ثم ذكر رحمه الله أن من قال: (أستغفر الله وأتوب إليه) له حالتان: إحداهما: أن يكون مصراً بقلبه على المعصية، فهو كاذب في قوله: (وأتوب إليه).والثانية: أن يقلع عن المعصية بقلبه، قال: (فاختلف الناس في جواز قوله: (وأتوب إليه) )، فقالت طائفة من السلف: لا يقول: أستغفر الله وأتوب إليه.فانظر إلى فقه هؤلاء! لقد شغلوا أنفسهم بعيوب أنفسهم قبل كل عيب، ونظروا إلى ذنوبهم قبل كل شيء، و
إن مصدر الخطر على الفرد في ذاته وعلى الأمة هو الذنوب، فهؤلاء عرفوا أن أساس كل شر وبلاء وضرر في الدنيا والآخرة هو الذنوب، ومن هنا كانت معاملتهم مع الله بهذه الشفافية والحساسية والدقة والتعمق في المعاني والتدقيق في الفهم والعبارات والاستنباط، بغض النظر عن أنهم قد يخطئون، كما يجتهد الإنسان في أحكام العبادات من صلاة وطهارة وحج ويخطئ ويصيب، لكن المقصود هو الاهتمام، فمبلغ علمهم ومبلغ اهتمامهم بأمر الله.يقول بعضهم: كيف تقول: أستغفر الله وأتوب إليه إذا كنت على هذه الحال؟! فقولك: (وأتوب إليه) يكون كذباً وذنباً، ولكن تقول كما قال
الربيع بن خثيم : [
اللهم إني أستغفرك فتب عليَّ ]، وكان بعضهم يقول: (أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأسأله توبة نصوحاً) يخاف أنه لم يتب.قال رحمه الله تعالى: (وروي عن
حذيفة أنه قال: [
بحسب المرء من الكذب أن يقول: أستغفر الله ثم يعود]. [
وسمع مطرف رجلاً يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، فتغيظ عليه، وقال: لعلك لا تفعل].وهذا جانب تربوي كما قلنا، حتى يعرف القائل أن الكلمة كلمة عظيمة ليحقق معناها، يقول له: فلعلك لا تفعل، فلا تقل: (وأتوب إليه) إلا إذا كنت صادقاً عازماً على أن لا تعود إلى الذنب.قال:
[وكذلك سئل محمد بن كعب القرظي عمن عاهد الله على أن لا يعود إلى معصية أبداً، فقال: من أعظم منه إثماً؟! يتألى على الله أن لا ينفذ فيه قضاؤه؟!].فهذا امرؤ عاهد الله على أن لا يعصي الله أبداً، يقول: أنت تتألى على الله أن لا ينفذ فيك قضاؤه. فقضاء الله نافذ على كل حال، ومن قضائه أننا نخطئ بالليل والنهار، بل أعظم من ذلك ما في
صحيح مسلم عن
أبي هريرة رضي الله عنه (
والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ) لأنه كيف تتحقق أسماء الله تعالى -كالغفار والغفور والودود والرحيم- إلا بمثل هذا؟! يقول
ابن رجب في قول
مطرف: (وهذا ظاهره يدل على أنه إنما كره أن يقول: وأتوب إليه؛ لأن التوبة النصوح أن لا يعود إلى الذنب أبداً) قال: (ورجح قوله في هذا
أبو الفرج الجوزي) الإمام الواعظ المحدث المعروف.قال: (وجمهور العلماء على جواز أن يقول التائب: أتوب إليه، وأن يعاهد العبد ربه على أن لا يعود إلى المعصية) وإن كان قد يرجع وقد يذنب (فإن العزم على ذلك واجب عليه في الحال، لهذا قال: ما أصر من استغفر، ولو أصر في اليوم سبعين مرة، وقال في المعاود لذنبه: (
قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء )، وفي حديث كفارة المجلس: (
أستغفرك وأتوب إليك ) )، فالنصوص مع هذا القول، وهو أنه يجوز للعبد أن يقول: أستغفر الله وأتوب إليه.قال: ( (
وقطع النبي صلى الله عليه وسلم يد سارق، ثم قال له: استغفر الله وتب إليه. فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم تب عليه ) أخرجه
أبو داود). ولو لم يكن إلا حديث كفارة المجلس لكان كافياً في أن العبد يجوز له أن يجمع في دعائه بين التوبة والاستغفار، وأن ذلك إنما هو دعاء، فإن وفق لإتمامه ولم يعد إلى الذنب فالفضل في ذلك لله وحده، وإن أخطأ ووقع في الذنب فليعد ثانية إلى التوبة والاستغفار أو إلى العهد مع الله تبارك وتعالى، وهذا يدل على أهمية الاستغفار وضرورته.