المادة كاملة    
من أصول منهج أهل السنة والجماعة وجوب قبول خبر الآحاد والاحتجاج به ما دام قد صح سنده، خلافاً لبعض الطوائف التي تتحاكم إلى الأقيسة والقواعد اليقينية أو القطعية كما يسمونها فيردون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقدمون عقليات وفلسفات اليونان والمتكلمين وسياسات الظالمين وخيالات الواهمين.
  1. وجوب قبول خبر الآحاد والاحتجاج به

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فقد ذكرنا قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (لم أسمع أحداً ينسبه عامة إلى علم أو ينسب نفسه إلى علم يخالف في أن الله سبحانه فرض اتباع أثر رسوله صلى الله عليه وسلم والتسليم لحكمة؛ لأن الله لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن ما سواهما تبع لهما) أي: حتى ولو كان هذا القول هو قول أفضل العلماء، وهم علماء الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، فإن قولهم إنما يعمل به على سبيل التبعية لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
    يقول: (وإنما فرض الله علينا وعلى من قبلنا وبعدنا قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يختلف فيه أحد أنه فرض وواجب قبول الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اتفق المسلمون على أن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض). وهذا أمر متفق عليه، ولو أن أحداً من الناس أبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدنى درجة من البغض فإنه لا يكون مؤمناً أبداً.
    ثم قال: (بل لا يتم الإيمان والإسلام إلا بكونه أحب إلى العبد من نفسه فضلاً عن غيره) أي: من أراد تمام وكمال الإيمان والإسلام، فإنه لا يحصل له ذلك إلا بأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من كل أحد حتى من نفسه، ويدل على ذلك: حديث عمر رضي الله تعالى عنه.
    ثم قال: (واتفقوا أن حبه لا يتحقق إلا باتباع آثاره) فكيف يتحقق حب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ إن كثيراً من الخلق يدعي محبة الله، أو يدعي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا سمى بعض السلف الصالح آية آل عمران: آية المحنة أو آية الامتحان، فقد امتحن الله تبارك وتعالى بها الخلق الذي يدعون محبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله قوله: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ))[آل عمران:31]، فهذه آية الامتحان، أي: امتحان لمن ادعى أو زعم المحبة لله أو لرسوله، فكل مسلم يقول: أنا أحب الله، وأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليمتحن نفسه بهذا الامتحان، وليعرض قلبه وعمله وإيمانه على هذه الآية، فإن كان متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا الشرط يحصل جوابه وجزاؤه: (( فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ))[آل عمران:31]، فهذا تحصل له محبة الله، وإذا أحبه الله عز وجل فهذا غاية ما يريده، وغاية ما يسعى إليه المؤمنون المتقون المقربون، كما قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي: ( ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه )، فهذه درجة عظيمة، ثم قال: ( فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه )، وهذه درجة المقربين المحسنين، الخلص.
    يقول: (واتفقوا أن حبه لا يتحقق إلا باتباع آثاره والتسليم لما جاء به، والعمل على سنته، وترك ما خالف قوله لقوله) أي: أن يترك ما خالف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لكلامه، أي لأجل كلامه، فإذا بلغه عن عالم أو حاكم أو قاضٍ أو مفتٍ أو إنسان أو والد أو والدة أو أي إنسان يحبه أو يقدره أو يعتد بقوله فأعجبه وأحبه، ثم وجد كلاماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف ذلك ويناقضه، فيرد ذلك لأجل قوله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي حقيقة التوحيد، وحقيقة الاتباع.
    يقول: (وهاتان مقدمتان برهانيتان لا تحتاج إلى تقرير) أي: هاتان المقدمتان واضحتان -والحمد لله- عند كل مؤمن، ولا تحتاج إلى أن تقرر وأن تشرح وأن تفصل لوضوحها.
  2. فرض تحكيم النبي عليه الصلاة والسلام لم يسقط بموته

     المرفق    
    ثم قال: (وقد قال بعض السلف في قوله عز وجل: (( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ))[النحل:116]: نزلت في علماء السوء الذين يفتون الناس بآرائهم، ويعرضون عن الكتاب والسنة، ويكفي في هذا) أي: يكفي في هذا المقام في تقريره (قوله تعالى: (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[النساء:65]، وفرض تحكيمه عليه الصلاة والسلام) الذي فرضه الله في هذه الآيات (لم يسقط بموته) كما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين أنه سأل أحد هؤلاء فقال: أنشدك الله لو أن النبي صلى الله عليه وسلم حاضر بيننا الآن، وقال هذا القول، أيجوز لأحد أن يعارض قوله؟ قال: لا، قال: سبحان الله! فما الفرق؟ هل الفرق أنه مات صلى الله عليه وسلم؟ إن قوله موجود، ومحبته وطاعته واتباعه وتحكيمه لا يسقط بموته صلى الله عليه وسلم، فأمره لازم وتحكيمه فرض علينا بعد موته كما هو في حياته صلى الله عليه وسلم.
    يقول: (وفرض تحكيمه لم يسقط بموته، بل هو ثابت بعد موته كما كان ثابتاً في حياته، وليس تحكيمه مختصاً بالعمليات دون العلميات) ويقصد بالعمليات: الأحكام العملية الظاهرة، مثل: أحكام الصلاة والزكاة والصوم، والعلميات: العقائد والغيبيات.
    يقول: (وليس تحكيمه مختصاً بالعمليات دون العلميات كما يقوله أهل الزيغ والإلحاد) وهؤلاء الملحدون المجادلون في آيات الله بغير علم من المتكلمين وأشباههم هم الذين قالوا: لا يحكم إلا في الأحكام العملية، ولذلك هم يقولون: إن العمليات يجوز العمل فيها بالظن -فأصلهم ثابت- وأحاديث الآحاد ظنية فنعمل فيها بالظن، أما الاعتقاديات فلا بد فيها من اليقين، وأحاديث الآحاد -في نظرهم- لا تفيد اليقين، وهذا هو الإفك والباطل والبهتان الذي يفترونه.
    ثم يقول: (وقد افتتح سبحانه هذا الخبر بالقسم المؤكد بالنفي قبله، وأقسم على انتفاء الإيمان منهم حتى يحكموا رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا نفي كان أقوى) كثير من الأقسام في القرآن يأتي منفياً، وذلك أقوى له، مثل: (( فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ ))[الانشقاق:16] فـ: (لا)، لتأكيد القسم، وعلماء اللغة يقولون: الزيادة في المبنى تدل على الزيادة في المعنى، فاللفظ الزائد دليل على معنى زائد، فقول ابن القيم رحمه الله: وقد افتتح سبحانه هذا الخبر بالقسم المؤكد بالنفي قبله. ليس بالشرط أن يكون نفياً للقسم، وإنما نفيٌ تقدم القسم، أي: كان له أن يقول في غير القرآن: (فوربك لا يؤمنون)، فيكون المعنى تاماً، لكن زيادة في النفي، أكدها بـ (لا)، فقال: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ)، وهذا في غاية التأكيد، وفي غاية البلاغة التي ليس بعدها بيان ولا تأكيد، (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ)، أي: لا يمكن أن يكون لهم إيمان حتى يحكموك فيما شجر بينهم.
    يقول رحمه الله: وأقسم على انتفاء الإيمان منهم حتى يحكموا في جميع ما تنازعوا فيه، من دقيق الدين وجليله، وفروعه وأصوله. ثم لم يكتف منهم بهذا التحكيم، أي: لم يكتف منهم بأن يحكموا هذا التحكيم التام الكامل الشامل، حتى ينتفي الحرج -وهو الضيق- مما حكم به، فتنشرح صدورهم لقبول حكمه انشراحاً لا يبقى معه حرج، فلو أن أحداً حكم النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءه الحديث فعمل به في أمر، لكن ضاقت نفسه به، كمن قيل له: إن بعض العلماء يقولون: إن هذا الشيء حرام، فإذا بلغه الحديث أنه حلال يجد في نفسه ضيقاً، مع أنه حكم النبي صلى الله عليه وسلم، لكن يجد في نفسه ضيقاً، فيتمنى أن يكون الحديث موافقاً لما في نفسه، أو لما علمه من شيوخه، أو من مذهبه، أو ما تعلمه من قبل، فهذا الضيق يجب أن ينتفي مع الإذعان والتحكيم زيادة انتفاء الضيق.
  3. معنى قوله تعالى: (ويسلموا تسليماً)

     المرفق    
    ثم فوق ذلك درجة أعلى وهي: (( وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))[النساء:65]، وهي درجة أو مقام الإحسان كما ذكر الشيخ رحمه الله في المدارج، التحكيم في مقام الإسلام، فمن لم يحكم فليس مسلماً، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، فمن لم ينتف الحرج من قلبه فليس بمؤمن وإن كان مسلماً لأنه حكم النبي صلى الله عليه وسلم، والتسليم في مقام الإحسان، فمن لم يسلم تسليماً فليس بمحسن وإن كان مؤمناً لأنه حكم وانتفى الحرج من قلبه، ثم قال: (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، أي: ينقادوا انقياداً لحكمه من غير مدافعة ولا منازعة ولا ممانعة ولا معارضة، وإنما يكون هواه تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يصبح له هوىً، وإنما ينظر أينما كان أمر الله ورسوله، فهواه تبع له، وهذه غاية الإيمان، وهي مرتبة عظمى نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أهلها، والتي ما نالها الصحابة إلا بعد جهد جهيد، ويوم الحديبية -كما تعلمون- نال هذه الدرجة وفاز بها: أبو بكر رضي الله تعالى عنه، أما عمر وبقية الصحابة فكانوا يرون الإقرار بشروط الصلح والعودة أنه ليس بصواب، فقالوا: أنرضى بالدنية في ديننا؟ ألسنا مؤمنين؟ أليسوا كافرين؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يطمئنهم ويهدأ من روعهم، مع أنهم أبوا أن يحلقوا رءوسهم إلا بعد أن فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك اعتراضاً عليه صلى الله عليه وسلم، لكن من غيرتهم على الدين ما فعلوا ذلك، مع أن الغيرة على الدين والحرص عليه تعني أنه لا بد أن تحكم ما يأتيك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تعمل به، أما أبو بكر رضي الله تعالى عنه فإنه سلم تسليماً وأذعن وقال: إنه رسول الله، ولا بد أن نصدقه، وأن نطيعه من غير أدنى اعتراض أو ممانعة. ثم فيما بعد اكتمل إيمانهم رضي الله تعالى عنهم، ولذلك يقول عمر رضي الله تعالى عنه: فأعتقت وتصدقت لذلك، أي: من أجل هذا الموقف ظل عمر رضي الله تعالى عنه، يعتق ويتصدق ليكفر عن موقفه، فانظروا كيف هذا الإيمان؟! مع أنه ما وقفه من أجل نفسه أو حظها أو شهوتها، وإنما من أجل إعزاز دين الله وإظهار الحق، في نظره، لا كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم.
    ثم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (والله يشهد ورسوله وملائكته والمؤمنون أن من قال: إن أدلة القرآن والسنة لا تفيد اليقين، وإن أحاديث الأسماء والصفات أخبار آحاد لا تفيد العلم، بمعزل عن هذا التحكيم) أي: لا حظ له في التحكيم فضلاً عن انتفاء الحرج أو التسليم؛ لأنه يقول: هذه أخبار آحاد! كأحاديث الرؤية لله، وأحاديث عذاب القبر، وأحاديث النزول، وحديث القدر، فبقولهم هذا عزلوا الوحي عن التحكيم، فلم يحكموا شرع الله، ولم يحكموا ما جاء عن الله، وإنما حكموا أهواءهم وعقولهم المزعومة، وظنوا أن هذا هو الحق.
    ثم يقول: (وهو يشهد على نفسه بذلك) أي: إن قائل هذا القول يشهد على نفسه أنه ما حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جعل كلامه لا يفيد العلم اليقيني.
    ثم قال: (وقد قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ))[النساء:59]، وأجمع المسلمون أن الرد إليه هو الرجوع إليه في حياته صلى الله عليه وسلم) كما قال تعالى: (( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ))[النساء:59] والرد إلى الله يعني: الرد إلى كتاب الله وهذا باتفاق، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يعني الرد على سنته صلى الله عليه وسلم، فيكون الرجوع إليه في حياته، والرجوع إلى سنته بعد مماته، واتفقوا أن فرض هذا الرد لم يسقط بموته أيضاً، بل حتى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فليس شرطاً أن يرد الإنسان الأمر إلى شخصه أو إلى ذاته صلى الله عليه وسلم، فلو كان الصحابة خارج المدينة في سفر مثلاً، واشتبه عليهم أمر فقال أحدهم: برأي، وقال الآخر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فالواجب هو الاتباع، حتى وهو حي صلى الله عليه وسلم؛ وبالتالي فلا فرق بين حياته صلى الله عليه وسلم أو موته، وإنما المهم ثبوت ذلك القول عنه، فإذا ثبت عنه هذا القول وجب أن يرد الإنسان الأمر إلى ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم.
  4. خطر الكتب اليونانية على العقيدة الإسلامية وأثرها على قبول خبر الآحاد

     المرفق    
    يقول رحمه الله: (فإن كان متواتر أخباره وآحادها لا تفيد علماً ولا يقيناً لم يكن للرد إليه وجه) أي: ليس هناك فائدة ما دام أنها لا تفيد العلم، وهذا واضح وجلي، فيا عجباً كيف أن ملوك الأرض كسرى أو قيصر وأمثالهم قبلوا خبره صلى الله عليه وسلم؟! ولا نعني قبلوا خبره: آمنوا وأذعنوا، لكنهم علموا أن هذا من عنده، ولم يشترطوا أن يأتيهم جمع متواتر، وإنما جاءهم منه صلى الله عليه وسلم كتاب فعلموا أن هذا من عنده، وكاد هرقل أن يسلم وقال: ائتوني بكل مختون، وجاء إليه أبي سفيان ومن معه، وكان الحديث العجيب بينهما، وهذا مذكور في صحيح البخاري ، فرتب على وصول هذا الكتاب إليه هذه الأمور العظيمة، فكيف يأتي مسلم ويقول: لا آخذ بهذا الحديث لأنه آحاد!
    ثم يقول: (ولما أصل أهل الزيغ والضلال هذا الأصل، ردوا ما تنازع فيه الناس من هذا الباب إلى منطق اليونان وخيالات الأذهان، ووحي الشيطان، ورأي فلان وفلان) أي: لما قال هؤلاء القوم: لا نتحاكم إلى الأحاديث؛ لأنها لا تفيد اليقين، فالمتواتر منها ما يفيد اليقين، والآحاد ظني فردوا الأحاديث، وبالتالي قالوا: إذاً لا بد من حكم، فتحاكموا إلى منطق اليونان ، فأخذوا يتحاكمون إلى الأقيسة والقواعد اليقينية أو القطعية -بزعمهم- التي هي كلام هؤلاء اليونان الكفرة الوثنيين، الذين ما أفلحت فلسفتهم ولا منطقهم في الرد على بني دينهم وجنسهم، بل إنه لما ورد كتاب المأمون أو غيره من قبله إلى ملك قبرص بأن يعطوهم ما عندهم من الكتب، وهذا يخالف ما فعل عمر رضي الله تعالى عنه، فإن عمر رضي الله تعالى عنه لما كتب إليه سعد بن أبي وقاص قال: إن لدينا زاملتين -أي: حمولة بعيرين- من الكتب وجدناها عند الفرس فهل نرسلها؟ فكتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه أن أحرقوها، فقد أغنانا الله تعالى بكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم عن كل كتاب، فأحرقوها، فما أتانا الشر من جهة الفرس، لكن المأمون كتب إلى ملك قبرص ليرسل ما عنده من كتب، فتشاوروا فانقسموا إلى رأيين، طائفة قالوا: كيف نبعث إليهم بكتبنا، وهي علمنا وحضارتنا وتراثنا، وهم أعداؤنا؟! وطائفة قالوا: أخرجوها لهم وأعطوهم إياها، فوالله ما انتشرت هذه الكتب في أمة إلا فرقت دينهم، ففكر الملك ومال إلى هذا الرأي، فبعث إليهم بهذه الكتب، فأنشئت دار الشر والفتنة التي سميت: دار الحكمة في بغداد ، وأخذ عبد الله بن المقفع وأمثاله يترجمون هذه الكتب وينشرونها بين الناس، حتى أنهم نشروا كتاب كليلة ودمنة، وترجموه عن الهندية ليستغني الناس بما فيه من الأمثال عما جاء في الحديث، وهي كتب للمساهرة ولإضاعة الأوقات -كما تسمى- ولمن لا علم لهم بالشرع، أما أن تحل هذه الكتب أو هذه الأمثال والعبر والحكم -بزعمهم- محل القرآن والسنة فهذا باطل، فانتشرت هذه الكتب فتفرق المسلمون -كما تعلمون- من بعد ذلك تفرقاً عظيماً، ولذلك لما عزلت الأحاديث عن التحاكم إليها حكمت هذه الكتب بما فيها من ضلالات، فإما منطق اليونان وإما خيالات الأذهان كما يفتري ابن سينا أو ابن رشد وأمثالهم، أو وحي الشيطان الذي يلقيه إلى الكهان وإلى الصوفية، والشيخ هنا يعرض بـالصوفية؛ لأن أنواع التحاكم قد بينها فيما بعد وأشار إليها، وأوضحها أيضاً في المدارج، وقد تحدثنا في موضوع الرضا عندما ذكرنا أن الرضا من أعمال القلوب، وذكر أنه يمكن أن يعترض أحد أو أن يعارض الشرع إما بالمعقول فيقول: هذا معقول، وبراهين عقلية، وهؤلاء هم المتكلمون والفلاسفة ، وإما أن يعارضوا بالخيالات كالكشوفات والمخاطبات والمنامات، وهؤلاء هم الصوفية ، وإما أن يعارضوا بالسياسات فيقولون: الشرع كذا ولكن السياسة تقتضي كذا، وهؤلاء رد عليهم ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية وفي إعلام الموقعين وغير ذلك، والذين يعارضون الحديث يقولون: لو عملنا بالحديث -مثلاً- لضاعت الحقوق وتعطل الأمن، ولو عملنا بالحديث لدرءنا الحدود بالشبهات، وهذا باطل كما نبين إن شاء الله، فإنه ما من حكمة أو مصلحة إلا وقد جاء بها الشرع ودل عليها والحمد لله، وما عدا ذلك فهو باطل، وما يظنه أهل الكلام عقلاً فهو رأي وهوى، وما يظنه أهل التصوف كشفاً أو إلهاماً فهو خيال وضلال ووهم، وما يظنه أصحاب السياسات حزماً وقوة وقانوناً ونظاماً فهو إجحاف وظلم وباطل، وكل الحق محصور فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    وأما قوله: (فلان وفلان). أي: أتباع المتعصبين للمذاهب، فإنك إذا أتيته بالحديث يقول: أنا أرجع إلى كلام فلان، فهذا أيضاً لم يرد الحكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه أنواع الرد لما جاء من عند الله.
    ثم يقول: (وهؤلاء كلهم يتناولهم قوله تبارك وتعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ))[النساء:60]) فمناط الحكم هو إرادتهم، وإلى الآن ما حاكموا، لكن أرادوا فقط، فنقول: مجرد أن يريد الإنسان أو يرضى أو يرغب في التحاكم إلى غير الشرع، فهذا هو الذي جعله الله تبارك وتعالى لا يجتمع مع الإيمان، بل هو النفاق الأكبر، فالإيمان معه مجرد زعم وليس إيماناً على الحقيقة، ويؤكد هذا قوله تعالى: (( وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ))[النساء:60] فلا يكون العبد مؤمناً بالله إلا إذا كفر بالطاغوت، قال تعالى: (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا ))[البقرة:256]، والعروة الوثقى هي شهادة أن لا إله إلا الله، فمن لم يكفر بالطاغوت فهو لم يشهد أن لا إله إلا الله، ثم يقول الله تكملة للآية: (( وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا ))[النساء:60].
  5. بيان معنى الطاغوت التي تحكم من دون النصوص

     المرفق    
    ثم يقول: (والطاغوت اسم لكل ما تعدى حده وتجاوز طوره) والطاغوت ليس شيئاً معيناً، فقد فسره الصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم، فقال بعضهم: الشيطان، وقال بعضهم: الأصنام، وقال بعضهم: الكهان وكل هذا حق، لكن ليس محصوراً في شيء من هذا، إذ إن هذا يسمى التفسير بالمثال، ولا يعني أن ما عداه غير داخل فيه، فمن أمثلة الطواغيت: الشيطان، والأصنام، والكهان، والحكماء الذين كانوا في الجاهلية ينتصبون في الأسواق ويتحاكم إليهم الناس في أقضيتهم، فهذه كلها طاغوت، والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع مطاع، وطاغوت كل قوم هو من يعبدونه من دون الله، أو يتحاكمون إليه من دون الله، أو يتبعونه ويطيعونه في معصية الله، ويمكن أن يكون هذا الطاغوت بشراً، ويمكن أن يكون حجراً، ويمكن أن يكون شجراً، ويمكن أن يكون شيطاناً، ويمكن أن يكون أي شيء ينطبق عليه هذا الوصف الجامع، فكل ما كان كذلك فهو طاغوت يجب أن يكفر به.
    ثم قال: (ومعلوم أن هذا الذي يتحاكم إليه أهل الزيغ حده أن يكون محكوماً عليه لا حاكماً) أي: أن كلام اليونان أو كلام المتكلمين أو كلام الصوفية وما أشبههم يجب أن يكون محكوماً عليه لا حاكماً، ولذلك ابن القيم رحمه الله هنا في هذا الصواعق المرسلة جعل المجاز طاغوتاً، والتأويل طاغوتاً، فأراد أن يحطم هذه الطواغيت، فهذه طواغيت يجب أن يحكم عليها لا أن تكون هي الحاكم الذي يتحاكم إليه، وترد إليه الآيات والأحاديث.
    ثم قال: (فقال تعالى: (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ))[النساء:61]، فجعل الإعراض عما جاء به الرسول، والالتفاف إلى غيره هو حقيقة النفاق، كما أن حقيقة الإيمان هو تحكيمه وارتفاع الحرج عن الصدور بحكمه والتسليم لما حكم به رضاً واختياراً ومحبة -وهذان أمران متقابلان- فهذا حقيقة الإيمان، وذلك الإعراض حقيقة النفاق).
  6. عقوبة الإعراض عن حكم الله ورسوله

     المرفق    
    قال: (ثم أخبر سبحانه وتعالى عن عقوبة المعرضين عن التحاكم إليه في العلميات -أي: في الاعتقاديات والخبريات- أو في العمليات -في الأحكام والشرائع والحدود والتعزيرات والأقضية- فقال تعالى: (( فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ))[النساء:62]، فأخبر أن هذا الإعراض عن التحاكم إليه سبب لأن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم) ودائماً ما تركت هذه الأمة كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وتحاكمت إلى غيرهما، إلا أصابتها المصائب، وحلت بها الدواهي والنكبات حتى ترجع إلى دينها لكن إن وقعت المصيبة فماذا يكون؟ يقولون: (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا)، فالنفاق هو النفاق، والضلال هو الضلال، والشبهة هي الشبهة من قديم إلى الآن، والعلة واحدة يقولون: أردنا أن نوفق بين مقتضى الوحي وبين مقتضى المنطق والعقل، أردنا أن نوفق بين النقل وبين العقل، أردنا أن نوفق بين ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وبين ما جاء عن أفلاطون و أرسطو وأمثالهم، فنحن حاولنا أن نأخذ شيئاً وسطاً لا هو ظاهر الأحاديث ولا هو على ظاهر كلام أولئك، نريد أن نساوي بينهما حتى لا يكون هناك تعارض، وهذه هي الشبهة التي يقولها اليوم كثير ممن مرض قلبه بمثل هذا النوع من النفاق، يقولون: لا بد من التوفيق بين الإسلام وبين الحضارة الغربية، فنلتقي في نصف الطريق؛ لأن الأمور في الإسلام عظيمة، لكن ما تتناسب مع الحضارة، فمثلاً: الإسلام يرى أن المرأة لا بد أن تكون في البيت، قال تعالى: (( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ... ))[الأحزاب:33] فالأصل مكثها في البيت، وفي الحضارة الغربية: المرأة والرجل متزاحمين، فكيف نوفق بينهما؟ يفتحون الكليات والتخصصات، ونفعل كذا، ونجعل كذا، حتى نوفق بين هذا وهذا! إن محاولة التوفيق بين الحق والباطل هو شأن المنافقين النفاق الأكبر الذي ذكره الله تبارك وتعالى، لذا فالواجب التحاكم إلى ما أنزل الله، ورد كل علم أو حضارة أو وضع إلى ما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهكذا أرادوا التوفيق في مسألة الربا؛ فإن الشريعة جاءت بتحريمه، والحضارة الغربية والاقتصاد العالمي يقومان الآن عليه، فأرادوا التوفيق بينهما فقالوا: القروض الإنتاجية شيء، والقروض الاستهلاكية شيء، وهذا يجوز وذاك لا يجوز، حتى أحياناً يخرجون الكلام ويؤولونه، مثل: تأويل آيات الربا حتى لا يبقى هناك ربا، فيقولون: الذي في البنوك الآن هو عبارة عن نسبة مقابل التضخم فأنت إذا أقرضته الآن مائة جنيه بعد سنة يكون قيمة المائة جنيه مائة وعشرة أو مائة وعشرين، فالتضخم يقابله فائدة، فنجعل عشرين في المائة أو عشرة في المائة فائدة، وهذه ليس فيها ربا، وبهذا تكون الآيات لا معنى لها أو لا دليل لها، وتبقى الآيات حروفاً مكتوبة لا قيمة ولا دلالة لها وهكذا، فهؤلاء الذين ذكرهم الله يريدون التوفيق بين الحق والباطل، وفي النهاية لا يكونون من أهل الحق؛ لأنهم أعرضوا عنه، ولا يكونون من أهل الباطل المحض المكشوف، فيكونون كما قال الله تعالى عنهم: (( مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ ))[النساء:143]، وقد ضرب لهم النبي صلى الله عليه وسلم المثل كمثل الشاة العائرة، مرة مع هؤلاء ومرة مع هؤلاء.
    ثم قال: (وقال في المتولين عن حكمه: (( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ))[المائدة:49]) فـ كل من تولى عن حكم الله، وعن طاعة الله، وعن التحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبه وليس بكلها فيسلط عليهم المؤمنين، أو يسلط عليهم الكفار، أو يبتليهم ببلاء، وربما كانت العقوبة من أقسى وأشد أنواع العقوبة، وهو أن يعاقب على الذنب بذنب أعظم منه والعياذ بالله، قال تعالى: (( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ))[الصف:5]، وهذا مما يجعل المؤمن يخاف من ذنوبه، أن يتجرأ على ذنب فيعاقب عليه بذنب أشد منه أو بعقوبة أكبر منها، كأن يرتكب فاحشة كبيرة فيعاقب عليها بأن يبذر في قلبه النفاق والكفر والعياذ بالله كما قال تعالى: (( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ))[المائدة:13]، فهذه عقوبتهم، وقوله: (( وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ))[المائدة:13]، وهذا مثل من يسمع بالآية أو الحديث أو الأمر أو النهي فلا يعمل به، فينقض عهد الله الذي أخذه عليه -أن يعمل بما جاء في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم- ولا يبالي به، فتكون العقوبة: اللعنة وقسوة القلب، وإذا قست قلوبهم حرفوا الكلم عن مواضعه، فيقول: إن الحديث لا يدل على الوجوب، وقد كان في أول الأمر يخاف من تركه للأمر أو فعله للنهي، وإذا به يقول الآن: إن هذا ليس فيه شيء، وليس بحرام، وليس بواجب، فأصبح يحرف الكلم عن مواضعه، وهكذا العقوبة نعوذ بالله.
  7. إنكار السلف على من عارض سنة النبي الكريم بالقرآن

     المرفق    
    ثم قال: (قال أبو داود : حدثنا حماد بن سلمة عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير: أنه حدث بحديث فقال له رجل من أهل الكوفة: إن الله تعالى يقول في كتابه كذا وكذا) فهذا سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه من التابعين الأجلاء، حدث بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة من المسائل، فقام هذا الرجل من أهل الكوفة -وهي بيئة النفاق والشقاق والفتنة في صدر الإسلام- فقال: إن الله يقول في كتابه كذا وكذا. فاعترض على الحديث بالآية، فقال: فغضب سعيد وقال: [لا أراك تعرض في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله منك] أي: يقول: النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله منك، فإذا جاءك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعارضه بالآية، فإذا كانت الأحاديث الثابتة الصحيحة في مسألة لا تعارض بعموم الآيات، فكيف بمن يعارض الحديث بالهوى والكشف والذوق والخيال؟! إن هذا أشد.
    ثم قال: (فإذا كان هذا إنكارهم على من عارض سنة النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن، فماذا تراهم قائلين لمن عارضها بآراء المتكلمين، ومنطق المتفلسفين، وأقيسة المتكلمين، وخيالات المتصوفين، وسياسات المعتدين؟!) لا يمكن أن يقروه؛ لأنه لا يمكن أن يتعارض الحديث مع الآية، فإن الذي قال هذا الحديث أعلم بالقرآن، والله أنزل القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم: (( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ))[النحل:44]، هو الذي يبين ذلك فكيف يعارضه؟ وإذا كان هذا في القرآن فكيف يعارض بكلام أحد كائناً من كان، ولو كان من خيار الأمة؟! فكيف إذا كان يعارض بكلام المشركين من اليونان، والصابئين وأمثالهم، وضلالات المضلين، وشطحات المتصوفين، أو أحكام وسياسات الجائرين الظالمين المعتدين؟!
    ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (ولله بلال بن سعد حيث يقول: [ثلاث لا يقبل الله معهن عمل: الشرك والكفر والرأي، قلت: يا أبا عمرو وما الرأي؟ قال: يترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: بالرأي] فالذي يترك السنة ويقول بالرأي لا يقبل الله معه عمل والعياذ بالله، (وقال أبو العالية الرياحي -إمام معروف- في قول الله عز وجل: (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ))[فصلت:30]: قال: [أخلصوا لله الدين والعمل والدعوة]) فقوله: (أخلصوا لله الدين) أي: فلا يؤمنون إلا به، ولا يشركون به شيئاً، وقوله: (العمل) أي: لا يراءون أحداً بعملهم كما أمر الله تبارك وتعالى بذلك، فقال: (( وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ))[الكهف:110]، وقوله: (والدعوة) أي: يدعون إليه وحده، لا يدعون إلى طائفة أو جماعة أو حزب، أو فرد، أو مذهب، أو تحكيم منطق أو فلسفة، وإنما يدعون إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وحده، وما عدا ذلك فهو تبع، فالطائفة أو الحزب أو المذهب أو أي شيء هو تبع لما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ثم قال: (جردوا الدعوة إليه وإلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقط، لا إلى رأي فلان ولا إلى قول فلان) أي: يدعون إلى ما أنزل الله، لا إلى رأي فلان ولا قول فلان.
    ثم قال: (وقال سفيان في قوله تعالى: (( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ))[النور:63]) هذه الآية العظيمة التي أنزلها الله تعالى للتحذير ممن يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته في الاستئذان أو في غيره، كما حصل في يوم الخندق أو في أي أمر، وحكم ما بعد موته هو كحكم ما في حياته، يقول سفيان: [الفتنة: يطبع على قلوبهم]. أي: يطبع على قلوبهم -والعياذ بالله- لمخالفته صلى الله عليه وسلم، وقال الإمام أحمد: [إنما هي الكفر] أي: فليحذر الذين يخالفون سنته صلى الله عليه وسلم أن تصيبهم عقوبة الكفر، فيعاقبوا بأن يكفروا والعياذ بالله.
    ثم قال: (ولقي عبد الله بن عمر جابر بن زيد في الطواف فقال له: يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة). أي: جابر بن زيد من الفقهاء في البصرة المعروفين الذي تدعيه اليوم طائفة من طوائف الضلال وهي الإباضية، فقال له: [إنك من الفقهاء -أي: شهد له عبد الله بن عمر بأنه من الفقهاء- فلا تفت إلا بقرآن ناطق أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت] وهكذا تكون الفتوى، بالقرآن أو بالسنة، وما كان منهما إذا كان الاجتهاد فيهما أو في فهمهما فهو من الرد إليهما.
    ثم قال: (وقال ابن خزيمة : قلت: لـأحمد بن نصر وحدث بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أما تأخذ به؟ -أي: أنه ذكر حديثاً فقال: أما تأخذ بهذا الحديث؟- فقال: أترى وسطي زناراً، لا تقل لخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أتأخذ به؟ وقل: أصحيح هو ذا؟ -أي: هل هو صحيح؟- فإذا صح وجب العمل به، قال: فإذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت، شئت به أم أبيت]) أي: لا بد أن أقول به، شئت أم أبيت، وافق هواي أو لم يوافق، ويجب أن أفتي به وأن أتبعه.
    ثم قال: (وقال أفلح مولى أم سلمة : إنها كانت تحدثه أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر وهي تمتشط: ( أيها الناس! فقالت لماشطتها: كفي رأسي -أي: كفي لا تمشطي- فقالت: فديتك، إنما يقول: أيها الناس! -أي: أنه لا يخاطبنا، لكن يخاطب الذي في المسجد- فقالت: ويحك! أولسنا من الناس؟ -أي: قفي حتى نسمع ماذا يقول فنعمل به- فكفت رأسها وقامت في حجرتها فسمعته يقول: يا أيها الناس! بينا أنا على حوضي، إذ مر بكم زمراً، فتفرقت بكم الطرق فناديتكم )، أي: بينما أنا على الحوض -يضرب لهم مثلاً أو يشبه لهم ما يقع يوم القيامة- فإذا بهم يمرون به زمراً أو مجموعات، فتفرقت بكم الطرق فناديتكم: (ألا هلم إلى الطريق، فينادي منادٍ: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً) ) وقد تقدمت أحاديث الحوض، وأنه قد ثبت من عدة طرق عن جمع من الصحابة: أن قوماً يذادون -أي: يطردون- عن الحوض، فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم يقول: ( أمتي أمتي؟ فيقال له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك )، كالذين اتبعوا البدع والأهواء والضلالات، من خوارج و مرجئة و معتزلة و صوفية و روافض و شيعة ، ومن أعظمهم: المرتدون الذين ارتدوا على أعقابهم بعد موته صلى الله عليه وسلم، فكل من ارتد عن سنته صلى الله عليه وسلم، وكل من أنكر سنته وتنكر لها، فإنه لن يرد حوضه، وإنما يقال له: بعداً بعداً، أو سحقاً سحقاً، فلا يبالي بهم صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم أحدثوا وبدلوا، ولو كانت مجرد ذنوب أو معاصٍ لأمكن أن يشفع فيهم صلى الله عليه وسلم.
    ثم قال رحمه الله: (وهذه الطرق التي تفرقت بهم -يعني في هذا الحديث- هي الطرق والمذاهب التي ذهبوا إليها، وأعرضوا عن طريقه ومذهبه صلى الله عليه وسلم، فلا يجوزون -أي: لا يعبرون ويمرون- على الطريق التي هو عليها يوم القيامة، كما لم يسلكوا الطريق التي كان عليها هو وأصحابه) أي: في الدنيا، كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه لما خط صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً في الوسط، وعن يمينه خطوطاً وعن يساره، ثم قال: (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ))[الأنعام:153]، فهذه هي الوصية العاشرة من الوصايا العشر التي أنزلها الله تبارك وتعالى على كل نبي، وهي في آخر سورة الأنعام، وقد قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: [من أراد أن ينظر إلى وصية النبي صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات].
  8. عظم تقديم الرأي على حكم الله ورسوله

     المرفق    
    ثم قال: (وقال عكرمة عن ابن عباس: [إياكم والرأي؛ فإن الله رد على الملائكة الرأي]) وهذا الاستنباط دقيق فإن الملائكة رأوا أن جعل خليفة في الأرض لعلة: (( وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ))[البقرة:30]، فكان في نظرهم أن العلة واضحة، وهي إن كان المقصود من جعل خليفة في الأرض العبادة، فنحن نسبحك ونقدس لك ونعبدك ولا نعصيك في شيء، فكيف تجعل فيها من يكون هذا حاله وشأنه؟ فقال الله: (( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ))[البقرة:30].
    قال: (وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ))[النساء:105]، ولم يقل: (بما رأيت)، مع أنه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يحكم بما رأى، وإنما بما أراه الله عز وجل.
    قال: (وقال بعض العلماء: ما أخرج آدم من الجنة إلا بتقديم الرأي على النص، وما لعن إبليس وغضب عليه إلا بتقديم الرأي على النص‎، ولا هلكت أمة من الأمم إلا بتقديم آرائها على الوحي) وبيان ذلك: أما في شأن آدم فقال الله: (( وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ))[البقرة:35] خطاب رباني بأن لا تقرب هذه الشجرة أنت ولا زوجك، فقدم الرأي وهو: (( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ))[الأعراف:20]، فإنه رأى أن هذا الأمر أفضل مما هو فيه، وأما بشأن إبليس فالنص قوله تعالى: (( اسْجُدُوا لِآدَمَ ))[البقرة:34] أمره الله من جملة ما أمر، فاعتراض على الأمر بدليل القياس أو العقل، فقال: (( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ))[الأعراف:12] فعنصر النار أعلى من عنصر الطين، فالواجب أن الطين يسجد للنار، فأنت يا رب! كأنك أمرت بعكس المفروض، ثم قال: (ولا هلكت أمة من الأمم إلا بتقديم الرأي على الوحي) فالآراء مثل: نظريات، وفلسفات، وقوانين وضعية، وعادات اجتماعية، وتقاليد قبلية، وأهواء، وعصبيات، وشهوات، فكل ذلك يدخل في الرأي، وهو من غير الوحي أو ما شرع الله وأنزله.
    قال: (ولا تفرقت الأمة فرقاً وكانوا شيعاً إلا بتقديم آرائهم على النصوص). إذ لو حكموا الوحي ما تفرقوا وما اختلفوا، لكن عندما قدموا هذه الآراء على ما جاء من عند الله تفرقوا فكل واحد يرى أن عقله أفضل من الآخر، ورحم الله الإمام مالكاً لما قال: [أو كلما جاءنا رجل هو أجدل بحجته من الآخر تركنا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن ربه لقوله]، ولهذا قال العلماء: من اتبع الرأي أكثر التنقل. أي: أنه ما يثبت، فيكثر التنقل والتردد، وصاحب البدعة يبدأ بالانحراف -والعياذ بالله- في قضية من القضايا، ثم يستمر، ولا تظنوا أن صاحب البدعة أو صاحب الهوى هو فقط من كان محدوداً في أحد الفرق هذه، إما خارجي أو رافضي أو معتزلي، إذ كل من أعرض عن الحق واتبع هواه فهو من أهل الأهواء والبدع والعياذ بالله، وكل من يريد أن يكون الحق كما يرى هو، أوكما يتمنى، أوكما يهوى، أوكما يحب، فهذه هي الأساس، وهذه هي العلة، فليكن بعدها ما كان، حتى لو أخذ من هذه الفرقة بطرف، ومن هذه بطرف، وقد لا يكون له رأي معين أو بدعة معينة، لكنه يكون صاحب هوى، أي: حاطب ليل يتخبط في كل وادي، ويأخذ من كل فرقة، ومن كل كاتب، ومن كل عالم، ومن كل مفت ما يوافق هواه، ويعارض هذه بهذه، وهؤلاء كثير والعياذ بالله، فأهل الأهواء أعم من أن يكونوا أهل بدع بالمعنى المعروف.
    ثم قال: (وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: [يا أيها الناس! اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي اجتهاداً، والله ما آلو عن الحق]) أي: ما كانت نيته إلا الحق رضي الله تعالى عنه، وذلك يوم أبي جندل والكتاب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة وهو في يوم الحديبية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: بل تكتب كما نكتب: باسمك اللهم، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيت عليه حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تراني أرضى وتأبى )، أي: أخذ يعاتبه، وقال ابن عباس في قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ))[الحجرات:1]: [لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة]. وحديث عمر رضي الله عنه معلوم للجميع، وقد قال: [قد أعتقت وتصدقت لذلك دهراً]، أي: ظل حيناً يفعل من العبادات والمكفرات ما يكفر الله به عنه في ذلك الموقف الذي عارض أو امتنع أو تحرج من قبول ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وما أمر به، وأما كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه فإنه فسر آية الحجرات: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ))[الحجرات:1]، فقال: [لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة] وهذا معنى التقديم بين يدي الله ورسوله، أي: أن يعلم العبد أو يبلغه أمراً عن الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول بخلافه، ويرى أن العمل إنما هو بما قاله هو لا بما بلغه عن الله ورسوله، فيكون قد قدم بين يدي الله ورسوله، والواجب إنما هو الاتباع وهو عكس التقديم، أي: اتباع ما جاء في كتاب الله وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس التقديم بين أيديهما خاصاً في حال الحياة فقط، بل هذا ينطبق عليه أن يقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته، وغض الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وكذلك أن لا يقدم بين يدي كلامه، فإذا قال أحد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فالواجب أن لا يرفع أحد صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ولكن المذهب الفلاني كذا، أو الشيخ الفلاني قال كذا، أو الرأي كذا، أو العقل كذا، إنما الواجب هو الاتباع والانقياد لما جاء به صلى الله عليه وسلم.
    وبهذا الكلام يكون قد انتهى المقام الثالث، وهو موجز وجامع لوجوب تلقي الأحاديث وأخبار الآحاد بالقبول، ثم يبدأ بعد ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله في شرح المقام الرابع وهو: إفادتها للعلم واليقين، ولا نستطيع أن نبدأ بهذا، لكن نعقب على المقام الثالث بالتذكير بما تقدم في شرح هذا الكتاب من قوله: (فهما توحيدان لا نجاة للعبد إلا بهما) أي: توحيد المرسل، ويعني به: توحيد الله تبارك وتعالى بالعبادة، وتوحيد متابعة المرسل، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يغني أحدهما عن الآخر، حتى الخوارج الذين تعبدوا وتقربوا إلى الله بقربات وطاعات يحقر أحدنا عبادته بعبادتهم، لكن لما لم يتبعوا لم ينفعهم ذلك.
    إذاً ليست المسألة فقط توحيد المرسل، أي: توحيد الله تعالى بالعبادة والطاعة، ولكن يجب أيضاً متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا يكون الأصلان اللذان هما أصلا الدين وقاعدته: أن لا يعبد إلا الله، وأن لا يُعبد إلا بما شرع، وهو ما بلغه وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا بد من تحقيق هذين الأصلين ليكون الإنسان مؤمناً حقاً.
    والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.