المادة كاملة    
من أصول الدين المهمة التي حصل فيها الخلاف مع وضوح الأدلة الشرعية فيه؛ الإيمان، فقد خالف فيه أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية مذهب أهل السنة والجماعة من السلف الصالح ومن بعدهم، ونتج عن ذلك الإفراط والتفريط، والغلو والتسيب، وتشتت المسلمون، كل حزب بما لديهم فرحون، ووفق الله أهل الحق إلى العمل بكتابه، وسنة نبيه.
  1. إعراض الحنفية الماتريدية عن مذهب الإمام أبي حنيفة واتباعهم لبدع أبي منصور الماتريدي

     المرفق    
    ونذكر هنا كلاماً للملا علي القاري ، وهو من كبار الحنفية المتأخرين، وبه يتضح مذهب الحنفية الذي ذكره الشارح، يقول القاري : الإقرار شرط إجراء الأحكام -يعني: شرط لإجراء الأحكام- الدنيوية، وهو مختار الأشاعرة ، وذهب جمهور المحققين إلى أن الإيمان: هو التصديق بالقلب، وإنما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا؛ ولما كان تصديق القلب أمر باطني لا بد له من علامة، فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن عند الله تعالى؛ وإن لم يكن مؤمناً في أحكام الدنيا، ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه كالمنافق فهو بالعفو، أي: مؤمن في أحكام الدنيا، كافر عند الله، وهذا اختيار الشيخ أبي منصور الماتريدي رحمه الله.
    فهم يرجعون إلى الماتريدي ويتركون الشيخ الأكبر عندهم وهو الإمام أبو حنيفة رحمه الله، ولو أنهم على الأقل أخذوا بمذهب الإمام أبي حنيفة لكان أقرب، لكنهم أيضاً أعرضوا عن مذهب الإمام، أو أولوه بأن المقصود شرط أو علامة فقط لإجراء الأحكام الدنيوية، والقاري هنا وافقهم على هذا في كتابه: شرح الفقه الأكبر ، وكتاب الفقه الأكبر المنسوب للإمام أبي حنيفة قد تحدثنا عن النسبة، وأن الصحيح أنه لـأبي مطيع البلخي ، لكنه عند الحنفية صحيح النسبة إلى الإمام، فقام الشيخ ملا علي القاري بشرحه.
  2. من بدع الأشاعرة والماتريدية والرد عليهم

     المرفق    
    وأوضح من ذلك يقول الشارح: (والإسلام اشرحن بالعمل) أي: والإسلام اشرحنّ حقيقته بالعمل الصالح، أعني: امتثال المأمورات، واجتناب المنهيات، والمراد: الإذعان لتلك الأحكام، وعدم ردها؛ سواءً عملها أو لم يعملها.
    فعندهم أنه رضي فقط ولم يرد هذا الحكم، فعلى هذا إذا كفر الكافر فإنهم يقولون: نتأكد منه ونسأله: هل هو مقر أو غير مقر؟ فإذا فعل مثلاً فعلة كفرية فلا يقولون كما يقول أهل السنة والجماعة: ننظر إلى عوارض الأهلية من انتفاء الموانع وثبوت الشروط، وإنما يقولون: لا بد من أن يسأل، أو أن يطلع على حاله؛ فإن كان مقراً بالوجوب فلا يكفر؛ لأن عنده الإيمان، وأما إن كان مكذباً، أو قال: ما أقر؛ فيكفر؛ لأن الكفر عندهم هو التكذيب، أو ترك الإقرار.
    وإذا سجد للصنم فإنهم يسألونه: عندما سجدت للصنم هل أنت تقر بأن السجود لا يكون إلا لله أو لا؟ فإن قال: أنا أقر أنه لله، قالوا: هذا مؤمن، وإن قال: لا، قالوا: هذا كافر؛ لأننا عرفنا هذا بعدما اطلعنا على حاله، وهذا خلاف مذهب أهل السنة والجماعة ، بل لفعل أي عاقل من العقلاء.
    وأضرب لكم مثالاً آخر واضحاً: لما ترك المرتدون الزكاة قالوا: لا نؤديها، بل نقاتل عليها، وقالوا:
    أطعنا رسول الله ما كان بيننا             فيا ليت شعري ما لدين أبي بكر
    أي: ما لنا ولدين أبي بكر ، فنحن لا ندفعها، والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا أفقه وأعلم بدين الله من أن يقولوا: اسألوهم هل أنتم مقرون بالوجوب، أم غير مقرين بالوجوب؟ فلم يسألهم الصحابة عن ذلك؛ لأن السؤال عن ذلك لا معنى له، وهو من كلام المرجئة.
    وكذلك الصلاة فإن ترك ذلك وكان غير مقر فقد كفر كفر تكذيب، وإن كان مقراً فقد كفر كفر عناد وإباء، فالذي يقول: أنا لا أقر، فقد كذب بما أنزل الله، وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا كذب بالقرآن، وكذب السنة، فهو كافر بتكذيبه، وأما الذي يقول: أنا أعلم وأقر أن الله افترض الصلاة، وأنزلها، وأنها واجبة؛ ومع ذلك لن أصلي والعياذ بالله، فهذا كفره أسوأ، وهذا واضح في واقع البشر؛ فإن أميراً أو ملكاً أو مطاعاً من المطاعين إذا قال لعبدٍ من عبيده، أو لمولى من مواليه: افعل كذا فلم يفعل، فجاء الملك إليه وقال له: لماذا لم تفعل؟ ألا تقر بأمري؟ فإن قال له: لا؛ فهو أخف عنده من أن يقول له: بلغني أمرك، وأنا أقر به، ولكني لم أنفذه، ولن أطيعك، فهذا لا يمكن، وما بعده إلا العقوبة مباشرة، فمن علم أن الأمر حق ولا يقبله ولا يعمل به؛ فهذا لا جواب له إلا العقوبة.
    وأما الآخر فيمكن أن تقول له: لماذا تعمل به؟ ألم يبلغك؟ ألم تفهمه؟ وكلاهما كفر؛ لكن كفر الآبي المستكبر أشنع وأشد؛ ولذلك كان كفر إبليس أشد وأغلظ أنواع الكفر، وهو من كفر الإباء والاستكبار، (( أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ))[البقرة:34] فإبليس لم ينكر أمر الله؛ لأنه قد سمعه من الله، ولم يقل: لا أقر بأمرك، فهو مقر به ولكنه مع إقراره به أبى أن يطيع، (( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ))[الأعراف:12]، (( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ))[الإسراء:61] أي: أنت أمرتني بذلك ولكني لن أفعل: (أأسجد له وأنا خير منه)، وهذه الشبهة الشيطانية الإبليسية هي شبهة أكثر الكفار، في أكثر العصور والأزمان، أي: الإباء والامتناع عن أمر الله مع إقرارهم بأنه من عند الله.
    وقد يقترن الكفران، فنجد أن أمماً أو أفراداً يكذبون، وفي الوقت نفسه يأبون.
    والمقصود: أن هذين نوعان مختلفان، وأنه قد يوجد أحدهما ولا يوجد الآخر، وأن كفر الإباء والاستكبار والعناد أغلظ من كفر التكذيب المجرد.
  3. ملخص منزلة العمل من الإيمان عند الفرق

     المرفق    
    فـالمرجئة يجعلون العمل خارجاً عن حقيقة الإيمان، فهو إما علامة وإما شرط لإجراء تلك العلامة وتلك الأحكام، وأما القول بأنه شرط فقد استبعدوه بالكلية، ولم يرتبوا عليه أحكاماً عملية؛ ولا سيما عند المتأخرين منهم، فهم يحصرون الإيمان في التصديق القلبي، كما يحصرون الكفر في التكذيب أيضاً بالقلب، فيخرجون بقية أعمال الجوارح، وبقية أعمال القلب من الإيمان.
    وكذلك لا يدخلون بقية أنواع المكفرات في الكفر، وهي: كفر الإباء، والعناد، والإعراض، والشك وغير ذلك؛ ولهذا فالمسألة كلها عندهم هي في الإقرار، وضده الجحود أو التكذيب، فهو إما كفر الجحود أو كفر التكذيب.
    وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله في الإيمان الأوسط عن هذه المسألة بكلام نفيس، وبين أنه حتى في الاختلاف في حكم تارك الصلاة لما قال بعضهم: إنه إن كان جاحداً لوجوبها وإن كان غير جاحد؛ مبني على هذا، ولا شك أن من كان جاحداً لوجوب الصلاة فإنه يكفر، لكننا لا نجعل هذا لازماً لهذا، ولا نجعل أي نوع من أنواع الكفر شرطاً في وجود النوع الآخر، فلا نقول مثلاً: لا يكفر إلا إذا كان جاحداً؛ فإن لم يجحد لكنه أبى ورفض الأمر فكفره هنا مستقل.
    وكذلك السجود للصنم كفر بذاته، وكذلك لو أهان رجل كتاب الله وألقاه وهو يعلم أنه القرآن، فلا نسأله: هل أنت مقر أنه كلام الله أم غير مقر؟ فما دام يعلم أنه قرآن وفعل به ذلك فعمله هذا كفر، فالعمل يكون كفراً كما أن العمل يكون إيماناً.
    إذاً: مذهب أهل السنة والجماعة أن العمل إيمان، وأن الإيمان عمل، ( ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله )، والحديث صحيح، فأفضل الأعمال الإيمان، فالإيمان من الأعمال، والأعمال من الإيمان، والأدلة على هذا كثيرة جداً، قد مر بعضها وفيه: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليفعل كذا أو كذا) مثل: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )، وحديث: ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً...) إلخ، وقد ذكر الأعمال الإمام البخاري رحمه الله كثيراً جداً من التراجم التي تدل على أن الأعمال من الإيمان، فـ (الأعمال إيمان، والإيمان عمل)، ولا ينفصل العمل الظاهر عن الباطن.
    وأما المرجئة فقد خالفوا في ذلك، وأما الكرامية فاستبعدناهم، وبقي الحنفية والأشعرية ، وقد ذكرنا ما يدل على مذهبهم الباطل من كلامهم أنهم يعتقدون ذلك، وأنهم يخرجون الأعمال من الإيمان، وألزمهم الشارح رحمه الله في آخر كلامه قال: (وذهب الجهم بن صفوان و أبو الحسين الصالحي -أحد رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان هو المعرفة، وهذا القول أظهر فساداً مما قبله؛ فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين؛ فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ولم يؤمنوا بهما؛ ولهذا قال موسى لفرعون: (( قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ ))[الإسراء:102]، وقال تعالى: (( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ))[النمل:14]، وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً -أي عند الجهم - فإنه قال:
    ولقد علمت بأن دين محمد            من خير أديان البرية ديناً
    لولا الملامة أو حذار مسبة             لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
    بل إن إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان؛ فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، (( قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ))[الحجر:36]، (( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ))[الحجر:39]، (( قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ))[ص:82]، والكفر عند الجهم : هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه! فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا.
    فلما ناظره السمنية -وهم طائفة من الزنادقة- ترك الصلاة أربعين يوماً، ثم خرج إليهم وقال: هو مثل هذا، وأي: مثل الهواء في كل مكان، وليس له صفة، وهذا غاية الجهل بالله.
    فهو -على كلامه- كافر عند نفسه، ونحن نقول: إن هذه اللوازم لا تلزم الجهم وحده، وإنما تلزم كل من قال: إن الإيمان هو مجرد ما في القلب؛ سواءً سمي معرفة كما سماه الجهم ، أو سمي تصديقاً مجرداً كما سماه غيره، أو قيل: هو التصديق الذي يستلزم الإذعان.
    قال: والمقصود أنهم تركوا سائر أعمال القلب، وتركوا كل أعمال الجوارح، قال: فيكون كافراً بشهادته على نفسه، وبين هذه المذاهب مذاهب آخر بتفاصيل وقيود أعرضت عن ذكرها اختصاراً، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة وغيره. اهـ.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
  4. الإيمان عند الأشاعرة

     المرفق    
    ‏الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    فنستعرض هنا جملة المذهبين الرئيسين: الماتريدي والأشعري؛ لأنهما المذهبان اللذان بقيا في الأمة، وانتشرا انتشاراً كبيراً في العالم الإسلامي، واليوم يمكنك استثناء المدارس والجامعات والمعاهد السلفية التي توجد في بعض البلدان؛ وإلا فالكثير على عقيدة الماتريدية ، أو العقيدة الأشعرية.
    فمثلاً هناك أبو منصور البغدادي وهو من الأئمة المتقدمين عند الأشاعرة ؛ لأنه متوفى سنة أربعمائة وإحدى وعشرين، وله كتاب مشهور ومعلوم عند الجميع في الفرق وهو الفرق بين الفرق ، وله كتاب آخر وهو أصول الدين ، ويقصد بذلك الأشاعرة ، ويسميهم: أهل السنة ، وهنا يكون الإشكال واللبس.
    1. أقسام الطاعات عند الأشاعرة

      يقول البغدادي في كتابه أصول الدين عن موضوع الإيمان: (الطاعات عندنا -أي الأشاعرة - أقسام، أعلاها يصير بها المطيع عند الله مؤمناً -وهذا في نظرهم- وتكون عاقبته لأجلها الجنة إذا مات عليها، وهي: معرفة أصول الدين في العدل، والتوحيد، والوعد، والوعيد، والنبوات، والكرامات). وعندما تجد مثل هذه العبارات فإنك تعرف أن هذا المذهب ليس مذهب أهل السنة والجماعة ؛ لأنهم لا يسمون العدل أو التوحيد بمثل هذا كما هو معلوم، وقد سبق في شرح أصول المعتزلة الخمسة وهي: العدل، والتوحيد، والوعد، والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مذهبهم هم.
      فهناك توافق في المصطلح بين الأشعرية و المعتزلة ، و الأشعرية في الحقيقة هم من المعتزلة لكنهم خالفوهم في أمور.
      يقول: (والأمر الآخر معرفة أركان شريعة الإسلام هي: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وبهذه المعرفة يخرج عن الكفر).
      يعني: أن من عرف هذه الأمور خرج عن دائرة الكفر بالمعرفة وليس بالعمل.
      يقول: (والقسم الثاني: به يسلم من الجزية، والقتال، والسبي، والاسترقاق، وبه تحل المناكحة، واستحلال الذبيحة، والموارثة، والدفن في مقابر المسلمين، والصلاة عليه أو خلفه -وهو- إظهار ما ذكرناه باللسان مرةً واحدة في العمر)، فإذا قال ذلك أصبح له هذه الأحكام.
      إذاً: فالأمر الأول: معرفة أصول الدين معرفة قلبية، ويترتب عليها النجاة عند الله، والقسم الثاني: هو إظهار ذلك ولو مرة واحدة، ويترتب عليه النجاة في أحكام الدنيا.
      يقول: (والقسم الثالث: إقامة الفرائض، واجتناب الكبائر، وبه يسلم من دخول النار، ويصير مقبول الشهادة).
      يعني: أنه إذا صلَى، وزكى، وصام، وحج، وأتى بالواجبات جميعها فهذا يسلم من دخول النار؛ فالأول ينجو عند الله، وهذا يسلم من دخول النار ابتداءً؛ لأنه فعل هذه الشعائر، وفي أحكام الدنيا يصبح عندنا مقبول الشهادة، وأما لو ترك الفرائض -أي: عندهم- فهو مؤمن لكنه غير مقبول الشهادة، وهذه زيادة في العدالة: يصلي، ويأتي ببقية الأركان.
      يقول: (والقسم الرابع: زيادة النوافل فوق أداء الواجبات، وترك المحرمات، فيكون له الزيادة في الكرامة والولاية)، وهذه أعلى الدرجات عندهم.
    2. أقسام المعاصي عند الأشاعرة

      ثم قال: (للعاصي -أيضاً- قسمان: الأول: كفر محض، وهو عقد القلب على ما يضاد القسم الأول) أي: أن يعتقد ما يضاد تلك المعرفة؛ فالإيمان عنده معرفة القلب بالعدل، والتوحيد، وبقية ما ذكر من المعاد والنبوات.. إلى آخره، والكفر هو: عقد القلب على ما يضاد ذلك من أمور، أي: بخلاف ما جاء في عقيدتهم في النبوات، أو العدل، أو التوحيد، فهذا هو الكفر عندهم. قال: (أو الشك فيها أو في بعضها) أي: أن يعتقد خلاف الحق، أو يشك في الحق، أو في بعضه، فإن فعل ذلك كان عندهم كافراً، ومن مات على ذلك كان مخلداً في النار. (والقسم الثاني أيضاً يقابل الثالث الذي هو: فعل الواجبات، ومن هنا فالأول يشمل الاثنين: اعتقاد ما يخالف العدل والتوحيد، أو عدم معرفة أركان شريعة الإسلام) فالأولان من الطاعات يشملها في المقابل الأول من المعاصي، والثاني في المعاصي يقابل الثالث في الطاعات، والذي هو أداء الفرائض، والثاني هنا هو ركوب الكبائر، وترك الفرائض من غير عذر.
    3. الحكم على مذهب الأشاعرة في الأعمال

      يقول: (وذلك فسق تسقط به الشهادة، ويستوجب الحد من القتل أو التعزير، ومع ذلك مؤمن إن صح له القسم الأول من الطاعات إذا كان عنده المعرفة)، فهو مؤمن ولو لم يأت بالواجبات، فالإيمان عندهم في الحقيقة هو الإيمان الباطن.
      ومذهب جهم أن الإيمان هو المعرفة، وفي الحقيقة ليس هناك فرق واضح بين كلام البغدادي ومذهب جهم وإنما هو فصّل المعرفة: معرفة كذا وكذا، ومعرفة الشرائع، فيظهر لنا أن مذهبهم هو مذهب جهم ، والإقرار باللسان عندهم ثمرته والمقصود منه أحكام الدنيا، وفي الأخير يختلفون هل هو شرط لإجراء الأحكام، أو علامة على إجراء الأحكام؟ والمقصود: أن هذه هي منزلة العمل عندهم.
      ولذلك يقع التناقض في كلامهم، ولو سألناهم وقلنا لهم: لو أن أحداً اعتقد في الأمور القلبية العلمية الاعتقادية -أي: مجرد المعرفة- اعتقد خلاف عقيدتكم في النبوات، أو في صفات الله، أو في التوحيد كما تسمونه، أو العدل، فإنه على كلامه يكون كافراً، فهل هم فعلاً يكفرون من فعل ذلك؟
      فإذا فعلوا ذلك فقد شابهوا الخوارج وغيرهم في أن ما يؤصلونه هو الإيمان، ومن اعتقد خلافه فهو كافر، فهم من ناحية فروا من إثبات العمل -رغم ما جاء فيه من النصوص- فوقعوا في إثبات ما لم يثبته الله، واشتراط ما لم يشترطه الله من أمور العدل والتوحيد .. إلى آخره؛ فجعلوها ديناً من لم يعرفه فهو كافر، فعرضوا عقائد المسلمين للخطر؛ بناءً على هوى وتحكم ما أنزل الله به من سلطان.
      فالإيمان المجمل عند أهل السنة والجماعة يكفي، ثم بعد ذلك كلما علم الإنسان شيئاً مفصلاً وجب عليه الإيمان به، لكن على كلامهم هم -مع أن كثيراً من عقائدهم باطلة- إذا اعتقد خلاف عقائدهم فقد كفر، فهذا فيه غاية الإحراج على الأمة، وهم لا يكفرون أهل البدع الذين يخالفونهم، فهم مضطربون في التكفير، فبعضهم يقول: لا نكفر إلا من كفرنا، وبعضهم يقول: نكفر من خالف في بعض الأصول دون بعض.. إلى آخره.
      إذاً فهذا أيضاً مما يلاحظ في كلامهم من الاضطراب في هذا الأمر.
    4. النطق والإقرار وموقعهما من الإيمان عند الأشاعرة

      ومن أشهر أئمتهم سعد الدين التفتازاني -وهم دائماً يستشهدون ويحتجون بكلامه، وهو متوفى سنة سبعمائة وثلاث وتسعين، وهو من أكبر -إن لم يكن أكبر- الأئمة عندهم في علم الكلام، وكتبه - كما في الأزهر الآن وغيره من الجامعات- في القمة، وهي الغاية، والذي يستطيع أن يفهم كلامه، أو أن يشرحه فإنه يكون عندهم قد بلغ غاية العلم، وله كتب كثيرة.
      يقول التفتازاني عن موضوع النطق: (إن هاهنا مطلبين، الأول: أن الإقرار -أي: بالشهادتين- ليس جزءاً من الإيمان، والثاني: أنه -يعني: الإيمان- التصديق لا غير، والدليل على أن الإقرار ليس جزءاً من الإيمان هو: دلالة النصوص على أن محل الإيمان هو القلب، وما دام كذلك فلا يكون الإقرار الذي هو فعل اللسان داخلاً فيه).
      والنصوص التي تدل على أن الإيمان محله القلب هي مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( التقوى هاهنا )، وكذلك قوله تعالى: (( أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ ))[المجادلة:22] وكذلك قوله: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106]، فيقولون: إذاً فالإيمان محله القلب، وليس في الآيات ما يقتضي أن الإيمان محله فقط في القلب، لكنها تدل على أن الإيمان أصله في القلب، فإذا كتب في القلب فإنه يظهر على الجوارح، لكن لو عملت الجوارح أعمال الإيمان والقلب لا إيمان فيه؛ فإن ذلك لا ينفع؛ إذاً: فهذا لأنه هو الأصل هو الذي يؤمن أو يكفر في الحقيقة، لكن هم جعلوا هذا دليلاً على أن الإيمان محله القلب فقط.
    5. احتجاج الأشاعرة باللغة على أن الإيمان هو التصديق والرد عليه

      يقول: (وأما الثاني: وهو أنه التصديق لا سائر ما في القلب من المعرفة والقدرة والعفة والشجاعة). فأخرج جميع أعمال القلب، فهم يقولون: إن الإيمان هو التصديق، وأما بقية أعمال القلب فليست من الإيمان، وأتى بأشياء أخرى كالمعرفة العلمية: كأن تعرف أن الكل أكبر من الجزء، وكذلك أي معرفة من المعارف البشرية لا تدخل، وكذلك القدرة والعفة والشجاعة، فهذه ليست داخلة عنده في الإيمان.
      والإشكال ليس في العفة والقدرة، وإنما الكلام في اليقين، وفي المحبة، وفي الإنابة، وفي التوكل، وفي الخشوع، وفي أعمال إيمانية ارتباطها بالإيمان واضح.
      يقول: (وأما الثاني فلوجوه: الأول: اتفاق الفريقين على أنه ليس سوى التصديق). يعني: الأشاعرة والماتريدية، والكلام متناقض؛ لأنه يريد أن يرجح أحد القولين باتفاق الفريقين، ولو اتفقا لم يكن عندنا قولان نحتاج أن نرجح بينهما، فالكلام إذاً فيه تناقض.
      يقول: (إن الإيمان في اللغة التصديق) ولم يعين في الشرع لمعنى آخر، وهذه من شبهاته، فنرد عليه من ناحية اللغة أن الشرع قد نقل الحقائق والأسماء، فكل اسم فيها فهو منقول عما كان عليه في لغة العرب إلى مفهوم ومدلول شرعي، فالصلاة في لغة العرب هي الذكر، والزكاة في لغة العرب: النماء، والحج في لغة العرب: القصد، وكذلك الإيمان وغيره، فلو فرض أن الإيمان في لغة العرب هو: التصديق فقط؛ فإنه يكون قد نقل، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله جبريل فقال: ( أخبرني عن الإيمان )، وهو لم يسأله عن معنى الإيمان في اللغة، وإنما يريد أن يخبره عن الإيمان الشرعي الديني، ولهذا قال في آخر الحديث: ( هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم )، وفي حديث وفد عبد القيس قال: ( أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؟ قال‎: الإيمان: أن تشهد أن لا إله إلا الله... ) الحديث، فهذا هو الإيمان في الشرع وليس مجرد اللغة.
      ثم يقول: (الثالث أن النقل خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا بدليل)، أي: أن نقل المعنى من اللغة إلى الشرع خلاف الأصل؛ فلا يصار إليه إلا بدليل، والدليل هنا واضح، وهذا الكلام باطل لمن تأمل كلام العرب ولغتهم، وعرف الشرع أيضاً ومدلولاته، وهذا الكلام موجود في شرح العقائد النسفية لـسعد الدين التفتازاني.
    6. الرد على زعم الأشاعرة بأن الإيمان هو التصديق دون العمل والإقرار

      ويستدل على كلامه: بأن محل الإيمان هو القلب، وأنه لا يدخل فيه أي عمل حتى الإقرار، فيقول: (كما في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان ) )، فيستدل بهذا على أن محل الإيمان هو القلب، وأن من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان فإنه يخرج من النار.
      فنقول في الرد عليه: إن الإيمان هذا -وإن كان قليلاً- فلا بد أنه مقترن بالعمل، وهذا الحديث هو في آخر من يخرجون من النار، ليس محله القلب فقط، ولكن نقول: إن الإيمان أصله ما في القلب، فلو كان منافقاً لم يدخل الجنة مطلقاً، ولم يخرج من النار مطلقاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، إن الله حرمها على الكافرين )، فالجنة وما فيها محرمة على المشركين، قال تعالى: (( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ))[المائدة:72].
      إذاً: فلا يدخل الجنة إلا مؤمن، فهذا الرجل ليس هو الحالة الأصلية، أي: ليس هو المطلوب، فالله سبحانه وتعالى لم يبعث نبيه صلى الله عليه وسلم، ويأمر أن يدعو الناس إلى أن يؤمنوا بالله، أي: بأن يوجد عند الإنسان مثقال ذرة من إيمان؛ لا، لكنها آخر ما يفقد؛ لأن الإنسان قد يفقد أو يترك الأعمال الواجبات، وقد يترك أيضاً ما يجب باللسان، لكن لو ترك كل شيء حتى ما في القلب فهذا كفر كلية، وإنما بقي لديه أصل ضعيف، ومحله هو القلب؛ لأنه هو أساس دخول الجنة، وهذا الشيء القليل الذي في القلب لا ينفي الإيمان بالعمل مطلقاً، بل له لازم ضعيف مثله، فإذا كان الإيمان القلبي مثقال ذرة؛ فأعمال الجوارح مثقال ذرة على قدرها، وإذا كان الإيمان القلبي مثقال شعيرة؛ فلا بد من عمل للجوارح بقدر الشعيرة.
      إذاً: فالإيمان ظاهره وباطنه شيء واحد، فمنه جزء ظاهر ومنه جزء باطن، ولازمه وجود العمل، فلو ترك العمل بالكلية، ولم يعمل بشيء مما أنزل الله بالكلية؛ لما كان عنده شيء من الإيمان مطلقاً، وأما الخروج من النار فمبني على ما في القلب، وهذه الحالات هي آخر شيء، وهي حالات استثنائية، فهي في آخر من يخرج من النار، كما جاء في الحديث الآخر: ( يعرفونهم بعلامة السجود )، فالنار تأكل كل شيء من ابن آدم إلا موضع السجود؛ ولهذا تارك الصلاة لا حظ له في هذا؛ لأنه لا يسجد، قال تعالى: (( قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ))[المدثر:43]، فليس له علامة السجود.
      إذاً: فالحديث يدل على أن أصل الإيمان هو القلب، لكن لا يدل على أنه لا يوجد إلا في القلب، ولا دلالة على هذا الحصر، وهذه حالة استثنائية وليست الحالة الأصلية التي يبنى عليها حقيقة الإيمان، وإنما هي حالة عارضة، أو هي خلاف الأصل، فهي حالة قلة الإيمان إلى حد أن ليس وراء ذلك شيء، وليس حالة وجود الإيمان الشرعي الذي نقول فيه: الإيمان شرعاً هو كذا؛ فهذا آخر ما يبقى من الإيمان وليس هو الإيمان.
      وهذا الحديث يدل على أن الإيمان يزيد وينقص وأنتم لا تقولون بذلك، فما دام هنالك ذرة، وغيره عنده شعيرة، فغيره عنده مثل الجبال.. وهكذا، فالناس يتفاوتون في الإيمان.
    7. خطورة مذهب الأشاعرة في الإيمان

      وانظر كيف تهافت كلامهم عندما ينقل عن شرح المواقف فيقول: (إن السجود للصنم بالاختيار يدل بظاهره على أنه ليس بمصدق)؛ فلو وجد صنم يعبده المشركون، ووجد مجموعة من الناس يسجدون لهذا الصنم ويعبدونه؛ فـأهل السنة والجماعة يحكمون بأنهم مشركون كفار، والمرجئة يقولون: (أما في الظاهر فهو مشرك)، فالعمل شرك، والعمل كفر في الظاهر، يقول: (ونحن نحكم بالظاهر؛ فلذلك حكمنا بعدم إيمانه؛ حتى لو علم أنه لم يسجد له على سبيل التعظيم، واعتقاد الألوهية، بل سجد له وقلبه مطمئن بالإيمان؛ لم يحكم بكفر فيما بينه وبين الله عز وجل).
      فنقول لهم: وهل يمكن أن يسجد للصنم اختياراً وقلبه مطمئن بالإيمان؟ ومن هنا تناقض المرجئة ، ومن هنا نعرف خطر مذهبهم، ولذلك تعد معرفة هذه الأمور ضرورية وأساسية، فلو ذهبت تدعو إلى الله في أي بلد ورأيت الأعمال الكفرية: من عبادة غير الله، ومن دعاء غير الله، والذبح له، والاستغاثة به، ورأيت أيضاً الحكم بغير ما أنزل الله، واتباع الشرائع المحرفة، أو الشرائع الوضعية التي يتحاكمون إليها وغير ذلك؛ فإنك تختلف أنت وهم في الحكم على هذه الأمور، وسبب الاختلاف الحقيقي: هو أن الإيمان عندك غير الإيمان عندهم، فهذه قضايا مهمة جداً، فينبغي أن تعرف لماذا هم يرون أن هذه الأمور لا تنافي التوحيد.
      هذا عند من يوافقك على أنها شرك، وأما الذي يقول لك: ليست بشرك، وهذا مجرد توسل؛ فهذا أدهى وأمر، لكن حتى الذي يقول: هذا كفر؛ فإنه يقول لك: لم يكفر الرجل، فيسجد للصنم باختياره، ومع ذلك يمكن أن يكون في الباطن مؤمناً كامل الإيمان، فيكون قلبه مطمئناً بالإيمان.
      إذاً: فليس عندهم ما أصله وقرره أهل السنة والجماعة من أن الباطن والظاهر متلازمان ومترابطان، وهما شيء واحد؛ فمن المستحيل أن يكفر الإنسان ظاهراً باختياره ويكون قلبه مؤمناً باطناً أبداً، وهذا يكون في حالة الإكراه، فيأتي بالحركات ظاهراً ولكنه مؤمن باطناً، وهذا كما ذكر الله تعالى: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ))[النحل:106].
      وحالة النفاق عكس ذلك: أن يظهر الإيمان ظاهراً لكنه في الباطن كافر، فهذه ليس فيها خلاف، لكن نريد أن نبين أنه يمكن أنه يوجد الإيمان الظاهر مع خلو القلب، ولا يمكن عند أهل السنة والجماعة أن يوجد إيمان باطن مع خلو الظاهر من الإيمان؛ لا يمكن هذا، فلا بد أن يظهر، فحتى المنكر بقلبه لا بد أن يظهر عليه غضب، وألم، وتأثر، والكلام هنا ليس في حالة عارضة، أو في شعبة من شعب الإيمان، وإنما الكلام في الإيمان جملة.
  5. منزلة النطق من الإيمان عند الماتريدية

     المرفق    
    يقول السنوسي أيضاً -وهو من المتأخرين، وهو صاحب متون كثيرة يدرسونها في شمال إفريقيا وغيرها، وهو متوفى سنة ثمانمائة وخمس وثمانين-: (أما الكافر فذكره لهذه الكلمة -يعني: كلمة التوحيد- واجب وشرط في صحة إيمانه القلبي مع القدرة). أي: الإيمان موجود عندهم لكن من شرط صحته أن يقول ويقر بلسانه مع القدرة، وأما الحالات العارضة فلا تذكر.
    يقول: (وإن عجز عنها -أي: عن النطق بها- بعد حصول إيمانه القلبي لمفاجأة الموت ونحو ذلك سقط عنه الوجوب، وكان مؤمناً).
    وهذا الافتراض خيال، والمقصود به أن يردوا كلام أهل السنة والجماعة .
    قال: (هذا هو المشهور من مذاهب علماء أهل السنة) ويعني بـأهل السنة هنا: أصحابهم، ومن هنا تتجلى أهمية المعلم؛ فالكتاب ولا يقرأ إلا بمعلم، أو على الأقل تسأل عن هذا الكتاب: وما هي العقيدة التي فيه؟ وماذا يتضمن؟ وماذا يعتقد مؤلفه؟
    قال: (وقيل: لا يصح الإيمان بدونها مطلقاً) أي: هناك قول: أن الإيمان لا يصح بغير كلمة الشهادة.
    يقول: (وقيل: يصح الإيمان بدونها مطلقاً، وإن كان التارك لها اختياراً؛ كما في حق المؤمن بالأصالة إذا نطق بها ولم ينو الوجوب، ومنشأ هذه الأقوال الثلاثة، والخلاف في هذه الكلمة: هل هي شرط في صحة الإيمان، أو جزء منه فتكون شطراً، أو ليست بشرط فيه، ولا جزء منه، والأول هو المختار).
    أي: أنه رجح أنها شرط وليست شطراً.
    ثم جاء الدسوقي يشرح كلامه فقال: (حاصل ما ذكره الشارح من الأقوال: أن الأقوال فيه ثلاثة: فقيل: إن النطق بالشهادتين شرط في صحته -يعني: الإيمان- فيكون خارجاً عن ماهيته، وقيل: إنه شطر -أي: جزء من حقيقة الإيمان- فالإيمان: مجموع التصديق القلبي، والنطق بالشهادتين)، وهذا مثل مذهب الحنفية الفقهاء الذين يجعلون الإيمان أمرين: النطق والاعتقاد، أو الإقرار والاعتقاد، أو التصديق والإقرار، (وقيل: ليس شرطاً في صحته، ولا جزءاً من مفهومه؛ بل هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية، وهو المعتمد).
    فالراجح عندهم: أنه ليس شرطاً ولا شطراً، وإنما فقط من أجل إجراء الأحكام الدنيوية، فنحن نشترط عليه أن يقول: لا إله إلا الله؛ حتى نجري عليه الأحكام؛ وإلا فلو آمن من غير أن يقولها، أي: بينه وبين الله فإنه يدخل الجنة، ويكون كامل الإيمان، ولا يترتب على ذلك شيء.
    يقول: (وعليه فمن صدق بقلبه ولم ينطق بالشهادتين -سواءً كان قادراً على النطق، أو عاجزاً عنه- فهو مؤمن عند الله، ويدخل الجنة)، وهذا افتراء عظيم، (وإن كانت لا تجري عليه الأحكام الدنيوية: من غسلٍ، وصلاة عليه، ودفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه ورثته المسلمون، لكنه عند الله مؤمن، وناجٍ، ومن أهل الجنة)، وهذا تناقض.
    قال: (فقول الشارح: هذا هو المشهور أي: وجوب النطق -وأنه شرط؛ غير مسلَّم، بل هذا ضعيف. وقوله: وقيل: لا يصح الإيمان بدونها مطلقاً، أي: سواءً كان قادراً أو عاجزاً، وهذا القول منكر).
    أي: أن القول: بأن الإيمان لا يصح إلا بالشهادتين قول منكراً، مع أنه هو الحق، وهو إجماع السلف الصالح، وكان ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أمراً متواتراً ومعروفاً، فالإنسان لا يكون مؤمناً ظاهراً ولا باطناً إلا بأن يشهد: أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقر بذلك، وهنا جعله منكراً.
    يقول: (وليس مبنياً على القول بأن النطق شطر من الإيمان؛ لأن من قال بذلك ترك القدرة، وأما العاجز عن النطق لخرس ونحوه فيكفيه لصحة إيمانه عند الله التصديق القلبي. ونحن هنا لا نتكلم عن الحالات العارضة الاستثنائية).
    ويقول الكمال بن الهمام صاحب المسامرة على المسايرة ، وهو من كبار الماتريدية ، وكتاب السنوسي هذا هو حاشية على أم البراهين ، وأم البراهين متن مشهور في بلاد المغرب و إفريقيا وهذه حاشية على أم البراهين كتبها الدسوقي ، وأما الكمال بن الهمام فكتابه اسمه المسامرة يقول الكمال : اختلاف الناس في الإيمان، فذكر أولاً القول بأن مسمى الإيمان هو التصديق فقط، ثم قال: وهو المختار عند جمهور الأشاعرة ، وبه قال الماتريدي ، وعليه الماتريدية ، والثاني: أن مسمى الإيمان تصديق القلب، والإقرار باللسان، وعمل سائر الجوارح، فماهيته على هذا مركبة من أمور ثلاثة إقرار باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان، يقول: فمن أخل بشيء منها فهو كافر)، وهذا قول الخوارج يقول: (ولذا كُفِّر بالذنب؛ لانتفاء جزء الماهية). أي: أنه إذا انتفى جزء الماهية فقد انتفت الماهية؛ فلذلك يكفرون بالذنب، وأما أهل السنة والجماعة فإنهم يقولون بهذا ولا يكفرون بمجرد الذنب.
  6. العلة من عدم ذكر مذهب أهل السنة في كثير من كتب الفرق

     المرفق    
    ومن الأخطاء المنهجية الملاحظة في كتب الفرق، كـالفرق بين الفرق في غالب الأمور، والملل والنحل في كثير من الأمور، وكذلك الفصل في أمور كثيرة أنه لا يذكر فيها مذهب أهل السنة والجماعة ؛ لأنهم يظنون أن أهل التوحيد هم أهل الكلام، فيقول أحدهم: قالت المعتزلة ، وقال الخوارج ، قالت الفلاسفة ، وقالت الكرامية ، وقالت الماتريدية ، وقال فلان، ولا يذكرون قول السلف؛ لأنهم لا يعدونهم من أهل الكلام، وإنما هم أهل ظواهر نقلية فقط، فليس لهم رأي، ولا يفقهون، هكذا نظرتهم -والعياذ بالله- إلى سلف الأمة، وإلى علماء الأمة، ولذلك فميزة شيخ الإسلام رحمه الله العظمى -وما أكثر ميزاته- أنه أثبت وأحيا مذهب السلف علماً، ودلل عليه وأثبته وبرهنه عقلاً وجدلاً، فأبطل مذاهبهم، ولم يكتف بإبطال مذاهبهم؛ بل بين الحق وأوضحه نقلاً وعقلاً معاً، فقامت به الحجة على هؤلاء، رحمه الله تعالى.
    فهم لا يفرقون بين ما يقوله أهل السنة والجماعة ، وبين ما يقوله الخوارج ؛ وخصوصاً في موضوع الإيمان، فيقولون: هما شيء واحد.
  7. التفريق بين مذهب أهل السنة والمعتزلة والخوارج والماتريدية في منزلة الأعمال من الإيمان

     المرفق    
    ذكر سابقاً: أن الحافظ ابن حجر ذكر -وهو رجل حافظ، ومن أكثر الناس جمعاً لكلام السلف، ويذكره في فتح الباري وغيره- أن مذهب أهل السنة والجماعة : أن الإيمان يتكون من هذه الثلاثة، وأن الخوارج مذهبهم أيضاً كذلك؛ لكن هناك فرقاً بين المذهبين، ولا بد أن نفرق، فيقول: إن الكلام واحد في الثلاثة، لكن الخوارج يجعلون رتبة الأعمال شرط صحة، وأما السلف فالأعمال عندهم شرط كمال.
    وهذا الكلام خطؤه بيِّن ظاهر، فليس الفرق أن الأعمال عند أهل السنة شرط كمال، وعند الخوارج و المعتزلة شرط صحة، الفرق أيضاً في الزيادة والنقصان، فالأعمال عند أهل السنة والجماعة ليست كلاماً مجملاً؛ لأن من الأعمال ما هو ركن، وبذهابه يذهب الإيمان، مثل: الشهادتين، والصلاة عند جمهور السلف، ومن الأعمال ما يكون ذهابه نقصاً في الإيمان الواجب، وهذا في الواجبات، ومن الأعمال ما يكون ذهابه أو تركه نقصاً عن الإيمان الكامل، أي: الكمال المستحب لا الكمال الواجب.
    فيقول: (القول الثالث: أن الإيمان: هو التصديق باللسان فقط، أي: الإقرار بحقيقة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.. إلى آخره، وهو قول الكرامية ، الرابع: أن الإيمان تصديق بالقلب واللسان معاً، وهو منقول عن أبي حنيفة ، ومشهور عن أصحابه، وعن بعض المحققين من الأشاعرة، فهذا الذي ذكره الشارح وقال: وذهب كثير من أصحابنا).
    إذاً: فهو قول منقول عن أبي حنيفة ، ومشهور عن أصحابه، قال به أيضاً بعض المحققين من الأشاعرة ، وهم الذين قالوا: إنه شطر، أي: أنه عندهم مكون من شطرين: الإقرار الباطن -يعني: التصديق- والإقرار الظاهر، وهو النطق واستدرك في النهاية وقال: (على أن من محققي الحنفية من وافق الأشاعرة ، كما نبه عليه المصنف بقوله: إلا أن قول صاحب العمدة ، وهو أبو البركات النسفي منهم -أي: من الحنفية-: الإيمان: التصديق، فمن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن الله فهو مؤمن بينه وبين الله تعالى، والإقرار شرط لإجراء الأحكام -وهو- هذا القول الذي قال به صاحب العمدة من الحنفية- القول المختار عن الأشاعرة ؛ تبع فيه صاحب العمدة أبا منصور الماتريدي)، والماتريدي حنفي، فـالماتريدي خالف شيخه أبا حنيفة وجاء بهذا القول المبتدع؛ الذي هو في الحقيقة موافق لقول جهم ، ولمن سماهم المحققين من الأشاعرة ، فـالماتريدية وافقوا جمهور الأشاعرة.
    وننتقل الآن إلى جوهرة التوحيد التي يحفظها الناس والطلاب في المعاهد الأزهرية وغيرها، فهناك يدرسونها ويشرحونها ويقررونها، ومع الأسف الشديد أن جامعة دولة الإمارات عندهم أن التوحيد هو شرح الجوهرة ، فيدرسون هذه العقيدة، وهي عقيدة إرجائية في الإيمان، وفي الصفات ومذهب الأشعرية في الصفات معروف، وكذلك في القدر، فهي مخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة في أهم وأعظم أبواب العقيدة.
    فالشاهد أن صاحب الجوهرة -وهو البيجوري - يقول:
    وفسر الإيمان بالتصديـق            والنطق فيه الخلف بالتحقيق
    فقيل شرط كالعمل وقيـل بل             شطر والإسلام اشرحنّ بالعمل
  8. النطق بالشهادتين عند الأشاعرة

     المرفق    
    قوله: وفسر الإيمان بالتصديق، فالإيمان عندهم هو التصديق، يقول الشارح: والنطق فيه الخلف، أي: والنطق بالشهادتين للمتمكن منه، وخرج بالمتمكن -وهو القادر- الأخرس فلا يطالب بالنطق، وهذا معروف.
    ثم أعاد نفس الكلام: كمن اخترمته المنية قبل النطق من غير تراخٍ؛ فهو مؤمن عند الله؛ حتى على القول بأن النطق شرط صحة، أو شطر، بخلاف من تمكن وفرط.
    قال: وموضوع هذا الخلاف: كافر يصلي يريد الدخول في الإسلام، وأما أولاد المسلمين فمؤمنون قطعاً، وتجري عليهم الأحكام الدنيوية ولو لم ينطقوا بالشهادتين طول عمرهم! فهذا لم ينطق بالشهادتين، ولم يصل ولم يصم، وهذه كلها مترتبة على شهادة أن لا إله إلا الله، وهذه هي المصيبة حينما يكون الدين أو الأيمان عندهم مفهومه هو هذا.
    قال: وقوله: شرط، أي: خارج عن ماهيته، وهذا القول لمحققي الأشاعرة والماتريدية وغيرهم. أي: قال: شرط؛ حتى لا يجئ إشكال في الماهية؛ لأن الشرط لا يدخل في الماهية. قال: وقد فهم الجمهور أن مرادهم أنه شرط لإجراء أحكام المؤمنين عليهم؛ من التوارث، والتناكح، والصلاة خلفه وعليه، والدفن في مقابر المسلمين، ومطالبته بالصلوات والزكوات وغير ذلك؛ لأن التصديق القلبي -وإن كان إيماناً- والمفروض أن يقول: وإن كان هو الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم هو هذا فقط. قال: لأن التصديق القلبي باطن خفي، فلا بد له من علامة ظاهرة تدل عليه؛ لتناط به الأحكام. أي أن هذه العلامة ليست منه، مثل أن تكون سائراً في الطريق فتجد على حافتها لوحة، فاللوحة هذه ليست من حقيقية الطريق، وإنما هي علامة على شيء معين.
    فعندهم: أن قول لا إله إلا الله مجرد علامة، وهذه مصيبة كبرى في هذه المذاهب الباطلة.
    قال: ومحل كونه مؤمناً في الأحكام الدنيوية ما لم يطلع على كفره بعلامة كالسجود لصنم، وإلا جرت عليه أحكام الكفر.
    فالعلامة التي يرجحها هي علامة الإيمان وهو أنه قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فإذا وجدناه يسجد لصنم اختياراً كانت هذه علامة تدل على كفره، وهذه العلامة تغلب تلك العلامة.
  9. قول الأشاعرة في السجود لصنم أو إظهار الكفر والرد عليهم

     المرفق    
    ولذلك فهم يقولون: من سجد لصنم، أو أظهر الكفر؛ علمنا انتفاء التصديق من قلبه قطعاً، فمثلاً: إبليس كفّره الله، وكذلك فرعون كافر، وأهل الكتاب كفار، فهؤلاء -عندهم- مقطوع ومجزوم أن التصديق منتفٍ من قلوبهم؛ لأنهم قد ثبت عندنا كفرهم، فإذا رأينا علامة تدل على الكفر حكمنا بهذه العلامة، وإذا تيقنا أن فلاناً كافر -كمن حكم الله عليه بالكفر- فنحن نجزم أن باطنه خالٍ من الإيمان؛ لأن الإيمان والكفر لا يجتمعان.
    ونقول لهم: هذا دليل على تناقضكم، فهؤلاء الذين نجزم قطعاً بكفرهم، أو أخبرنا الله تعالى عن كفرهم؛ هم في الباطن عندهم تصديق، لكن منعهم من الإذعان والانقياد واليقين أمور أخرى كالحسد، كما هو عند أهل الكتاب: (( حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ ))[البقرة:109]، أو الكبر، كما هو عند فرعون مثلاً، والكبر والحسد معاً كما هو الحال عند إبليس، فهذه الأمور منعت من الاستجابة لما في الباطن، وإلا فالتصديق في الباطن موجود.
    إذاً: فقولكم هذا غير صحيح، وأنتم حتى يسلم لكم الأصل الذي تقررونه تنفون أموراً، أو تقرون أموراً لا يوافقكم عليها أي عاقل، فنحن نجزم أن أبا طالب مثلاً كان مصدقاً بقلبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن أهل الكتاب كانوا مصدقين في قلوبهم، والأدلة على ذلك قد ذكرناها كما ذكرها الشارح هنا.
    ونقول أيضاً لهؤلاء -وهم في الحقيقة على مذهب جهم -: هذا دليل على أن مذهبكم باطل، وأن الإيمان شيء آخر زيادة على التصديق، وهو عمل القلب، مع عمل الجوارح، وأما ما جعلتموه أنتم مجرد علامة فهذا ليس مجرد علامة، بل هو كفر، فالسجود للصنم كفر وليس علامة على الكفر، فهو كفر عند أهل السنة والجماعة ، ودعاء غير الله كفر وليس علامة على الكفر، والرضا بالقوانين الوضعية وتحكيمها كفر وليس علامة على الكفر، فهذه الأعمال بذاتها كفر، ولا نقول: هي مجرد علامة، والذين يقولون: إنها مجرد علامة على الكفر؛ يقولون ذلك بناءً على أن الإيمان عندهم هو التصديق، والكفر هو التكذيب فقط، فما دام الأمر كذلك، فهذا الرجل الذي سجد للصنم لم يكذب، هكذا الأمر في نظرهم، إذاً فهذا مجرد علامة، فقد يكون في الباطن مصدقاً لكنه في الواقع يسجد لغير الله.
    وهذا من الباطل؛ لأنه لو كان مؤمناً بالله لم يسجد لغيره، فالإيمان يشمل أموراً غير التصديق، والكفر يشمل أموراً غير التكذيب ومنها: الإباء، والاستكبار، والحسد، والإعراض وغيرها من الأمور التي ذكرها الله تبارك وتعالى في كتابه، وهي أكثر وقوعاً في الناس من مجرد التكذيب، أو هي مثله.
  10. تعريف الإيمان عند جمهور الأشاعرة والماتريدية بما علم من الدين بالضرورة

     المرفق    
    وقال اللقاني في شرح الجوهرة في شرح قوله: (وفسر الإيمان) أي: حده جمهور الأشاعرة والماتريدية وغيرهم بالتصديق المعهود شرعاً، وهو تصديق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما علم مجيئه من الدين بالضرورة. فهم لا يقولون: إن الإيمان الشرعي: هو تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به، وإنما يقولون: فيما علم من الدين بالضرورة، واشتهر بين أهل الإسلام، وصار العلم به يشابه العلم الحاصل بالضرورة بحيث يعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر واستدلال، فهم يشترطون ذلك لأن الإيمان عندهم لا يتجزأ، ولا ينقص، ولا يزيد، وأما نحن فليس عندنا أي حرج، فمن بلغه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه أمر من أمور الآخرة، كشرط من أشراط الساعة مثلاً، أو حديث فيه خبر من أخبار من كان قبلنا من الأنبياء أو غيرهم؛ آمن به من غير حرج، ومن علم شيئاً غداً فالحمد لله، وأما هم فعندهم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ فيلزم منه الحرج، وتكفير من جهل شيئاً، أو لم يتعلم شيئاً؛ لأننا إذا قلنا: إن الإيمان: هو الإيمان بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فقطعاً أن كثيراً من الناس -إن لم يكونوا أكثر الناس- لا يعلمون بعض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، إذاً فليس عندهم إيمان؛ لأنه لا يزيد ولا ينقص، إذاً فهم كفار.
    إذاً فالسبب هو حتى يكون الإيمان ماهية لا تزيد ولا تنقص، وحقيقة واحدة غير مركبة، أو كما يقولون: جوهر أو حقيقة واحدة؛ لكي يتجنبوا ما قد يقع من إشكال، فإذا قيل لهم: من جهل حكم كذا فإنه يكفر، قالوا: لا يكفر؛ لأننا اشترطنا أن يكون الأمر معلوماً من الدين بالضرورة، وبناءً عليه فحديث الآحاد لا يعملون به؛ لأنه لم يثبت عندهم بالضرورة، وقولهم هذا يلزم عليه لوازم باطلة.
    ونجد دائماً صاحب البدعة، أو صاحب القول الباطل أو الخطأ إذ أصل أصلاً خطأ فإن لوازم هذا الأصل تكون خطأ، فما بني على باطل فهو باطل، فالإيمان عندهم: هو أن يعلم الإنسان ما هو معلوم من هذا الدين بالضرورة؛ حتى يعلمه كل أحد، وفي الواقع أن هذا محل إشكال؛ لأن ما قد تراه أنت معلوماً لدى كل أحد قد تفاجأ بمن يجهله، فهل تقول: إنه فاقد للإيمان بالكلية؟! فما فروا منه لا بد أن يقعوا فيه؛ لأن الباطل لا بد أن يوقع صاحبه في الحرج والباطل؛ إلا إن رجع عنه إلى الحق.
    ففي موضوع العمل يقولون: فلو لم يصدق بوجوب الصلاة ونحوها عند السؤال عنه يكون كافراً، فليس لازماً أن يصلي، فإذا سئل عن الصلاة: هل الصلاة واجبة؟ فإنه يلزمه أن يقول: واجبة، وإذا قيل له: هل تصدق بأن الله فرض الصلاة؟ فإنه يلزمه أن يقول: نعم، ولو لم يصدق كان كافراً، فليس ذلك بترك الصلاة كما يقول أهل السنة والجماعة ، ولكن بعدم الإقرار والتصديق بها.
    يقول: والمراد من تصديقه صلى الله عليه وسلم قبول ما جاء به، مع الرضا بترك التكبر والعناد، وبناء الأعمال عليه، لا مجرد وقوع نسبة الصدق إليه بالقلب من غير إذعان، وقبول له، حتى لا يلزم الحكم بإيمان كثير من الكفار الذين كانوا عالمين بحقيقة نبوته عليه الصلاة والسلام، وما جاء به؛ لأنهم لم يكونوا أذعنوا بذلك، ولا قبلوه، ولا بنوا الأعمال الصالحة عليه.
    إذاً فهو يستدرك حتى لا يقال له: يلزم من هذا الكلام إيمان فرعون، وإيمان أهل الكتاب، فهو يقول: لا، نحن لا نعني مجرد اعتقاد نسبة الصدق، وإنما لا بد من الرضا، وترك التكبر والعناد، وبناء الأعمال -إن عمل- عليه.
    إذاً: فالإيمان الواجب على العبد في هذه الحالة هو: أن يصدق بها، ويذعن، فلو صلَى فإنه يصلي بناءً على هذا الإذعان، لكن لو لم يصل فهو عندهم مؤمن؛ لأنه ولو لم يرض بهذا الأمر. قال: كأن يقول: ما شرع الصلاة، فهذا يكفر عندهم بناءً على هذا، وليس على عمل الجوارح، لاحظوا حتى حينما يحاول يدافع يكون كل كلامهم داخل في دائرة العمل أو التصديق الباطن، وأما العمل الظاهر فهم لا يذكرونه مطلقاً.
    يقول صاحب الجوهرة:
    مثال هذا الحج والصلاة             كذا الصيام فادر والزكاة
    فقوله: (اشرح الإسلام بالعمل)، أي: اشرح الإسلام بالصلاة والحج والزكاة، فهذا هو ما في حديث جبريل، لكنهم لا يقصدون ولا يوافقون حديث جبريل عليه السلام، وإنما يقولون: المراد هو الإذعان بالمذكورات من الحج والصلاة، وتسليمها، وعدم مقابلتها بالرد والاستكبار.