المادة كاملة    
من عظيم فضل الله تعالى على عباده تكفيره ذنوبهم بما يقع لهم وينزل بهم من مصائب وبلايا، وفي نصوص القرآن الكريم بيان لعظيم أجر البلاء النازل بالعبد والمصائب التي يصحبها الرضا بقضاء الله تعالى وقدره، فتكفر بها الذنوب وتمحص بها الآثام وتكتب بها الأجور العظيمة.
  1. المجازاة بعمل السوء في حق المؤمن والكافر

     المرفق    
    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد:
    فما زلنا في مبحث موانع إنفاذ الوعيد، وكنا قد تعرضنا لمانع المصائب المكفرة، وأخذنا مقدمة في ذلك، ونستعرض هنا لما ذكره الشارح رحمه الله من الآية المتعلقة بالموضوع وتفسيرها، وما عقب به في الفرق بين المصائب التي يؤجر عليها وبين تكفير الذنوب بها.
    قال المصنف رحمه الله تعالى: (السبب الرابع: المصائب الدنيوية، قال صلى الله عليه وسلم: ( ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا غم ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر بها من خطاياه )، وفي المسند : ( أنه لما نزل قوله تعالى: (( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123] قال أبو بكر : يا رسول الله! نزلت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟! فقال: يا أبا بكر ! ألست تنصب؟! ألست تحزن؟! ألست يصيبك اللأواء؟! فذلك ما تجزون به )، فالمصائب نفسها مكفرة، وبالصبر عليها يثاب العبد، وبالسخط يأثم.
    فالصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة، فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه، ويكفر ذنبه بها، وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله، والصبر والسخط من فعله، وإن كان الأجر قد يحصل بغير عمل من العبد، بل هدية من الغير، أو فضلاً من الله من غير سبب، قال تعالى: (( وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ))[النساء:40]، فنفس المرض جزاء وكفارة لما تقدم، وكثيراً ما يفهم من الأجر غفران الذنوب، وليس ذلك مدلوله، وإنما يكون من لازمة).
    قد سبق ذكر النص، وهذه الآية الكريمة هي في مجموع آيات كريمات من سورة النساء، في قوله تبارك وتعالى: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا * وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ))[النساء:123-125].
    فهذه الآيات الكريمات من سورة النساء جدير بنا أن نقف عندها وأن نتأمل ما جاء فيها بالإضافة إلى ما ذكره الشارح رحمه الله، فقد ورد فيها آثار وأحاديث عظيمة جداً يجب علينا أن نأخذ منها درساً تربوياً عظيماً من دروس التزكية الإيمانية للنفس وللإنسان ولهذه القلوب التي تقرأ القرآن كما كان يقرؤه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ولكن لم تأخذه كما كانوا يأخذونه، ولم تشرب حقائقه ومعانيه ومدلولاته، ولم تتدبره وتتفكر فيه وتستشعر ما وراء هذه الأحرف التي تقرأ، كما كان ذلك الجيل يفعل.
    وهذا هو الفرق الكبير بيننا وبينهم، فكم منا من قرأ هذه الآية مراراً وتكراراً وسمعها، ولكن هل أحدثت في أنفسنا من الأثر مثل ما أحدثت في قلوب الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم، وعلى رأسهم أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وهو الصديق أبو بكر رضي الله عنه؟!
    فكيف فسرها العلماء؟ وكيف كان وقعها على أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ثم على عمر رضي الله تعالى عنه -كما جاء في رواية أخرى- وعلى بقية الصحابة من الجيل الأول الذين تدبروا كتاب الله وفقهوا معانيه ووقفوا عند عجائبه وأسراره فأمد قلوبهم بتلك الطاقات الإيمانية التي تجاوزت حدود الزمان والمكان؟! حتى إننا ما زلنا في هذا الزمن نقرأ تلك السير الزكية العطرة فنحس ونشعر بأن الإيمان يدخل في قلوبنا. ‏
    1. ما ورد في سبب نزول قوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب)

      إنه لجدير بنا أن نقف عند هذه الآية وقفة طويلة، فقد جمع الإمام السيوطي رحمه الله حولها كثيراً من النصوص والآثار في كتابه الدر المنثور ، فرأيت أن أذكرها لنتأمل جميعاً في معناها مع إيجاز فيما ينبغي الإيجاز فيه. وأول ما ذكر فيها هو الأقوال في سبب نزول هذه الآية العظيمة: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]، فنقل نقولاً كثيرة عن المفسرين، ومن ذلك ما روي عن مجاهد فيما رواه سعيد بن منصور و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم ، وهم أشهر من فسروا القرآن بالمأثور. فقد رووا عن مجاهد أنه قال: (قالت العرب: لا نبعث ولا نحاسب، فقد كانوا يقولون: إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر. فهذه أمنيتهم وظنهم بالله). قال: (وقالت اليهود و النصارى : (( لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ))[البقرة:111]، وقالوا: (( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً ))[البقرة:80]، فأنزل الله: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]). قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: (وأخرج سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر عن مسروق قال: احتج المسلمون وأهل الكتاب، فقال المسلمون: نحن أهدى منكم. وقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم. فأنزل الله: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]). وفي رواية أخرى عن مسروق رضي الله تعالى عنه أيضاً قال: تفاخر النصارى وأهل الإسلام، فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم. فأنزل الله: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ))[النساء:123]). وفي رواية قتادة تفصيل أكثر، حيث قال: (ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، ونبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله -أي: هو الحاكم عليها والناسخ لها- قال: فأنزل الله: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ))[النساء:123] إلى قوله: (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا ))[النساء:125] الآية، فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان) أي: بالآية الأخرى في سورة النساء التي سنعرض لها إن شاء الله، فهذه الآية أظهرت حجة المسلمين على أهل الكتاب. غير أن هنالك عبرة كبرى في نفي الله عز وجل الأماني في حق هذه الأمة كما نفاها في حق أهل الكتاب؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يحابي؛ إذ ليس هو بحاجة إلى شيء من هذا، وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب إلا التقوى، فالمسألة ليست دعاوى تدعى أو شعارات تقال أو افتخاراً بالانتماء والانتساب، وإنما: (( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123] وإن كان منتسباً إلى أشرف دين وأفضل رسول صلوات الله وسلامه عليه، فلا بد من أن يعرف الإنسان أنه مسئول عما يعمل، وأن الحساب يوم القيامة حساب فردي، فإن انتمى الإنسان أو انتسب أو انضم إلى أفضل فئة في الدنيا وأعلاها درجة عند الله؛ فإن ذلك لا ينفعه إلا أن يكون عمله صالحاً في نفسه. قال رحمه الله تعالى: (وأخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدي قال: التقى ناس من المسلمين واليهود و النصارى ، فقالت اليهود للمسلمين: نحن خير منكم؛ ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم، ولن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً]، فانظر إلى طمع اليهود قبحهم الله، حتى إبراهيم عليه السلام جعلوه منهم، وقالوا: (( كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ))[البقرة:135]، وهذا ظن اليهود و النصارى . قال: [وقالت: النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم، ونبينا بعد نبيكم، وديننا بعد دينكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم، فنحن خير منكم، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا. فرد الله عليهم قولهم فقال: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]، ثم فضل الله المؤمنين عليهم فقال: (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ))[النساء:125]]. قال: [وأخرج ابن جرير من طريق عبيد بن سليمان عن الضحاك قال: تخاصم أهل الأديان، فقال أهل التوراة : كتابنا أول كتاب وخيرها، ونبينا خير الأنبياء. وقال أهل الإنجيل نحواً من ذلك، وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، وكتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرنا أن نعمل بكتابنا ونؤمن بكتابكم. فقضى الله بينهم فقال: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]، ثم خير بين أهل الأديان ففضل أهل الفضل فقال: (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ... ))[النساء:125]]، وفي وراية أخرى عن الضحاك مثل ذلك، لكنها أطول، وذكر فيها المجوس وكفار العرب. قال: [وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال: [ قال أهل التوراة : كتابنا خير الكتب؛ أنزل قبل كتابكم، ونبينا خير الأنبياء، وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام: كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا. فقضى الله بينهم فقال: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ...) ] ]<\m>، وكذلك روي مثله عن أبي صالح، وذكر رواية أخرى عن مجاهد في قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ)، قال: (في قريش وكعب بن الأشرف . يعني أن قوله تعالى: (أمانيكم) أي: أماني قريش، وقوله تعالى: (وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ) أي: أماني كعب بن الأشرف). ولكن ما تقدم من توارد الأسباب والتفسيرات عن السلف يدل على أنه وقع جدال وخصومة بين المسلمين وأهل الكتاب، ففصل الله تبارك وتعالى وقضى في هذه الخصومة وفي هذا الجدال بين المؤمنين وبين أهل الكتاب قال: (وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: [ إن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، إن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل ]). وهذا يرويه بعض الناس ويرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنه من كلام الحسن رضي الله تعالى عنه، وتدل عليه هذه الآية: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]، هكذا حكم الله تبارك وتعالى.
    2. حال الصحابة الكرام عند نزول قوله تعالى: (من يعمل سوءاً يجز به)

      قال: (وأخرج أحمد و هناد و عبد بن حميد والحكيم الترمذي و ابن جرير و أبو يعلى و ابن المنذر و ابن حبان و ابن السني في (عمل اليوم والليلة) و الحاكم وصححه و البيهقي و الضياء في المختارة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: ( يا رسول الله! كيف الصلاح بعد هذه الآية: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]، فكل سوء جزينا به؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم غفر الله لك يا أبا بكر ! ألست تمرض؟! ألست تنصب؟! ألست تحزن؟! ألست تصيبك اللأواء؟! قال: بلى، قال: فهو ما تجزون به ) )، وفي رواية أخرى عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من يعمل سوءاً يجز به في الدنيا ).
      قال: (وأخرج عبد بن حميد و الترمذي و ابن المنذر عن أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- قال: ( كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: (( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ! ألا أقرئك آية نزلت عليَّ؟! قلت: بلى يا رسول الله. فأقرأنيها )، وانظر إلى أثر القرآن على نفوس هؤلاء، فإن هذه الرواية فصلت أكثر مما سبقها، قال: ( ( فأقرأنيها، فلا أعلم إلا أني وجدت انقصاماً في ظهري حتى تمطيت لها ) ) أي: أخذ يتمطى بظهره؛ لأنه شعر كأنها حديدة قوية فقرت ظهره وقصمته، قال: ( ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالك يا أبا بكر ؟! قلت: بأبي وأمي يا رسول الله، وأينا لم يعمل السوء؟! وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟!) )، أي: إذا كنا مجزيين فهذه مصيبة كبرى، ( ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أنت وأصحابك -يا أبا بكر - المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة ) ).
      فأهل الفجور والشرك والإلحاد والضلال يجمع لهم ذلك ويجزون به يوم القيامة، نسأل الله العفو والعافية، وأما الدنيا فهي بالنسبة لهم كما جاء في الحديث: ( الدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن ).
      قال: (وأخرج ابن جرير عن عائشة رضي الله عنها عن أبي بكر قال: ( لما نزلت: (( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123] قال أبو بكر : يا رسول الله! كل ما نعمل نؤاخذ به؟! ) ) فانظر كيف فهم الآية! ( ( فقال: يا أبا بكر ! أليس يصيبك كذا وكذا؟ فهو كفارة ) )، وذكر أيضاً من طريق آخر (عن مسروق قال: ( قال أبو بكر : يا رسول الله! ما أشد هذه الآية: (( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء ) )، يعني: ليس بالضرورة أن يكون الجزاء أخروياً، وإنما مصائب الدنيا وآلامها وأحزانها التي لا يخلو منها أحد هي جزاء، فقوله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) أي: بهذه المصائب في الدنيا.
      قال: (وأخرج سعيد بن منصور والإمام أحمد و البخاري في تاريخه و أبو يعلى و ابن جرير و البيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح عن عائشة ( أن رجلاً تلا هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال: إنا لنجزى بكل ما عملناه؟! هلكنا إذاً! فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم يجزى به المؤمن في الدنيا في نفسه وفي جسده وفيما يؤذيه ) ) وهنا أُبهِم الرجل، فقد تكون عائشة رضي الله عنها أبهمت أباها، وقد يكون صحابياً آخر.
      (وأخرج أبو داود وغيره أيضاً عن عائشة قالت: ( قلت: يا رسول الله! إني لأعلم أشد آية في القرآن ) ) وليس غريباً على الصديقة بنت الصديق أن تكون كأبيها في هذا الشأن، ( ( قال: ما هي يا عائشة ؟ قلت: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) ) ) فأقرها على أنها أشد آية، لكن فسرها لها فقال: ( ( هو ما يصيب العبد من السوء حتى النكبة ينكبها، يا عائشة ! من نوقش هلك، ومن حوسب عذب، قلت: يا رسول الله! أليس الله يقول: (( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ))[الانشقاق:8]، قال: ذاك العرض يا عائشة ، من نوقش الحساب عذب ) )، وهذا الحديث هو في الصحيح، لكن هذه الزيادة في أوله: ( من نوقش الحساب عذب ).
      وفي رواية أخرى عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، قال: إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في الغط عند الموت )، ولهذا ثبت في الصحيح أنها قالت: [ فما أكره لأحد شدة الموت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ]؛ لأنها علمت أن هذا خير له، فمن فضل الله تبارك وتعالى أن من اشتد به الكرب عند الموت والغط يكون ذلك خيرٌ له؛ لأنه يكون آخر ما يتألم به، وبعده يلقى الله تبارك وتعالى ويقال: (( لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ))[الأعراف:49]، (( ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ ))[الحجر:46]، تتلقاهم الملائكة بالبشرى، ويكون ذلك الألم هو آخر ما يحس به من الألم، ففيه تمحيص للذنوب وفيه رفع للدرجة لمن كان من أهل الدرجات العلا جعلني الله وإياكم منهم.
      وعن عائشة رضي الله تعالى عنها -أيضاً كما أخرج الإمام أحمد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها )، وهذا أيضاً يشهد لتكفير الذنوب ببلاء معين.
      قال: (وأخرج ابن راهويه في مسنده و عبد بن حميد و ابن جرير و الحاكم و-صححه- عن أبي المهلب قال: [ رحلت إلى عائشة في هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، قالت: هو ما يصيبكم في الدنيا ].
      وأخرج سعيد بن منصور و ابن أبي شيبة و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن أبي هريرة قال: (لما نزلت: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سددوا وقاربوا؛ فإن في كل ما أصاب المسلم كفارة، حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها ).
      وفي لفظ عند ابن مردويه : ( بكينا وحزنا وقلنا: يا رسول الله! ما أبقت هذه الآية من شيء ) )، فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم يقولون: بكينا وحزنا! وانظر كم آيات نمر بها مثل هذه الآية ولا نحس، فضلاً عن أن نصل إلى مثل هذه الشفافية وهذا التسامي والسمو الروحي والشعور القلبي!
      قال: ( ( بكينا وحزنا، وقلنا: يا رسول الله! ما أبقت هذه الآية من شيء! ) ) أي: قالوا: ماذا نؤمل بعد هذه الآية؟! كيف لا نخاف، وماذا نرجو بعد أن نزل مثل هذا؟! قال: ( ( أما -والذي نفسي بيده- إنها لكما نزلت ) ) أي: هي كذلك ( ( ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا ) )، فما جاءكم من أمر الله فلا تقابلوه إلا بالأمل والطمأنينة والبشرى والاجتهاد في العمل، لا كما قال أهل الكتاب: (( سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا ))[النساء:46]، فهذه ألفاظ أهل الكتاب، لكن نحن -والحمد لله- اختار الله لنا أقوم طريق وأفضله، ولهذا رفع الله تبارك وتعالى عنا إصرنا والأغلال التي كانت على من قبلنا.
      قال: ( ( ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا، إنه لا يصيب أحد منكم مصيبة في الدنيا إلا كفر الله به خطيئته، حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه ) )، أي: لا تحقر مصيبة ولا ألماً، بل احتسب ذلك عند الله تبارك وتعالى مكفراً يكفر به من خطاياك.
      قال: (وأخرج ابن أبي شيبة و أحمد و البخاري و مسلم عن أبي هريرة و أبي سعيد أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن، حتى الهم يهمه؛ إلا كفر الله به من سيئاته ) ).
      وذكر بعده حديث أبي سعيد : ( قال رجل: يا سول الله! أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ما لنا بها؟ قال: كفارات. قال أبي : وإن قلَّت؟! قال: وإن شوكة فما فوقها )، يعني: وإن كانت شوكة فما فوقها، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى.
      وأما ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه فقد أخرج ابن راهويه في مسنده عن محمد بن المنتشر قال: [ قال رجل لـعمر بن الخطاب : إني لأعرف أشد آية في كتاب الله، فأهوى عمر فضربه بالدرة، وقال: مالك نقبت عنها؟! ] أي: قعدت تبحث حتى وجدت هذه الآية [ فانصرف حتى كان الغد ] وانظر كيف كانت تربية الصحابة رضي الله عنهم، [ قال له عمر : الآية التي ذكرت بالأمس ] فـعمر رضي الله عنه أراد أن يتأمل أيضاً وأن يفكر، فلما جاء الغد جاء الرجل، فقال له الآية التي ذكرت بالأمس. يريد أن يذكرها [ فقال: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)، فما منا أحد يعمل سوءاً إلا جزي به. فقال عمر : لبثنا حين نزلت ما ينفعنا طعام ولا شراب ]، فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم تألموا وحزنوا واستفظعوا ذلك حتى كانوا لا يأبهون بطعام ولا شراب من هول ما أوقعته في أنفسهم هذه الآية، قال: [ حتى أنزل الله بعد ذلك ورخص فقال: (( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ))[النساء:110] ]، فقالوا: الحمد لله حين رخص لنا ونفس عنا، ولو بقي الأمر على هذه الآية لبقي ذلك الهم والألم، ولاستدمنا الحزن على هذا الأمر الذي لا نطيقه.
    3. ذكر بعض الآثار المروية في تفسير الصحابة لقوله تعالى: (من يعمل سوءاً يجز به)

      قال رحمه الله تعالى: (وأخرج الطيالسي و أحمد و الترمذي -وحسنه- و البيهقي عن أمية بنت عبد الله قالت: ( سألت عائشة عن هذه الآية: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) فقالت: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد بعد أن سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا عائشة ! هذه مبايعة الله العبد ما يصيبه من الحمى ) ).
      ففي هذا الحديث زيادة أنها مبايعة بين العبد المخلوق الضعيف العاجز المسكين المحتاج إلى رحمة الله ولطفه وتدبيره وعنايته في كل لحظة، وبين العزيز الجبار المتكبر الغني الحميد.
      قال: ( ( هذه مبايعة الله العبد بما يصيبه من الحمى والحزن والنكبة، حتى البضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيفزع لها فيجدها تحت ضبنه ) )، حتى ولو كان في يده نقود فوضعها في كمه -كما كانت العرب تفعل- فيفقدها فيبحث عنها فيجدها في وعائه أو تحت إبطه، وهذا مجرد خطأ منه فقط، فقد ظن أنها ضاعت وهي لم تضع، حتى هذه يكفر الله تبارك وتعالى بها عن المؤمن من خطاياه! فانظر إلى فضل الله تبارك وتعالى على المؤمن، وانظر فيما يجب على المؤمنين من الصبر والاحتساب مقابل هذا الفضل العظيم، وقد قال تعالى: (( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ))[الزمر:10]، فمن صبر أخذ أجره من ذلك كله وافياً بإذن الله تعالى.
      يقول صلى الله عليه وسلم: ( ( حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير ) ) فالذهب يصفى وينقى ويذهب عنه ما يعلق به من الكير إذا أوقدت عليه النار، وكذلك المؤمن حين يصيبه في هذه الدنيا عداوات ومحن وأمراض وأوجاع وآلام وابتلاءات، فإنما ينقى بذلك قلبه وإيمانه كما ينقى الذهب من الكير.
      ثم ذكر رحمه الله تعالى ما روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه في ذلك، (فعن زياد بن الربيع قال: [ قلت لـأبي بن كعب : آية في كتاب الله قد أحزنتني ])، والتابعون كذلك كان يحزنهم ومن بعدهم ما أحزن وآلم الصحابة، فانظر كيف تتوارد أفهامهم وتتفق آراؤهم ونظراتهم وخواطرهم؛ لأنهم يتلقون من معين واحد، وبنفس التلقي وبنفس الشعور.
      قال: ([ قال: ما هي؟ قلت: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال: ما كنت أراك إلا أفقه مما أرى! إن المؤمن لا تصيبه مصيبة -عثرة قدم، ولا اختلاج عرق، ولا نحبة نملة- إلا بذنب، وما يعفوه الله عنه أكثر، حتى اللدغة والنفحة ])، ونحبة النملة هي الرقاد الذي يصيب اليد أو الرجل، فتشعر كأن الذر يسير في رجلك، حتى هذه يكفر الله تعالى بها الخطايا، وهذا من فضله سبحانه وتعالى.
      (وعن إبراهيم بن مرة قال: [ جاء رجل إلى أبي فقال: يا أبا المنذر ! آية في كتاب الله قد غمتني. قال: أي آية؟ قال: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال: ذاك العبد المؤمن، ما أصابته من نكبة مصيبة فيصبر فيلقى الله عز وجل ولا ذنب له ].
      وعن عطاء بن أبي رباح قال: ( لما نزلت: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) قال أبو بكر : جاءت قاصمة الظهر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي المصيبات في الدنيا ).
      وعن ابن عباس : [ أن ابن عمر لقيه حزيناً، فسأله عن هذه الآية: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]]) فانظر إلى هؤلاء الرجال الأفاضل يلقى بعضهم بعضاً فيتدارسون أمور إيمانهم ويتحدثون عن ذنوبهم وعن قلوبهم وعن أحوالهم يعرضونها على كتاب الله!
      ولو أننا كلنا -الشباب والدعاة- شغلنا أوقاتنا بمثل هذا، فإذا التقينا تحدثنا عن ذنوبنا وعن أحوالنا وعن قلوبنا وعما نلقى الله به، وعن الذنب الذي نفعله، ويقول كل منا للآخر: يا أخي! هل عثرت على شيء يرقق قلبي ويزيد إيماني ويدفعني إلى الخير وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هل عثرت على أمر يرغبني في فضيلة من فضائل الذكر والعبادة ونحو هذه الأمور التي نحتاج إليها، لو فعلنا ذلك لتغيرت حياتنا والله، ولو انصرفنا إلى العلم النافع المفيد المثمر وتركنا فضول العلم؛ لكان ذلك خيراً، فكيف وقد تركنا كل شيءٍ حتى فضول العلم؟! وإنما نتحدث ونخوض في اللغو وفي فضول الكلام الذي لا يجدي ولا يثمر شيئاً، بل ربما كان إثماً وكان غيبة وكان نميمة وكان حسرة وندامة، نسأل الله العفو والعافية.
      يقول: ([ فقال -أي: ابن عباس -: ما لكم ولهذه، إنما هذه للمشركين قريش وأهل الكتاب ])، وقد ورد أن هذه لأهل الكتاب وللمشركين وليست للمؤمنين.
      والمقصود من هذا ليس الاغترار، وإلا وقعنا في قول حذيفة رضي الله تعالى عنه: [نعم أبناء عم لكم اليهود ، ما كان من حلوة فهي لكم، وما كان من مرة فهي لهم ]، فليس الأمر كذلك، فكيف نقول في قوله تعالى: (( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ))[المائدة:44]: إن المراد به أهل الكتاب لأنهم لا يحكمون بـالتوراة ؟! أليس من لم يحكم بالقرآن مثلهم؟! أوليس العمل بالقرآن أعظم وجوباً من التوراة ؟!
      فإذا سلكنا هذا المسلك نكون قد فعلنا ما حذر منه حذيفة رضي الله عنه، أما إذا قصدنا حقيقة الإيمان وحقيقة الإسلام فجدير بنا أن نسلك هذا السبيل وأن نتأمل فيه، فلا تعارض بين هذا وبين كون هذا خاصاً بالكفار؛ لأن الكفار هم الذين يجزون بذلك في الآخرة، وأما المؤمن فإنه -كما مر في الأحاديث- يجزى بذلك في الدنيا.
      وبعض الروايات تفسر بعضاً، فالروايات التي بينت أن ذلك في الدنيا معناها أن من يعمل سوءاً يجز به، كتابياً كان أو مسلماً، لكن الفرق أن المسلم يجزى بما يعمل من سوء في الحياة الدنيا ويرفع له به الدرجة أيضاً، وأما أولئك فإنهم يجزون في الدنيا، ولكن ذلك لا يمنعهم من الجزاء في الآخرة، أو يدخر لهم ذلك فيجزون به في الآخرة بأشد العذاب، نسأل الله أن يعافينا من ذلك.
  2. فضل الابتلاء وكيفية تعامل المؤمن معه

     المرفق    
    وقد ذكر رحمه الله تعالى رواية: (عبد الله بن إياس بن أبي فاطمة عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أيكم يحب أن يصح فلا يسقم؟ ) )، فهذا الحديث ورد بشأن المرض خاصة، فبعض الناس يألم ولا يريد أن يمرض ولا يحب ذلك، مع أننا لا نسأل الله عز وجل إلا العفو والعافية في الدنيا والآخرة، فسؤال العافية ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إذا مرض العبد وجب عليه أن يتقبل ذلك بصدر رحب، وأن يوقن بما وعد الله تبارك وتعالى به المؤمنين بهذا الشيء.
    ( ( فقالوا: كلنا يا رسول الله. قال: أتحبون أن تكونوا كالحمير الضالة -وفي لفظ: قال: الصَّيالة-؟! ألا تحبون أن تكونوا أصحاب بلاء وأصحاب كفارات؟! والذي نفسي بيده! إن الله ليبتلي المؤمن وما يبتليه إلا لكرامته عليه، وإن العبد لتكون له الدرجة في الجنة لا يبلغها بشيء من عمله حتى يبتليه بالبلاء ليبلغ به تلك الدرجة ) ).
    فقد يكون لك درجة لا يبلغك إياها عملك، والله تبارك وتعالى يريد أن يتفضل عليك ويبلغك إياها، فيبتليك بما تكره من أذى في نفسك أو في أهلك ومالك، فتصبر وتحتسب فيكتب لك الأجر وترقى إلى تلك الدرجة، فانظر إلى فضل الله تبارك وتعالى؟! فبعد هذا هل يكره المؤمن بلاء الله عز وجل؟! إننا لا نكرهه من جهة أنه من عند الله؛ إذ هناك فرق بين القضاء والمقضي، أو بين القدر والمقدور، فالمقدور أو المقضي هو الألم والمصيبة، وهذه نكرهها بطبيعتنا البشرية، نكرهها من جهة أنها مؤلمة لأنفسنا وبسبب ذنوبنا، أي: نكره هذا لأننا نكره ذنوبنا التي سببت هذا، لكن من جهة أنها من عند الله وأن الله تبارك وتعالى يرفع بها الدرجة ويحط بها الخطيئة نحبها ونرضى بها.
    1. منهج أهل السنة في التعامل مع البلاء

      فلها جهتان، ولا نغلو في هذا كغلو من جاوز الحق من الصوفية وأمثالهم، فاشترطوا الرضا بالقدر والمقدور والقضاء والمقضي، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن القلب ليحزن والعين لتدمع )، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزن ويألم لما يقع، كما وقع في يوم أحد وغيره، وهذا لا يكون تسخطاً أو عدم رضى، لكن من جهة أنه أمر مؤلم وطبيعتنا البشرية تألم لذلك، أما من جهة أنه قضاء الله فإنا نرضى به، فيجتمع الأمران، فلهذا قال: ( ولا نقول إلا ما يرضي ربنا )، فنشكو هذا إذا كان بسبب ذنوبنا، ونجعل ذلك من عند أنفسنا، كما قال تعالى: (( قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ))[آل عمران:165].
      ثم ذكر آثاراً كثيرة في ذلك، بعضها عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه، وبعضها عن الزبير ، وبعضها عن بعض التابعين، وكلها تدل على ما تقدم.
      ومن أعظمها ما جاء في أكثر من رواية في بيان مثل المؤمن ومثل المنافق، ومن ذلك قول سلمان رضي الله عنه: [ إن المؤمن يصيبه الله بالبلاء ثم يعافيه فيكون كفارة لسيئاته ومستعتباً فيما بقي، وإن الفاجر يصيبه الله بالبلاء ثم يعافيه فيكون كالبعير عقله أهله لا يدري لم عقلوه، ثم أرسلوه لا يدري لم أرسلوه ].
      ومثله عن عمار رضي الله عنه أنه: [ كان عنده أعرابي، فذكروا الوجع فقال له عمار : ما اشتكيت قط؟ قال: لا. فقال عمار : لست منا، ما من عبد يبتلى إلا حط عنه خطاياه كما تحط الشجرة ورقها، وإن الكافر يبتلى فمثله مثل البعير عقل فلم يدر لم عقل، وأطلق فلم يدر لم أطلق ]، وما أعجب هذا المثال! ولهذا قال علي رضي الله عنه: [ إما أن تصبر وتحتسب، وإما أن تسلو كما تسلو البهائم ]، حتى البهيمة إذا أخذ ابنها منها أو أصابتها مصيبة تألم، لكن بعد ذلك تسلو مع مرور الزمن وتنسى، فأيهما أولى للإنسان: أن يكون كهذه البهيمة، وأن يكون كالبعير أتاه أصحابه فعقلوه فمل وتضجر، حتى أطلقوه، فلما أطلقوه ذهب، فلا يدري لم عقلوه ولا يدري لم أطلقوه، أم أن يصبر ويحتسب؟!
      وهكذا حال الناس تحت أقدار الله عز وجل، لا يملكون لأنفسهم شيئاً أبداً، فكل ما يقدره الله واقع بهم، البر والفاجر، والصالح والمفسد، كل هؤلاء هكذا، فما الفرق؟
      الفرق أن المؤمن إذا أصابه البلاء صبر واحتسب وعلم أنه من عند الله، ولم يضجر ولم يشتك كما يفعل كثير من الناس، فيشكون الخالق إلى المخلوقين، ولم يسخط من ذلك، بل يصبر ويحتسب حتى ينال الأجر ويعافيه الله عز وجل.
      وكثير من الأدواء تأتي عامة رحمة من الله عز وجل، فتصيب الناس جميعاً، كأمراض الشتاء مثلاً، تصيب الناس عامة المؤمن منهم والكافر، والبر والفاجر، ودورة المرض تكون ثلاثة أيام أو أسبوع على الجميع، والفرق بينهم هو المثال الذي ذكره سلمان و عمار رضي الله عنهما، وهو أن هذه الثلاثة الأيام في المؤمن صبر واحتساب وذكر، فكأنما أدخل هذا الذهب إلى الكير فنقي فخرج منه تبراً خالصاً نقياً.
      وأما الآخر فمثل البعير عقله أهله وحبس عن الشهوات، فيصبح يشتكي ويسخط ويتصل بالأطباء يقول: أهلكني وقتلني المرض، وفعل بي، وعطلني عن أعمالي وعن تجارتي ووظيفتي، فيكون كالبعير لا يعقل حتى تمر الأيام التي مرت على المؤمن، فيطلق فلا يدري لم عقلوه ولا لم أطلقوه، ولو أنه صبر واحتسب وذكر الله لكان خيراً له مع أن الخروج واحد، لاسيما كثير من الأمراض، كالحمى التي ذكرنا فضلها، وإن من العجائب أن الأطباء يقولون: إن أخذت الدواء ثلاثة أيام فهي مدتها، وإن تركت الدواء ثلاثة أيام فالغالب زوالها بعد ذلك، وهذا في الحمى التي نسميها الآن (الأنفلونزا)، فالذي يتعالج منها ثلاثة أيام -وقد تمتد إلى أسبوع- والذي لا يتعالج سواء، ولو أخذت أشد الأدوية.
      إذاً: خير لك أن تكون مؤمناً صابراً محتسباً، ولا تكن كهذا الحيوان الأعجم الذي لا يدري لم عقلوه ولا يدري لم أطلقوه؛ لأن القلوب التي تتعامل مع الله عز وجل ليست كالقلوب الميتة الغافلة، فقلب المؤمن يحس في كل لحظة أن هذا من عند الله وأن هذا من فضل الله في كل أمر، وأن كل نفس يتنفسه هو بقدر الله وبتقدير الله، وأن كل قطرة تنزل في المطر من عند الله، وما تنبت الأرض بتدبير وبقدر من الله، وكل كائن حي يدبر أمره الله.
      يقول الأطباء الآن: إنه يمكن أن يجتمع آلاف أو ملايين الكائنات الحية على رأس دبوس، فرأس الدبوس لو وضعته في جرح مريض ثم وضعته تحت المجهر لرأيت آلاف من الكائنات الحية! فكل هذه الكائنات من يرزقها ومن يدبرها؟! إنه الله عز وجل، وكل هذه أمم، كما قال تعالى: (( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ))[الأنعام:38].
      فأنت -أيها العبد المؤمن- أكرم المخلوقات على الله عز وجل في هذه الدنيا، وكل أمورك مسيرة ومدبرة وفيها حكم عظيمة وإن كانت تخفى عليك، فلتتعامل مع الله من هذا المنظار ومن هذا المنطلق.
      أما من يظن أن المسألة قيود وعقال عقل به منعه من شهواته فبئس ما ظن! فأين الصبر وأين الاحتساب؟!
      إنه ينبغي للإنسان أن ينظر وأن يتأمل في هذه الأمثال من هؤلاء الأئمة الربانيين الذين لما طهرت قلوبهم وخلصت وزكت أعمالهم نالوا عند الله ما نالوا من الدرجات، وما هذا الكلام وأمثاله إلا من ينابيع الحكمة التي فجرها الله سبحانه وتعالى في قلوبهم فنطقوا بها؛ لأنهم شربوا الحكمة من تدبرهم لكتاب الله سبحانه وتعالى بقلوبهم ومن إيمانهم بسنة محمد صلى الله عليه وسلم ومعايشتهم له صلوات الله وسلامه عليه فنطقوا بها.
  3. طريق أهل الحق الموصل إلى الله

     المرفق    
    وقد ختم الله تعالى البشرى للمؤمنين في هذه الآيات بقوله تعالى: (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ... ))[النساء:125] الآية، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: [ قال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خير النبيين، وديننا خير الأديان. فقال الله تعالى: (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ))[النساء:125] ].
    وقبل ذلك قال الله تعالى: (( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى ))[النساء:124] ولم يطلق القول، بل قيده فقال: (وَهُوَ مُؤْمِنٌ)، وقال بعده ذلك: (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ))[النساء:125].
    فانظر كيف قيد الأولى بقوله: (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) وقيد التي بعدها بقوله: (وَهُوَ مُحْسِنٌ) نفياً لذلك اللبس الذي قد يتبادر، وهو أن الإنسان بمجرد أن يكون من أهل الإسلام أو أهل الإيمان له أن يفعل ما يشاء وينال هذا الفضل وهذه الدرجة.
    وذكر عن مسروق أنه لما احتج المؤمنون وأهل الكتاب فأنزل الله: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123] انفلج المسلمون عليهم بهذه الآية: (( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ... ))[النساء:124] أي: ظهروا بالحجة على أهل الكتاب وغلبوهم بهذه الآية.
    وقال السدي في قوله: (( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ))[النساء:124] قال: أبى أن يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح.
    قال رحمه الله تعالى: (وأخرج ابن منذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس [ أن ابن عمر لقيه فسأله عن هذه الآية: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ) قال: الفرائض ])، والمقصود بهذا أهمية الفرائض، لا أن الإنسان لا يعمل إلا الفرائض، بل كما جاء في الحديث القدسي: ( وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه ) فلو أن الله سبحانه وتعالى يعلم شيئاً أقرب إليه وأفضل من الفرائض لجعله هو الفرائض وجعل غيره نوافل، وهذا مما يجب أن يتفطن له ويتنبه له المؤمن، فإنك تريد رضا الله وتريد القرب من الله وتريد أن تكون ممن تنطبق عليهم هذه الآية: (( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ))[النساء:124]، فعليك أن تؤدي الفرائض وأن تحافظ أشد المحافظة على الفرائض، ثم تكمل ذلك بما شئت من النوافل.
    وعن عكرمة في قوله: (( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ))[النساء:124] قال: قد يعمل اليهودي والنصراني والمشرك الخير فلا ينفعهم إلا ثوابه في الدنيا. لأنه تعالى قال: (وهو مؤمن)، فالله تعالى لا يظلم أحداً، لكن فرق بين من يثيبه على عمل الخير في الدنيا وبين من يدخر له ذلك إلى يوم القيامة مع عاجل البشرى التي يعطيها الله لعباده المؤمنين.
    فالمؤمن تعجل له عقوبته في الدنيا من الهم والغم والنصب واللأواء وغير ذلك، ويدخر أجره كاملاً عند الله تعالى في الآخرة، أما الكافر والمنافق فبالعكس، فما يعمله من خير يعطى أجره في الدنيا، كمن يحسن منهم ويتصدق، فإنه يأخذ أجره في الدنيا، ويقال عنه: محسن، ويقال عنه: منفق وجواد، وهذا ما يريدون، وأما في الآخرة فكما قال تعالى: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ))[هود:16] والعياذ بالله، فلا ينفعهم ذلك في شيء عند الله عز وجل.
    قال رحمه الله تعالى: (وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: (( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ))[النساء:124] قال: إنما يتقبل الله من العمل ما كان في الإيمان).
    قال تعالى: (( فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ))[النساء:124]، قال الكلبي : القطمير: القشرة التي تكون على النواة، والفتيل الذي يكون في بطنها، والنقير النقطة البيضاء التي في وسط النواة.
    وكلها أشياء لا يأبه بها الناس، فالإنسان يأكل التمرة ويرمي بها ولا يدري بهذه، فالقطمير قشرة رقيقة على ظهر النواة، والفتيل الحبل الخفيف الذي يكون في وسطها، والنقير النقطة التي تكون في رأس النواة أو في وسطها بحسب اختلاف الأنواع.
    ثم قال تعالى بعد ذلك: (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ))[النساء:125]، فحكم الله تبارك وتعالى بهذه الآية على هذه الملل والأديان التي تجادلت فقال: (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ))[النساء:125]، فالقضية من بعد إبراهيم عليه السلام أنه لا طريق إلى الله إلا ملة إبراهيم عليه السلام، فمن كان عليها ممن كان معه واتبعه في حياته، كما آمن له لوط عليه السلام، والذين جاءوا من بعده، كالنبيين الذين جاءوا بعده من ذريته ودعوا إلى ملته، كما قال الله سبحانه وتعالى: (( أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا ... ))[البقرة:133] وغيرهم، كلهم كانوا على ملة أبيهم إبراهيم عليه السلام، ثم بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو من الفرع الآخر من ذرية إسماعيل، فدعا إلى ذلك وجدده صلوات الله وسلامه عليه، وأعلى شأن دين إبراهيم الخليل، فنحن -والحمد لله- أولى الأمم بإبراهيم عليه السلام.
    فلا طريق إلى الله سبحانه وتعالى بعد أن أوحى إليه وأظهر أمره وجعل ملته هي الدين المقبول إلا باتباعه، ولذلك فنحن -المسلمين ولله الحمد- الحنفاء، ونحن على ملة إبراهيم، أما ما يزعمه الذين يقولون: (( كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ))[البقرة:135]؛ فقد رد الله عليهم ذلك فقال: (( قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ))[البقرة:135]، وهي الملة التي نحن عليها ولله الحمد، والتي وفق الله سبحانه وتعالى لها هذه الأمة فتمسكت بها بعد أن ضل عنها أهل الكتاب فعصوا وعتوا وخالفوا أنبياءهم، بل بعضهم قتلوا أنبياءهم، وقتلوا أعظم أنبياء بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام إلى عيسى عليه السلام، وهما يحيى وزكريا عليهما السلام، فمنهم من قتل بأيدي اليهود ، ومنهم من قتل بوشايتهم.
    أما هذه الأمة فإن الله سبحانه وتعالى كرمها واجتباها واصطفاها: (( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ))[فاطر:32] فأورثها الله تعالى هذا الكتاب وجعلها هي المتبعة الحقيقية لملة إبراهيم عليه السلام، ولهذا يقول الله تعالى: (( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ))[النساء:125]، فمن كان على ملة إبراهيم فهو أحب إلى الله عز وجل، ولهذا رد على قول اليهود و النصارى : (( نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ))[المائدة:18] فقال تعالى: (( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ))[المائدة:18] فلو كنتم الأحباء والأولياء والأبناء لم يعذبكم أبداً، وكما قال تعالى: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ))[النساء:123].
    أما من كان على دين إبراهيم فإن الله تبارك وتعالى اتخذ إبراهيم خليلاً، فأحباب الله وأولياء الله هم الذين كانوا على ملة خليل الرحمن، وهذا ما يمكن أن نقف عنده بخصوص هذه الآيات.
  4. الفرق بين التكفير بالمصائب وحصول الثواب بها

     المرفق    
    نرجع إلى مسألة أخرى، وهي مسألة التفريق بين الصبر وحصول الثواب على المصيبة وبين التكفير، وهذه مسألة قد أشرنا إليها، فبعض الناس قد يورد الآيات والأحاديث الدالة على أن الله سبحانه وتعالى يأجر المصاب مستدلاً بها على تكفير الخطايا، وليس ذلك لازماً بالضرورة، فالصبر شيء والمصيبة شيء آخر، والمصيبة تقع ويتبعها الصبر أو التسخط، فإذا صبر العبد فإنه يؤجر على الصبر، فإذا أجر على الصبر وازن ذلك ما كان قد فعله من السيئات، فيكفر الله عنه ويغفر الله له به، أما أن الله يكفر بنفس المصيبة ما فعله العبد فهذا هو المعنى الأول الذي دلت عليه بعض الأحاديث التي ذكرناها سابقاً، لكن التكفير لازم للأجر، أي: من أصيب فصبر فهو -بإذن الله تعالى- مأجور، فكل نص جاء في أجر الصابر المحتسب دليل أيضاً على أن من فضل الله عليه أن يحط خطاياه ويرفع درجته، لكن هذا من لازم الأجر وليس نصاً فيه، أما ما كان نصاً فقد ذكرناه سابقاً. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
  5. انحراف أهل البدع في معنى الرجاء

     المرفق    
    نقول هذا وجدير بنا أن نقوله لكي لا يتوهم أحد أن الرجاء الذي شرعه الله لنا وندبنا إليه وأمرنا به ولا تستقيم العبادة إلا به يعني الغرور ويعني التواكل، ويعني الرجاء الذي فسره من فسره من الفرق المنحرفة كـالمرجئة و الروافض و الصوفية وأشباههم، فقالوا مثل هذا الكلام الذي نسمعه اليوم في المجالس، يقولون: أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى خير ولا شك في ذلك، ولا شك في أنها في الخير وإلى الخير والحمد لله، وأن الخير في أولها وفي وسطها وفي آخرها كما جاء في الحديث، لكن ليس المقصود أن أي رجل انتسب إليها فهو منها والخير نائله، إنما من كان منها حقيقة لا بمجرد انتساب، بل انتسب وحقق ذلك.
    ويأتي اليوم من غلا -بل ارتد وشذ -والعياذ بالله- كما فعل أحمد التيجاني وأمثاله- فيقول: لا يدخل النار من رآني، ولا من رأى من رآني، ولا من رأى من رأى من رآني... إلى السابع! وهذا ما لم يجعله الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فقد رآه قوم وكانوا من أهل النار حين كفروا به، كـأبي لهب وامرأته وغيرهما من الكفار، وكذلك رأى النبي صلى الله عليه وسلم قوم وآمنوا به وكان من أبنائهم من ارتد أو انحرف، فهؤلاء لا ينفعهم ذلك.
    لكن انظر كيف يبلغ الغرور بصاحبه حتى دعا الناس إلى الاغترار به فأصبح الناس يتعلقون به.
    أما ما روته الشيعة من هذا القبيل فحدث ولا حرج، يزعمون أنك إذا اعتقدت ولاية علي أو إمامته، واعتقدت مع ذلك -عياذاً بالله- أن الشيخين ظالمين أو كافرين أو مرتدين -كما يعتقدون- فقد أصبحت من أولياء أهل البيت، ورووا في آثار كثيرة: (لا يدخل أحد من شيعتنا النار إلا تحلة القسم) وتحلة القسم هي قوله تعالى: (( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ))[مريم:71]، وهي أنه لا بد لكل إنسان من أن يجوز الصراط؛ لقوله تعالى: (( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ))[مريم:71]، فلا بد من أن يردها. فهذه تحلة القسم، لكن ينجي الله الذين آمنوا بمفازتهم فلا يدخلون النار، وأما أولئك فالكلاليب تخطفهم، نسأل الله أن يحفظنا من ذلك، وهذا ما يأتي إن شاء الله تعالى تفصيله فيما بعد.
    إذاً: هذا الانحراف الذي وقع في حياة المسلمين قديماً، والذي يقع في كل زمان -بل يرد على كل نفس-، هو أن مجرد كوننا من هذه الأمة، وكون القرآن كتابنا، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو رسولنا، يعني أنه ما علينا من حرج في أن نعمل ما نشاء.
    فيقال لمتوهم ذلك: قف عند مثل هذه الآية: (( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ))[النساء:123]، فعليك أن تجتهد وأن تعمل الصالحات وأن تحقق هذا الإيمان، وهذا ما سيتضح -إن شاء الله تعالى- في الحديث عن الآية التي بعدها، والآثار في هذا كثيرة جداً.