المادة كاملة    
من جملة ما رزق الله تعالى عباده تفضلاً منه ومنة ورحمة بهم أن فتح باب المغفرة للمستغفرين وإقالة عثرات المسيئين بلزوم الاستغفار بالأسحار وآناء الليل وأطراف النهار؛ ليجنوا بذلك الثمر الداني من مغفرة الذنوب، وستر العيوب، ودرء العذاب العاجل والآجل، والوقاية من شر الآثام والسيئات، ما صدقوا في استغفارهم ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.
  1. الاستغفار.. فضله وثمرته

     المرفق    
    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
    قال المصنف رحمه الله تعالى: [السبب الثاني: الاستغفار، قال تعالى: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ))[الأنفال:33]، لكن الاستغفار تارة يذكر وحده وتارة يقرن بالتوبة، فإن ذكر وحده دخلت معه التوبة، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار، فالتوبة تتضمن الاستغفار والاستغفار يتضمن التوبة، وكل واحد منها يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع ووقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله، ونظير هذا الفقير والمسكين، إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر، وإذا ذكرا معاً كان لكل منهما معنى، قال تعالى: (( إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ))[المائدة:89]، وقال سبحانه: (( فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ))[المجادلة:4]، وقال: (( وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ))[البقرة:271]، لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لمَّا أفرد شمل المقل والمعدم، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى: (( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ))[التوبة:60] كان المراد بأحدهما المقل والآخر المعدم على خلاف فيه، وكذلك الإثم والعدوان، والبر والتقوى، والفسوق والعصيان، ويقرب من هذا المعنى الكفر والنفاق، فإن الكفر أعم، فإن ذكر الكفر شمل النفاق، وإن ذكرا معاً كان لكل منهما معنى، وكذلك الإيمان والإسلام على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
    السبب الثالث: الحسنات؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، فالويل لمن غلبت آحاده عشراته، وقال تعالى: ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ))[هود:114]، وقال صلى الله عليه وسلم: (واتبع السيئة الحسنة تمحها)]
    .
    هذا ما ذكره الشارح، والاستغفار مبحث عظيم، والحديث عنه سيكون في جوانب عدة، منها: معنى الاستغفار، ومنها: العلاقة بين التوبة والاستغفار، ومنها: هل الاستغفار يكون نوعاً واحداً أم أنه متفاوت؟ وهل له شروط أم ليس له شروط، بحيث يكتفى بأن يقول العبد: أستغفر الله؟ وما حكم المعاودة بعد الاستغفار؟ كما تقدم في حكم المعاودة بعد التوبة، وما هي ثمرات الاستغفار وفوائده بإجمال؟ أي: غير الفائدة التي أراد الشارح رحمه الله إيراد هذا المبحث لها هنا، وهي أنه يمنع إنفاذ وعيد الله تعالى في العبد المذنب.
    فنقول: إننا جميعاً بحاجة إلى الاستغفار، وإلى معرفة حقيقته، وإلى أن نعرف وندرك فضله وفوائده وثمراته؛ وذلك لأننا خطاءون ونذنب بالليل والنهار، والاستغفار هو الحل والدواء والصابون الذي تغسل به الذنوب والمعاصي، وأساس كل شر وبلاء ومصيبة وشقاء على العبد في الدنيا والآخرة إنما هو الذنوب، فإذا عرفنا ما يضادها وما يزيلها ويذهبها من التوبة والاستغفار وعملنا بما قال الله ورسوله وبما أرشدانا إليه من التخلص من هذه الذنوب؛ فإننا نكون -بإذن الله تعالى- على طريق النجاة والهداية والسعادة إن شاء الله تعالى.
    وقد علق الله على الاستغفار فوائد عظيمة، وبذلك جاءت أحاديث كثيرة لا تحصى، ومن ذلك أن الله ذكر فضل الاستغفار وفوائده في قصة نبيه تعالى نوح عليه السلام حين قال لقومه بشأن الاستغفار: (( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ))[نوح:10-12]، وهذه فوائد عظيمة تدل على أن الاستغفار سبب لحصول الخير والبركة والرحمة والغيث، وكلها علقت على الاستغفار.
    ومما ذكر الله أيضاً من فوائده ما في أول سورة هود، حيث قال تعالى: (( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ))[هود:3]، والمتاع الحسن هو الحياة الطيبة الزكية النقية من القلق ومن الضنك ومن درن الإلحاد والشرك أو صغار الذنوب ودواعي الضعف والوهن والانحلال التي تلقيها الذنوب في قلوب الأمم والأفراد، ثم قال تعالى: (( وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ))[هود:3].
    وقد ذكر الله تعالى أيضاً عن بعض رسله فوائد للاستغفار، كما في خبر نبي الله هود عليه السلام مع عاد المذكورة في قوله تعالى: (( إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ ))[الفجر:7-8]، والتي كان سبب عنادها وجحودها وكفرها هو اعتزازها واعتدادها بقوتها، حيث قالوا: (( مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ))[فصلت:15]، وكل أمة لضلالها وكفرها وعتوها سبب، وقد تجتمع أسباب في بعض الأمم.
    فقال لهم نبيهم هود بهذا الشأن: (( وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ))[هود:52] وهذا مثل قول نوح عليه السلام: (( يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا ))[نوح:11]، ثم قال هود عليه السلام: (( وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ ))[هود:52] يعني: أنتم بهذه القوة التي لا نظير لها في الأرض بين أمرين: إما أن تستغفروا الله فيزيدكم الله تعالى قوة إلى قوتكم، وإما أن تكفروا وتجحدوا فيكون العذاب الأليم، فاختاروا الكفر وأن لا يتوبوا فوقع عليهم العذاب الذي أرسله الله عليهم، وهو الريح العقيم: (( مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ))[الذاريات:42]، قال تعالى: (( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ))[الأحقاف:25] نسأل الله العفو والعافية، وتحولت تلك الأجسام العاتية الغليظة العملاقة إلى ما وصفها الله به في قوله تعالى: (( كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ ))[القمر:20].
    وكذلك قال صالح عليه السلام لقومه: (( هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ))[هود:61] أطمعهم ورجاهم في الله تعالى بأنه قريب مجيب لمن استغفره ولمن دعاه، كما في حديث أنس : ( يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي ).
    وكذلك شعيب عليه السلام دعا قومه إلى ذلك فقال: (( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ))[هود:90].
    وانظر إلى هذه العبارات: (قريب مجيب) (رحيم ودود)، وفي حديث أنس قال: ( غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي )، فالله تعالى لسعة رحمته لا يبالي بأن يغفر لعبده إذا دعاه واستغفره وأناب إليه، وهو قريب ومجيب وغفور وودود، وهذه الأسماء كلها مما يرغب العبد في الحصول على الأجر العظيم والمكسب الجزيل حين يستغفر الله تعالى، وسيأتي -إن شاء الله- ذكر جملة صالحة من الأحاديث الدالة على فضل الاستغفار وثمرته.
  2. معنى الاستغفار وحقيقته

     المرفق    
    أما المقصود بالاستغفار فإن أصل هذه الكلمة في اللغة مادة ثلاثية، وهي (غفر) من الغفر، والغفر هو الستر، ولهذا فسر بعض العلماء الاستغفار بأنه طلب الستر، فوقفوا عند المعنى اللغوي؛ لأن أي فعل ثلاثي تدخل عليه الهمزة والسين والتاء يتحول إلى طلب، مثل: (استكتب)، أي: طلبه أن يكتب، (استطعم) أي: طلبه الطعام، وكذلك (استهدى)، كما في حديث أبي ذر : ( يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ).
    فقالوا: الغفر في اللغة هو الستر، فإذا أدخلنا عليها أحرف الطلب أصبح المعنى: طلب الستر، فالاستغفار -إذاً- هو طلب ستر المعصية. هكذا قالوا.
    والحقيقة أن هناك معنى أوسع من ذلك كما يقول الحافظ ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم عند شرح حديث أنس رضي الله عنه، وهو الحديث الثاني والأربعون، وهذا الحديث فيه ثلاث جمل عظيمة جداً يبين الله بها أسباباً ثلاثة لحصول المغفرة، حيث يقول أنس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي )، فالسبب الأول: الدعاء مع الرجاء.
    والسبب الثاني: الاستغفار، حيث قال: ( يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ).
    والسبب الثالث: تحقيق التوحيد، حيث قال: ( يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ) .
    إذاً: أسباب حصول المغفرة ثلاثة أمور: الدعاء مع الرجاء، والاستغفار، وتحقيق التوحيد لله تعالى.
    وقد شرح العلامة ابن رجب رحمه الله هذا الحديث العظيم شرحاً قيماً، ومن جملته قوله: (والاستغفار طلب المغفرة، والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها)، فأضاف إلى الستر وقاية شر الذنوب، ولعل هذا الكلام منه رحمه الله مأخوذ عن ابن القيم ، فإنه رحمه الله قال في المدارج بعد أن ذكر الاستغفار المقرون بالتوبة والمفرد: (فالاستغفار المفرد كالتوبة، بل هو التوبة بعينها، مع تضمنه طلب المغفرة من الله، وهو محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شره، لا كما ظنه بعض الناس أنها الستر فبعض العلماء ظن أن المغفرة هي الستر، فإذا ستر الله على العبد في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً فقد غفر له).
    قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فإن الله يستر على من يغفر له ومن لا يغفر)، وهذا من فقهه رحمه الله، فالله ستير يحب الستر، وكم يستر على قوم لا يتوبون ولا يستغفرون، وإنما يمهلهم ويملي لهم، إما لأجل أن يتوبوا وأن يستغفروا ويراجعوا أنفسهم، وإما استدراجاً، فالفرصة لهم سانحة، والله هو العليم بما عملوا وبما سيعملون وبما سينتهي إليه أمرهم ومآلهم، فالمقصود أن الله يستر على من يغفر له ومن لا يغفر له، فليس الستر خاصاً بالمستغفرين.
    قال: (ولكن الستر لازم مسماها أو جزؤه)، يعني أن الستر جزء من المغفرة، ولا شك في أنه إذا غفر له فقد ستره في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما.
    قال: (وحقيقتها) يعني: حقيقة المغفرة (وقاية شر الذنب، ومنه المغفر لما يقي الرأس من الأذى) والمغفر يوضع على الرأس في الحرب ليتقي به الفارس ضرب السيوف أو النبال أو الرماح.
    قال: (والستر لازم لهذا المعنى، وإلا فالعمامة لا تسمى مغفراً)، فالعمامة تستر الرأس ولا تسمى مغفراً؛ لأنها لا تقي الأذى ولا تنفع حال الضرب.
  3. حاجة العباد إلى الاستغفار لدرء عذاب الله

     المرفق    
    إذاً: المغفرة هي الوقاية من شر الذنوب، ولذا قال: (فلابد في لفظ المغفرة من الوقاية، وهذا الاستغفار هو الذي يمنع العذاب).
    وهذا أحد فوائد الاستغفار العظيمة الدالة على فضله، يضاف إلى ما تقدم من كونه يجلب الخير والبركة والنماء والقوة والمتاع الحسن في الدنيا والآخرة، فله جانب آخر عظيم، وهو درء ودفع العذاب، وهل في الأرض من يستغني عن ذلك؟! أليس كل أمم الأرض وكل الناس في حاجة إلى أن يدفعوا عذاب الله تعالى عنهم؟! وإنما يدفعونه بالاستغفار، فقد قال الله تعالى فيه: (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ))[الأنفال:33].
    وإنه ليس في هذه الأمة نعمة أفضل وأعظم من مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، فأكبر نعمة أنعم الله بها على العالمين هي بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، رحم الله بها العالمين أجمعين، وهي من النعم الباطنة، وقد أسبغ الله على عباده نعمه الظاهرة والباطنة، لكن هذه النعمة أعظم من نعمة الدنيا والخلق والأكل والشرب والشهوات؛ لأن هذه النعم على كثرتها وعلى فضلها وعلى قيمتها لو تجردت عن الإيمان لما كان لها أي قيمة، ولما كانت متاعاً حسناً ولا حياة طيبة.
    ففي هذه الآية الكريمة جعل الله تعالى مانع وقوع العذاب أمرين:
    الأول: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم في الأمة.
    والثاني: الاستغفار، وهو عظيم وشأنه جسيم وفائدته كبيرة؛ لأنه يعدل وجود النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ليس مثله من كل الوجوه، لكن ذكره هنا دليل على أهميته وضرورته.
    إذاً: فلا بد منه لكل الناس، فالمشرك يستغفر الله من شركه، والمفرط العاصي يستغفر الله من تفريطه وذنوبه ومعصيته، فهو ضروري لكل أحد، وإلا حل العذاب بالمذنبين والمجرمين.
    قال رحمه الله تعالى: (فإن الله لا يعذب مستغفراً، وأما من أصر على الذنب وطلب من الله مغفرته؛ فهذا ليس باستغفار مطلق، ولهذا لا يمنع العذاب)، يعني: أن حقيقة الاستغفار هي الوقاية من شر الذنوب.
    وإذا نظرنا إلى علاقة الاستغفار بالتوبة -كما سنعرض لذلك بالتفصيل- فسنجد الفرق بينهما، كما في دعاء كفارة المجلس: ( أستغفرك وأتوب إليك ).
    فإذا قلت ذلك فقد فعلت أمرين: استغفاراً وتوبة، فمعنى (أستغفرك): أطلبك وأرجوك أن تقيني شر ذنبي الذي أسلفت وقدمت، ومعنى (وأتوب إليك): أنيب وأتوب إليك ولا أعصيك مستقبلاً.
    فالاستغفار يعالج ما مضى، فهو يقيك شر ما أسلفت وما قدمت من الذنوب والمعاصي، فتقول: (أستغفرك)، أي: لما مضى (وأتوب إليك) أي: لما بقي، فهذا بالإضافة إلى أنه يبين لنا الفرق بين التوبة والاستغفار من جانب؛ يبين لنا أن حقيقة الاستغفار هي الوقاية من شر الذنب، وشر الذنب يعم وقوع العذاب في الدنيا ووقوع المصائب، ويعم مرض القلب والشرور العظيمة التي ذكر ابن القيم جملة منها في كتابه الجواب الكافي .
    يقول رحمه الله تعالى: (والرجوع إلى الله يتناول النوعين)، ونحن قلنا: إن حقيقة التوبة هي الرجوع إلى الله، فهو يقول: الرجوع إلى الله يتناول التوبة ويتناول الاستغفار؛ لأنني إذا قلت: يا رب! قني شر ذنبي فقد رجعت إليه، وإذا طلبت منه أن يتوب عليّ فقد رجعت إليه، فحقيقة التوبة مع حقيقة الاستغفار هي الرجوع إلى الله تعالى.
  4. الاستغفار في القرآن الكريم

     المرفق    
    يقول ابن رجب رحمه الله تعالى: (وقد كثر في القرآن ذكر الاستغفار)، فتارة يؤمر به، كقوله تعالى: (( وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))[البقرة:199]، فهذا أمر من الله بالاستغفار وحض عليه (وقوله: (( وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ))[هود:3]، وتارة يمدح أهله، كقوله تعالى: (( وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ ))[آل عمران:17] وقوله تعالى: (( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ))[آل عمران:135]) وهذه من أعظم الآيات التي أخذ العلماء منها أحكام الاستغفار.
    قال: (وتارة يذكر أن الله يغفر لمن استغفره)، أي: من جملة ما ندب به الله تعالى عباده إلى الاستغفار وبين لهم فضله أنه يذكر أنه يغفر لمن يستغفره، كما في قوله تعالى: (( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ))[النساء:110]، وقوله تعالى: (( هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ))[المدثر:56].
    فالله يجازي من استغفره بالغفران، كما في الحديث الصحيح: ( وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة )، ففضل الله أعظم، فإذا استغفره العبد غفر الله له.
    يقول ابن رجب رحمه الله تعالى: (وكثيراً ما يقرن الاستغفار بذكر التوبة، فيكون الاستغفار حينئذٍ عبارة عن طلب المغفرة باللسان، والتوبة عبارة عن الإقلاع من الذنوب بالقلوب والجوارح) وهذا أحد المعاني (وتارة يفرد الاستغفار ويرتب عليه المغفرة)، يفرده ويرتب عليه وقوع المغفرة ولا يذكر معه التوبة.
    وهذا الكلام فصله ابن القيم أيضاً، فقال رحمه الله تعالى: (وأما الاستغفار فهو نوعان: مفرد ومقرون بالتوبة، فالمفرد كقول نوح عليه السلام: (( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ))[نوح:10]، وقول صالح لقومه: (( لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ))[النمل:46]) وأمثاله كثيرة.
    قال: (والمقرون كقوله تعالى: (( اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ))[هود:3]).
    وقد ذكرنا ما قال شعيب وصالح عليهما السلام، وفي حديث كفارة المجلس قرن الاستغفار بالتوبة، وهذا ما سنبينه فيما بعد، أعني العلاقة بينهما.
  5. الاستغفار وأثره حال المعاودة وحال الإصرار

     المرفق    
    ونريد هنا أن نستعرض أهميته وفائدته، وهل يكون الاستغفار حالة واحدة؟ وهل له شروط أم ليس له شروط؟
    فبعض العلماء يقولون -كمثل ما تقدم في التوبة-: إن الاستغفار كالتوبة لا بد له من شروط؛ فإن لم تتحقق الشروط فلا استغفار لصاحبه. أي: أن من يستغفر الله تعالى بلسانه مجرداً عن توبة القلب وإنابته وكف الجوارح عن المعاصي فاستغفاره لا قيمة له مطلقاً، بل فاعله كالمستهزئ بربه. وفصل في ذلك بعض العلماء، وسنأخذ من كلام ابن رجب شيئاً من هذا، وقد سبق في مبحث التوبة أن ذكرنا أن العبد كلما أذنب يجب عليه أن يتوب، وأن تكرار الذنب مع معاودة التوبة لا يمنع من وقوعها وحصولها مرة بعد مرة، واستشهدنا على ذلك بحديث يدل على أن العبد عرضة للذنوب، وأنه مهما أذنب فاستغفر، فإن الله يغفر له ولو تكرر ذنبه، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( إن عبداً أصاب ذنباً فقال: أي رب! أذنبت ذنباً فاغفر لي، فقال ربه عز وجل: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، فغفر له ... ) كرر ذلك ثلاثاً، وفي الثالثة قال تعالى: ( غفرت لعبدي، فليفعل ما شاء )، أي: ما دام هذا حاله، يعني: فليذنب ما شاء ما دام أنه يستغفر ويتوب وينيب، فإنني في كل مرة سأغفر له.
    وطبيعة النفس أن تقع في الذنوب، فليس من شرط التوبة أو الاستغفار العصمة بعده، ما دام المرء يصدق مع الله في توبته واستغفاره وإنابته، فإن الله يغفر له، فإن تكرر الذنب وغلبه هواه وشيطانه فليصدق الله ثانية وثالثة ورابعة كلما تكرر منه الذنب، فالله يغفر له ما دام هذا شأنه وحاله.
    وعليه فقد يقال: إن المقصود بهذا الحديث المعاودة إلى الذنب وليس الإصرار؛ إذ يلحظ في هذا الحديث -وهو من أعظم أحاديث الرجاء في باب الاستغفار- أنه لم يذكر فيه أنه مصر، وإنما ذُكِر أنه معاود، وفرق بين المعاود والمصر، ولعل هذا مما يوفق بين الأقوال، والأقوال متقاربة فليست كالخلافات الفقهية المعروفة، وإنما هي نظرات تربوية، فبعض السلف ينظر إلى زاوية معينة يريد أن يربي تلاميذه عليها، وهي أن يكونوا صادقين مع الله، فلا يقول أحدهم: أستغفر الله، ثم يرجع إلى الذنب، ولهذا قال بعضهم: لا تقل: أستغفر الله وأتوب إليه، بل قل: أستغفر الله فقط؛ لأنك إذا قلت: (وأتوب إليه) تكون قد ادعيت دعوى قد لا تحققها، فاقتصر على قول: (أستغفر الله)، وهذه نظرات تربوية أكثر من كونها خلافات علمية بالمعنى الدقيق.
    إذاً: نقول: المصر على الذنب ليس هو المقصود بهذا الرجاء العظيم، إنما هو المعاود للذنب، فقد تحصل له الفائدة -بإذن الله- والثمرة من الاستغفار.
  6. الاستغفار الصادق مع المداومة على الذنوب

     المرفق    
    وهنا أمر آخر، وهو حال الذي يستغفر الله بلسانه -وهو صادق- بعد الصلوات وفي أماكن الإجابة وأوقاتها، ولكنه في الوقت نفسه مصر على الذنوب.
    فهذا إما أن نقول فيه: إن هذا لا ينفعه؛ هذا كلام مجرد؛ لأنه لم يكف ويقلع عن الذنوب، فكيف يستغفر الله بلسانه وهو لم يكف عن الذنوب؟!
    وإما أن نقول: إن ذلك ينفعه. فيقال: كيف ينفعه ولم يؤثر فيه، بل هو مقيم على الذنب مصر عليه؟!
    فكلا القولين عليهما اعتراض.
    والصحيح أن نقول: إن هذا الاستغفار دعاء كسائر الأدعية، فإن شاء الله استجاب له وغفر له، فلو لقي الله بذلك الذنب مصراً عليه قبل طلبه الاستغفار فغفر له، وإن شاء تعالى لم يجبه فهو دعاء، ولذلك لا نقول له: لا تستغفر، بل نحثه ونحضه على أن يذكر الله ويستغفر الله على كل أحواله ما استطاع، فذلك يخفف الذنوب وربما محاها، فربما قال: أستغفر الله بقلب صادق فيستجيب الله له ويغفر له على ما كان منه ولا يبالي، كما في حديث أنس ، فهذا يمكن أن يتحقق.
    إذاً: الاستغفار التام الذي تحصل به الثمرة التامة هو الذي تتبعه الإنابة والتوبة والندم، والذي يكون مع عدم الإصرار، بل يكون بالقلب والجوارح، وينال العبد به مطلوبه من ربه كاملاً بأن يغفر الله ذنبه ويقيه شره ويرفع درجته ويبدل سيئاته حسنات.
    يقول ابن رجب رحمه الله تعالى: (فأفضل الاستغفار ما قرن به ترك الإصرار وهو حينئذٍ يؤمل توبة نصوحاً، وإن قال بلسانه: (أستغفر الله) وهو غير مقلع بلقبه فهو داع لله بالمغفرة، كما يقول: اللهم اغفر لي، وهو حسن، وقد يرجى له الإجابة، وأما من قال: توبة الكذابين فمراده أنه ليس بتوبة كما يعتقده بعض الناس، وهذا حق فإن التوبة لا تكون مع الإصرار).
    أي: من كان من السلف يقول: إن الاستغفار باللسان مع الإصرار على الذنب توبة الكذابين؛ فإنما يقصد هذا الجانب، أي أنه يستغفر الله، ولكنه لا يتوب ويظن أنه قد تاب توبة صادقة نصوحاً، وقد غفر الله له بمجرد أنه قال بلسانه: أستغفر الله.
  7. قول المستغفر: (وأتوب إليه)

     المرفق    
    ثم ذكر رحمه الله أن من قال: (أستغفر الله وأتوب إليه) له حالتان:
    إحداهما: أن يكون مصراً بقلبه على المعصية، فهو كاذب في قوله: (وأتوب إليه).
    والثانية: أن يقلع عن المعصية بقلبه، قال: (فاختلف الناس في جواز قوله: (وأتوب إليه) )، فقالت طائفة من السلف: لا يقول: أستغفر الله وأتوب إليه.
    فانظر إلى فقه هؤلاء! لقد شغلوا أنفسهم بعيوب أنفسهم قبل كل عيب، ونظروا إلى ذنوبهم قبل كل شيء، وإن مصدر الخطر على الفرد في ذاته وعلى الأمة هو الذنوب، فهؤلاء عرفوا أن أساس كل شر وبلاء وضرر في الدنيا والآخرة هو الذنوب، ومن هنا كانت معاملتهم مع الله بهذه الشفافية والحساسية والدقة والتعمق في المعاني والتدقيق في الفهم والعبارات والاستنباط، بغض النظر عن أنهم قد يخطئون، كما يجتهد الإنسان في أحكام العبادات من صلاة وطهارة وحج ويخطئ ويصيب، لكن المقصود هو الاهتمام، فمبلغ علمهم ومبلغ اهتمامهم بأمر الله.
    يقول بعضهم: كيف تقول: أستغفر الله وأتوب إليه إذا كنت على هذه الحال؟! فقولك: (وأتوب إليه) يكون كذباً وذنباً، ولكن تقول كما قال الربيع بن خثيم : [ اللهم إني أستغفرك فتب عليَّ ]، وكان بعضهم يقول: (أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله توبة نصوحاً) يخاف أنه لم يتب.
    قال رحمه الله تعالى: (وروي عن حذيفة أنه قال: [بحسب المرء من الكذب أن يقول: أستغفر الله ثم يعود]. [وسمع مطرف رجلاً يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، فتغيظ عليه، وقال: لعلك لا تفعل].
    وهذا جانب تربوي كما قلنا، حتى يعرف القائل أن الكلمة كلمة عظيمة ليحقق معناها، يقول له: فلعلك لا تفعل، فلا تقل: (وأتوب إليه) إلا إذا كنت صادقاً عازماً على أن لا تعود إلى الذنب.
    قال: [وكذلك سئل محمد بن كعب القرظي عمن عاهد الله على أن لا يعود إلى معصية أبداً، فقال: من أعظم منه إثماً؟! يتألى على الله أن لا ينفذ فيه قضاؤه؟!].
    فهذا امرؤ عاهد الله على أن لا يعصي الله أبداً، يقول: أنت تتألى على الله أن لا ينفذ فيك قضاؤه. فقضاء الله نافذ على كل حال، ومن قضائه أننا نخطئ بالليل والنهار، بل أعظم من ذلك ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه ( والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ) لأنه كيف تتحقق أسماء الله تعالى -كالغفار والغفور والودود والرحيم- إلا بمثل هذا؟!
    يقول ابن رجب في قول مطرف: (وهذا ظاهره يدل على أنه إنما كره أن يقول: وأتوب إليه؛ لأن التوبة النصوح أن لا يعود إلى الذنب أبداً) قال: (ورجح قوله في هذا أبو الفرج الجوزي) الإمام الواعظ المحدث المعروف.
    قال: (وجمهور العلماء على جواز أن يقول التائب: أتوب إليه، وأن يعاهد العبد ربه على أن لا يعود إلى المعصية) وإن كان قد يرجع وقد يذنب (فإن العزم على ذلك واجب عليه في الحال، لهذا قال: ما أصر من استغفر، ولو أصر في اليوم سبعين مرة، وقال في المعاود لذنبه: ( قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء )، وفي حديث كفارة المجلس: ( أستغفرك وأتوب إليك ) )، فالنصوص مع هذا القول، وهو أنه يجوز للعبد أن يقول: أستغفر الله وأتوب إليه.
    قال: ( ( وقطع النبي صلى الله عليه وسلم يد سارق، ثم قال له: استغفر الله وتب إليه. فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم تب عليه ) أخرجه أبو داود).
    ولو لم يكن إلا حديث كفارة المجلس لكان كافياً في أن العبد يجوز له أن يجمع في دعائه بين التوبة والاستغفار، وأن ذلك إنما هو دعاء، فإن وفق لإتمامه ولم يعد إلى الذنب فالفضل في ذلك لله وحده، وإن أخطأ ووقع في الذنب فليعد ثانية إلى التوبة والاستغفار أو إلى العهد مع الله تبارك وتعالى، وهذا يدل على أهمية الاستغفار وضرورته.
  8. الإكثار من الاستغفار والآثار الواردة في ذلك

     المرفق    
    وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة )، قال: (وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة ) )، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله في اليوم مائة مرة!
    قال: (وفي المسند عن حذيفة قال: قلت: ( يا رسول الله! إني ذرب اللسان، وإن عامة ذلك على أهلي ) )، والناس على طباع، فبعضهم طبعه الحلم، وبعضهم طبعه الأناة، وبعضهم طبعه العجلة، وبعضهم طبعه الغلظة، وهكذا جعل الله الطباع، فـحذيفة رضي الله تعالى عنه جاء يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لسانه ذرب، أي: يقول كلاماً لا يريد أن يقوله، ويقول: (وإن عامة ذلك على أهلي) أي: لا يؤذي المسلمين، ولكن يجعله على أهله، ولكن الأهل ينبغي أيضاً أن لا يصيبهم ذلك، وإنما يكون المرء معهم كما قال صلى الله عليه وسلم: ( خيركم خيركم لأهله ).
    (فقال صلى الله عليه وسلم: ( أين أنت من الاستغفار؟! إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة ) ) قال: (وفي سنن أبي داود عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب ) ).
    وهذا المعنى تدل عليه الآيات المتقدمة، وفيه فوائد عظيمة، وهي غنيمة باردة، وجدير بالمؤمن أن لا تفوته أبداً وأن يكثر منه، وإن كان لابد له من أن يقارف شيئاً من الذنوب، لكن أكثر من الاستغفار فإن ذلك يمحو الذنوب ويقللها بإذن الله تعالى.
    أما أبو هريرة رضي الله عنه فقال: [ إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم ألف مرة، وذلك على قدر ديتي ]، يعني: يعتق نفسه فيدفع الدية كل يوم؛ إذ غاية ما يفعل السيد بالعبد الآبق الذي انفلت منه وعصاه فقبض عليه أنه يقيده ليخضع لخدمة سيده بجوارحه، فيكون خادماً لسيده مطيعاً، وهذا مقتضى العبودية الدنيوية، وكذلك لو أن عبداً قتل نفساً فإن عليه أن يدفع الدية.
    فقال: الذنوب والمعاصي تصير بها كالعبد الآبق، فتستحق أن تحبس نفسك، أو تصير بها كمن قتل نفساً، وهذه النفس هي نفسك، كما قال بعض التابعين حين كان يقوم الليل ويبكي، فتقول أمه: يا بني! أقتلت نفساً؟! قال: نعم يا أماه، قتلت نفسي. أي: ولا يفعل هذه الضراعة والبكاء إلا من فعل جرماً عظيماً، وهو قتل النفس.
    فيقول أبو هريرة : إنه قتل نفسه، فيدفع ديتها ألف دينار، فيستغفر الله ألف مرة، وهذا ليس بكثير ولا بصعب على من وفقه الله تعالى لذلك، ولا سيما من كان حاله كحال أبي هريرة رضي الله عنه، فقد ذكر عنه أنه لم يشغله الصفق بالأسواق، وإنما كان ملازماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينال مما يعطى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأهل الصفة، فكان متفرغاً للذكر وللعلم ولحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: [وقالت عائشة : [ طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً ]، هكذا ذكر ابن رجب رحمه الله، وقد وجدت أن الحديث مرفوع، وهو صحيح إن شاء الله.
    و(طوبى) إما إنها الجنة أو شجرة في الجنة كما جاء في الحديث، ولا تنافي بينهما، وإما أنها بمعنى السعادة والراحة والطمأنينة لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً.
    فالخلاصة أن الاستغفار ذكر ودعاء، فلنحرص عليه جميعاً، فالمصر على الذنب نقول له: استغفر وادع الله، فقد يستجيب الله لك دعاءك، فإذا كان الاستغفار ينفع مع المصر لأنه دعاء -ولا يجوز أن يكون العبد مصراً- فكيف بالذي يحقق تمامه وكماله بأن يتوب إلى الله تعالى، وينيب ويقلع عن الذنوب والمعاصي؟! كما قال قتادة : (إن هذا القرآن يدل على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم فالذنوب، وأما دواؤكم فالاستغفار). وقال بعض العلماء: (إنما مُعَوَّل المذنبين -أي: ما يرجعون إليه ويأوون إليه- البكاء والاستغفار). فمن أهمته ذنوبه أكثر لها من الاستغفار، ومن لم تهمه فهو الذي لا يذكر الله إلا قليلاً، ولا يستغفر الله تعالى إلا قليلاً.
  9. الفرق بين التوبة والاستغفار

     المرفق    
    هناك موضوع العلاقة بين التوبة وبين الاستغفار، لعلنا نأتي ولو على طرف منه، وإن كان كما قلنا نفصله إن شاء الله في الأسبوع القادم، لكن لا بأس أن نقول: إن فروقاً موجودةً وقائمةً بين التوبة وبين الاستغفار، فأولاً: من جهة المعنى؛ فمعنى كل منهما يدل على حقيقته، فتقدم أن معنى التوبة هو الرجوع، فهي من العبد رجوعٌ إلى الله تبارك وتعالى بالطاعة عن المعصية، ومن الله ليتوب عليه رجوع عن العقاب إلى المغفرة إذاً: هذا معناها: الرجوع.
    وأما الاستغفار فمعناه: الوقاية من شر الذنوب مع سترها، أو ستر الذنوب مع الوقاية من شرها.
    إذاً: هناك فرق بين المعنيين من هذه الجهة.
    ومن جهة أخرى هناك فرق مهم بين الاستغفار والتوبة لابد أن نتعرض له، وهو: التوبة ممن تكون من جهة الفاعل؟
    إذا قلنا: إن التوبة تكون من المذنب والمؤمن والمحسن، وكل هؤلاء، والاستغفار لا يكون من الجميع؟
    إذاً هذا ليس فرقاً.
    التوبة تكون من العبد نفسه، يعني: لا يجوز لأحد أن يتوب عن أحد.
    هذا هو المقصود، يعني ما أحد يتوب عن أحد، فلا يقول أحد: اللهم إني تبت إليك عن فلان، فهذا لا يصح؛ إنما الواجب أن يتوب صاحب الذنب نفسه، المذنب نفسه هو الذي يتوب، هو الذي يدعو الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يرجو الله ويحقق شروط التوبة، يندم على ما فات، ويقلع عن الذنب، ويعزم على ألا يعود، ويرد المظالم لنفسه، فهذا معنى التوبة.
    طبعاً رد المظالم ذكرنا أن الوارث يفعلها، هذا ينقلنا إلى الاستغفار، يعني الاستغفار هل يكون فقط من المذنب؟
    الاستغفار يكون من فاعل الذنب وغير فاعله، يعني: أنت رأيت عبداً من عباد الله، من إخوانك ارتكب ذنباً يجوز لك أن تستغفر له، فتقول: اللهم اغفر لفلان، من الناس من يجب عليك أن تستغفر له، وأولى الناس بذلك الوالد، ولهذا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ذلك، لكنه قال: ( لم يأذن لي، وأستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي )، يعني الاستغفار لا يكون للمشرك، كما قال تعالى: (( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى ))[التوبة:113]، لكن الآية دالة بمفهومها أن ما عدا ذلك يجوز، فأنت تستغفر لنفسك ولإخوانك المؤمنين جميعاً، بل كلما استغفرت لإخوانك المؤمنين كان ذلك خيراً في صيغة الاستغفار من أن تستغفر لنفسك؛ لأنك إذا استغفرت لإخوانك المؤمنين فأنت داخل في جملتهم، وإذا استغفرت لواحدٍ منهم يقول الملك: آمين ولك مثل ذلك، فكأنك ضمنت الأمرين لك ولإخوانك، لكن إذا دعوت لنفسك تضمن واحدةً إن ضمنتها، ولا تدري عن الأخرى.
    إذاً: فأنت تستغفر الله سبحانه وتعالى لنفسك ولإخوانك المؤمنين.
    أما التوبة فإنا نسأل الله لإخواننا المؤمنين التوبة، إذا أذنب أحد إخواني المسلمين فإنني أستغفر الله له، وأسأل الله له التوبة، فالاستغفار وقع مني، أما التوبة فسألت الله أن يهديه لها، ويوفقه لإقاعها منه هو؛ لأنه هو صاحب الذنب، وهذا فارق عظيم بين الحقيقتين: بين حقيقة التوبة، وبين حقيقة الاستغفار.
    نعم، إذا قال: اللهم تب عليه، اللهم اغفره فهذا دعاء منه هو، لكن لا يقول: تبت عن فلان، فهناك فرق. والقضية أوضح من أن نطيل فيها.
    والحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.