جامعة أم القرى
كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
قسم الدراسات العليا الشرعية
فرع العقيدة

ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي


رسالة مقدمة لنيل درجة التخصص العليا
[ الدكتوراه ]

إعـداد:
الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي

إشراف الأستاذ:
محمد قطب

1405 هـ- 1406 هـ

الجزء الأول
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون, وصلى الله وسلم على رسوله المبعوث رحمة للعالمين، الذي أوضح الحجة، وأبان المحجة، وترك الأمة على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
أما بعــد:
فإن التفرق في الدين والاختصام في رب العالمين سنة الأمم قبلنا وواقع حالنا بعدهم، وقد كانت أول فرقة مرقت من الدين وشقت صفوف المسلمين هي الخوارج، وإنما كان ضلالها حينئذ في مسألة الإيمان؛ إذ كفَّرت المسلمين بالذنوب، واستحلت دماءهم وأموالهم، ثم تتابعت الفتن وظهرت الفرق، وكلما ظهرت البدع، وانتقـصت الطاعات، وارتكـبت المحرمات، ازداد حال الأمة تفرقاً وذلاً وضلالاً.
هذا ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما ربّى أصحابه على التسليم والاتباع والسمع والطاعة، فلا تقديم بين يدي الله ورسوله، ولا اعتراض على أمره، ولا تولي عن طاعته، فكانوا خير أصحابٍ وحواريين كما كان نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير نبي ورسول.
آمنوا بالله ورسوله الإيمان الصادق الحي الذي أثنى الله تعالى عليهم به في كتابه، وما عرفوه فلسفة ولا نظريات ولا جدلاً، وإنما هو الطاعة في المنشط والمكره، والصبر في الرخاء والشدة، والجهاد بكل معنى من معاني الجهاد.
لم يزل هذا الإيمان يكمل ويزداد من زمن الاضطهاد والحصار بـمكة، إلى أحداث أحد والخندق بـالمدينة، إلى أيام مؤته وحنين وتبوك، حتى استقامت نفوسهم، وزكت قلوبهم، وصلحت أعمالهم، فما قبض الله تعالى صفيه من خلقه إلا وقد صاروا أهلاً لحمل الأمانة، وإبلاغ الرسالة، والقيام بأمر هذا الدين كله.
فاجتثوا خبث المرتدين، ثم ثنوا بالدولتين العظيمتين فركبوا إليها البر الأجرد والبحر الأخضر، وما كانت إلا سنوات معدودات حتى أنفقت كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله عز وجل، وأصبحت الظعينة تسير من خراسان إلى الأندلس لا تخاف إلا الله، ودفع ملوك الهند والصين الجزية لأتباع خاتم المرسلين، وخمدت نار المجوسية وخنست النواقيس والصلبان إلى غياهب أوروبا الهمجية، وظهر أمر الله وأعداؤه كارهون.
واستمرت تلك الموجة الكبرى والمدة العظمى ما شاء الله أن تستمر، ثم أخذت في الانحسار لما ظهرت الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، واستجاب فئات من هذه الأمة للحاقدين والهدامين من بقايا الأديان المنسوخة وشراذم الفلسفات الممحوقة، وأصابت الأمة سنة الأمم الأولى؛ فتجارت ببعضها الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، فما مرقت الخوارج إلا وتزندقت الشيعة وفسقت المرجئة ثم ألحدت القدرية -وهذه الأربع هي أصول الفرق- ثم تتابعت الفتن وتكاثرت الأرزاء، فلولا أن هذا الدين من عند الله وله من جنده المخلصين من يرعاه لما بقيت له من باقية.
ولكنَّ الله جلت حكمته قضى ألَّا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله، "وجعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائهٍ قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشتبه عليهم ''.
  1. أول خلاف في الملة

  2. المباحث التي اشتملت عليها الرسالة

  3. أقسام المباحث المتبعة في تأليف الرسالة