والتعديل والعقلاء في جميع الأمم وجميع العصور الذين تجردوا عن الهوى وهو أن خبر الواحد هو بحسب الدليل الدال عليه، فقد يكون مقطوعاً بكذبه، وقد يكون مقطوعاً بصدقه، وقد يكون ظني الكذب، وقد يكون ظني الصدق، وقد يتوقف فيه فلا يجزم بصدقه ولا بكذبه.
      إذاً ما يقرره الرازي وغيره من أن خبر الآحاد مطلقاً ظني مردود وباطل ومخالف لما عليه العلماء، بل وكافة العقلاء.
      قال ابن القيم رحمه الله: (لا يجوز أن ينفى عن خبر الواحد مطلقاً أنه يحصل العلم) فلا وجه لإقامة الدليل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم كما فعل الرازي بإطلاق من غير تفصيل، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (وإلا اجتمع النقيضان) أي: فكونك تجزم أحياناً بصدق خبر الواحد، وتجزم أحياناً بكذبه فهذا غير معقول، فمن قال: إن خبر الواحد مطلقاً حق ومن قال: إن خبر الواحد مطلقاً باطل مردود فقد أقر باجتماع النقيضين، وهو في حياته وفي تعامله لا بد أن يقع منه ذلك فيجتمع لديه النقيضان؛ لأنه لا بد أن يجزم أحياناً بكذبه وأحياناً يجزم بصحته مع أنه واحد، ولذا فإن خبر الواحد كما قلنا: يفيد العلم في مواضع، فيفيد العلم القطعي الضروري الذي لو أقسمت وحلفت أنه واقع لما كنت آثماً ولا حانثاً، بل تجد يقيناً وتجد ذلك ضرورة من نفسك لا تستطيع أن تدفعها في بعض المواضع.
  2. الأدلة على حجية خبر الآحاد

     المرفق    
    1. دلالة قبول الصحابة أخبار بعضهم على حجية خبر الآحاد

      يقول ابن القيم رحمه الله: (وأثنى عليه ومدحه بتصديقه لمن أخبره من المؤمنين، ومن هذا النوع أيضاً إخبار الصحابة بعضهم بعضهاً) أي: إذا أخبر أحدهم الآخر بشيء عن الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا يتلقونه بالقبول، والأمثلة كثيرة على هذا، ولكن المقصود هنا الإيجاز.
      فإخبار الصحابة بعضهم بعضاً وكون الواحد منهم يتلقى كلام الآخر وخبره بالقبول ولا يرده ولا يتهمه فيه دليل على قبول خبر الآحاد، فإنهم كانوا يجزمون بما يحدث به أحدهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل أحد منهم لمن حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن خبرك خبر واحد، لا يفيد العلم حتى يتواتر كما هو كلام المتكلمين وأهل الأهواء والضلال والبدع، أما الصحابة فما قالوه، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يقله أيضاً، فلم يرد عن أحد منهم قوله: إن خبرك خبر واحد، ولا بد أن يتواتر، ولا يشكل على ذلك التثبت في المسائل الفقهية القليلة كما سيأتي إن شاء الله.
      قال ابن القيم رحمه الله: (وتوقف من توقف منهم حتى عضده آخر منهم لا يدل على رد خبر الواحد لكونه خبر واحد، وإنما كان يستثبت أحياناً نادرةً جداً إذا استخبر، ولم يكن أحد من الصحابة ولا من أهل الإسلام يشكون في ذلك، فإذا توقف بعضهم في كلام سمعه من الآخر وطلب منه التثبت أو شاهداً آخر عليه، فهذا لا يدل على ما ذهب إليه أولئك؛ لأن المتكلمين وأهل الأهواء لا يعتدون بخبر الإثنين ولا الثلاثة) لأن هؤلاء لا زالوا آحاداً عند المتكلمين، فليس فيه دليل لهم، والتثبت إنما كان نادراً، فـ لو جمعنا كل الأحاديث التي فيها التثبت لما زادت عن عشرة أحاديث أو نحو ذلك، فهي مواضع معينة نادرة، ولم يكونوا يردون أو ينكرون أو ينفون إنما يتوقفون لأجل التثبت فيها، لا لمجرد أنها خبر واحد، وإنما لمزيد من التأكد لغرابة المسألة مثلاً، أو لكونها لم تبلغه فيريد أن يعلمها ويبلغها للناس كما أراد عمر رضي الله تعالى عنه، فهناك حكم أخرى غير كون الرد؛ لأن هذا خبر واحد، وهذا نوضحه لاحقاً.
      يقول ابن القيم رحمه الله: (فلم يكن أحد من الصحابة ولا أهل الإسلام بعدهم يشكون فيما يخبر به أبو بكر الصديق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ،فبعد أن ذكر خبر الله تبارك وتعالى وخبر النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره، انتقل للكلام عن أخبار الصحابة على سبيل التدرج، فـأبو بكر و عمر و عثمان و علي و عبد الله بن مسعود و أبي بن كعب و أبو ذر و معاذ بن جبل و عبادة بن الصامت و عبد الله بن عمر وأمثالهم من الصحابة كل هؤلاء لا يشك في خبر نقلوه أو قالوه أو نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    2. قبول الصحابة تفردات أبي هريرة في الرواية ودلالاتها على حجية خبر الآحاد

      قال: (بل كانوا لا يشكون في خبر أبي هريرة رضي الله عنه مع تفرده بكثير من الأحاديث) فـأبو هريرة رضي الله تعالى عنه تفرد بكثير من الحديث الذي لم يقله أو لم ينقله أو لم يروه غيره والسبب أن هؤلاء الصحابة كان يشغلهم الصفق بالأسواق أي: كانوا أهل مصالح ولا بد منها في دنياهم حتى كان عمر رضي الله تعالى عنه له أخ من الأنصار فيجعله يذهب يوماً وهو يذهب يوماً حتى لا يفوته شيء من الخير، فمنهم من له أخ ينوبه أو يحفظ بنفسه، وبعضهم يذهبون في مصالحهم فربما سمعوا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة جمعة، أو في مجلس عام جمع الناس له، أو وهم في طريق، أو في غزوة معه أو ما أشبه ذلك أما الملازمة الدائمة فيقول أبو هريرة عنها: [ إن أولئك شغلهم الصفق بالأسواق وإنما كان أبو هريرة يصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بملء بطنه ] أي: من أجل لقيمات يجدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أينما ذهب فهو معه، يحفظ، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فكان لا ينسى، وكان ملازماً له فحفظ منه كما حفظ من الصحابة أيضاً، فإنه أيضاً لازم وحفظ من كبار الصحابة، فبعض الأحاديث التي رواها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه هي مما وقع وقاله النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه وقبل هجرته إلى المدينة ، ومع ذلك فإنه يرويها، وهذا دليل على أنه أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ كذلك عن سائر الصحابة كـأبي بكر و عمر وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وغيرها من أمهات المؤمنين، فجمع من الحديث ما لم يجمعه غيره رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ومع ذلك لم يكونوا يشكون فيما يتفرد به، فيقولون: يا أبا هريرة ! أنت واحد ولا نقبل خبرك حتى يتواتر، لكن ربما اعترض عليه منهم معترض وتوقفوا في الحديث، وهذا ليس من باب رد خبر الواحد، وإنما لقيام قرينة أو علة أخرى.
      يقول رحمه الله: (وكان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل في صدورهم من أن يقابل بذلك) يعني: أن يقابل بالرد أو الاستنكار، وكانت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل في أعينهم وأصدق عندهم من أن ترد.
      فالصحابة اعتبروا أمرين:
      الأول: إجلال كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال حديثه أن يقال: هذا غير مقبول، أو من أين جئت به، وكل ذلك إجلالاً منهم لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم فهو على العين والرأس، فإن شكوا فإنما يتساءلون حتى يتأكدوا، أما النفي أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فهو مخالف للعقل ومخالف للبراهين، وهذا لا يمكن أن يكون منهم.
      الأمر الثاني: إجلالهم وتقديرهم للمخبر عنه صلى الله عليه وسلم من الصحابة، وكان أحدهم إذا روى لغيره حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات التي هي موضع الجدل والمعركة بين المثبتين المؤمنين وبين المعطلة الجاحدين تلقاه بالقبول، واعتقد تلك الصفة على القطع واليقين، كما اعتقدوا رؤية الرب في أحاديث إثبات رؤية الرب سبحانه وتعالى، وهذه الروايات لم يروها كل أحد من الصحابة، إنما رواها بعضهم لبعض، فماذا كان موقفهم وموقف التابعين من ذلك؟
      الجواب: أنهم اعتقدوا صحة ذلك، وآمنوا به وسلموا، وكذلك الحال في أحاديث تكليمه وندائه يوم القيامة في عباده بالصوت الذي يسمعه البعيد كما يسمعه القريب كما في الحديث: ( فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب )، فهم قد آمنوا بذلك وصدقوا مع أنه ليس كل واحد منهم روى ذلك، بل هم آحاد، وأحاديث نزوله إلى السماء الدنيا كل ليلةٍ كذلك أيضاً لم يروها كلهم، وكذلك أحاديث ضحكه وفرحه وإمساك سماواته على أصبع من أصابع يده، وروايات إثبات القدم له، كل هذه أحاديث لم يروها كل أحد من الصحابة، وإن كان بعضها بمجموعه متواتراً، لكن الرواية الواحدة منه إنما رواها واحد، وقد يكون التواتر فيما بعد الصحابي، أي: من التابعين أو من أتباع التابعين، أو يكون التواتر في الطبقة الثالثة.
      يقول رحمه الله: (من سمع هذه الأحاديث ممن حدث بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صاحب اعتقد ثبوت مقتضاها بمجرد سماعها من العدل الصادق، ولم يتردد فيها حتى أنهم ربما تثبتوا في بعض أحاديث الأحكام).
      يعني: نحن نستطيع أن نعكس الدليل على المتكلمين، فإذا جاء الرازي أو غيره ممن أصلوا وقرروا هذه القواعد البدعية، فقالوا: إن عمر رضي الله تعالى عنه تثبت من خبر أبي موسى ، وأن أبا بكر تثبت من رواية المغيرة وغير ذلك، فنقول: لهم هذا نفسه دليل على صحة ما نقول؛ لأنهم إنما تثبتوا في الأحكام مع أن وقوع التثبت قليل نادر كما ذكرنا، لكنهم لم يتثبتوا في الأمور الخبرية وفي أعظم الأخبار وأشرفها كالصفات ونحوها؛ لأنها تتعلق بمعرفة الله تبارك وتعالى، وهي أم العلوم وأشرفها، فهذا دليل لنا وليس لكم، فإذاً: نقول: ربما تثبتوا في بعض أحاديث الأحكام حتى استظهر راويها بآخر، كما استظهر أبو موسى برواية أبي سعيد الخدري في خبر الاستئذان، وكما استظهر المغيرة رضي الله تعالى عنه برواية محمد بن مسلمة في توريث الجدة السدس، ولم يطلب أحد منهم الاستظهار في رواية أحاديث الصفات، لكن لأن الأم أحياناً تأخذ الثلث، وأحياناً تأخذ السدس، والجدة تأخذ السدس.
      يقول ابن القيم رحمه الله: (بل ما كان أحد يطلب منه ويقول له: كيف تخبر بهذا الحديث عن الله أو عن صفات الله؟ بل كانوا أعظم مبادرة إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها وإثبات الصفات بها من المخبر لهم بها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتلقونه بكل إذعان وقبول، ومن له أدنى إلمام بالسنة والتفات إليها يعلم ذلك، ولولا وضوح الأمر بذلك لذكرنا أكثر من مائة موضع).
    3. مخالفة الأشاعرة للإجماع على حجية خبر الآحاد والرد على من يقول أنهم من أهل السنة

      إذاً: الأمثلة أكثر من مائة موضع فيما يتعلق بالصفات، أما غير ذلك فهي كثيرة جداً، فـ ما اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم من كلامهم لا يصح وقد خرقوا بذلك إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة، وإجماع التابعين، وإجماع أئمة الإسلام، ووافقوا المعتزلة و الجهمية و الرافضة و الخوارج.
      فقول ابن القيم: (هؤلاء الذين خرقوا الإجماع ووافقوا به المعتزلة يدل على أنه لا يتكلم عن المعتزلة و الجهمية و الرافضة و الخوارج بل عن الأشعرية، وإمامهم في ذلك هو الرازي الذي هو أصل هذا.
      إذاً هؤلاء خرقوا الإجماع وخالفوه، هل يصح بعد ذلك أن يقول أحد: إن هؤلاء الذين خرقوا الإجماع في هذا الأمر العظيم يعدون من أهل السنة والجماعة ؟ كيف يكونون منهم وهم يخالفونهم في أصل عظيم تنبني عليه كل الأمور؟ لأن كل الصفات إنما تبنى على هذا إلا ما قل كالذي ثبت في القرآن ثبوتاً قطعي الدلالة، وإلا فإن بعض ما في القرآن ربما يحتمل أيضاً فتأتي السنة فتزيل هذا الاحتمال.
      إذاً: فالذين ردوا خبر الآحاد وقرروا ذلك من الأشعرية سواء كانوا تكلموا في كتب أهل الكلام أو كتب الأصول أو ما أشبه ذلك هم أبعد الناس عن أن يكونوا من أهل السنة والجماعة ؛ لموافقتهم لمن لا شك بأنه خارج عن أهل السنة والجماعة وهم المعتزلة و الجهمية و الرافضة و الخوارج .
      يقول ابن القيم رحمه الله في عبارته العلمية: (وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء) ففرق رحمه الله بين الأساس وبين التابعين.
      فتجد من الفقهاء أو الأصوليين وهو من أهل السنة لكنه لما كتب في الأصول اعتمد على كلام الغزالي في المنخول أو في المستصفى مثلاً وقرر أن خبر الواحد لا يفيد العلم، مع أنه أصلاً من أهل السنة ، ويعمل بالأحاديث، وهو فقيه أيضاً، وذلك كـالغزالي نفسه وهو فقيه من فقهاء الشافعية، والإحياء فيه آلاف من الأحاديث والآثار وكلها آحاد، يعني أن منهم من يعيش بعقلية مزودة يجمع نقيضين؛ لأنه في المواضع الكلامية يكون من المتكلمين، فإذا جاء في جانب الفقه فإذا به فقيه، ولو كان قاضياً لحكم بهذه الأمور كما يحكم سائر قضاة المسلمين من الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة، فالشاهد أنه فرق رحمه الله بين من كانوا رأساً وأصلاً في ذلك وبين من كانوا أتباعاً، وهذا يقع فقط من الأصوليين والفقهاء بل يقع ذلك من بعض شراح السنة كالإمام النووي رحمه الله، فهو على فضله وعلو درجته في الحديث والعبادة والزهد وقع في أشياء من هذا؛ لأنه ينقل عن القاضي عياض مثلاً وعن أبي بكر بن الباقلاني وأمثاله، ثم يأتي ابن حجر رحمه الله تعالى فيتابعهم أيضاً في مواضع وينقل عن هؤلاء، وتارةً يقرهم، وتارة يتعقبه، وتارةً ينقل من غير أن يتعقب على ذلك بإيجاب أو بنفي.
      إذاً: أهل الكلام الذين قعدوا هذه القواعد وقرروا هذه الأصول ليسوا من أهل السنة والجماعة ، وقد يتبعهم ويوافقهم من هو من أهل السنة فينخدع بهم ويغرر بهم ويقرهم على أمر هو في حقيقته لا يرضاه، وإذا رأيت كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرح كتاب (الاعتصام بالكتاب والسنة) أو كتاب (العلم) من فتح الباري شرح صحيح البخاري لرأيت له كلاماً لا يمكن أن يكون موافقاً لكلام هؤلاء، بل إذا قرأت ترجمة الفخر الرازي في لسان الميزان للحافظ ابن حجر رحمه الله لوجدت أنه لم يقل: هذا إمامنا ونحن من أتباعه رضي الله عنه وأرضاه، بل ذكر أنه روي عنه عقائد شنيعة، وأنه أوصى وصية في آخر حياته حسن فيها اعتقاده، فعلى أي عقيدة ابن حجر رحمه الله على ما في الوصية أو على ما في الكتب؟ لا شك أنه سيكون على ما في الوصية.
      وبهذا نعلم أنه قد يأتي الرجل أو العالم من أهل السنة والجماعة ويوافق بعض المتكلمين أو المبتدعة في أمر كما أن بعض المبتدعة قد يوافق الحق والسنة في أمر أو أمور، فمن العدل أن يذكر هذا، وأن يذكر هذا ولكن لا نجعل هؤلاء المبتدعة من أهل السنة والجماعة فنلبس الأمر على أهل السنة أو على الأمة، وكذلك لا نجور ولا نحيف، بل نكون شهداء لله قوامين بالقسط كما أمر الله عز وجل، فهؤلاء ومن اتبعهم لا يعرف لهم سلف من الأئمة، وسلفهم وأئمتهم هم أهل الضلال، وأول من تكلم في التواتر والآحاد والقطع والظن هم المعتزلة كما بينا فيما مضى.
    4. الاستدلال بقبول الرسول رؤيا أصحابه على حجية خبر الآحاد

      يقول ابن القيم رحمه الله: (ومن هذا أنه كان يجزم بصدقهم فيما يخبرونه من رؤيا المنام) أي: حتى في الرؤيا كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس مع أصحابه فيقول: أيكم رأى رؤيا فيخبرونه فيصدقهم في رؤيا المنام، فكيف بما يرونه بأعينهم في اليقظة، ويجزم لهم بتأويلها؟ ويقول: إنها رؤيا حق، وأثنى الله تعالى عليه بذلك في قوله: (( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ))[التوبة:61] (ومنهم) أي: من المنافقين الذين فضحهم الله تبارك وتعالى في سورة التوبة التي من أسمائها الفاضحة؛ لأن الله فضح فيها هؤلاء المنافقين وذكر صفاتهم، ومن ذلك قوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) أي: يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم، (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) ومعنى "أذن": سماع لكل من يحدثه بشيء، فكل من جاء وقال له شيء صدقه، (( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ))[التوبة:61] ومعنى: يؤمن للمؤمنين، أي: يصدق لهم ويقبل كلامهم؛ لأنهم أتقى الناس وأورع الناس وأبعد الناس عن الكذب، ولذلك يسمع كلامهم، لكن هل يسمع النبي صلى الله عليه وسلم كل ما يقوله المنافقون ويصدقه؟ لا، وهل يقبل كل ما يقوله المرجفون والمفسدون والمفترون؟ لا؛ لأنه أذن خير أي: سماع ولكن للمؤمنين ولأصحابه الذين لا يكذبون على أحد في الدنيا، فحاشا أن يكذبوا عليه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  3. موقف الأئمة الأعلام من إفادة خبر الواحد للعلم

     المرفق    
    يقول رحمه الله: (بل صرح الأئمة بخلاف قولهم، فممن نص على أن خبر الواحد يفيد العلم وممن نص على ذلك من كلامه ونقله عنه تلاميذه الأثبات الإمام مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة ).
    فكيف يأتي الأشعرية ويقولون:
    في عقد الأشعري وفقه مالك             وفي طريقة الجنيد السالك
    فيأخذ العقيدة عن الأشعري ، والفقه عن مالك ، والعبادة عن الجنيد ، فالإمام مالك رحمه الله ألم يكن على عقيدة أصح من عقيدة الأشعري ؟ وألم يكن في العبادة أفضل من الجنيد؟
    فأي إنسان يقول: أنا مالكي أتبع الإمام مالك وأقلده قلنا له: إن أولى وأوجب ما يجب أن تتبعه فيه كل ما قال به وأن تعتقده ولا تتبع فيه أحداً ولو خالف الناس كلهم، وهو ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ولا تقول هذا آحاد وهذا متواتر.
    إذاً: مالك و الشافعي وأصحاب أبا حنيفة ، ولم يذكر ابن القيم الإمام أبي حنيفة ؛ لأنه ربما لم يثبت عنده أنه جزم بذلك، أو أن الإمام أبو حنيفة رحمه الله توفي قبل الكلام والخوض في هذا، فلم يتكلم فيه، لكن تلاميذه ذكروا ذلك، وكذلك داود بن علي إمام أهل الظاهر وأصحابه كـأبي محمد بن حزم ، ونص عليه الحسين بن علي الكرابيسي ، والحارث بن أسد المحاسبي أيضاً، أي: حتى بعض من ينسبون إلى الكلام والبدعة نصوا على ذلك.
    إن ابن خويز منداد وهو أحد أئمة المالكية المتقدمين الذين ينقلون عن الإمام مالك نقولاً عظيمةً في المذاهب والاعتقاد يقول في كتابه أصول الفقه وقد ذكر خبر الواحد الذي لم يروه إلا الواحد والاثنان: (ويقع بهذا الضرب -يعني: بهذا النوع- العلم الضروري نص على ذلك مالك ) وابن خويز منداد هذا من الثقات المعتمدين المالكية، فنقل عن مالك أن خبر الواحد يفيد العلم، ونقل عن مالك أن شهادة أهل الأهواء والبدع لا تجوز قال ابن خويز منداد : أشعرياً كان أو غير أشعري، وما نص على الأشعرية إلا لئلا يلبس على الناس أنهم هم أهل السنة فنص عليهم، أما المعتزلة والروافض و الخوارج فهم معروفون، والمالكية كانت منتشرة في العراق في المشرق، وكانت منتشرة في المغرب وإن كنا الآن قل أن نجد مالكياً في بلاد الشام و العراق ، ويوجد في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية قليل من المالكية، لكن كانت منتشرة في ذلك الزمن أكثر، ومنهم هذا الإمام المشهور، وهو معروف عند المالكية، فهو من فسر وترجم كلام مالك وقال: أشعرياً كان أو غير أشعري، يعني: أنه يعلم أن هؤلاء من أهل الأهواء، فلو أن مالكاً أدرك الأشعرية لعدهم من جملة أهل الأهواء والبدع.
    1. الروايات المنقولة عن الإمام أحمد في خبر الواحد ودلالتها

      قال رحمه الله: (وقال الإمام أحمد في حديث الرؤية: نعلم أنها حق، ونقطع على العلم بها). إذاً: فهي تفيد العلم اليقيني القطعي، وليس فقط أنه يجب أنه نعتقدها على سبيل الظن الراجح أو الغالب.
      إذاً: فحديث الرؤية نقطع العلم به، وكذا روى المروزي قال: قلت لـأبي عبد الله : هاهنا اثنان يقولان إن الخبر يوجب عملاً ولا يوجب علماً، وحقيقة لقد تعجبت عندما قرأت هذا الكلام وقلت: سبحان الله! حتى في عهد الإمام أحمد كان هذا الكلام قد انتشر وتجرأ البعض على قوله، وكنا نظن أن هذا إنما انتشر بعد ذلك، أو كان قليلاً في أيامهم، وإذا به يصل إلى الإمام أحمد ، فعابه الإمام أحمد وقال: لا أدري ما هذا؟ والإمام أحمد عندما يقول: لا أدري فهو يستنكره؛ لأنه لو كان شيئاً من الحق لعلمه؛ لأن هذا شيء ما جاء عن الصحابة ولا عن التابعين، وما أدري ما هذا ومن أين جاءوا بهذا الكلام؟
      فإننا ما أخذناه عن أئمتنا ولا عن علمائنا من التابعين وأتباع التابعين، فكيف يقول أحد: أنا أعمل به لكن لا أعتقده ولا أعلمه ولا أجزم به، وهذا الكلام إذا تأمله العاقل اللبيب علم أنه بدعةً.
      وقال القاضي في أول المخبر: (خبر الواحد يجب العلم إذا صح سنده ولم تختلف الرواية وتلقته الأمة بالقبول، وأصحابنا يطلقون القول فيه وأنه يوجب العلم وإن لم تتلقاه بالقبول، قال: والمذهب على ما حكيت لا غير)، وهذا القاضي الحنبلي هو أبو يعلى ، وهو يقول: لا يصح أن يقول أحد: إن في مذهب الإمام أحمد روايتين: أحدهما أنه يفيد العلم والأخرى أنه لا يفيد إلا الظن، فالمذهب قول واحد، لكن يستدرك عليه ابن القيم رحمه الله قائلاً: (ونص في رواية أحمد بن حسين الترمذي أنه يحتم على الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنه رواية أخرى تدل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم، وجاء بعض الناس وقال: لا. أحمد لا يرى أن خبر الواحد يفيد العلم؛ لأن الإمام قال في رواية المروزي : إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح فيه حكم أو فرض عملت به ودنت الله به ولا أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك). وهنا أولاً: لابد أن نفهم الرواية ثم نفهم الجواب عنها، فالرواية تقول: إن الإمام أحمد رضي الله عنه وأرضاه من أهل السنة والجماعة يقول: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت أي: من جهة السند والمتن أنه قال عملت به أي: عمل بموجبه، فإن كان حلالاً أحله، وإن كان حراماً أحرمه، ودنت الله به أي: اعتقدت وعملت به كما أمر الله لكن لا أشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله يعني: يحتمل أنه لم يقله.
      فهو عمل بالظن ولم يجزم ولا شهد أن الرسول قاله؛ لأنه ظني ويحتمل أنه لم يقله، ولكنه لم يرده.
      أما الرواية الأخرى ففيها أنه قال: إذا جاء شيء فنحن نجزم أنه قاله ونعمل به، فكيف نخرِّج هذه الرواية؟
      وأما راوية الأثرم عن أحمد أنه لا يشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بالخبر ويعمل به، فهذه راوية انفرد بها الأثرم ، وليست في مسائله ولا في كتاب السنة، وإنما حكى القاضي أنه وجدها في كتاب معاني الآثار ، و الأثرم لم يذكر أنه سمع ذلك منه، بل لعله بلغه من واهم وهم عليه في لفظه، فلم يروه عنه إلى آخره، ولعلنا نأتي عليه إن شاء الله.
      إذاً: هذه الرواية غير ثابتة عن الإمام أحمد ؛ لأن الذي جمع كلام الإمام أحمد وسمى كتابه: كتاب السنة ويسمى: كتاب الجامع أو مسند الخلال هو الخلال ، والخلال روى الأقوال عن الإمام أحمد ، لم يذكر فيها هذا القول، فهذا أحد الأدلة التي تدل على أن الأثرم إنما رواه أو ذكره غير مسند، فقد يكون وهم فيه، أو نقل عن واهم.
      ثم ذكر ابن القيم كلاماً بعد ذلك وذكر بعد ذلك أقوالاً أخرى منها: (قال ابن أبي يونس في أول الإرشاد : وخبر الواحد يوجب العلم والعمل جميعاً ونص القاضي أبو يعلى على هذا في الكفاية ، وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وهو من أئمة الأصول المعروفين) وهنا ابن القيم رحمه الله ينتقي النقول، فذكر الإمام أبا إسحاق الشيرازي ؛ لأنه من أئمة الأصول المعروفين، وهو شافعي المذهب، فلكونه شافعياً وإماماً أصولياً متقدماً يأتي الإمام ابن القيم بكلامه، فإذا جاء بعده الغزالي وهو شافعي وأصولي وقال غير ذلك قلنا: أنت خرجت عن مذهب الشافعي ووقعت في كلام المتكلمين من المعتزلة وأشباههم، والشيرازي له كتاب التبصرة وله كتاب شرح اللمع وغيرهما.
      قال ابن القيم رحمه الله: (قال الإمام الشيرازي : وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول يوجب العلم والعمل سواء عمل به الكل أو البعض، فلم يحك فيه نزاعاً بين أصحاب الشافعي ، وحكى هذا القول أيضاً القاضي عبد الوهاب من المالكية عن جماعة من الفقهاء، وصرحت الحنفية في كتبهم بأن الخبر المستفيض يوجب العلم ومثلوا له بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا وصية لوارث ) مع أنه إنما روي من طريق الآحاد)، والحنفية في أصول الفقه لهم كلام آخر، فهم في الحكم على الأحاديث يجعلون المستفيض في مرتبة متوسطة بين الآحاد وبين المتواتر، فما استفاض العمل به وإن كان آحاداً فإنه عندهم يوجب العلم، ومثلوا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا وصية لوارث ).
      والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
  4. مواضع إفادة خبر الآحاد للعلم

     المرفق    
    1. ما ثبت عن الله ورسوله

      وأولها خبر من قام الدليل القطعي على صدقه، وهو خبر الواحد القهار جل وعلا وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما يخبر به، إذاً خبر الواحد أو الآحاد الذي أخبر الله تبارك وتعالى به في كتابه أو أخبر به صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن رب العالمين فهذا خبر واحد ولكنه مقطوع مجزوم بصحته وصدقه ولا يشك بذلك إلا من كان كافراً برسالة محمد صلى الله عليه وسلم غير مؤمن بالذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فلا يخرج منه صلى الله عليه وسلم إلا الحق.
      وقد كان صلى الله عليه وسلم معروفاً في الجاهلية بأنه الصادق الأمين فلم يجرب عليه كذب قبل أن يوحى إليه، فكيف بعد أن أوحي إليه، وكيف بالوحي الذي تكفل الله تبارك وتعالى بحفظه وإبلاغه له صلى الله عليه وسلم الذي نجزم بأنه أبلغ رسالة ربه حقاً ولم يكتم منها شيئاً ولم ينس منها شيئاً صلوات الله وسلامه عليه؟ بل لو أن النبي صلى الله عليه وسلم سها أو نسي لنبهه الله تبارك وتعالى حتى يكون الاقتداء والاتساء به كما وقع عندما سلم صلى الله عليه وسلم في الرباعية من ركعتين في التشهد الأول فرده الصحابة، ثم قام فأتم الصلاة، فلا يمكن أن يقر صلى الله عليه وسلم حتى لو نسي وإن كان النسيان من طبع البشر، وهذا النسيان فيه حكم عظيمة.
      أولها: أن يعلم الناس أنه بشر وليس إلهاً صلوات الله وسلامه عليه، وليظهر قول أهل الغلو الذين يزعمون أنه صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب مطلقاً، فلو كان يعلم الغيب مطلقاً ولا ينسى مطلقاً كما يضفون عليه من صفات الألوهية لما نسي صلى الله عليه وسلم.
      ثانيها: التشريع حتى تتعلم أمته كيف تفعل إذا حصل من الإمام سهو، ولهذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إني لا أنسى، ولكني أنسى لأسن ) أي لأبين لكم، فالأصل أنه صلى الله عليه وسلم لا ينسى في دينه وعبادته وفيما يبلغ عن الله ولكنه ينسى ذلك ليسن لأمته هذه الأحكام، لتتعلم الأمة وكيف تأخذ عنه صلى الله عليه وسلم ذلك.
      فإذاً ما أخبر به الله أو أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق مقطوع به، ولا يقبل أدنى شك ولا ريب، ومما يدل على ذلك أن الله تبارك وتعالى افتتح السورة العظيمة التي ورد فيها الفضل العظيم وهي سورة البقرة بقوله: (( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ))[البقرة:1-2] فقد نفى عن هذا الكتاب الريب وهو الشك، فهو حق مقطوع به فكلما أخبر به الله تبارك وتعالى به في كتابه، أو أخبر به جبريل، أو أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل وكذلك ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أمور مشاهدة محسوسة، وإن لم تكن عن طريق الوحي فهو حق، ولا يمكن أن يعتريه الكذب ولا الشك ولا الريب بأي وجه من الوجوه.
      وهذا النوع لا أظن أن الأشاعرة أو المتكلمين يخالفون فيه، إذا كان الخبر عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحتمل إلا الحق والصدق مطلقاً.
    2. إقرار الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر من الأمور

      يقول ابن القيم رحمه الله: (الثاني: مما يفيد العلم خبر الواحد بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن يخبر أحد بين يديه صلى الله عليه وسلم فيقره على الخبر ويصدقه عليه، فيكون ذلك بمنزلة لو أنه صلى الله عليه وسلم كان هو المخبر؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم تشمل الإقرار كما تشمل النطق والإخبار، فمن أقر النبي صلى الله عليه وسلم خبره كان ذلك شرعاً منه، ومن ذلك مثلاً خبر الحبر الذي أخبر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الله يضع السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والشجر على أصبع، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقوله )، فهذا الحديث صحيح رواه البخاري و مسلم و أحمد وغيرهم، وهو من أحاديث الصفات التي يؤمن بها ويعتقدها أهل السنة والجماعة ، وقد يقول قائل: كيف تعتقدون هذا الحديث وتؤمنون بما جاء فيه من الصفة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقله، وإنما قاله هذا الحبر من أحبار أهل الكتاب؟ فنقول: إن إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له وتصديقه إياه دليل على صدقه، ولو كان غير ذلك لما أقره صلى الله عليه وسلم، فضحكه صلى الله عليه وسلم إنما هو تصديق لكلام الحبر، ولهذا اضطر المؤولون للحديث أن يقولوا: إنه ضحك استنكاراً، وهذا غير صحيح لا واقعاً ولا عقلاً).
      وفي هذا النوع من الأنواع تعمد ابن القيم رحمه الله أن يمثل بحديث في الصفات؛ لأنها موضع الجدل بين أهل السنة والجماعة وبين المؤولين والنفاة والمعطلين، فيقول رحمه الله: (وكخبر من أخبره أنه رأى السد مثل البرد المحبر فقال: ( قد رأيته )، فمثل بمثالين ابن القيم رحمه الله تعالى:
      المثال الأول: في الصفات كما ذكرنا، وهذا من فهمه وعلمه وذكائه.
      والمثال الثاني: الكلام في أمر غائب بعيد لا يستطيع أي أحد أن يدعيه وهو السد، أي: سد يأجوج ومأجوج، وهذا الحديث رواه الإمام محمد بن جرير الطبري و ابن مردويه عن قتادة قال: ( ذكر لنا أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني رأيت السد فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: كيف رأيته؟ قال: رأيته مثل البرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء -الطريق المحبر: المخطط الذي فيه خط أسود وخط أحمر أو أبيض، ويقال: البرد المحبر أي: الثوب المخطط- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد رأيته ).
      قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا الحديث مرسل، أي: لا نعلم هل رواه أبو بكر بن مردويه متصلاً أو لا والله أعلم، وهذا الحديث على فرض ثبوته أو عند من يرى العمل بالمرسل فقد أخبر فيه الرجل بأمر غائب لا يستطيع أحد من الناس أن يتكلم فيه إلا بعلم؛ لأن السد أكثر الناس ما رأوه، بل النادر جداً الذي يستطيع أن يقول: أنا رأيته، فلهذا لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف رأيته؟ فأخبره قال: ( قد رأيته ) فأقره عليه، فيكون خبره صدقاً؛ لأنه وصفه.
      فهذا مثال لإقراره صلى الله عليه وسلم من أخبره، فكأنه أقره على أن السد هذه هي هيئته وصفته، وابن كثير رحمه الله ذكر ذلك نقلاً عن ابن جرير ليستدل به على قول من قال: القطر النحاس المذاب، وأنه جاء من اللون الأسود، قال: (( آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ))[الكهف:96] فكأن القطران هو الخط الأسود، وما عداه هو خط لون آخر، فيحتمل أن ظاهر القرآن يدل عليه، وأما المثال الذي يذكره المتكلمون ويذكره الرازي وغيره عند مسألة الآحاد قد جاء به هنا ابن القيم رحمه الله، فهو لقوة فطنته أتى بهذا المثال ليرد على مثالهم، وذلك المثال هو منارة الإسكندرية ، وهي منارة معروفة في القديم، وهي من أعظم عجائب الدنيا لطولها وارتفاعها فيوقد عليها النار لتهتدي بها السفن إلى الإسكندرية ، والرازي وغيره يمثلون بالمنارة على الخبر الذي لا ندري أيحتمل صدقاً أو كذبا، كمن أخبر أن غراباً وقع على منارة الإسكندرية ، والعقل لا ينفي ذلك، بل يمكن أن يقع الغراب على المنارة، والعقل أيضاً لا يثبته، فلا نستطيع أن ننفي ولا نثبت هذا الخبر الذي يسمونه الخبر المجرد من القرائن العقلية التي تقطع إما بثبوت وإما بنفي، فالتمثيل بالسد أعظم؛ لأنه أعجب وأغرب، ولأنه مما أخبر به الله تبارك وتعالى في القرآن، ثم أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يرى هذا السد إلا النادر من الناس، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله أن الواثق أرسل في خلافته جماعة مما يمكن أن نسميهم بهذا الزمان بعلماء الآثار، فذهبوا وتقصوا وقطعوا بلاداً عظيمة، ورأوا أهوالاً وعجائباً حتى وصلوا إلى السد ورأوه والله تعالى أعلم.
      وهذا لا يفيد المؤمن في دينه في شيء، فإن يعلم ذلك أو أن يكون قد رآه أو أن يعلم أين هو الآن لا يفيده، وإنما حسبك أن تؤمن به كما أخبر به ربك تبارك وتعالى، وكما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
      إذاً: هذا شاهد للأمر الغيبي الذي لا يجزم العقل بنفيه ولا بإثباته كخبر الغراب على المنارة لا يجزم العقل به لذاته ولا ينفيه.
      النوع الثاني من من أنواع القسم الثاني: ترتيبه صلى الله عليه وسلم على خبر المخبر له مقتضاه، فالنوع الأول أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أقره فصدقه بما قال كما في حديث الحبر والرجل الذي رأى السد.
  5. ترتيب الفعل على خبر الواحد

     المرفق    
    والنوع الثاني: أن يرتب النبي صلى الله عليه وسلم مقتضى ثبوت الخبر عليه، كغزو من أخبره بنقض قوم العهد، فإذا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله! إن بني فلان نقضوا العهد الذي بينك وبينهم، فرتب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك غزوهم، ووجه الجيوش، وأعد العدة، وذهب إليهم لتأديبهم ولإرغامهم على الحق فإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنه صدق خبر الواحد، ولهذا قال الله تبارك وتعالى في آية الحجرات: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ))[الحجرات:6] فمقتضى ذلك أنه إذا جاءنا العدل بالنبأ صدقناه وهذا هو الذي كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الآية من الأدلة على قبول خبر الواحد وأنه يفيد العلم؛ لأن الله تعالى إنما أمر بالتثبت والتبين في خبر الواحد الفاسق، أما العدل فإنه يصدق بقوله، وإذا كنا نتبين في خبر الفاسق فمعنى ذلك أننا لا نجزم بكذبه لمجرد أنه فاسق؛ لأن الفاسق يصدق ويكذب، فاحتمال الصدق وارد عليه كاحتمال الكذب، أما العدل الثقة فهو الذي لا يكذب، وأما من ثبت تعمده للكذب فإن الظن بصدقه وكذبه قد ينتفي وقد يترجح أو نجزم بأنه كاذب، فإذا قامت القرائن على خلاف ذلك عمل بها، فالقرائن تنقل الجزم إلى الظن، وقد تنقل الظن إلى الجزم حتى لو كان كاذباً، وإذا كان الرجل ممن هو معروف بالكذب فروى أو ذكر أو أخبر عن شيء واحتفت بكلامه قرائن، فذلك يجعلنا نظن صدقه، وقد تقوى القرائن جداً حتى نقطع بصدقه في هذا الخبر مع أننا نعلم أنه في العادة يكذب.
    فـ ليس الآحاد نوعاً واحداً كما يزعم المتكلمون، وإنما بحسب القرائن والأدلة.
    ومن ذلك أيضاً قبول الرسول خبر من أخبره عن رجل بأنه يشتمه وأمر بقتله.
    قال ابن القيم رحمه الله: (فهذا تصديق للمخبر بالفعل، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقطع بصدق أصحابه كما قطع بصدق تميم الداري لما أخبر بقصة الدجال ، وروى ذلك على المنبر، ولم يقل أخبرني جبريل عن الله، بل قال: ( حدثني تميم الداري ) ) وحديث الداري رضي الله تعالى عنه في صحيح مسلم ، وهو حديث عجيب، وفيه أنه ظلت بهم المركب وتاهت في البحر، فرأى الجساسة ودلته على الدجال ، وكان من خبره ذلك الخبر العجيب، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره نادى النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فاجتمعوا فقال: ( إني كنت قد حدثتكم عن الدجال وجاء تميم الداري فحدثني ... ) الحديث، ثم روى ما جرى لـتميم ، فالحديث رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن تميم وأقره عليه، ولم يروه عن الله عز وجل، فهذا دليل صدقه صلى الله عليه وسلم فيما أخبر من قبل ودليل تصديقه لـتميم رضي الله عنه فيما أخبر به، وهذا من الأمور الغائبة التي لا يمكن أن يجزم الإنسان بكذبها ولا بصحتها لذاتها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أقره وصدقه، فدل على أن خبر الواحد الثقة العدل مصدق، ومن صدقه النبي صلى الله عليه وسلم فقوله وخبره حق ولا ريب في ذلك.
    يقول ابن القيم: (ومن له أدنى معرفة بالسنة يرى هذا كثيراً) أي: في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله وسنته يأتي كثيراً أن يجزم بصدق أصحابه، ويرتب على أخبارهم مقتضاها، وإذا أخبروه بأي شيء من المحاربة والمسالمة والقتل والقتال فلم يقل يوماً من الأيام: إن خبرك يا فلان مردود، بل كان صلى الله عليه وسلم يصدق أصحابه كما سيأتي في القرآن ما يدل على ذلك عندما عابه وذمه المنافقون.
    قال ابن القيم: (ونحن نشهد بالله ولله شهادة على البت والقطع لا نمتري فيها ولا نشك على صدقهم، ونجزم به جزماً ضرورياً لا يمكننا دفعه عن نفوسنا) رحم الله ابن القيم ، فهذا ما يجب أن يكون عليه المؤمنون الذين يعلمون فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقدرهم ومنزلتهم من الدين، فيجب عليهم أن يشهدوا بهذه الشهادة، وأن يجزموا بمثل هذا الجزم، وأن يحلفوا بالله العظيم على ذلك، فأننا لا يمكن أن نظن أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمكن أن يقول عنه إلا الحق، فخبرهم حق، وكلامهم صدق رضي الله تعالى عنهم، وهو يفيد العلم الضروري الذي لا يمكن أن ندفعه عن نفوسنا كما تبين في معنى العلم الضروري.