المادة كاملة    
إن الإسلام والإيمان لفظان إذا انفردا اجتمع معناهما، فيشمل المذكور منهما معنى الآخر، وإذا اجتمعا انفرد معناهما، فيكون معنى كل منهما غير معنى الآخر، ويظهر بطلان دعوى الترادف من خلال الآيات والأحاديث الواردة بذكرهما في نفس الموضع.
  1. القول بترادف الإيمان والإسلام

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال رحمه الله: (وطائفة جعلوا الإسلام مرادفاً للإيمان، وجعلوا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة.. ): شعائر الإسلام) يعني: عندما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ( ما الإسلام؟ )، وهذا كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (قد أجاب عنه صلى الله عليه وسلم كما يجاب بالحد عن المحدود) في اصطلاح الأصوليين والمتكلمين وأمثالهم، والحد: هو التعريف الجامع المانع، يقولون: ليس المقصود هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم عنده -على تأويلهم- أن الإيمان والإسلام شيء واحد، لكن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الإسلام أجاب بشعائر الإسلام، أي: الأعمال الظاهرة، والأركان الستة الباطنة هي حقيقة الإسلام، وهي الإيمان، فجعلوهما مترادفين بهذا التأويل، فتكون هذه الأركان الخمسة الظاهرة إذاً شعائر، وليست تعريفاً وإنما هي تعريف لشعائره، فجبريل عليه السلام لما سأل عن الإسلام كأن النبي أجابه بشعائره لا بحقيقته.
    1. الرد على من يقول بترادف الإيمان والإسلام

      قال الشيخ: (والأصل عدم التقدير)، فالحديث يقول: ( الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله … ) الحديث، فهما مبتدأ وخبر، ومسند ومسند إليه، ولا تقدير في الكلام، والأصل في كلام العرب عامة، وفي كلام الشرع خاصة في الألفاظ الشرعية والكلمات الشرعية: ألا يقدر إذا تم المعنى من غير تقدير، فالأصل هو عدم التقدير.
      قال: (مع أنهم قالوا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب) وهذا -كما قررنا من قبل- هو مذهب الأشعرية و الماتريدية ، فإذا كان الإيمان هو التصديق بالقلب عندهم كما يقول الشارح رحمه الله، ويقولون أيضاً: إن الإسلام والإيمان شيء واحد؛ فيكون الإسلام على ذلك هو التصديق بالقلب، وما داما مترادفين فما عرّفوا به الإيمان هو أيضاً تعريف للإسلام، فيكون الإسلام إذاً هو التصديق بالقلب، [وهذا لم يقله أحد من أهل اللغة]، وقد تقدم بالتفصيل معنى الإيمان، وتفصيل ذلك من الناحية اللغوية، وأما الإسلام من الناحية اللغوية فلا خلاف في أنه هو الانقياد والطاعة والاستسلام والإذعان وما أشبه ذلك، وليس من التصديق، أي: لا علاقة بين الإسلام وبين التصديق لغة، وإنما هو الانقياد والطاعة.
      يقول: (وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا في الحديث المتفق عليه- في الدعاء: ( اللهم لك أسلمت، وبك آمنت ) )، ففرق بينهما، وعدّى الإسلام باللام فقال: (لك)؛ لأنه بمعنى الانقياد، أي: انقدت لك، وأذعنت لك، واستسلمت لك، وأما الإيمان فتعدى بالباء؛ لأنه آمن -كما تقدم- في معنى الإيمان اللغوي، فآمن إذاً يتعدى بالباء.
      قال: (وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة) أي: كما في حديث جبريل عليه السلام، وفسر الإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة، أي: الأركان الستة التي هي في حديث جبريل، أيضاً، وقد حذف الإيمان بالقدر؛ لأنه يدخل في الإيمان بالله، وقد تقدم معنا في شرح الأصول الخمسة للمعتزلة أنهم جعلوا الأصول الخمسة بدل الأركان الخمسة هذه، وهكذا ابتدعوا في الدين.
      والمقصود بالأصول الخمسة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، هذا معنى كلام الشارح هنا، ولو أنه قال: والإيمان بالأصول الستة لكان أولى، حتى يطابق لفظ الحديث.
      قال: (فليس لنا إذا جمعنا بينهما أن نجيب بغير ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم) وأما إذا أطلق أحدهما دون الآخر دخل فيه، ولا إشكال حينئذ ما دام أن كل منهما يدخل في الآخر، ففي حال الإفراد لا إشكال أن تجيب بأي جواب من أجوبة النبي صلى الله عليه وسلم، أو ما يصح من غيرها، فتلك حالة اتفاق لا إشكال فيها، والحالة التي نحن نريد أن نلزم بها هؤلاء هي حالة الاجتماع، فإذا اجتمع الإيمان والإسلام في نص واحد كما في حديث جبريل عليه السلام، وكما في آية الحجرات: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ))[الحجرات:14]، فليس لنا أن نقول: إنهما مترادفان، والنبي صلى الله عليه وسلم قد فرق بينهما، بل إن في القرآن التفريق بينهما، قال: (وإما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام) (ولكن قولوا أسلمنا)، فمعنى ذلك: أنه لا بد أن يكونوا مؤمنين، فأسلمنا معناه: أن لديهم قدراً من الإيمان، فإذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد اسم الإسلام فإنه يتضمن الإيمان، كما في حديث وفد عبد القيس: ( أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة )، ففسر الإيمان بالإسلام.
  2. ذكر الإيمان مفرداً عن الإسلام وما يترتب على ذلك

     المرفق    
    قال: (وإذا أفرد الإسلام فقد يكون مع الإسلام مؤمناً بلا نزاع، وهذا هو الواجب، وهل يكون مسلماً ولا يقال له: مؤمن؟ وتقدم الكلام فيه) أي: إذا أفرد الإسلام فقد يكون مع الإسلام مؤمناً بلا نزاع، ولكن قد يكون مسلماً وليس مؤمناً.
    قال: (وهذا هو الواجب) أي: أنه لا شك في أن الإيمان الواجب أن يكون العبد مع الإسلام أيضاً مؤمناً، وهل يكون مسلماً ولا يقال له مؤمن؟ نعم يكون، كما في آية الحجرات، وكما في حديث سعد الذي ذكرناه، وسوف يذكره الشيخ فيما بعد، والذي قال فيه: ( أو مسلماً )، فالنبي صلى الله عليه وسلم يردد ثلاث مرات على سعد ( أو مسلماً؟ ) عندما يقول: ( إن أراه لمؤمناً ).
    قال: (وكذلك هل يستلزم الإسلام الإيمان؟ فيه النزاع المذكور، وإنما وعد الله بالجنة في القرآن، وبالنجاة من النار باسم الإيمان) فلا بد من قدر من الإيمان لكي يكون العبد مسلماً وإلا كان منافقاً، ولو قال أحد كلمة الإسلام، وأظهر شعائره؛ وليس لديه قدر من الإيمان في قلبه فإنه يكون منافقاً.
    قال: (وإنما وعد الله بالجنة في القرآن، وبالنجاة من النار باسم الإيمان)، فالوعد للمؤمنين وليس لمجرد المسلمين، والآيات في ذلك كثيرة لا تحصى، وفي هذا دليل على وجوب الإيمان، فالإسلام يمنع صاحبه من الخلود في النار، فمن كانت لديه درجة الإسلام ولم يكن مؤمناً، فارتكب المحرمات، وترك من الواجبات أيضاً ما يعاقب عليه؛ فهذا يكون من أهل الكبائر، ويكون متوعداً على ما ترك من الواجبات، وارتكب من المحرمات بالنار، لكن لو دخلها لا يخلد فيها، فالإسلام ينجيه من الخلود في النار، وأما الإيمان فإن من حققه بأن أتى بالواجبات، وترك المحرمات -أي: اجتنب الكبائر-: (( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا ))[النساء:31]، فهذا بإذن الله لا يدخل النار، فالموعود بالجنة هم المؤمنون وليس مجرد المسلمين، كما قال تعالى: (( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ))[يونس:62-64]، فهذه الآن علقت ذلك بالإيمان مع التقوى.
    وقال تعالى: (( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ))[الحديد:21] فعلق ذلك على الإيمان، وأيضاً قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ))[الكهف:107]، وقوله: (( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ))[الفرقان:70]، فلازم ذلك أن يكونوا من أهل الجنة، وقوله: (( إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ ))[الحج:14].
    إذاً فآيات الإيمان كثيرة، ومن أهمها ما جاء في أول الأنفال، وفي أول المؤمنون والحجرات، فقد ذكرت أوصاف المؤمنين كما جاء في أول الأنفال: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ))[الأنفال:2-4]، وفي المؤمنون قال بعد أن ذكر أوصافهم: (( أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ))[المؤمنون:10-11].
    إذاً فالآيات جميعاً مترابطة، فكلها فإذا تأملتم في كتاب الله تعالى فإنكم تجدون أنها تجعل دخول الجنة مرتباً على الإيمان؛ سواء اقترن به العمل الصالح أو أفرد؛ لأن المراد واضح كما قد بينا العلاقة بين الإيمان والعمل إذا اقترنا.
    قال: (وأما اسم الإسلام مجرداً فما علق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه، وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه) والذي علق على الإسلام في الآخرة هو: النجاة من الخلود في النار، وأما في الدنيا: فعصمة الدم والمال، وهذا قد تقدم عندما شرحنا قوله: ونسمي أهل القبلة مسلمين مؤمنين كما في حديث أنس رضي الله عنه: ( من استقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، وصلَى صلاتنا، فهو المسلم ).
    فمن أقر بشعائر الإسلام الظاهرة فإنه يثبت له في الدنيا عصمة الدم والمال، كما في الحديث: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ).
    فهذا هو الذي علق على الإسلام، وأما دخول الجنة فهو معلق بالإيمان، لكن الله تعالى وصف من أتى بشعائر الإسلام بأنه قد أفلح، فهل (أفلح) تقتضي دخول الجنة؟ لا، لأن (أفلح) قد يفهم منها الفلاح في الدنيا الذي ناله بالتمسك بهذه الأمور، وأنه سيؤدي به إلى الإيمان، كما وعد الأعراب في قوله تعالى: (( وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:14]، فهذا الرجل سوف يدخل الإيمان في قلبه إن صدق، فالذي رتب هو الفلاح، ولم يرتب عليه دخول الجنة، والكلام هنا في دخول الجنة.
    قال الشارح رحمه الله: (لكنه فرضه وأخبر أنه دينه).
    يعني: أخبر الله أن الإسلام هو دينه، فلم يعد الكلام عن الإسلام بمعنى المرتبة، وإنما أصبح الكلام عن الإسلام بمعنى اسم الدين العام، فالإسلام هو دين الله تبارك وتعالى الذي لا يقبل من أحد أن يدين بغيره، وهو دين جميع النبيين، كما قال تعالى: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ))[آل عمران:85]، وهو دين الله الذي بعث به عباده المرسلين من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلا يقبل الله تبارك وتعالى ديناً غيره في أي عصر، وعلى لسان أي نبي، فهذا قدر.
    والقدر الآخر: أن يكون مدعي ذلك أو قائله موعوداً بالجنة، خالداً فيها، وهذا لا بد من أن ينضم إليه أمر آخر وهو مرتبة الإيمان.
  3. العلاقة بين الإسلام والإيمان إفراداً واقتراناً

     المرفق    
    يقول: (فالحاصل أن حالة اقتران الإسلام بالإيمان غير حالة إفراد أحدهما عن الآخر) فإذا اقترنا دل كل منهما على معنى، وهذا معنى قولهم: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. أي: في حالة الإفراد يتضمن كل منهما معنى الآخر.
    قال: (فمثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى) فانظر إلى كلمة الشهادة -أي الفرق بين حالة الاقتران وحالة الانفراد-، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله )، فلو قالوا: لا إله إلا الله، وأنكروا الرسالة؛ هل كانوا يستحقون العصمة، وتحفظ دماؤهم وأموالهم؟! لا، إذاً فالمراد من ذلك هما الشطران معاً، فالشطر الأول: شهادة أن لا إله الله، والشطر الثاني: شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    فإذا قيل: لا بد أن تشهد: أن لا إله الله؛ فإنه يدخل في ذلك الشهادة بأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا لو قيل: لا بد أن تشهد أن محمداً رسول الله، أو قيل للرجل: لا بد أن تؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ فمعنى ذلك قطعاً أنه لا بد أن يؤمن أنه لا إله إلا الله، فهما متلازمان.
    إذاً فلو قالوا: لا إله إلا الله، وأنكروا الرسالة لم يكونوا يستحقون العصمة، فلا بد أن يقولوا: لا إله إلا الله ويكونوا قائمين بحقها، ولا يكون قائماً بحق لا إله إلا الله حق القيام إلا من صدق بالرسالة.
    قال: وكذا من شهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: لا يكون قائماً بهذه الشهادة حق القيام إلا من صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، فتضمنت التوحيد -أي: الكلمة-، وإذا ضمت شهادة أن لا إله إلا الله إلى شهادة: أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم كان المراد من شهادة: أن لا إله إلا الله إثبات التوحيد، ومن شهادة: أن محمداً رسول الله: إثبات الرسالة.
    فإذا أقر العبد بتوحيد الله، وبرسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء بالإيمان والدين كله، لكن لو أفردت إحداهما فلا بد أن تدخل فيها الأخرى، وحالة الاقتران كما في الأذان وغيره لا شك أنها أفضل وأشمل؛ لأنه يندرج فيها الدين كله؛ لأن أصل الدين وقاعدته هما أمران: ألا يعبد إلا الله، وألا يعبد الله إلا بما شرع رسول الله.
    قال: (فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد، وكذلك الإسلام والإيمان، فلا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لم لا إيمان له؛ إذ لا يخلو المؤمن من إسلام يتحقق به إيمانه) وهذه قاعدة عظيمة، ولهذا قلنا: لو أن عبداً قال: أنا مسلم؛ ولم يأت من الأعمال بشيء: لا صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولم يعمل أي عمل من أعمال الإيمان، فهذا لا يكون أبداً مؤمناً.
    فمثلاً إنسان يعيش بين المسلمين، ويسمع الأذان، ويرى المساجد، ويرى الصلاة، ويرى الناس يعملون الخير؛ فلم يعمل أي عمل من أعمال الإيمان أبداً، ولا أتى بأي شعيرة من شعائر الإسلام أبداً؛ إلا أن اسمه عبد الله، أو عبد الرحمن، أو عبد الكريم… إلخ فقط، ويقول: أنا مسلم؛ فهذا لا يكون مؤمناً، والحالة الوحيدة المستثناة هنا -ونذكرها حتى لا يختل هذا الأصل- حالة قوم في آخر الزمان عندما يرفع الدين، ويرفع العلم حتى لا يدرى ما صلاة، وما زكاة، وما صيام، كما في حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه، ولا يبقى لهم إلا هذا، فيقولون: [أدركنا الرجل الكبير، والمرأة العجوز يقولان: لا إله إلا الله، فنحن نقولها، قال: صلة بن الأشيم رحمه الله لـحذيفة: وما تغني عنهم لا إله إلا الله؟!] وهذا من فقه التابعين وفقه السلف، يعني: ما دام أنه لا صلاة، ولا صيام، ولا نسك، ولا صدقة فما تغني عنهم؟ فكان معلوم عندهم أن هذه الكلمة الواحدة لا تنفع إلا بهذه.
    فقال حذيفة : [تنجيهم من النار]؛ لأنهم إنما بلغهم من الدين أنهم أدركوا الرجل الكبير، والمرأة العجوز يقولان: لا إله إلا الله، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يكلف هؤلاء بأن يؤدوا الأركان وهي لم تبلغهم، ولم يسمعوا عنها، ولا يمكن ذلك، فلا يقاس على هذه الحالة حالة رجل بين المسلمين؛ والقرآن بين يديه، والأذان يرفع، والناس يقبلون على طاعة الله، ويرى كل هذا، ثم يترك الصلاة، ويترك الزكاة والصيام والحج وكل الأعمال الإيمانية، ثم يقال عنه: إنه لم يخرج من الإيمان، إنه مجرد عاص، ومجرد مرتكب كبيرة وإنه يمكن أن ينجو من النار؛ لأنه مثل الذين قال فيهم حذيفة : [تنجيهم من النار]!!
    فلماذا نجعل هذا كهذا، فالحال مختلف تماماً، وعدل الله تبارك وتعالى ورحمته وحكمته تأبى ذلك، فمن رحمته عز وجل أنه جعل أولئك السابقون ينجون، ولذلك من كان قبل فرض الصلاة والصيام في أول الإسلام، فقد كان المطلوب هو شهادة أن لا إله الله فقط، وهذه الأحكام لم تبلغهم، فمن مات منهم قبل شرع الفرائض لا يكون مطالباً بها؛ لأنها لم تنزل في ذلك الوقت، فكذلك من لم تبلغه أصلاً لا يطالب إلا بما بلغه، فهذه حالة خاصة ولا تقاس عليها الحالات العادية.
    وأسوأ شيء في هذا الباب: أن يظن بعض الناس أن القول بتكفير تارك الصلاة، وتارك أعمال الإيمان كلها من أقوال الخوارج ، أو مثل قول الخوارج ، وهذا قول خطأ جداً؛ لأن القول بالتكفير إجماع من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم؛ حيث كانوا لا يرون شيئاً تركه كفر سوى الصلاة، وهم الذين يقتدى بهم، وهم أهل الإجماع حقاً، فحقيقة الإجماع لا تنطبق على أي جيل كانطباقها في عهد الصحابة، ولهذا قال بعض العلماء: لا إجماع إلا إجماعهم، وأما بعد ذلك فقد تفرقت المذاهب والعلماء والأحاديث في البلدان. فالإجماع هو إجماعهم.
    ولنا أن نتصور خطأ وبطلان قول من يقول: إن تارك الصلاة تركاً مستديماً مطلقاً غير كافر- هذه الحالة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو وجد في عهده صلى الله عليه وسلم أناس في المدينة أو في أطرافها ممن حولها من الأعراب لا يصلون، ولا يصومون، ولا يحجون، ولا يزكون، ولا يعملون أي عمل، ويقولون: بلغنا أن هذا الرجل قد خرج ونحن نقول: إنه صادق ونحن نقول أننا مسلمون، وأسماؤنا عبد الله، ومحمد .. إلى آخره، فهل كان يقبل منهم هذا الكلام، ويقرون على أنهم مسلمون؟ لا يمكن أبداً؛ لأن الذين يقومون بالفرائض وهم غير مؤمنين، وغير منقادين؛ وهم المنافقون قد أنزل الله تعالى فيهم ما أنزل، ولم يقبل منهم إلا الصدق والانقياد الكامل، والإخلاص لله سبحانه وتعالى، فكيف بهؤلاء الذين لم يعملوا من الأعمال أي عمل إلا دعوى مجردة، فلا يمكن أن يكونوا مسلمين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا في عهد الصحابة، فكذلك يجب أن يكون الحكم اليوم.
    إذاً: فلا يخلو المؤمن من إسلام به يصح إيمانه، وأدنى ذلك: أن يؤدي الصلوات الخمس، ولا يخلو المسلم من إيمان يصح به إسلامه؛ وإلا كان منافقاً؛ لأن مجرد إتيانه بالعمل الظاهر لا يخرجه من المنافقين إلا بإيمان خالص وصادق في القلب.
  4. نظائر للإسلام والإيمان في الإفراد والاقتران

     المرفق    
    قال: (ونظائر ذلك في كلام الله ورسوله وفي كلام الناس كثيرة، أعني: في الأفراد والاقتران) وهذا هو الذي بدأنا به الموضوع، وبيناه من قبل في موضوع الفرق بين التوبة والاستغفار، والعلاقة بين الألفاظ في دلالتها واقترانها.
    يقول: (منها لفظ الكفر والنفاق، فالكفر إذا ذكر مفرداً في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون) لأنهم كفار، كقوله تعالى: (( وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ))[المائدة:5]، فيدخل في هذا الكفار ونظائره كثيرة، فإذا ذكر الكفر وحده شمل كل كافر؛ سواءً كان ذلك كفر نفاق، أو كفر شك، أو كفر ظن، أو كفر إعراض، أو كفر جهل.. إلى آخر أنواع الكفر.
    فكفر النفاق يدخل في الكفر إذا أفرد، فإذا قيل: (إن الذين كفروا) في أي آية من القرآن دخل فيه كفر النفاق، وإما إذا قرن بين المنافقين وبين الكفار كان الكافر هو من أظهر كفره، كما ذكر الله تبارك وتعالى: (( إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ))[النساء:140]، وفي أول سورة البقرة ذكر الله تعالى الأقسام الثلاثة: ذكر المؤمنين، ثم ذكر الكفار، ثم ذكر المنافقين، والمنافقون هم من الكفار؛ لكن كفرهم من نوع آخر، فالكافر هو من أظهر كفره كـاليهود و النصارى والمشركين، فهؤلاء يقال لهم: كفار إذا ذكر معهم المنافقون، ويكون المنافقون هم الذين قالوا آمنا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم، فلم يظهروا الكفر ولكنهم أبطنوه، فإذا أفرد الاسم وقال: الكفار؛ دخل فيه الجميع.
    وكذلك لفظ البر والتقوى، ولفظ الإثم والعدوان، ولفظ التوبة والاستغفار، كما في قول الله تبارك وتعالى: (( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ))[المائدة:2]، فلما ذكر البر وذكرت التقوى دل كل منهما على معنى، لكن لو ذكر أحدهما كما في قوله تعالى: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ))[البقرة:177]، فقال في آخرها: (( وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[البقرة:177]، فإنه يشمل الآخر.
    إذاً فالتقوى والبر بمعنى واحد، فمن أتى بأعمال البر فهو متقٍ، لكن هنا ذكرا معاً فدل كل واحد منهما على معنى، ويختلف تفسير ذلك من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقد يفسر هذا بشيء وهذا بشيء والمراد واحد.
    ولفظ الإثم والعدوان أيضاً، فالإثم إذا أفرد وحده دخل فيه العدوان، وأما إذا ذكر مع العدوان دل هذا على معنى، وذلك على معنى، ولفظ التوبة والاستغفار، وهذا ما تقدم شرحه فيما مضى.
    وكذلك لفظ الفقير والمسكين وأمثال ذلك، وقد تقدم ذلك أيضاً، فإذا أطلق الفقير وحده، أو المسكين وحده فهما بمعنى واحد، وأما إذا جمع بينهما كما في آية الصدقات في قوله تعالى: (( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ))[التوبة:60]؛ فالفقراء لها معنى، والمساكين لها معنى، بغض النظر عما هو المعنى.
    ثم يقول في آخر الكلام: (والظاهر أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة رضي الله عنه).
    فهو الآن يرد على شبهات المرجئة ؛ ولا سيما الحنفية منهم، وسيأتي بالأدلة، وفي النهاية يبين أن هذه الردود التي يشنع بها المرجئة على أهل السنة والجماعة لم تبلغ الإمام أبا حنيفة ولم تثبت عنه، وليس هو الذي قالها.
  5. دلالة آيات أواخر الحجرات على الفرق بين الإسلام والإيمان

     المرفق    
    يقول: [ويشهد للفرق بين الإسلام والإيمان قوله تعالى: (( قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ))[الحجرات:14]، وقد اعترض على هذا بأن معنى الآية: (قولوا أسلمنا) أي: انقدنا بظواهرنا، فهم منافقون في الحقيقة، وهذا أحد قولي المفسرين في هذه الآية الكريمة] فهناك من يرى أنهم منافقون -وهو القول المرجوح- فهؤلاء الأعراب عندهم ليسوا مسلمين، والراجح: أنهم مسلمون. وليسوا بمؤمنين، فهذا هو ظاهر الآية، والقول الآخر: أنهم ليسوا مسلمين ولكنهم ادعوا الإيمان، فقيل: لهم قولوا: أسلمنا، أي: انقدنا بظواهرنا، وأما قلوبهم فليس فيها شيء من الإيمان، فهم إذاً منافقون، ولا شك أن هذا القول مرجوح.
    قال: [وأجيب بالقول الآخر ورجح وهو أنهم ليسوا بمؤمنين كاملي الإيمان لأنهم منافقون، كما نفى الإيمان عن القاتل، والزاني، والسارق، ومن لا أمانة له] أي: كما في حديث: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب النهبة حين ينتهبها وهو مؤمن ).
    قال: [ويؤيد هذا سياق الآية، فإن السورة من أولها إلى هنا في النهي عن المعاصي، وأحكام بعض العصاة ونحو ذلك، وليس فيها ذكر المنافقين] أي: أن سورة الحجرات ليست في المنافقين، وإنما هي في قوم نزلت درجتهم عن درجة المؤمنين لكنهم مسلمون، فالذين ينادون من وراء الحجرات، والذين يرفعون أصواتهم فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ هؤلاء ليسوا بمنافقين، بل إن من المنافقين من يأتي ويتأدب ويخشع في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ويستكين، وأما هؤلاء الجفاة والأعراب فقد أسلموا صادقين في ذلك، ولكن لم تتهذب أخلاقهم بالإيمان، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفعلوا هذه الأفاعيل مما تقدم وغيره، فكانت هذه السورة في الآداب والأخلاق التي لا بد منها لكي يكون العبد مؤمناً، وهي لم تتعرض لمن ليس له أصل الإيمان، وإنما الكلام فيها عمن أسلم ولكنه لم يؤمن، ولم تتهذب أخلاقه بذلك.
    قال: [ثم قال بعد ذلك: (( وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ))[الحجرات:14]] أي: بعد قوله تعالى: (( وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا ))[الحجرات:14]، قال: [ولو كانوا منافقين ما نفعتهم الطاعة]، وإنما يذكِّرهم بما يكِّملون به إيمانهم؛ ليستحقوا دعوى الإيمان أن يقولوها، يقول: [ثم قال: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا ))[الحجرات:15] الآية] فبين حقيقة من يستحق وصف ومدح الإيمان، وأما من كان دونه فإنه لا يرقى إلى درجة الإيمان، لكنه لا ينزل عن درجة الإسلام، وأما المنافقون فأمر آخر لم تتعرض له الآيات.
    قال: [يعني والله أعلم أن المؤمنين الكاملي الإيمان هم هؤلاء] وأما هؤلاء فادعوا ما لا يستحقون: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا)، فادعوا وصفاً لا يليق بهم، فهذا يليق بمن كان هذا حاله وشأنه، فقولنا: كاملو الإيمان ليس خطأ، ولكن الأولى والأفضل أن نقول: المستحقون لوصف الإيمان، قال: [لا أنتم، بل أنتم منتف عنكم الإيمان الكامل]، أو قل: أنتم لم تحققوا الإيمان الكامل فلا تستحقون اسمه، والاتصاف به، قال: [ويؤيد هذا أنه أمرهم أو أذن لهم أن يقولوا: (أَسْلَمْنَا) والمنافق لا يقال له ذلك، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام كما نفى عنهم الإيمان]، وهي أما أن تكون على ظاهرها، فيأمرهم الله أن يقولوا، أو إذن، أي: لا يجوز لكم ولا إذن لكم أن تقولوا عن أنفسكم: آمنا، ولكن مأذون لكم أن تقولوا: أسلمنا، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام كما نفى عنهم الإيمان.
    والمنافقون نوعان: قوم كفروا بعد إسلامهم، وقوم كفروا بعد إيمانهم، كما في آية التوبة، فقد ذكر فيها أوصاف النوعين: الذين كفروا بعد إسلامهم، والذين كفروا بعد إيمانهم، فمنهم من أسلم ولكنه كفر وارتد -والعياذ بالله- بعد ذلك، ومنهم من آمن في الحقيقة، ثم نكث إيمانه وانتكس وانقلب على عقبه فخسر الدنيا والآخرة والعياذ بالله، فهؤلاء لا إيمان لهم ولا إسلام، فالمنافقون النفاق الأكبر لا إيمان لهم ولا إسلام، بل كفروا بعد إيمانهم، وكفروا بعد إسلامهم، وأما الأعراب فإن الله أذن لهم أن يدعوا الإٍسلام، ولم يأذن لهم أن يدعوا الإيمان.
    قال: [ونهاهم أن يمنوا بإسلامهم، فأثبت لهم إسلاماً ونهاهم أن يمنوا به على رسوله] فلو لم يكونوا مسلمين لما اثبت ذلك، بل قال لهم: أنتم منافقون كاذبون لا إسلام لكم ولا إيمان. قال: [ولو لم يكن إسلاماً صحيحاً لقال: لم تسلموا، بل أنتم كاذبون، كما كذبهم الله في قوله: (( نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ))[المنافقون:1] والله أعلم بالصواب]، فقد كذبهم الله تعالى، (( وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ))[المنافقون:1]، فشهد الله بأنهم كاذبون، فهذا في المنافقين، وأما في الأعراب فلم يشهد بذلك، وإنما أرشدهم إلى ما ينبغي أن يقولوه، ونهاهم أن يرتقوا إلى ما هو أعلى منه، والله أعلم بالصواب، وينتفي بعد هذا التقرير والتفصيل دعوى الترادف: أي: بعد هذه الآية.
  6. انتفاء دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان بما ذكر من الأدلة

     المرفق    
    ثم ذكر فيما بعد حديث سعد ، ولا بأس أن نذكره هنا؛ فنحن إذا ضبطنا هذين الأصلين فهما كافيان، فالآية في منع الترادف بين الإسلام والإيمان، والثاني: الحديث الصحيح حديث سعد رضي الله تعالى عنه؛ الذي قال فيه الإمام أحمد : حديث سعد أحب إليَّ؛ لأنه واضح في التفرقة، وهو أوضح من حديث جبريل عليه السلام، وهو كالآية في الإذن له بأن يقول: إنه مسلم واعترض على قوله: إنه مؤمن.
    قال: [وينتفي بعد هذا التقرير دعوى الترادف، وتشنيع من ألزم -أي المرجئة ألزموا أهل السنة - بأن الإسلام لو كان هو الأمور الظاهرة لكان ينبغي ألا يقابل بذلك، ولا يقبل إيمان المخلص، وهذا ظاهر الفساد]، ولا شك أن هذا باطل، لكنهم ظنوا أنهما منفصلان، وظنوا أنه يمكن أن يقبل العمل الظاهر والباطن خالٍ من الإيمان، وهذا لا يمكن.
    قال: [فإنه قد تقدم تنظير الإسلام والإيمان بالشهادتين وغيرهما، وإن حالة الاقتران غير حالة الانفراد، فانظر إلى كلمة الشهادة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله...) الحديث، فلو قالوا: لا إله إلا الله، وأنكروا الرسالة؛ ما كانوا يستحقون العصمة، بل لابد أن يقولوا: لا إله إلا الله. قائمين بحقها، ولا يكون قائماً بلا إله إلا الله حق القيام إلا من صدق بالرسالة، وكذا من شهد أن محمداً رسول الله، لا يكون قائماً بهذه الشهادة حق القيام إلا من صدق هذا الرسول في كل ما جاء به، فتضمنت التوحيد، وإذا ضممت شهادة أن لا إله إلا الله إلى شهادة أن محمداً رسول الله كان المراد من شهادة (أن لا إله إلا الله) إثبات التوحيد، ومن شهادة (أن محمداً رسول الله) إثبات الرسالة.
    كذلك الإسلام والإيمان: إذا قرن أحدهما بالآخر، كما في قول الله تعالى: ((إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ))[الأحزاب:35]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت)؛ كان المراد من أحدهما غير المراد من الآخر، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب) ، وإذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه، وكما في الفقير والمسكين ونظائره، فإن لفظي الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فهل يقال في قوله تعالى: ((إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ))[المائدة:89] أنه يعطى المقل دون المعدم أو بالعكس؟ وكذا في قوله تعالى: ((وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ))[البقرة:271]]
    .
    وهذا ما أوضحناه، وكذلك الإسلام والإيمان إذا قرن أحدهما بالآخر، كما في قوله تعالى: (( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.. ))[الأحزاب:35] الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم لك أسلمت، وبك آمنت )، فيكون المراد من أحدهما غير المراد من الآخر، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الإسلام علانية، والإيمان في القلب )، وقد تقدم تخريجه والكلام عليه، وإذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه، وهذا كله تأكيد وتقرير لما تكرر وتقدم.
    وكما في الفقير والمسكين ونظائره؛ فإن لفظي الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فهل يقال في قوله تعالى: (إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) إعطاء المقل دون المعدوم؟ فهذا دليل على أنهما إذا انفردا اجتمعا، وفي قول الله تبارك وتعالى: (( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ))[التوبة:60] قال العلماء: الفقير الذي لا يملك شيئاً، أي: المعدم، والمسكين: هو المقل الذي لا يجد كفايته، وأما قوله تعالى: (( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ))[المائدة:89] فلا يعقل أن المراد المساكين دون الفقراء؛ فنعطي المقلين ونترك المعدمين الذين ليس لهم شيء بالمرة! وإنما المقصود: الفقراء والمساكين معاً، فاللفظ يدخل فيه الاثنان معاً، وكذا في قوله تعالى: (( وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ))[البقرة:271] لكن لو أن أحداً أخفاها -أي: صدقته- وأعطاها المساكين فإنها تقبل، فهما مترادفان.
    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.