تحدثت هذه المقدمة عن فصل الإيمان عن العمل، مبينة أن أول خلاف في الملة هو الخلاف في مسألة الإيمان، ثم تطورت الشبهة إلى أن أصبحت الأمة في القرون المتأخرة تتبنى الإرجاء عقيدةً ومنهجاً. ثم انتقل الكلام للحديث عن ظاهرة العمل وعلاقتها بالإيمان من خلال تتبع المسيرة التاريخية لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن خلال دراسة النفس الإنسانية ومعرفة طبيعة همها وسعيها، وجرى بعد ذلك عرض حقيقة الإيمان العملية والنظرية كما هي في الكتاب والسنة وعقيدة أهل السنة والجماعة لمعرفة مدى التوافق والتطابق والانسجام، ونقل إجماع علماء أهل السنة على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، مع بيان المقصود من قول السلف أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وأن بعض السلف قد يعبرون عن المعنى المجمع عليه بينهم ولكن بعبارات مختلفة. ثم ورد الحديث عن نشأة الإرجاء، والفئات التي كان لها الأثر في نشأة الإرجاء في عصر الفتنة الأولى، مع إثبات براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء ذاتاً وموضوعاً، وبيان أن واقعة صفين وحادثة التحكيم هما المنطلق التاريخي للفتنة الثانية التي تعتبر امتداداً طبيعياً للفتنة الأولى، والتي أنتجت منهجا التشيع والخروج، ومن ثمّ التأكيد على تجلي فطرية الدين الإسلامي وكماله وتوازنه في معالجة غلو الخوارج المهلك وتفريط المرجئة المسرف، والحديث عن المرجئة الأول، وبيان الفرق بينها وبين المرجئة الغلاة ومرجئة الفقهاء الإرجاء العام والذي تحول من بدعة نظرية يدين بها أفراد معدودون إلى ظاهرة عامة تسيطر على الفكر الإسلامي. ومن هنا ابتدأ الكتاب باستعراض بدايات هذه الظاهرة التاريخية والحديث عن مؤسسها وأقوال الأئمة المعاصرين للإرجاء فيها، وبيان أصول مذاهب المرجئة نظرياً، والأثرين الكلامي والمنطقي في تطور الظاهرة، ومن ثمّ توضيح نتائجها السيئة على الفكر الإسلامي والأمة الإسلامية. وقد جاء بعد ذلك ذكر أقوال أئمة المذاهب قديماً والمفكرين والمعاصرين حديثاً والمخالفين لمنهج السلف في حكم ترك العمل. ثم انتقل الحديث لبيان علاقة الإيمان بالعمل وعلاقة الظاهر بالباطن، فبدأ بتوضيح العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح، مع توضيح أن دخول الضلال على المرجئة كان بسبب عدم فهمهم لهذه العلاقة، وأن أساس فهم هذه العلاقة يكون بمعرفة حقيقة الترابط بين أجزاء الإيمان على ضوء مذهب السلف، ثم انتقل للحديث عن العلاقة بين قول اللسان وبين قول القلب وعمله، مبيناً أهمية عمل القلب، ومنكراً على المرجئة المنكرين لدخول أعمال القلب في الإيمان، ثم بين ما تعرَّض له عمل القلب في عصور الانحراف من إعراض من قبل الأمة الإسلامية وبعض الطوائف المبتدعة، ثم فصل الكلام عن بعض أعمال القلوب واستخرج بعض الفوائد المتعلقة بأعمال القلوب، مبيناً أثر أعمال الطاعات والمعاصي بالجوارح في أعمال القلب؛ مع تفصيل القول في حقيقة الإيمان المركبة من القول والعمل، وبيان كفر من ترك جنس العمل، ثم ورد ذكر أهم شبهات المرجئة في حكم تارك العمل، مع بيان حكمه عند أهل السنة والجماعة وأدلتهم بالتفصيل، وبيان ما ورد في ذلك من الآيات في حكم التولي عن الطاعة والآيات الدالة على اقتران العمل بالإيمان، وبعض الأحاديث الدالة على حقيقة الإيمان المركبة، كل ذلك مدعماً باستنباطات السلف وأقوالهم في إثبات هذه الحقيقة. وقد ورد في خاتمة الكتاب بيان الشبهات النقلية والاجتهادية التي استدل بها قدماء المرجئة ومعاصروهم على أن العمل ليس من الإيمان، وقام بالرد على هذه الشبهات.
  1. المقدمة

    جامعة أم القرى
    كلية الشريعة والدراسات الإسلامية
    قسم الدراسات العليا الشرعية
    فرع العقيدة

    ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي


    رسالة مقدمة لنيل درجة التخصص العليا
    [ الدكتوراه ]

    إعـداد:
    الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي

    إشراف الأستاذ:
    محمد قطب

    1405 هـ- 1406 هـ

    الجزء الأول
    الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون, وصلى الله وسلم على رسوله المبعوث رحمة للعالمين، الذي أوضح الحجة، وأبان المحجة، وترك الأمة على مثل البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
    أما بعــد:
    فإن التفرق في الدين والاختصام في رب العالمين سنة الأمم قبلنا وواقع حالنا بعدهم، وقد كانت أول فرقة مرقت من الدين وشقت صفوف المسلمين هي الخوارج، وإنما كان ضلالها حينئذ في مسألة الإيمان؛ إذ كفَّرت المسلمين بالذنوب، واستحلت دماءهم وأموالهم، ثم تتابعت الفتن وظهرت الفرق، وكلما ظهرت البدع، وانتقـصت الطاعات، وارتكـبت المحرمات، ازداد حال الأمة تفرقاً وذلاً وضلالاً.
    هذا ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما ربّى أصحابه على التسليم والاتباع والسمع والطاعة، فلا تقديم بين يدي الله ورسوله، ولا اعتراض على أمره، ولا تولي عن طاعته، فكانوا خير أصحابٍ وحواريين كما كان نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير نبي ورسول.
    آمنوا بالله ورسوله الإيمان الصادق الحي الذي أثنى الله تعالى عليهم به في كتابه، وما عرفوه فلسفة ولا نظريات ولا جدلاً، وإنما هو الطاعة في المنشط والمكره، والصبر في الرخاء والشدة، والجهاد بكل معنى من معاني الجهاد.
    لم يزل هذا الإيمان يكمل ويزداد من زمن الاضطهاد والحصار بـمكة، إلى أحداث أحد والخندق بـالمدينة، إلى أيام مؤته وحنين وتبوك، حتى استقامت نفوسهم، وزكت قلوبهم، وصلحت أعمالهم، فما قبض الله تعالى صفيه من خلقه إلا وقد صاروا أهلاً لحمل الأمانة، وإبلاغ الرسالة، والقيام بأمر هذا الدين كله.
    فاجتثوا خبث المرتدين، ثم ثنوا بالدولتين العظيمتين فركبوا إليها البر الأجرد والبحر الأخضر، وما كانت إلا سنوات معدودات حتى أنفقت كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله عز وجل، وأصبحت الظعينة تسير من خراسان إلى الأندلس لا تخاف إلا الله، ودفع ملوك الهند والصين الجزية لأتباع خاتم المرسلين، وخمدت نار المجوسية وخنست النواقيس والصلبان إلى غياهب أوروبا الهمجية، وظهر أمر الله وأعداؤه كارهون.
    واستمرت تلك الموجة الكبرى والمدة العظمى ما شاء الله أن تستمر، ثم أخذت في الانحسار لما ظهرت الخلوف الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، واستجاب فئات من هذه الأمة للحاقدين والهدامين من بقايا الأديان المنسوخة وشراذم الفلسفات الممحوقة، وأصابت الأمة سنة الأمم الأولى؛ فتجارت ببعضها الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، فما مرقت الخوارج إلا وتزندقت الشيعة وفسقت المرجئة ثم ألحدت القدرية -وهذه الأربع هي أصول الفرق- ثم تتابعت الفتن وتكاثرت الأرزاء، فلولا أن هذا الدين من عند الله وله من جنده المخلصين من يرعاه لما بقيت له من باقية.
    ولكنَّ الله جلت حكمته قضى ألَّا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله، "وجعل في كل زمان فترة من الرسل، بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائهٍ قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشتبه عليهم ''.
    1. أول خلاف في الملة

      والخلاف في مسألة الإيمان -مع كونه أول خلاف في الملة- ظل من أعظم قضايا الخلاف بين هذه الأمة في عصورها كلها، وفي مطلع العصر الحديث أصبحت أعظم القضايا التي تشغل بال هذه الأمة، وذلك منذ أن ظهرت دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله التي أعادت الحنيفية جذعة نقية.
      فقد أطبق أعداء السنة على أنها دعوة خارجية وفكرة حرورية لأنها -بزعمهم- تكفر المسلمين، وما كفرت مسلماً قط، وإنما كفرت المشركين وحاربت المارقين.
      ومهما يكن من أمر فقد أحدثت هذه الدعوة المباركة صدىً عالمياً كبيراً اضطر مخالفها إلى إعادة النظر في حقيقة الإيمان والكفر والشرك والتوحيد.
      ثم كانت موجة الحملات الصليبية الأخيرة -الاستعمار- وفتنة الحضارة الغربية الجاهلية، فذهلت الأمة عن دينها ونسيت انتماءها حتى شاء الله -تعالى- أن تخرج من بقايا دعوة الشيخ أو من أصدائها دعوات وحركات تنادي بالإسلام من جديد.
      وفي العقود الأخيرة خاصة ظهرت بواكير عودة صادقة إلى الإسلام الكامل، والتخلص من آثار الغزو الحضاري الكافر وتمثل ذلك في شباب فتحوا أعينهم على أمة منهارة متطاحنة تعاني أمراضاً مزمنة في كل منحى ومجال.
      أمة ترضى من دينها بالانتساب الاسمي بلا عمل ولا جهاد ولا دعوة، وتلقي مسئولية كل عجز ومرض وتخلف وذل على تخطيط الأعداء ومؤامرات الاستعمار.
      ثم وقعت في السنوات الأخيرة أحداث كبرى على الساحة الإسلامية أثبتت الفراغ العقدي الهائل الذي يسيطر على الأمة، والفوضى الرهيبة التي يعاني منها الشباب في التصورات والسلوك.
      لقد استطعنا -نحن شباب الإسلام- أن نكسر طوق الولاء المطلق للغرب، وأن نرفض حضارته الزائفة إلى حد لا بأس به، وعرفنا الكثير من عدونا وخططه ومؤامراته، لكننا حتى الآن لم نعرف حقيقة من نحن، وفي أي طريق نسير.
      نردد: إنا مسلمون، وفي طريق الإسلام نسير.. ولكن أقدامنا تصطدم بصخور وركام أنتجتها قرون طويلة من الضلالات والانحرافات.
      وعلينا لكي نرتقي بأنفسنا وأمتنا أن نجتاز عقبة شائكة يعترضها ثلاث وسبعون طريقاً , الطريق المنجي منها طريق واحد فقط وما عداه مهلكة، وهذا الطريق الوحيد هو منهج أهل السنة والجماعة الذي نجزم عن دين ويقين أنه منهج الفرقة الناجية الذي لا يقبل الله سواه.
      وإن تعجب فاعجب لكون النظرة الغالبة على كثير من شباب الدعوة الإسلامية اليوم هي أن عقيدة أهل السنة والجماعة لا تعدو أن تكون تصورات نظرية صحيحة لعالم الغيب وقضايا الاعتقاد، وليست -مع ذلك- منهجاً للدعوة والإصلاح والتغيير!!
      ويجب أن نعترف بأن السبب في هذا الفهم القاصر هو حملة هذه العقيدة -قبل كل شيء- الذين لم يوضحوا معالمها ويكشفوا عن كمالها الذي هو حقيقة كمال الإسلام نفسه.
      ولهذا رأيت من واجبي -وقد وفقني الله لأن أتربى على هذه العقيدة وأعرف حقيقتها العلمية وأتمثل منهجها العملي مستوحى من سيرة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووقائع الدعوات التجديدية السنية- أن أسخر حياتي العلمية لهذا الأمر العظيم.
      وقد بدأت ذلك برسالة التخصص الأولى.. التي كان موضوعها: العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية ثم ثنيت بهذه الرسالة لنيل درجة التخصص العليا، فكانت الأولى تعالج فصل الدين عن الحياة، والأخرى تعالج فصل الإيمان عن العمل، كلتاهما على ضوء هذه العقيدة , ومن هنا كانتا تعبران عن قضية واحدة وإن تباعد موضوعاهما ظاهراً.
      وقد كانت الأولى بلا ريب طريقاً للأخرى؛ فمن خلال الدراسة لأسباب العلمانية الطاغية على الحياة الإسلامية المعاصرة رأيت رأي العين أن سبب كل انحراف وذل وهزيمة وفرقة في حياتنا، لا يزيد عن شيء واحد هو البعد عن منهج أهل السنة والجماعة في العقيدة والسلوك وسبيل الإصلاح.
    2. المباحث التي اشتملت عليها الرسالة

      وانطلاقاً من ذلك كان منهجي في هذه الرسالة يقوم على ثلاثة أسس:
      * الأول: دراسة الإرجاء على أنه ظاهرة فكرية لا فرقة تاريخية .
      والفرق بين هذين كبير جداً في طبيعة البحث وفي آثاره ونتائجه؛ فحين نبحث الإرجاء على أنه فرقة من الفرق التي طواها التاريخ فإن من أهم ما يفوتنا هو معرفة حقيقة واقعنا المعاصر الذي يسيطر عليه الفكر الإرجائي، وحينئذ لا يزيد البحث عن كونه عملاً أكاديمياً يضاف إلى مجموعة المؤلفات التي تتحدث عن تاريخ الفرق وآرائها.
      أما حين نبحثه على أنه ظاهرة فكرية نشأت ثم تطورت إلى واقع ضخم يواجه كل دعوة تجديدية، ونفسر بها كثيراً من أسباب التخاذل والتردي الذي تعاني منه الأمة عامة والدعوة خاصة، فإن النتائج الإيجابية لذلك ستنهال علينا من كل جانب، وحسبنا إن لم نعط القضية حقها أن نثيرها ونبعثها ونخطو في سبيلها ما استطعنا، ثم الله يهيئ لها ما يشاء.
      ومن هنا انصب الاهتمام على ركن العمل وضرورته للإيمان والدعوة وكيف تخلت الأمة عنه مكتفية من الإيمان بالاسم والإقرار.
      وهنا لا بد من بيان حقيقة مهمة كان لها أثرها البالغ في منهج البحث وهي: أن الإرجاء لم يكن -في الأصل- دعوة واعية مقصودة لترك العمل والتفلت من الطاعات، وإنما كان تفسيراً ضالاً لحقيقة الإيمان أنتجته أسباب تاريخية شرحناها في موضعها.
      ولكن الأمة وهي تتراخى عن العمل بالتدريج، وتنفلت من الواجبات، وتنحدر عن قمة الامتثال رويداً رويداً كانت تجد في الإرجاء تفسيراً مريحاً يبرر لها تراخيها وتفريطها -وهذه حقيقة نفسية معروفة- فكل ما انحسر عنه العمل واقعياً ستره ثوب الإرجاء الواسع نظرياً.
      ولهذا لم يكن المرجئة القدماء بحاجة إلى أكثر من كشف شبهاتهم النظرية، وردهم بالدليل العلمي الصريح.
      ولكن الحال تغير بعد انتشار الظاهرة وسيطرتها؛ إذ أصبحت الأمة في القرون الأخيرة تتبنى الإرجاء عقيدة ومنهجاً، وتعد مخالفه خارجاً مارقاً، وتضبط دينها وأحكام إيمانها بأصوله وقواعده.
      فصارت تعتقد أن التصديق القلبي المجرد من قول اللسان وعمل الأركان هو حقيقة الإيمان الذي أنزل به الله الكتب وبعث به الرسل وجعله مناط النجاة من عذابه في الآخرة، وتبني على ذلك لوازم وأحكاماً، أهونها تخطئة السلف في إجماعهم على أنه قول وعمل، وعدم تكفير طوائف من المرتدين.
      وأصبح معنى كون الصلاة والزكاة والصيام والحج أركاناً للإسلام هو اعتقاد وجوبها والإقرار به وإن لم يعمل من ذلك شيئاً.
      ونحو ذلك مما يستغربه الناظر أول وهلة، ثم يتأمل فإذا هو عندهم حقيقة واقعة.
      والأدهى من ذلك أن تقوم بعض اتجاهات الدعوة الإسلامية -التي عملها وغرضها في الأصل إعادة الناس إلى حقيقة الإيمان اعتقاداً وعملاً- على هذا الفكر العقيم وتتبناه وتدعوا إليه، كما سنبينه في الفقرة التالية.
      من هنا كان لا بد من تغيير منهج العرض والمناقشة لقضية الإيمان وعلاقته بالعمل والدعوة بانتهاج منهج يجمع بين الدليل العلمي النظري من النصوص وكلام السلف، وبين الدليل الواقعي المحسوس من سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحقيقة النفس البشرية ذاتها.
      وإيضاحاً لذلك نقارن بين نص من كلام أحد رءوس المرجئة في مرحلة تأسيس الإرجاء، وبين ما يكتبه بعض الدعاة المعاصرين:
      يقول عمر بن ذر الهمداني أحد رءوس المرجئة، وابن ذر بن عبد الله الهمداني الذي قال عنه الإمام أحمد: إنه أول من تكلم في الإرجاء: ''لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم ونظروا إلى أهل السآمة والغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم من الضجعة والنوم، قاموا إلى الله فرحين مستبشرين بما قد وهب لهم من حسن عبادة السهر وطول التهجد، فاستقبلوا الليل بأبدانهم، وباشروا ظلماته بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل وما انقضت لذتهم من التلاوة، ولا ملت أبدانهم من طول العبادة، فأصبح الفريقان وقد ولَّى عنهم الليل بربح وغبن .
      أصبح هؤلاء قد ملَّوا النوم والراحة، وأصبح هؤلاء متطلعين إلى مجيء الليل للعبادة شتان بين الفريقين .
      فاعملوا لأنفسكم -رحمكم الله- في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار، والمحروم من حرم خيرهما، وإنما جعلا سبيلاً للمؤمنين إلى طاعة ربهم، ووبالاً على الآخرين للغفلة عن أنفسهم، فأحيوا لله أنفسكم بذكره، فإنما تحيا القلوب بذكر الله.
      كم من قائم في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في حضرته، وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله -عز وجل- للعابدين غداً، فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام رحمكم الله''.
      فهذا الرجل كان يقول: الإيمان هو الاعتقاد والإقرار فقط، لكن هل يتصور منه أن يقول: إن مجرد التصديق القلبي دون قول ولا عمل كاف في النجاة عند الله، أم إن القضية عنده شبهة نظرية مجردة لم يكن لها أي مدلول واقعي إلا الهروب من تكفير صاحب المعصية الذي وقعت فيه الخوارج؟
      غير أن هذا القول نفسه قاله بعض الدعاة المعاصرين امتداداً لظاهرة الإرجاء العامة، وقد ذكرنا كلامهم في موضعه.
      * الثاني: معالجة واقع الدعوة الإسلامية المعاصرة، فالمشاهد اليوم أن أصحاب الدعوة ينقسمون غالباً فريقين، وكل فريق تتوزعه فرق وآراء واجتهادات:
      - أحدهما: فطن إلى أصل القضية ومكمن الداء فأراد أن يصحح الأصول، ويجلي بدهيات الدين، ويربط ذلك بالعمل وضرورته، لكنه سلك في سبيل ذلك حرفة عقيمة في الفهم، وإشارة موغلة في الغلو، ظاناً أن هذا هو منهج العزيمة والاستقامة، فوقع في طامة التكفير أعني: تكفير أعيان عوام المسلمين من المخالفين.
      وهكذا نفر من بدعة ليقع في بدعة شر منها، وسد على نفسه منافذ الاتصال بالناس، وإيصال الحق لقلوبهم، فتحولت دعوته إلى نظرة عقيمة تتآكل كل يوم، وتفرز بدعاً جديدة، واستتبع ذلك انحرافاً خطيراً في منهج التلقي والاستمداد، حيث وضعت أصول ومعايير لا تقل شراً وخطراً عن شرائع الطواغيت الوضعية.
      - والآخر: انطلق في دعوته بدون منهج واضح ولا تصور اعتقادي متكامل، فلم يتناول الأمر بالتأصيل العلمي بل بالتهويش العاطفي، فكان أن واجهه أصحاب الفريق الأول بأصول وقواعد لا يملك مثلها ولا يستطيع ردها، فهرب من التكفير إلى التبرير، وأخذ يسند هذا الواقع المنحرف ويؤصله بنظريات بدعية، ووجد في مذهب المرجئة -الذي أصبح كما قلنا هو الظاهرة الفكرية العامة- بغية وسنداً، فنسى نفسه ونسى مهمته الأساس وهي تغيير هذا الواقع لا تبريره.
      - فالفريق الأول: أعاد مذهب الحرورية جذعاً.
      - والآخر: أحيا مذهب المرجئة غضاً ونقله من الدوائر الأكاديمية التقليدية إلى منهج العمل والتغيير!
      وهكذا أصبحت الكتابة عن هذا الموضوع -حقيقة الإيمان- على ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة ضرورية لكبح جماح الغالين، ودفع تفريط المقصرين.
      الثالث: -وهو كالنتيجة للأولين- اختطاط منهج للبحث يزيد على مجرد البحث العلمي النظري للقضية أي: إيراد الأدلة ونقضها بإضافة عناصر جديدة تخاطب البديهة والوجدان والعقل معاً، وأهم جانب من ذلك استحضار واقع الجيل القدوة الذي رباه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتأسي بهم في استكمال الإيمان والدعوة إليه والحكم على تاركه، وكذا بيان حقيقة النفس الإنسانية، التي لا تخلو قط من إرادة وعمل، وربط ذلك بحكمة الدين وغايته التي هي إصلاح الإرادات وتزكية الأعمال، مما بين أن الإيمان اعتقاد وعمل على الحقيقة الشرعية والواقعية والنفسية في آن واحد.
      على هذا دارت مباحث هذه الرسالة، التي أسأل الله تعالى أن ينفعني بها وإخواني المسلمين، وأن يجعل كل ما بذل فيها من جهد ونَصَب خالصاً لوجهه الكريم. وتبعاً لذلك قسمتها إلى خمسة أبواب:
    3. أقسام المباحث المتبعة في تأليف الرسالة

      - الباب الأول: يبحث في حقيقة الإيمان وارتباط العمل به من خلال:
      1- دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيرته.
      2- حقيقة النفس الإنسانية.
      3- حقيقة الإيمان الشرعية.
      - والباب الثاني: يبحث في التاريخ الفكري للإرجاء منذ نشأته إلى أن أصبح فرقاً كثيرة، ثم ظاهرة فكرية عامة وواقعاً طاغياً، مع الاهتمام الخاص بقضية ترك العمل وحكمها عند المرجئة والأسباب الفكرية لوقوع ذلك.
      - والباب الثالث: الإرجاء الظاهرة، وتفصيل الكلام على نوعي الإرجاء: إرجاء الفقهاء والعباد، وإرجاء المتكلمين والمتمنطقين، وحكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة.
      - والباب الرابع: تفصيل لعلاقة الإيمان بالعمل، والظاهر بالباطن، مع الاهتمام الخاص بأعمال القلوب التي كان الانحراف فيها من أعظم أسباب انتشار الظاهرة، وشرح نماذج منها وهي بعض شروط لا إله إلا الله.
      - والباب الخامس: بيان أن الإيمان حقيقة مركبة من ركني: القول والعمل، توصلاً بذلك إلى معرفة بطلان مذهب المرجئة في حكم تارك العمل مطلقاً، وبيان حكم صاحب الكبيرة على ضوء ذلك، وسبب ضلال الفرق فيه.
      ثم نقض أهم الشبهات النقلية للمرجئة على أن العمل غير داخل في الإيمان.
      هذا ولا يفوتني أن أتقدم بخالص الشكر وعظيم التقدير إلى أستاذي الكريم الأستاذ محمد قطب، الذي بذل من الوقت الثمين والرأي الصائب ما كان له أثره البالغ في إنجاز هذه الرسالة وتقويمها.
      كما أشكر للجامعة الإسلامية بـالمدينة النبوية ولجامعة أم القرى بـمكة المكرمة ممثلتين في مسئوليهما كافة، ما أتيح لي من فرصة لطلب العلم وخدمة لتحصيله، وأخص بالشكر الإخوة العاملين بمركز البحث العلمي، وكذا كل من قدم لي خدمة، أو أسدى إليَّ توجيهات من الأساتذة الكرام أو الإخوة الزملاء.
      والحمد لله أولاً وآخراً.
  2. الباب الأول حقيقة الإيمان وارتباط العمل به

    ويشتمل هذا الباب على:
    - دعوة النبي صلى الله عليه وسلم (ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة) .
    - حقيقة النفس الإنسانية.
    - حقيقة الإيمان الشرعية .
    مقدمة:-
    يقول الله تعالى:
    ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ))[الذاريات:56].
    ويقول جل ذكره:
    ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))[البقرة:213].
    ويقول:
    ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ))[الحديد:25].
    1. أصول الغايات والحقائق الكبرى للدين

      هذه الآيات الكريمة تضمنت أصول الغايات، والحقائق الكبرى للدين، وهي:
      الغاية من خلق الثقلين وحقيقة مهمتهم.
      الغاية من إرسال الرسل وحقيقة دعوتهم.
      حقيقة سنة اقتران القوة بالحق لتحقيق تلك الغايات.
      فالله تبارك وتعالى خلق آدم وذريته مفطورين على الإيمان والتوحيد، وظلت الجماعة البشرية الأولى سائرة على هذا المنهج القويم ما شاء الله أن تسير .
      ثم أصابتها السنة الكونية ((وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ))[هود:118-119] تلك السنة التي تـقتضي وتستلزم من الحكم والمصالح، وظهور آثار صفات الله عز وجل ما يعجز عنه البيان.
      ومنذ أن وقع الشرك الأول في بني آدم والمعركة قائمة لم تهدأ، مستعرة لم تخب بين الحق والباطل وبين الإيمان والكفر.
      وقد تمثل الشرك الأول في الركنين الأساسين لمفهوم العبادة وهما:
      1- التقرب والتوجه والتنسك.
      2- الطاعة والتشريع والاتباع.
      وهما ركنان متداخلان.
      وما صح لدينا من أخبار الأمة الشركية الأولى قوم نوح يدل على ذلك:
      1- قال الله تعالى عنهم:
      ((وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً))[نوح:23].
      وهذه الأصنام التي تنسكت الجاهلية الأولى بالتقرب إليها، وهي في الأصل أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كان يجلسون أنصاباً [تماثيل]، وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد [أول الأمر] حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت. .
      2- روى مسلم عن عياض بن حمار -رضي الله عنه- أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذات يوم في خطبته: {ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلالٌ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً..}
      فهذا انحرافهم في الطاعة والتشريع، المقارن لشركهم في التقرب والتنسك.
      ومن ثبات السنن الدالة على وحدة المعركة أولاً وأخراً أن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , والعرب واقعة في الشرك في هذين الركنين عينهما، فقد كانت تعبد الأصنام نفسها التي عبدها قوم نوح إذ [[ صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت لكلب بـدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بـالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع ]] مع ما أضافه عمرو بن لحي الخزاعي .
      والطواغيت بعده من أصنام أخرى كاللات والعزى ومناة وهُبل، وتشريعات غيروا بها ملة إبراهيم.
      فكانت العرب أيضاً واقعة في شرك الطاعة والاتباع، وقد ذكر الله تعالى أمثلة له من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وغيرها مما أفاضت فيه سورة الأنعام مثل: قتل الأولاد، واستحلال الميتة، وما جعلوا لله مع شركائهم من نصيب في الحرث والأنعام، وما جعلوا منها من حجر لا يطعمه إلا من يشاءون بزعمهم وما حرموه من ظهورها.. كل ذلك افتراءً على الله، وتخرصاً على دينه، واتباعاً للشياطين ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ))[الأنعام:121].
      وهو ما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث السابق عن أصحاب الشرك الأول.
      ولمناسبة كون المعركة -من نوح إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واحدة، وقضيتها واحدة، جاء التعبير عن الرسالات جميعاً بأنها كتاب واحد -في الآيات السابقة-: (( وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيه))[البقرة:213]، (( وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ))[الحديد:25].
      وقوله: ((اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ))[الشورى:17] ونحوها.
      كما جاء التعبير عن رفض دعوة الرسل وعبادة غير الله- مهما تباعدت الأجيال، وتنوعت المعبودات -بأنه عبادة للشيطان ((أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ))[يس:60-61].
      وكذلك جاء وصف أعداء الرسالات من البشر موحداً كذلك وهو الملأ المستكبرون أصحاب السلطان والمال وذلك في آي كثير.
      وموجز دعوة الرسل جميعاً أنها دعوة واحدة إلى منهج التوحيد بكل فروعه وأنواعه، وموالاة أهله، وما يستلزمه ذلك من نبذ الشرك بكل صوره وألوانه، ومعاداة أهله.
      وغاية دعوتهم هي مصلحة العالمين أنفسهم، لكي تقوم حياتهم بالقسط في الدنيا، وينعموا برضا الله وجنته في الآخرة ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))[الأنبياء:107].
      ومن هنا ارتبطت دعوتهم بالجهد والعمل، وارتبط كتابهم بالسيف والحديد.
      إن حقيقة المعركة التي خاضها الأنبياء مع أممهم، والسنة الثابتة في دعوتهم، لا تتجلى إلا لمن عرف حقيقتين مهمتين ينبغي لمن أراد الانضمام لموكبهم الكريم وركبهم الناجي أن يجعل معرفتهما منطلقاً لدعوته وأساساً لمنهجه:
      1- طبيعة الدين كما أنزله الله وأراده أن يتحقق في واقع الأرض.
      2- طبيعة الجاهلية التي نزل لإبطالها وحربها.
      والآن وقد دار الزمان دورة ثالثة حتى أوشك أن يعود كهيئته يوم أن بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [حيث تردى العالم الإنساني المعاصر إلا قليلاً في عين ما وقع فيه قوم نوح والعرب من شرك في التقرب والنُسك، وفي الطاعة والتشريع ] أصبح لزاماً على أولي البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض تجلية هذه الحقائق عن الدين، قبل الدخول في أية تفصيلات أو مناقشات مع الفرق المخالفة أو مع المتلوثين بهذا الشرك الجديد، فالتوحيد هو أول واجب على العبد وأول موضوع للدعوة.
      ذلك أن الخلل ليس في العمل والسلوك بل تعداه إلى العقيدة ذاتها، فانحسرت مفهوماتها، وانحصرت مدلولاتها، ونسيت المهمة التي جاء الدين من أجلها وقام عليها، ودرس الإسلام كما يدرس الثوب الخلق حتى لم يبق منه في أكثر البقاع وعند أكثر الناس إلا اسمه، ولم يبق من القرآن إلا رسمه .
      وليس أمام الغرباء الذين يريدون القيام مقام الأنبياء بهداية الناس للحق، ويمثلون الطائفة المنصورة الناجية التي كتب الله أن تظل على الحق لا يضرها من خالفها، ليس أمامهم من خيار في البدء بتصحيح العقيدة، وتجلية مفهوماتها من خلال هاتين الحقيقتين، ثم البيان العلمي الواضح لأصول الدين وحقائقه.
    2. شروط صحة العبادة

      وقد دل استقراء نصوص الكتاب والسنة أن هذا الدين يقوم على أصلين:
      1- ألا يعبد إلا الله [بالمعنى الشرعي الكامل للعبادة].
      2- وألا يعبد الله إلا بما شرع. .
      هذا في حقيقته وذاته، أما أسلوبه العملي ومنهجه الدعوي -وهو الجانب الذي يهمنا الآن- فقد تضمنته آية الحديد السابقة، التي جعلها شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية محور كتابه القيم السياسة الشرعية. قال في مقدمته:
      ''الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات والهدى، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله قوي عزيز، وختمهم بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأيده بالسلطان النصير الجامع معنى العلم والقلم للهداية والحجة، ومعنى القدرة والسيف للنصرة والتعزيز'' .
      وقال في خاتمته: '' إن قوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد الناصر كما ذكره الله تعالى -أي: في آية الحديد السابقة- فعلى كل أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن، والحديد لله تعالى ولطلب ما عنده'' .
      إن اقتران الحديد بالقرآن من أجل إقامة دين الله في الأرض، ليكشف عن سنة ربانية عظمى في طبيعة هذا الدين، وطبيعة الجاهلية المقابلة، وهي أن ''هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام كما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتحقق في الأرض -في دنيا الناس- بمجرد تنزيله من عند الله ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي الله ناموسه في دورة الفلك، وسير الكواكب، وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية.
      إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر، تؤمن به إيمانا كاملاً، وتستقيم عليه بقدر طاقتها، وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها، وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهداً ولا طاقة، تجاهد الضعف البشري، والهوى البشري، والجهل البشري، في أنفسنا وأنفسها الآخرين، وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج وتبلغ بعد ذلك كله من تحقيق هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر'' .
      هذه المجموعة تجاهد الناس بالقرآن ((وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً))[الفرقان:52]، وتجاهدهم بالحديد ((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ))[البقرة:251] حتى يستقيموا إلى الله، ويستقيموا على دين الله، وهذا ما أعلنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم}
      وقوله: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله}
      مع نصوص كثيرة لا تحصى، وليس هذا خاصاً بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل هو سنة جارية في الأنبياء قبله وإن اختلفت صور الجهاد والابتلاء، فما عليهم إلا الصبر والدعوة، أما النصر والتمكين فمن عند الله.
      وقد كان الناس الذين يملكون أثارة من علم يعلمون هذه الحقيقة، قبل أن يقرءوها في كتاب الله تعالى، بل قبل أن ينزل بها.
      فهذا ورقة بن نوفل يقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة: {ليتني فيها جذعاً -ليتني أكون حياً- إذ يخرجك قومك!
      فيسأله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في استغراب: أو مخرجَّي هم؟!
      فيقول ورقة: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عوديَّ
      }.
      وهذا قيصر الروم يقول في حديثه مع أبي سفيان: { سألتك كيف كان قتالكم إياه، فزعمت أن الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة } .
      وهذا ما صدّقه الله بقوله تعالى:
      ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ))[البقرة:214]
      وفي هذا رد -وأيما رد- على الذين يحسبون الإيمان نظرية تعلق بالفكر، يستوجب صاحبها الجنة بلا ابتلاء ولا زلزلة.
      وهو ما تأباه سنة الله الثابتة هذه، وتأباه طبيعة الإيمان نفسها، بل طبيعة الجاهلية أيضاً.
      فلا الإيمان كان نظرية مجردة، ولا الجاهلية كانت كذلك، ولا يكون ذلك أبداً، بل هنالك سنة من سنن الاجتماع البشري، يشهد بها الواقع المحسوس والتاريخ المسطور، وهي أن ''هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده، والتي واجهها الداعية العظيم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدعوته، والتي واجهها الدعاة في كل زمان وفي كل مكان. إن هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في نظرية مجردة، بل ربما أحياناً لم تكن لها نظرية على الإطلاق إنما كانت متمثلة في تجمع حركي، متمثلة في مجتمع خاضع لتطورات وقيم ومفاهيم ومشاعر وتقاليد وعادات، وهو مجتمع عضوي بين أفراده، ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي، الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك بإرادة واعية أو غير واعية للمحافظة على وجوده والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أي صور التهديد '' وهذه الطبيعة المتأصلة في الجاهلية جاء الحديث عنها في القرآن في مواضع كثيرة وتصويرها في مواقف كثيرة من أمثال:
      ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ))[إبراهيم:13-14].
      ((قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ))[الأعراف:88-89] .
      ((وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ))[النمل:54-56].
      ((وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ))[غافر:26].
      ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً))[الفرقان:31].
      ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ))[الأنعام:112].
      ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ))[الأنعام:123].
      ((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ))[الأنفال:30].
    3. عرض ظاهرة العمل وعلاقتها بالإيمان

      وإيضاحاً لهذا الإجمال، وتفصيلاً لهذه الحقائق، رأيت عرض ظاهرة العمل وعلاقتها بالإيمان من خلال:
      1- تتبع المسيرة التاريخية لدعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التي بها تظهر طبيعة هذا الدين في حركته، والصورة الوحيدة المثلى لقيامه وتحققه في واقع الأرض، كما تظهر بها الحقيقة الثابتة في الجاهلية سواء في النفوس أو في الأمم.
      2- دراسة النفس الإنسانية ومعرفة طبيعة همها وسعيها ودوافع ذلك وضوابطه، وربط ذلك بواقع الجيل الأول وحقيقة التوحيد الصافية، إذ بها تظهر حقيقة الإيمان الذي أنزله الله ليزكيها ويوجهها فجعله ملائماً لها متسقاً مع فطرتها شاملاً لكل حركتها.
      ثم ننتقل بعد ذلك إلى حقيقة الإيمان العملية والنظرية كما هي في الكتاب والسنة، وعقيدة أهل السنة والجماعة، لنرى مدى التوافق والتطابق والانسجام.
  3. دعوة النبي صلى الله عليه وسلم

    ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة .

    تعد الفترة السابقة لمبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ ق6 و7 م ] من أحلك القرون في تاريخ الجماعة الإنسانية وأكثرها ضلالاً وضياعاً، ولهذا استحقت المقت من الله تعالى، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب}.
    1. أقسام العالم والنظم فيه

      فالعالم الأرضي كله يتخبط في ظلمات الأديان المحرفة، والوثنيات الكالحة، والأنظمة الطاغوتية، وكان هذا العالم ينقسم قسمين كبيرين:
      1- القسم البدائي.
      2- القسم المتحضر.
      أما القسم الأول: وهو يشمل الشعوب الهمجية التي تقطن غرب أوروبا ووسط آسيا وشرقها ومعظم إفريقية. فحاله غني عن الشرح والبيان، وهو إلى حياة السوائم أقرب منه إلى حياة البشر في كل مناحي الحياة.
      والنماذج الباقية منه الآن تعطي صورة مصغرة منه للحال التي كان عليها في ذلك الزمن الغابر.
      وأما القسم الأخير: فأبرز من يمثله الدولتان العظيمتان "فارس، والروم" وكلاهما كان يخضع لنظام طاغوتي استبدادي، ويدين بدين باطل محرف.
      فالفرس يدينون بـالمجوسية، والروم يدينون بالديانة التركيبية التي أسسها بولس وأظهرها قسطنطين باسم المسيحية.
      والنظام الاجتماعي في الدولتين كلتيهما من أبشع النظم في التاريخ من حيث التمييز العنصري والتفاوت الطبقي.
      وكان أعظم مظاهر الانحطاط في هذه الأمم -بل هو أصل الفساد كله- هو عبودية البشر للبشر، تلك العبودية التي نعاها عليهم منقذ الإنسانية رسول الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتابه لقيصر وواجه بها ربعي بن عامر قائد جيوش كسرى سواء العبودية لطواغيت الخرافة والتدين، أو طواغيت الحكم والتسلط، وفي واقع دولة أهل الكتاب التي هي خير ما على الأرض حينئذ ما يوضح ذلك.
      فالطبقات السفلى تعبد العليا، والكل يعبد الامبراطور، والدين يشرعه السَدَنة والأحبار والرهبان، والقوانين يسنها أباطرة والنبلاء، والجيوش الجرارة تحمي هذه الأنظمة الجائرة والأوضاع الظالمة أيما حماية، وما من مواطن إلا هو مستعد -طوعاً أو كرهاً- لإراقة دمه في سبيل ما أسموه شرف الامبراطور والوطن كما هو خاضع في عقيدته وتدينه لما يشرعه رجال الدين!!
      أما الشعوب الخاضعة لحكم هاتين الدولتين -ومنها سكان العراق والشام ومصر- فقد كانت ترزح تحت نير الاستبداد الغاشم، والجبروت القاهر، وحسبك أنهم كانوا كالعبيد لعبيد الامبراطورية.
      أما عقائدهم الدينية فيجب أن تكون تبعاً لما تقرره مجامع روما أو القسطنطينية، وإلا فالإبادة والاستئصال وقرارات اللعن والحرمان من الجنة.
      ويقرب من حال هاتين الدولتين ما كانت عليه الهند، إلا أن دينها أكثر إسفافاً، ونظامها الطبقي أشد بشاعة.
      وأما عرب الجزيرة خاصة، فهم في حياتهم القبلية وعاداتهم الراسخة أقرب إلى حال الشعوب الهمجية المذكورة في القسم الأول، لولا ما خصهم الله به من ميزات، إرهاصاً لحمل الرسالة العظمى إلى أمم الأرض قاطبة.
      والحاصل أن العالم البشري كله كان يعيش واقعاً رهيباً لا يتصور بأي حال من الأحوال إصلاحه من داخله، أي: من خلال حضارته وثقافته وحكمته.
      فالقسم المتحضر -خاصة- لم يكن مفلساً من ذلك، بل كانت له فلسفاته وثقافاته وتجاربه، وقد كان بين أيدي أممه من مأثورات: بوذا، وبيدبا، وأفلاطون، وأرسطو، وأردشير، وبزرجمهر، وأضرابهم الشيء الكثير.
      كما كان عند العرب من رصيد الحكم ومشهور الأمثال والعبر الذخر الوفير.
      فقد كان لديهم دعاة السلم الصارخون كـزهير، وأساطين الحكمة المجربون كـأكثم، والوعاظ المنذرون بسوء المصير مثل: قس بن ساعدة.
      ولكن هذا الواقع الضخم المظلم لم يكن ليتغير بالنظريات ولا بالحكم المجردة، بل إن النظريات الفلسفية خاصة لهي إحدى الدعامات الطاغوتية التي قام عليها هذا الواقع في مجال العقيدة والفكر.
      أما الحِكَم الأخلاقية، والعبارات التهذيبية، مهما نمّقها الحكماء، وأرسلها الخطباء، فهي أشبه بفقاعات في ذلك المحيط الهائج.
      هذا في العالم الممقوت، وأما بقايا أهل الكتاب المستمسكون بأثارة نبوية فهم من الندرة بمكان، ثم إنهم قابعون في زوايا النسيان والإهمال، ينتظرون رسول آخر الزمان بفارغ الصبر، أو ينتظرون ريب المنون ليخلصهم من هذا الواقع الأليم.
      وأما الباحثون عن الدين الحق -على ندرتهم- فمنهم من قتله اليأس والكمد، ومنهم من اعتنق بعض تلك الأديان لأنه لم يجد سواها ومنهم من كُتِبَ له الفوز فأدركه النور وانتشلته الرحمة الربانية وهو غارق في متاهات البحث.
      والمقصود: أن هؤلاء كانوا أعجز وأقل من أن يفكروا في إصلاح شيء من هذه الدنيا المائجة بالضلال والظلام.
      لقد كان العالم في أشد الحاجة إلى رحمة إلهية تنقذه من براثن الانهيار المحتوم.
      وجاءت هذه الرحمة في النور المبين الذي نزل على النبي الأمي محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))[الأنبياء:107].
      نزل هذا النور ليزيح ذلك الواقع الكالح، ويرفع كابوسه عن الثقلين، ويقيم مكانه واقعاً يرضاه الله، وتطمئن له الفطرة، وترتاح إليه العقول، وتتحقق فيه الكرامة الإنسانية التي لا تتحقق أبداً إلا بالعبودية الخالصة لرب العالمين والانخلاع الكامل من عبودية المخلوقين.
      ومعنى هذا ومقتضاه أن تلك الامبراطوريات، وتلك المعتقدات، وتلك الأوضاع، والتقاليد، وتلك الأنظمة والقوانين، وتلك الفلسفات والثقافات، سوف تجتث من جذورها، وتستأصل من عروقها، سواء في واقع الأرض أو في واقع النفوس، وأن ما زوى الله لحبيبه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأرض سوف يتطهر من هذه الأرجاس والأدران ويستضيء بنور الهدى والفرقان.
      ومعنى هذا: أن تلك الجيوش الامبراطورية الجرارة التي عجز بعضها عن سحق بعض، لا بد أن يظهر مقابلها جيش إيماني يسحقها جميعاً.
      ومن معناه كذلك: أن نفوس الملايين من البشر الذين توارثوا تلك الضلالات والخرافات، وأشربوا في قلوبهم آثارها المدمرة، لابد لها من تزكية ربانية تحرق الشبهات، وتحطم الشهوات، وتستأصل الأمراض المتغلغلة، والضغائن المتأصلة، والالتواءات النفسية العميقة.
      وهذا عمل ضخم هائل، لا يدرك حقيقة ضخامته إلا من أدرك ضخامة هذا الواقع الأرضي الثقيل الطاغي في مقابل رجل واحد، ثم قاس ذلك بمعاناة الأنبياء السابقين -صلوات الله وسلامه عليهم- مع أممهم.
      فهذا نوح عليه السلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً بنص القرآن، ثم لا يؤمن معه إلا قليل بنص القرآن أيضاً، وهذا القليل -مع اختلاف الأقوال في تحديده- لم ينقل أنه زاد عن مائة نفس
      وكثير من الرسل بعده كانوا كذلك، بل كان منهم من لم يتبعه إلا الرجل والرجلان، ومنهم من لم يتبعه أحد .
      وهذا وهم إنما بعثوا إلى أقوامهم خاصة، فكيف بمن بعث للثقلين عامة، وأمر بمجاهدة الدنيا قاطبة، كما ورد في الحديث العظيم الجامع الذي رواه عياض بن حمار رضي الله عنه ومنه: {وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: رب إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك}
      إن هذا الحديث يعطي فيما يعطي من دلالات: اعتبار ذلك الواقع الضخم ومراعاته، وكذلك ضخامة التكليف وعبء الحمل، كما يوضح مع ذلك كيف تلتقي السنن الربانية -ومنها سنة اشتراط الجهد البشري وابتلاء بعض الناس ببعض- مع سنة العهد الرباني بنصر أوليائه وإن طال الابتلاء، فهما مقترنتان متضافرتان تعملان عملاً واحداً في النهاية.
    2. علاقة العمل بالإيمان من خلال الواقع

      وهنا نحتاج أن نقف وقفة طويلة لنستجلي علاقة الإيمان بالعمل، والعقيدة بالحركة، من خلال مسيرة هذا الدين الواقعية ووجوده المادي في الأرض.
      إن الإعداد لتلك المهمة الضخمة -المشار إليها- يبدو ظاهراً جلياً في كل مرحلة من مراحل الدعوة، بل في كل خطوة من خطواتها، فالأمر كله جد ونصب، وكله صبر وابتلاء.
      1- فمنذ اللحظة الأولى لنزول هذا الدين تأتي الشدة والإجهاد في معاناة تلقي الوحي، وتبدأ المخاوف والنذر الثقيلة لمستقبل من يحمله.
      فقد روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: { أن أول ما بُدئ به الرسول من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بـغار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك، فقال: اقرأ, فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ, فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ))[العلق:1-3] فرجع بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لـخديجة -وأخبرها الخبر-: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى -ابن عم خديجة- وكان امرأً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي.
      فقالت له خديجة: يابن عم، اسمع من ابن أخيك.
      فقال له ورقة: يابن أخي، ماذا ترى؟
      فأخبره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبر ما رأى.
      فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نَزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك.
      فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مخرجي هم؟
      قال: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي
      } .
      فمن المعاناة الصعبة في تلقي الوحي إلى السنة الربانية "لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي" ؛ جاء الإيذان بأمر عظيم منتظر.
      2- ثم بعد فترة الوحي هذه -التي هي كأنما هي فترة استقرار لروع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد تلك المفاجأة الكبرى- تأتي خطوة -أو جولة- أخرى تحدث عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلاً: { بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بـحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني، فأنزل الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ))[المدثر:1-5] الآيات }.
      وهي آيات كلها -كما ترى- أوامر سريعة متلاحقة، تأمر بالمبادرة والمفاصلة والصبر، وتنقل صاحب الشأن من هدأة الروع النفسي إلى ميدان الإنذار الأكبر للعالم أجمع.
      ومنذ أن نزلت ((قُمْ فَأَنْذِرْ))[المدثر:2] قام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قياماً جهادياً متواصلاً دائباً، نازل به قومه والعرب قاطبة، واليهود ثم الامبراطورية الرومانية...
      فكان كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكتب الذل والصغار على من خالفني..} سبق تخريجه قريباً.
      3- بعد ذلك -وما هو منه ببعيد- نزل الأمر بالقيام مرة أخرى ومعه مهام جديدة، فقد نزل مطلع سورة المزمل: ((يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً * إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً))[المزمل:1-12] الآيات.
      وهذه السورة تعطي -أبرز ما تعطي- الزاد الأصيل الذي لابد منه لمن يريد حمل هذه الدعوة ومقارعة العالمين بها، ذلك هو زاد الصلة القوية بالله، والتزكية الروحية بالتقرب إليه، ومناجاته في أرجى ساعات المناجاة وأصفاها.
      وامتثل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كالعادة- وتزود بهذا الزاد الزكي، وشاركه في ذلك صحبه الكرام.
      فقد روى الإمام أحمد ومسلم رحمهما الله من حديث سعد بن هشام -ضمن قصة جديرة بالاطلاع أنه سأل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن قيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت له: {ألست تقرأ يا أيها المزمل؟
      قلت: بلى، قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة
      }.
      وفي روايات لغيرهما أنهم قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم أو انتفخت ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استمر على ذلك -التزاماً من عند نفسه- فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله! وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟
      قال: {أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً} .
      4- وصدع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالدعوة، وسفه أحلام المشركين، وعاب آلهتهم، فثارت عليه قريش ثورة رجل واحد، وأثارت معها العرب قاطبة، ولقي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأذى والبلاء صنوفاً وألواناً من ذلك ما رواه عروة بن الزبير رضي الله عنه حين قال: {سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: بينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه على عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل إليه أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله }
      5- ومشهد آخر للأذى التي تتورع عنه النفوس الطاغية الدنيئة يرويه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ وهو: {أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به، فنظر حتى إذا سجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضعه على ظهره بين كتفيه -وأنا أنظر لا أغني شيئاً، لو كانت لي منعة!- قال: فجعلوا يضحكون ويحيل -أو يميل- بعضهم على بعض}.
      6- هذا عدا الأذى الأكبر الحاصل من تكذيبه وهو الناصح الأمين، والإعراض عنه وهو النذير المبين بين يدي عذاب شديد، وعدا ما افتراه عليه قومه ونبزوه من ألقاب الزور؛ كقولهم: إنه شاعر أو كاهن أو ساحر أو مجنون، أو يتلقى الوحي عن بعض الأعجمين، أو اكتتبه من أساطير الأولين وأعانه عليه قوم آخرون، وغير ذلك مما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز، وهو بلا شك أشد وقعاً على النفوس البريئة من ضرب السيوف ووقع النبال.
      ولهذا طمأنه ربه وصبره وسلاه، فقال: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً))[الكهف:6] أي: مهلكها بالحزن والأسف.
      وقال: ((أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ))[فاطر:8].
      وقال: ((قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ))[الأنعام:33].
      7- وقد حدّث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مشهد من مشاهد الأسى القاتل والأسف البالغ حين يبلغ الحد بالإنسان أن ينسى نفسه في غيبوبة الهم والحزن، قالت عائشة رضي الله عنها: {يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
      قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل ابن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بـقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليّ، ثم قال: يا محمد! فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً
      } .
      8- وقد عانى أصحابه -رضي الله عنهم- أشد المعاناة، وما تعذيب آل بلال وآل ياسر إلا نماذج من ذلك، بل إن الأذي ليصل إلى أشراف القوم من أمثال الصديق رضي الله عنه .
      ومع ذلك كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينفث في أرواحهم الأمل، ويذكرهم بسنة الله في أنبيائه والدعاة إليه على النحو الذي رأيناه مع ملك الجبال.
      فقد روى البخاري في (باب ما لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من المشركين) عن خباب رضي الله عنه قال: {أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة -وقد لقينا من المشركين شدة- فقلت: يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله -زاد بيان- والذئب على غنمه} .
      9- وبلغ الأذى قمته في الحصار المادي والمعنوي الذي ضربته قريش ظلماً وعدواناً على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ومن عطف عليهم من قرابتهم .
      قال الزهري: ''ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علانية.
      فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم, فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واجتمعوا على ذلك، اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً ومواثيق؛ لا يقبلوا من بني هاشم أبداً صلحاً، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل .
      فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعاماً يقدم مكة ولا بيعاً إلا بادروهم إليه فاشتروه؛ يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..''
      ثم ذكر تخوف أبي طالب من اغتيال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما دبر لدرء ذلك من الحماية وما أصاب المسلمين من الجهد.
      وقال ابن إسحاق: ''ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم، واشتد البلاء عليهم، وعظمت الفتنة، وزلزلوا زلزالاً شديداً -وذكر ما بلغ بهم من الجهد الشديد- حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع''.
      قال السهيلي: ''في الصحيح أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق السمر، حتى إن أحدهم يضع كما تضع الشاة '' .
      10- وصل الأمر إلى حد أن المؤمنين لا يستطيعون دعوة الناس إلى الله، ولا يستطيع الداخل في الإسلام حديثاً أن يجاهر بذلك، كما يتجلى في قصة إسلام أبي ذر التي رواها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: {لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني.
      فانطلق الأخ حتى قدمه، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر.
      فقال: ما شفيتني مما أردت.
      فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فرآه علي فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح! ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به علي فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأفاق فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء.
      حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي على مثل ذلك، فأقام معه ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت! ففعل فأخبره، وقال: فإنه حق، وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي.
      ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه.
      فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري.
      قال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أوجعوه، وأتى العباس فأكب عليه، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار؟! وأن طريق تجارتكم من الشام عليهم؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكب العباس عليه
      }
      هكذا كانت المعاناة وكان الجهاد قبل الهجرة، بل قبل نزول الفرائض.
      وهنا لا بد من وقفة سيأتي لها مزيد بيان:
      إن بعض السلف يحمل قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة} ونحوه من النصوص والروايات المطلقة على أن ذلك قبل نزول الفرائض وذلك ليردوا على المرجئة في قولهم: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، مستدلين بمثل هذه النصوص، وهذا أحد أوجه الرد عليهم، غير أنه لا يعني أن هؤلاء السلف كانوا يظنون أن الإيمان قبل نزول الفرائض كان مجرداً عن العمل، مقتصراً على تصديق القلب وقول اللسان، فهذا ما لا يجوز أن يظن بهم وهم أعرف الناس بمعنى لا إله إلا الله وأعلمهم بهذه المعاناة الكبرى والواجبات الثقيلة التي تلقاها المؤمنون الأولون -وعلى رأسهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل نزول الفرائض، وهو ما أفاض القرآن المكي في الحديث عنه تثبيتاً وتسلية وتوجيهاً وتذكيراً.
      إن شهادة أن لا إله إلا الله لم تكن مجرد كلمة تقال باللسان، ولا يمكن أن تكون كذلك في أي مرحلة من مراحل الدعوة، فضلاً عن مرحلة التأسيس التي هي أشق المراحل وأهمها، وإلا فما معنى تلك المعاناة القاسية وما موجبها؟!
      وإنما كانت هذه الشهادة نقلة بعيدة ومعلماً فاصلاً بين حياتين لا رابطة بينهما: حياة الكفر وحياة الإيمان، وما يستلزمه ذلك من فرائض وتعبدات، ومشقات أعظم وأكبر من فريضة الصلاة والزكاة ونحوها.
      1- من ذلك: فريضة التلقي الكامل عن الله ورسوله، ونبذ موازين الجاهلية وقيمها وأخلاقها وأعرافها وتشريعاتها.
      2- ومن ذلك: الولاء المطلق لله ورسوله، والعداء الصارم للكفار ولو كانوا آباءً وإخواناً وأزواجاً وعشيرة.
      3- ومن ذلك: فريضة الصبر على الأذى في الله، الذي لا تطيقه إلا نفوس سمت إلى قمة تحمل الفرائض والواجبات، حتى إن الواحد ليكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار.
      وهذا ونحوه ما كان يعانيه بلال وهو يُسحب في رمضاء مكة وتلقى عليه الأثقال، وما يكابده سعد وهو يرى أمه تتلوى جوعاً، فيقسم لها لو أن لها مائة نفس فتظل تخرج نفسًا نفسًا حتى تهلك لما رجع عن دينه، وما كان آل ياسر يلقونه وهم يتعرضون لأعظم بلاء تشهده أسرة مضطهدة، وهو ما واجه أبو ذر حين صاح أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وغير ذلك كثير وكثير مما كان قبل أن تنـزل الفرائض!
      إن في إمكان الإنسان أن يصلي ما شاء الله له، وينفق بما شاء الله له دون أن يناله كبير مشقة، ولكن أي إنسان هذا الذي يستطيع أن يخالف عادة اجتماعية درج عليها المجتمع والأقارب أجيالاً، ويتحدى هؤلاء بمخالفتها؟
      أو يستطيع أن يقلع عن عادة نفسية وصلت به حد الإدمان؟
      فما بالك إذا كان الأمر ليس مجرد مخالفة عادة أو تقليد، وإنما هو مفاصلة كاملة ومنابذة تامة لكل عبادة جاهلية وقيمة جاهلية وعرف جاهلي وميزان جاهلي، ثم هو مع ذلك زجر قاطع للنفس عن شهواتها وملذاتها , ومراقبة شديدة لها، ولهذا رأينا النماذج الكثيرة في الجيل الأول ممن يشهد أن لا إله إلا الله فيعود من فوره إلى بيته ليحطم الأصنام التي طالما عبدها وليقطع العلائق التي طالما وثقها .
      إنه حتى على المنطق الجاهلي لا يصح أن نتصور إيماناً بدون تكاليف، وشهادة بلا أثر في واقع الحياة، وإلا أفكان الجاهليون يقتلون مواليهم ويعذبون أبناءهم وإخوانهم ويقطعون أرحامهم لمجرد كلمة تقال باللسان أو نظرية ذهنية في المعرفة؟
      11- وهكذا كانت كل خطوة من خطوات الدعوة تسير على الشوك والأذى، حتى كانت الخطوة الفاصلة بالهجرة إلى المدينة، فاكتنفها من المصاعب والشدائد ما هو أشهر من أن يذكر، فقد كانت عيون قريش تلاحقه ورصدها يطارده، حتى قلبوا الجبال والمغارات إلى أن وقفوا على الغار نفسه الذي كمن فيه هو وصاحبه، وكانوا من العثور على فريستهم قاب قوسين أو أدنى.
      قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: {كنت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار فرأيت آثار المشركين، قلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه -وفي رواية أحمد: نظر إلى قدميه- رآنا، قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما } .
      ومع اليقين في وعد الله بالحفظ والتمكين لم ينس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السنة الشرعية، فقد كانت هناك خطة محكمة فريدة تتمثل في اختيار الغار وتضليل المشركين بجهته، ثم كان ما تحدثت عنه عائشة رضي الله عنها بقولها: {ثم لحق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثـقـف لقن، فيدلج عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بـمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام.
      ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل -وهو لبن منحتهما ورضيفهما- حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.
      واستأجر رسول الله صلى الله عليه سلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل
      }.
      وبقدر ما كانت الهجرة إلى المدينة ووضع نواة الدولة الإسلامية خلاصاً للدعوة، وخروجاً بها من مأزق الجمود والحصار الذي كان مضروباً عليها بـمكة, كانت -أيضاً- بداية لمصارعة قوى جديدة، والعمل في محيط لا يقل عداء وصعوبة عن مكة، وإن تغير الموقف في الظاهر.
      فقد كان على الدعوة أن تصارع العرب المشركين قاطبة -وليس قريشاً وحدها- واليهود -أمكر خلق الله وأحقدهم- والمنافقين -ذلك العدو الأرقط الجديد- وأن تحسب الحساب -أيضاً- لمجابهة الدولتين العظميين فارس والروم. وهذا يستدعي تكاليف باهظة وتبعات جديدة.
      هذا كله وهو إلى جانب العبء الأساسي وهو تزكية هذه الجماعة المؤمنة، وإيجاد الترابط الإيماني المنشود بينهما، وإعدادها لحمل الأمانة العظمى.
      ومنذ أن حمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده الشريفة اللبن لبناء المسجد لم يزل بانياً لصرح ما شهد العالم الأرضي مثله حتى لقي ربه، فقد بنى -بأمر ربه وإذنه- أمة فذة ودولة فريدة تتقاصر دونهما أحلام الحكماء وتخيلات الشعراء.
      لقد كانت الجماعة الأولى فذة في تركيبها ومنهجها ونموها وحركتها، كل ذلك لأن عين الله تعالى ترعاها ووحيه يربيها ويزكيها.
      لكن كيف كانت التزكية؟
      أهي الأوامر والنواهي وحدها؟
      أم التصورات الاعتقادية المجردة؟!
      كلا بل كانت حلقات قاسية من المعاناة والتربية بالأحداث والتجارب والفتنة والابتلاء.
      12- فبعد سنة ونصف -تقريباً- من بناء المسجد كانت معركة بدر، وهي أعظم وأعمق الأحداث في تلك المرحلة، بل ربما كانت أول مواجهة حربية بين كتيبة الإيمان وجيوش الشرك منذ المعركة التي خاضها طالوت وداود مع جالوت وجنوده وهذا يعطيها قيمة كونية كبرى.
      وليس المجال هنا مجال الحديث عن بدر وفضل من شهدها وقيمتها العظيمة تلك، وإنما المراد أن نقول: ''إنه مع كل عظمة هذه الغزوة فإن قيمتها لا تتضح أبعادها الحقيقية إلا حين نعرف طبيعتها، وحين نراها حلقة من حلقات الجهاد في الإسلام، وحين ندرك بواعث هذا الجهاد وأهدافه، كذلك نحن لا ندرك طبيعة الجهاد في الإسلام وبواعثه وأهدافه قبل أن نعرف طبيعة هذا الدين ذاته" .
      إن هذه المعركة هي بداية مرحلة عليا من مراحل الجهاد، وهي مرحلة ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ))[البقرة:193] .
      ومن مراحل الجهاد المتدرجة -ومن هذه المرحلة خصوصاً- تتجلى سمات أصيلة وعميقة في هذا المنهج الحركي لهذا الدين استنبط الأستاذ سيد قطب رحمه الله منها أربعاً:
      * '' السمة الأولى: هي الواقعية الجديدة في منهج هذا الدين.
      فهو حركة تواجه واقعاً بشرياً، وتوجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي، إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية تقوم عليها أنظمة واقعية عملية تسندها سلطات ذات قوة مادية.
      ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع بما يكافئه، تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات، وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها، تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات، وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبدهم لغير ربهم الجليل ''.
      وإذا كانت هذه الحركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي، فكيف يتصور بحال من الأحوال أن تكون نظرية حبيسة داخل عقول أصحابها ويكونون مع ذلك مؤمنين بها حقاً؟!
      * '' السمة الثانية: في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية.
      فهو حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائل متكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها، فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة، كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة.... ''
      فهو ليس حركة وعملاً وحسب بل حركة دائبة وعمل متجدد.
      '' * والسمة الثالثة: هي أن هذه الحركة الدائبة والوسائل المتجددة لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة، ولا عن أهدافه المرسومة.
      فهو منذ اليوم الأول -سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين، أو يخاطب قريشاً، أو يخاطب العرب أجمعين، أو يخاطب العالمين- إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة، ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد وهو إخلاص العبودية لله والخروج من العبودية للعباد لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين، ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد في خطة مرسومة ذات مراحل محددة، لكل مرحلة وسائلها المتجددة، على نحو ما أسلفناه في الفقرة السابقة '' .
      إن الجهاد من حيث هو قمة العمل في الإسلام وذروة سنامه ليكشف لنا بصدق وواقعية عن طبيعة هذا الدين، ومهمته في الأرض، وأهدافه العليا التي أراد الله تحقيقها في عالم الثقلين، ولقد سبق أن ألمحنا بإيجاز عن حالة العالم الإنساني في فجر الرسالة، وأشرنا إلى العبودية التي كانت البشرية تمارسها للطواغيت والأهواء والأحبار والرهبان، وهذا ما يشير لنا إلى مهمة هذا الدين وأهدافه التي كان الجهاد أحد -أو أبرز- وسائل تحقيقها.
      ''إن هذا الدين إعلان إلهي عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد ومن العبودية لهواه أيضاً -وهي من العبودية للعباد-، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده سبحانه وربوبيته للعالمين.
      إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور، أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور، ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله.
      إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله وطرد المغتصبين له , الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم، أو يرسمون لهم مناهج للتعبد والتقرب غير ما شرعه الله فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مقام العبيد، إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض، أو بالتعبير القرآني الكريم:
      ((وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ))[الزخرف:84].
      ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ))[يوسف:40].
      ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ))[آل عمران:64].
      وقيام مملكة الله في الأرض وإزالة مملكة البشر وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية، كل ذلك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان، لأن المتسلطين على رقاب العباد، المغتصبين لسلطان الله في الأرض، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان، وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض، وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وتاريخ هذا الدين على مر الأجيال ''.
      بل حتى الأفراد أنفسهم وهم الذين عبَّدوا أنفسهم لغير الله من الأوثان والطواغيت المختلفة ليس لدى أكثرهم استعداد لترك ما ألفته النفس وسار عليه الآباء والأجداد ويعيش عليه المجتمع كله لمجرد التبليغ والبيان، بل إن ما في نفوسهم من حواجز الكبر والعناد والتمرد لا يقل عن الحواجز الضخمة التي يضعها البشر المتألهون دون شعوبهم المستعبدة.
      وإزاء هذه الاعتبارات فإن '' هذا الإعلان العام لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله وإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين، لم يكن إعلاناً نظرياً فلسفياً سلبياً، إنما كان إعلاناً حركياً واقعياً وإيجابياً، إعلاناً يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله، ويخرجهم -بالفعل- من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك، ويظل يحرسهم من الانحراف ويسددهم للاستقامة على العبودية الخالصة لله وحده, ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل الحركة إلى جانب شكل البيان، ذلك ليواجه الواقع البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه.
      والواقع الإنساني -أمس واليوم وغداً- يواجه هذا الدين بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله بعقبات اعتقادية تصورية، وعقبات مادية واقعية، وعقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة، وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد.
      وإذا كان البيان يواجه العقائد والتصورات فإن الحركة تواجه العقبات المادية الأخرى، وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية والعنصرية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة، وهما معاً -البيان والحركة- يواجهان الواقع البشري بجملته بوسائل مكافئة لكل مكوناته، وهما معاً لابد منهما لانطلاق حركة تحرير للإنسان في الأرض، الإنسان كله في الأرض كلها '' .
    3. ومن بدر ننتقل إلى أحد

      وفي أحد تتجلى طبيعة هذا الدين، وحقيقة الإيمان الذي جاء به في جانبي العمل الإيماني كليهما: عمل القلب وعمل البدن، فأما عمل الجوارح وجهادها خلال وقائع المعركة، فقد كانت التضحيات الكبرى والنماذج الفذة في المصابرة والمناجزة، كما كانت البطولات الرائعة والجراح العميقة التي تحدثت عنها مصادر السيرة الصحيحة والتي ستظل الأجيال وراء الأجيال تستمد منها الوقود لجهاد لا يعرف اليأس، وصبر لا يعرف الوهن.
      ولكن الجانب الأعظم في دروس هذه الغزوة -لا سيما بالنسبة لموضوعنا- هو جانب عمل القلب، وهو الجانب الذي يكشف عن حقيقة معركة هذا الدين وطبيعة سيره وفق سنة الله الثابتة التي لا يصح إغفالها أو تناسيها في أي عصر ولدى أي دعوة.
      '' إن معركة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده، إنما كانت معركة كذلك في الضمير، كانت معركة ميدانها أوسع الميادين، لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانباً واحداً من ميدانها الهائل الذي دارت فيه، ميدان النفس البشرية وتصوراتها ومشاعرها وأطماعها وشهواتها ودوافعها وكوابحها على العموم.
      وكان القرآن هناك يعالج هذه النفس بألطف وأعمق، وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال!
      وكان النصر أولاً وكانت الهزيمة ثانياً، وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة، انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلَّاها القرآن، واستقرار المشاعر على هذه الحقائق، واستقرار اليقين، وتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف، ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق في القول والفعل، وفي الشعور والسلوك، ووضوح تكاليف الإيمان وتكاليف الدعوة إليه والكرة به، مقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالمعرفة والاستعداد بالتجرد والاستعداد بالتنظيم والتزام الطاعة والاتباع بعد هذا كله، والتوكل على الله وحده في كل خطوة من خطوات الطريق، ورد الأمر إلى الله وحده في النصر والهزيمة وفي الموت والحياة، وفي كل أمر وفي كل اتجاه ''.
      ولقد أنزل الله تعالى لبيان ذلك كله وعلاجه وتقريره ستين آية من سورة آل عمران آيات مفصلات تبين حقيقة الإيمان ومقتضياته، وارتباط النصر أو الهزيمة بجزئياته التي قد لا يحسب لها كثير من الناس بل من الدعاة حساب.
      ومن ثم لم يقف سياق هذه الآيات عند حدود المعركة القتالية ودروسها الحية، بل تعرض بوضوح وتفصيل لأعمال إيمانية كثيرة، ذلك أن '' القرآن كان يعالج الجماعة المسلمة على أثر معركة -لم تكن كما قلنا- معركة في ميدان القتال وحده، إنما كانت معركة في الميدان الأكبر، ميدان النفس البشرية وميدان الحياة الواقعية، ومن ثم عرج على الرِّبا فنهى عنه، وعرج على الإنفاق في السراء والضراء فحض عليه، وعرج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة، وعرَّج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار، والتوبة وعدم الإصرار، فجعلها مناط الرضوان.
      كما عرج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولين قلبه، وعلى مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات، وعلى الأمانة التي تمنع الغلول، وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على هذه الغزوة من آيات...
      عرج على هذا كله لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة الكبرى في نطاقها الواسع، الذي يتضمن المعركة الحربية في إطاره ولا يقتصر عليها، معركة التعبئة الكاملة للانتصار الكبير، الانتصار على النفس والشهوات والمطامع والأحقاد، والانتصار في تقرير القيم والأوضاع السليمة لحياة الجماعة الشاملة.
      وعرج على هذا كله ليشير إلى وحدة هذه العقيدة في مواجهة الكينونة البشرية ونشاطها كله، ورده كله إلى محور واحد، محور العبادة لله والعبودية له والتوجه إليه في حساسية وتقوى، وإلى وحدة منهج الله في الهيمنة على الكينونة البشرية كلها في كل حال من أحوالها، وإلى الترابط بين جميع هذه الأحوال في ظل هذا المنهج، وإلى النتائج النهائية للنشاط الإنساني كله، وتأثر كل حركة من حركات النفس وكل جزئية من جزئيات التنظيم في هذه النتائج النهائية.
      وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة، فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب، والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين.
      والتطهر من الذنوب إذن، والالتصاق بالله، والرجوع إلى كنفه من عدة النصر وليست بمعزل عن الميدان، واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر، وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن في المجتمع والتسامح قوة ذات فاعلية كذلك '' إن هذه كلها شُعب من شُعب الإيمان التي يجب على الجماعة المؤمنة أن تستكملها لتكون أهلاً لنصر الله وتأييده، والحديث عن هذه الشعب ضمن الحديث عن المعركة وتقديرها ضمن دروس المعركة وتوجيهاتها يعطي أكبر الدلالة على حقيقة هذا الدين وحقيقة الإيمان، فإن تعليم هذه الأحكام وتقريرها حصل في جو الدماء والمعارك والمجاهدة، فما بالك بالالتزام بها وتنفيذها في واقع النفس والحياة، ولهذا قال جل شأنه: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا))[العنكبوت:69].
      إن الإنسان ليشعر بالهوة الساحقة بين قمة الإيمان -هذه التي يبينها القرآن وتدل عليها سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياة الجماعة المسلمة الأولى- وبين مستنقع النظريات الكلامية المجردة وهي تتحدث عن الإيمان في تجريد وغموض وأوهام وأخلاط، وإن الأمة التي تدع أخذ عقيدتها من كتاب ربها وسنة نبيها وواقع سيرته كي تأخذها من هذه النظريات السقيمة لهي جديرة بأن تكون على الحال الذي عليه أمة الإسلام اليوم وحسبك به حال.
      وأنه إذا كانت المخالفة الجزئية لخطة المعركة -كما وقع من الرماة- وتطلع بعض النفوس إلى الغنائم المادية، وتولي بعض الأفراد حين حمى الوطيس نذائر شؤم وأسباب هزيمة وخسارة، فما بالك بأمة تلقي كتاب ربها وراءها ظهرياً، وتعبد الدرهم والدينار، ولا يخطر على بالها جهاد قط، وتستحل الربا والغلول و...، و... , وتفعل ما تعرضت له هذه الآيات وما لم تتعرض له، ثم تستبطئ نصر الله الذي وعد به المؤمنين، وتحسب نفسها مؤمنة حق الإيمان، لأنها تصدق بقلوبها وتقر بلسانها، فهذا هو الإيمان كما علَّمته إياها كتب علم الكلام!
      إنها هوة كبيرة جداً بين هذا الإيمان الحي المتحرك الوثاب الذي يخطئ فيرى عقوبة خطيئته، ويصيب فيرى بركة استقامته، وبين تلك القضايا الذهنية الباهتة الباردة التي يتوهمها الكلاميون، والعواطف الغامضة المشوشة التي يتخرصها الصوفيون.
      وخير مثال لهذه الهوة، هو الهوة بين واقع الجيل الأول وواقع العصور المتأخرة عصور الإرجاء!
      وبعد أن تمثلنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مكسور الثنية، مجروح الوجنة متردياً في حفرة يوم أحد، نتمثله الآن في يوم آخر وهو عاصب على بطنه من الجوع يضرب بالفأس، ويجرف بالمسحاة، ويحمل في المكتل، وينشد مع أصحابه:
      والله لولا الله ما اهتدينا            ولا تصدقنا ولا صلينا
      ويقول:
      اللهم إن العيش عيش الآخرة            فاغفر للأنصار والمهاجرة
      فيجيبونه:
      نحن الذين بايعوا محمداً            على الجهاد ما بقينا أبداً
      وذلك يوم الخندق، وما أدراك ما يوم الخندق؟!
      هذا اليوم الذي يضيف إلى دروس أحد دروساً جديدة، ويرسم معالم إيمانية جديدة أيضاً، ويعطي صفحة أخرى نقرأ فيها كيف أنه '' في معترك الحياة ومصطرع الأحداث كانت الشخصية المسلمة تصاغ، ويوماً بعد يوم وحدثاً بعد حدث كانت هذه الشخصية تنضج وتنمو وتتضح سماتها، وكانت الجماعة المسلمة التي تتكون من تلك الشخصيات تبرز إلى الوجود بمقوماتها وقيمها الخاصة وطابعها المميز بين سائر الجماعات.
      وكانت الأحداث تنهال على الجماعة الناشئة حتى لتبلغ أحياناً درجة الفتنة، وكانت فتنة كفتنة الذهب، تفصل بين الجوهر الأصيل والزبد الزائف، وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها فلا تعود خليطاً مجهول القيم''
      وكل ذلك إنما هو مقتضيات جديدة للإيمان، وتحقيق واقعي لزيادته التي ظل هذا الجيل يترقى فيها درجة بعد درجة حتى وصل إلى الكمال الذي لم يبلغه جيل مثله قط، فاستحق بذلك القوامة على العالمين، والثناء العظيم من رب العالمين.
      ولو أن إيمانهم وقف عند عقبة من عقبات الطريق الشاقة، أو تملص من فتنة من فتن التمحيص الحادة، لما تحقق لهم كل ما تحقق، بل ربما خسروا وخسرت الإنسانية كلها.
      ومع ما في الخندق من زيادات للإيمان جديدة، ودروس للبناء جديدة، فإنها كانت امتداداً طبيعياً لسنة الله في سير هذا الدين -كما ألمحنا إليها- وفي تزكية النفس الإنسانية به.
      ذلك أن الله تعالى لم ينزل القرآن بمواعظه وتزكيته على قوم محبوسين في الأديرة والصوامع، أو قابعين في زوايا الحياة، وإنما اقتضت حكمته أن تكون الموعظة والتزكية من خلال الابتلاءات والامتحانات المتكررة ''فقد علم الله أن هذه الخليقة البشرية لا تصاغ صياغة سليمة , ولا تنضج نضجاً صحيحاً، ولا تصح ولا تستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبية الواقعية التي تحفر في القلوب , وتنقش في الأعصاب , وتأخذ من النفوس وتعطي في معترك الحياة ومصطرع الأحداث.
      أما القرآن فينزل ليكشف لهذه النفوس عن حقيقة ما يقع ودلالته، وليوجه تلك القلوب وهي منصهرة بنار الفتنة، ساخنة بحرارة الابتلاء، قابلة للطرق، مطاوعة للصياغة '' .
      ومن واقع أنفسنا اليوم نستدل على هذه الحقيقة؛ فنحن نقرأ آيات المعركة كما في سورة الأحزاب: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً))[الأحزاب:9-11] الآيات.
      نقرأها فنمر عليها مروراً عابراً، وإذا فسرها المفسرون منا فقد لا يزيدون على قولهم: (( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ))[الأحزاب:10] أي: من جهتي المدينة، ((وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ))، أي: من الخوف، (( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ )) أي: ارتفعت من شدة الخوف.. إلخ.
      أما أن نقف -ولو في الشعور- مثل ذلك الموقف الرهيب , والكرب الشديد، والأهوال المحدقة لنواجه أعداء الله ونعلي كلمته متأسين بذلك الجيل، فهذا ما لا يخطر على قلب كثير من المسلمين اليوم , وعلى رأسهم نحن المنتسبين للعلم الشرعي في كثير من الأحيان، والله المستعان.
      إن الحديث عن الإجهاد والمشقة والجوع والبرد والخوف الذي لقيه المؤمنون ليطول، وقد أفاضت فيه المصادر الصحيحة وهو ذو دلالة عظمى على ما نريد إيضاحه من قضية الإيمان ومقتضياته، ومع هذا لن نفيض فيها، وإنما نقتصر على جانب واحد من جوانب العبر الكبرى:
      وهو أن هذا الجيل الكريم هو من حيث التكوين النفسي بشر مثلنا ومثل سائر البشر؛ له مشاعره وعواطفه البشرية بما فيها من نقص وجزع وتأثر بالأحداث.
      ونحن نخطئ جداً حين نحسبهم غير ذلك فنفقد الأمل في التأسي بهم.
      ''لقد كانوا ناساً من البشر، وللبشر طاقة لا يكلفهم الله ما فوقها، وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية، وبشارة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم؛ تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق . على الرغم من هذا كله، فإن الهول الذي كان حاضراً يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم.
      ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحس حالة أصحابه ويرى نفوسهم من داخلها فيقول: من رجل يقوم فينظر ما فعل القوم ثم يرجع -يشرط له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجعة- أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة؟
      ومع هذا الشرط بالرجعة، ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنة، فإن أحداً لا يلبي النداء!!
      فإذا عين حذيفة بالاسم قال: فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني.
      ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة، ولكن كان إلى جانب الزلزلة وزوغان الأبصار وكرب الأنفاس , كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله، والإدراك الذي لا يضل عن سنة الله، والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها.
      ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سبباً في انتظار النصر، ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل:
      ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ))[البقرة:214].
      وها هم يزلزلون، فنصر الله إذن منهم قريب! ومن ثم قالوا:
      ((هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً))[الأحزاب:22] '' .
      فقد زادهم إيماناً أن رأوا الأهوال تحدق بهم والأحزاب تتألب عليهم؛ ليقينهم أنه ما لم يكن ذلك الابتلاء والتمحيص فلا نصر، لأنه في الحقيقة لا إيمان يمكن الجزم به، بل هي دعاوى كل يقدر أن يدعيها، فإذا اجتاز المؤمن الابتلاء تحقق الإيمان، وإذا تحقق الإيمان تحقق النصر، هذه سنن ثابتة وحقائق ساطعة.
      وبعد هذا نطوي وقائع شاقة ومشاهد بليغة لنصل إلى يوم الحديبية وبيعة الرضوان، تلك التي كانت كسابقاتها امتحاناً شديداً للإيمان، ولكنه امتحان من نوع آخر!
      إنه امتحان القلوب المؤمنة التي جاشت بالحمية الإيمانية والغيرة لله ورسوله ودينه، واستقر في أعماقها صدق رسولها في وعده، وصدق وعد الله له، وإن كان هذا الوعد رؤيا في المنام -فرؤيا الأنبياء وحي- قلوب مفعمة باستعلاء الإيمان وعز الطاعة، تأبى أن يستضيمها عدو الله أو تنصاع لضغوطه في أي ميدان.
      ومع ذلك ترى في يومها ذاك أموراً تبدو مناقضة لهذا كله، فكانت أهوالاً وكروباً لا يسكن أمامها إلا قلب بلغ الغاية القصوى من الانقياد والتسليم لله ورسوله، والتجرد مما يخالف ذلك حتى وإن كان دافعه الغضب لله والحمية لدينه والاعتزاز بالإيمان به.
      كانت صدمة عنيفة لهذه الجماعة الراشدة الزاحفة أبداً إلى الأمام أن تواجه منعطفاً خطيراً يتشهى فيه الكافرون من الشروط، ويملونها عليها ثم ترى نبيها يقبلها بلا تحفظ.
      إن اكتمال الإيمان يقتضي مرحلة عليا من التربية، مرحلة تتعدى مراحل الحض والإيقاظ ورفع الهمم والعزائم إلى مرحلة تهذيب الحماس وتسكين الحمية الإيمانية، لتوافق الوحي في كل أمر وتنضبط عليه في كل حركة حتى وإن رأت أن موافقته شاقة، لا على حظ النفس فذاك أمر قد استأصلته التربية الوثابة، ولكن على إيمان القلب الثائر للحق.
      فلنتصور ما كانت عليه تلك القلوب من حماس وتوقد وغيرة واستعلاء بالإيمان، ثم لنتصور معه كيف تطيق رؤية المفاوض الكافر وهو يُصر على محو صفة الرسالة من اسم رسولها الكريم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويستجاب له؟!
      وكيف تطيق قبول هذه الشروط المجحفة المتعسفة مثل: أن يرجع هذا العام -وهو على مشارف الحرم- بلا عمرة ويعتمر من قابل، وأن من أتى المدينة مؤمناً مهاجراً يرد إلى مكة -لتعذبه وتضطهده- ومن ارتد من المهاجرين يعود إلى مكة آمناً؟!
      وكيف تتحمل رؤية المعذبين في الله كـأبي جندل يرسفون في الأغلال، ويستصرخون حميتها الإيمانية، فيردهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى معذبيهم التزاماً بشروط الصلح؟!
      وكيف تتحمل أن تحلق الرءوس وتنحر الهدي هنا في هذه البيداء، وهي إنما خرجت من المدينة واثقة مطمئنة إلى رؤية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدخول البيت آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون؟!
      ويأتي ثاني رجل في هذه الأمة الزكية ليخاطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتوقد وتحرق: { ألست رسول الله حقاً؟
      قال: بلى، قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟
      قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا إذن؟
      قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قال: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟
      قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟
      قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به
      }
      ثم تكون نهاية هذا الموقف العصيب -بعد هدأة القلوب، وسكون العاصفة- أن ينزل الله تعالى على رسوله وهو قافل إلى المدينة:
      ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً))[الفتح:1-4]
      فيبشر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بها قائلاً: {نزلت عليَّ الليلة سورة هي أحب إليَّ من الدنيا وما فيها -أو قال: لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس- }
      وكيف لا وفيها البشارة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفتح والمغفرة التامة والنعمة العظيمة والهداية القويمة، وللمؤمنين بالسكينة وزيادة الإيمان والوعد بالجنة؟!
      إن نزول السكينة وزيادة الإيمان بها لهو ثواب كريم على الإيمان السابق المتمثل في الثقة في الله والاستسلام لأمره مهما كان هول الموقف.
      وهكذا يرقى الإيمان ويسمو وترسخ قاعدة عظمى من قواعد فقه التزكية الإيمانية، وهي: أن من ثواب الإيمان حصول إيمان أعلى منه، ومن جزاء المعصية نقص الإيمان بمعصية أخرى، وهي قاعدة لم تثبت من خلال موعظة في مسجد ولا محاضرة في جامعة، وإنما في موقف مهول كهذا الموقف.
      ثم نطوي -كذلك- أحداثاً جِساماً ووقائع شاهدات لننـتقل إلى غزوة تبوك .
      إنها لبادرة فجائية كبرى في تاريخ الإنسانية أن يخرج جيش من قبائل العرب ينازل الامبراطورية الرومانية أكبر إمبراطوريات الأرض يومئذٍ عتواً وأكثرها حضارة، إنه لحدث ما كان العرب من قبل يحلمون به، ولا كان الروم يتوقعونه ولو في الخيال!
      وإن في هذا وحده لدلالة كبرى على الطبيعة الجهادية لهذا الدين، والحقيقة الإيمانية التي يبنيها في قلوب أتباعه.
      ولكن هناك دلالة أكبر من هذا وأعظم؛ ذلك أن هذه البادرة الكبرى ما هي إلا مظهر وثمرة لجهد داخلي عظيم، وخطوة على طريق هائل كبير لم يتوقف دفعة واحدة إلا على بلاط الشهداء وأسوار القسطنطينية.
      فالجماعة المؤمنة وصلت في آفاق التزكية الإيمانية وقمم الجهاد -بكل معانيه- إلى غاية لم تبلغها قبلها جماعة قط، وهذه الغزوة تمحيص نهائي وترقية عليا لها، واستئصال جذري للطفيليات المحسوبة عليها وليست منها.
      جيش قِوامه ثلاثون ألفاً لا يتخلف منه عن هذه الغزوة الشاقة المجهدة إلا ثلاثة نفر!
      ثم هؤلاء الثلاثة يتعرضون لمحنة رهيبة يصفها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأنها وصلت إلى حد أن: ((ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ))[التوبة:118].
      وتقتضي حكمة الله البالغة أن يكون هؤلاء الثلاثة من السابقين الأولين -اثنان منهما شهدا بدراً مرارة وهلال، والثالث كعب شهد العقبة ليكون ذلك أبلغ وأشد وقعاً في نفوس قوم ربما كانت أنفسهم قد حدثتهم بالتخلف وهم من مؤخرة القافلة.
      أما المتخلفون سواهم فما كانوا إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء.
      وتنزل السورة الفاضحة، البحوث، المبعثرة، المقشقشة، المخزية، الحافرة، المنكلة، المنقرة، المدمدمة، وتتناول -عدا المقاطع الأولى منها- موضوع الغزوة، ويستغرق الحديث عن المنافقين من جميع جوانبه أكثرها، ويؤخر موضوع توبة الله على الثلاثة إلى آخرها في آخر توبة الله على الجماعة المؤمنة كلها.
      وليس من غرضنا الآن -ولن نستطيع- تقصي دروس الموقف وعبره، ولكننا نكتفي بعبرتين، إحداهما على سبيل الإجمال والأخرى واقعة جزئية.
      أما الأولى: فهي أن المنافقين لم يكن يخفى عليهم قط أن الإيمان جهاد وأعباء، وواجبات وفرائض على النفس والمال، وعلى القلوب والجوارح، ولهذا لم يدر في خلدهم أن يستخدموا منطق الأمة الإسلامية في عصورها الأخيرة فيقولوا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين استنفرهم للغزو: لن نجاهد معك ولن يضر هذا في إيماننا، فنحن مصدقون لك بقلوبنا ومقرون برسالتك بألسنتنا، فدعنا نأخذ بأذناب البقر ونغرس الأشجار ونهتم بشؤون أهلينا وأولادنا.
      لم يكونوا ليفكروا في هذا، لأن حقيقة الإيمان الحية أمامهم في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبه لم تكن تسمح لهم بذلك، فقول كهذا في مجتمع مؤمن كهذا يعد لغواً وهذياناً.
      لو قالوا هذا أو قريباً منه لكشفته السورة وأزالت شبهته، لكنه لم يكن يصل في تفكيرهم إلى درجة الشبهة، ولهذا لجأوا إلى أعذار وتعللات عليها مسحة من الشرعية مثل:
      1- الاعتذار بأنهم ليسوا محل تكليف، إذ مناط التكليف الاستطاعة وهم غير مستطيعين ((لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ))[التوبة:42].
      2- الاعتذار بشدة الحر الذي جعله الشارع سبباً في الترخيص والتخفيف، كما في الإبراد بصلاة الظهر ((وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ))[التوبة:81].
      3- الاعتذار بوقوع مفسدة تضيع معها مصلحة الجهاد، وهي الافتتان ببنات الروم((ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي))[التوبة:49] ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح!!
      4- الاعتذار بالقياس، حيث طلبوا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعذرهم كما يعذر من رفع الله عنه الحرج من الضعفاء والمرضى ((ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ))[التوبة:86].
      وغير ذلك من الأعذار المفتعلة التي هي شرعية في فقه المنافقين أو أصول فقههم، وهو فقه كثير الحواشي طويل الذيل لا يخلو منه عصر ولا دعوة، أما ذاك القول الذي لم يصل أن يكون عذراً ولا شبهة في أصول فقه المنافقين فقد أصبح حجة وقاعدة في أصول دين الطوائف الإسلامية التي دانت بعلم الكلام واتبعت أساطينه.
      فقد سود أحبار علم الكلام ورهبانه الصحائف، واستنفدوا المحابر للتدليل على أن الجهاد -بل كل الأعمال صغيرها وجليلها- ليست من الإيمان، بل صرح أئمة فيهم بأن نطق كلمة الشهادة -مجرد نطق- ليس منه.
      ورحم الله من قال من السلف في الفرق بين منافقي الصدر الأول والقرون المتأخرة: ''كانوا يراءون بما يعملون، فأصبحوا يراءون بما لا يعملون''
      حقاً إن مما سهل للمرجئة نشر عقيدتهم أن حقيقة الإسلام الحية الكاملة لم تكن قائمة في عصور الانحراف، فكان يسيراً عليهم أن يقنعوا أمة غير عاملة بأن العمل ليس من الإيمان، إذ ليس أشهى إلى الكسول من أن يجد ما يبرر كسله، ولكن المعيار الوحيد هو الجيل الأول، ذلك الجيل الذي كان منافقوه يجاهدون ويحجون وينفقون، فلما غابت صورة هذا المعيار عن عقول المرجئة -بل ربما عن عقول بعض مناظريهم من أهل السنة - وتحول الأمر إلى جدل نظري بالشبهات والتأويلات , استشرى الخطر وعمت البدعة.
      وكان على أهل السنة والجماعة -وما يزال- أن يعيدوا الواقع نفسه حيَّاً قائماً -ما أمكن- وأن يستحضروا دائماً صورته وهم يعملون ويناظرون.
      * وأما الأخرى -أي الواقعة الجزئية -: فهي قصة النفر من المنافقين الذين نزل فيهم قول الله تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ))[التوبة:65-66].
      وقد رُوي سبب نزولها من طرق كثيرة تثبت بمجموعها صحته، والأشهر أن ما قالوه هو: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء.
      فهؤلاء قوم خرجوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الغزوة الشاقة متعرضين للقتل والأسر، أنهكتهم وعثاء السفر، فجلسوا في خلوة يتلهون بالسخرية ببعض الصحابة، فأنزل الله تعالى فيهم آيات محكمات حكم فيها بكفرهم بعد إيمانهم وخروجهم من عِداد المؤمنين، وهو ما يترتب عليه خلودهم الأبدي في النار ما لم يتوبوا .
      وقبل أن تنزل الآيات فزع هؤلاء النفر يهرعون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معتذرين نادمين يقسمون الأيمان أنهم ما أرادوا الكفر ولا قصدوه، وأن ما صنعوا لم يكن إلا خوضاً ولعباً ولم يكذبهم الله تعالى في دعوى الخوض واللعب، بل أوضح أن نفس خوضهم ولعبهم كفر، فنفس عذرهم إقرار بكفرهم!
      إنه لا خلاف بين فقهاء الإسلام في أن الهزل بالكفر كفر -وإن اختلفوا في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والطلاق والعتاق- وهذه الآية من أقوى الأدلة على ذلك .
      وقد بقي هذا الإجماع محفوظاً نظرياً في كتب الفقه حتى المتأخر منها، أما في الواقع العملي فإن استمراء الإرجاء، وانحسار مفهوم الإيمان، وغموض مفهوم الكفر، والغفلة عن كثير من ضروبه وأنواعه جعل الأمة الإسلامية تغفل عن تكفير المرتدين قصداً وجهاراً فضلاً عن الهازلين الساخرين إلا من سار منها على منهج أهل السنة والجماعة وهم في العصور المتأخرة قليل.
      بل إن هؤلاء القليل عندما يدعون إلى تصحيح الإيمان وتجلية معانيه، ويبينون للأمة الكفر وضروبه وخطره نجدها تقف في وجوههم متهمة إياهم بتكفير المسلمين، كما حصل لـشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وشَيْخ الإِسْلامِ محمد بن عبد الوهاب، والشهيد سيد قطب رحمهم الله وأمثالهم، ويعرضون عن تصريح هؤلاء العلماء بأنهم لا يقصدون تكفير الأعيان بل تصحيح حقائق الدين في القلوب والأذهان.
      ولئن كان علماء عصور الإسلام الوسطى، من المرجئة أو المتأثرين بالإرجاء يحجمون عن تكفير ملاحدة وحدة الوجود، وأمثالهم من الزنادقة أو الساخرين بالدين من الكتَّاب والشعراء، وينتحلون لهم التأويلات والتبريرات، فقد استغنى علماء الإرجاء في عصرنا الحاضر عن هذه التأويلات، لأن الإسلام في عرفهم وراثة لازمة كما تورث الأسماء، وأحرف تكتب في الهوية لا ينسخها عمل ولا قول يرتكبه حاملها، ولهذا تجرأ الملاحدة زعماءً وكتاباً على دين الله سخرية واستهزاء، وأصبح هذا ميداناً للزعماء والمفكرين، وملهاة للشعراء والصحفيين، وجرت ألفاظ الاستهزاء على ألسنة العوام، فأصبحت في بعض الأحيان والبلدان كالسلام!!
      وعمَّ البلاء حتى تعدى مجال الاستهزاء إلى مجال الكفر الجاد الجلي الذي كان أمراً محظوراً -ولو عرفاً وعادة- فنسي الناس تكفير الباطنية والقرامطة والدروز والنصيرية وأشباههم، بل نسي بعضهم أو شك في كفر اليهود والنصارى وأمثالهم، وغاب عنهم تماماً كفر طواغيت الدجل والخرافة والسحر، بل سموهم أولياء وصالحين!!
      أما طواغيت الحكم والتشريع فقد نسخوا شريعة الله جهاراً نهاراً، وحكّموا شرائع الطاغوت في الدماء والأعراض والأموال وألزموا الناس في مناهجهم ووسائل تربيتهم بموالاة الكفار وتقديس عظماء الكفر من فلاسفة وقادة وحكام، ونشروا من استحلال المكفرات والموبقات ضروباً وألواناً، وسخروا من الحدود والحجاب وتعدد الزوجات وأحكام الميراث والعبادات والأخلاق..، كل هذا وأكثر الشعب لا يرفع عليهم رأساً ولا يرى به بأساً، والجريء منهم يعتبره خطأ أو معصية والمنافقون من أصحاب العمائم يقولون كما قال أحدهم: لو كان لي من الأمر شيء لجعلتك في منزلة من لا يسأل عما يفعل.
      وانضم أغلب الطبقة المثقفة -كما يسمونها- إلى الأحزاب الكفرية والمنظمات الإلحادية والمذاهب الأدبية التي تستر الكفر بالشعر، حتى إن بعض معاقل الإسلام التاريخية أصبح في كل قرية منها ومدرسة فرع للحزب الملحد.
      وسقط حد الردة إلا من كتب الفقه الموروثة، بل ظهر في صفوف المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية اتجاه جديد ينكر حد الردة ضمن ما ينكر من حدود الإسلام وأصوله
      ومر على الأمة الإسلامية أجيال بل قرون لا تكاد تسمع فيها أن حد ردة أقيم على زنديق مجاهـر أو ملحد مكابر، في حين أن الآلاف من الأرواح تزهق لأسباب سياسية أو خلافات شخصية! أما الأحكام المتعلقة بأهل الذمة من جزية وصغار ونحوها، فقد اتفقت كل الأنظمة في نسخها وإلغائها وإنسائها، وعزّ الكفار في كل بلد، وضرب الذل والصغار على من يدعو إلى معاملتهم بحكم الله عز وجل، وصار أهل الكتاب -بل عباد البقر- يخططون لإخراج المسلمين عن دينهم في عقر دار الإسلام!!
      فيا لها من غربة لا يخفـف وطأتها إلا نسمات الفجر الصادق التي بدأت تهب من كل مكان، حاملة البشائر بمستقبل زاهر يعز الله فيه أولياءه ويذل أعداءه، ويعلي كلمة التوحيد والسنة ويقمع رءوس الشرك والبدعة وما ذلك عليه بعزيز.
      وبعد الاكتفاء بهاتين الوقفتين مع أحداث غزوة تبوك نكتفي -أيضاً- بما سبق عرضه من المعالم الكبرى في سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التي كانت تطبيقاً وتحقيقاً للدين كما يريده الله تعالى، وبياناً واقعياً لطبيعة سيره وحكمة إنزاله، وسنة الله في تزكية الناس به ومجاهدتهم عليه.
      وإننا في كل غزوة وسرية من غزوات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسراياه التي بلغت مائة غزوة وسرية، وفي كل موقف من مواقفه في الدعوة والجهاد، وفي كل مقام من مقامات عبوديته وتبتله إلى ربه , لنجد برهاناً ساطعاً ومعلماً شاخصاً على حقيقة دين الله تعالى، وحقيقة الدعوة إليه، وحقيقة النفس التي يجب أن تؤمن به وتستقيم عليه، مع إيضاح لحقيقة الجاهلية التي يجب أن تُحارب وتُدحر لكيلا تقف في طريقه.
      وقد كان الجيل الأول -أصفى أجيال الإنسانية وأعظمها- يدرك هذه الحقائق إدراك من عاناها وتذوقها وتربى عليها وجاهد لأجلها ورأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمامه يعانيها ويدعو إليها، وقد ملك هذا الإدراك نفوس ذلك الجيل حتى بلغ بهم حداً رفيعاً من الحساسية ورهافة الشعور تجاهها، فاستصحبوا الشعور بالتقصير وسوء الظن بالنفس واستعظام الهفوة، حتى وصل الحال ببعضهم أحياناً إلى ما يشبه قنوطاً ويأساً، وحتى إنهم ليرون ما ليس بذنب ذنباً، ويخشون أن يكون ما أعطاهم الله من الكرامة عقوبة واستدراجاً، والنماذج الثابتة في هذا كثيرة جداً:
      عن أنس رضي الله عنه قال: [[لما طعن حرام بن ملحان -وكان خاله- يوم بئر معونة قال بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه، ثم قال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة ]]
      وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: [[إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ورأيتنا نغزو وما لنا طعام إلا ورق الحبلة وهذا السمر، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط]].
      وعن جابر رضي الله عنه قال: [[سرنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان قوت كل رجل منا في كل يوم تمرة، فكان يمصها ثم يصرها في ثوبه، وكنا نختبط بقسينا ونأكل حتى قرحت أشداقنا، فَأُقْسِم أُخْطِئها رجل منا يوماً فانطلقنا به ننعشه فشهدنا أنه لم يعطها فأعطيها فقام فأخذها]] .
      وعن عتبة بن غزوان رضي الله عنه -في حديث عظيم له: [[ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحداً إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً ]].
      و عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه [[أُتِيَ بطعام وكان صائماً فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كفن في بردة إن غُطِّيَ رأسه بدت رجلاه، وإن غُطِّيَ رجلاه بدا رأسه وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط -أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا- وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام ]].
      وقال خباب بن الأرت رضي الله عنه: {هاجرنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، ومنا من مضى أو ذهب ولم يأكل من أجره شيئاً، كان منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد لم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غُطِّيَ بها رجلاه خرج رأسه... قال: ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها} .
      وعن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال: [[قال لي عبد الله بن عمر: هل تدري ما قال أبي لأبيك؟ قلت: لا، قال: فإن أبي قال لأبيك: يا أبا موسى! هل يسرك إسلامنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهجرتنا معه وجهادنا معه وعملنا كله معه برد لنا ، وأن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافاً رأساً برأس؟
      فقال أبي : لا والله، لقد جاهدنا بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصلينا وصمنا وعملنا خيراً كثيراً،وأسلم على أيدينا بشر كثير، وإنا لنرجو ذلك.
      فقال أبي: لكني والذي نفس عمر بيده لوددت أن ذلك برد لنا، وأن كل شيء عملناه بعده نجونا منه كفافاً رأساً برأس. فقلتُ: إن أباك والله خير من أبي
      ]]. .
      ولما طعن رضي الله عنه جاءه ابن عباس فمس جسده بيده، وقال: جلد لا تمسه النار أبداً -يذكره ببشارة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له بالجنة- وأخذ يطمئنه ويبشره بصحبته للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللصديق، وبرضى المسلمين جميعاً عنه في عدله وسيرته .
      فقال الفاروق : [[أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورضاه فإنما ذاك منٌّ مِنَ الله تعالى مَنَّ به عليّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك مَنٌّ مِنَ الله جل ذكره مَنَّ به عليّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك -أي الرعية أن يكون قصَّر في أمرها- والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به عذاب الله عز وجل وقبل أن أراه ]].
      وجاءه شاب آخر يبشره بأجر الصحبة والعدل والشهادة، فقال عمر: [[وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي]].
      و أبو ذر رضي الله عنه حدث الناس بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولا تلذذتم بالنساء على الفرشات...} الحديث.
      فقال: [[والله لوددت أني شجرة تعضد]] .
      و ابن مسعود رضي الله عنه يحدث عنه مسروق قال: [[قال رجل عند عبد الله : ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أكون من المقربين أحب إليَّ، قال: فقال عبد الله: لكن هناك رجل ود لو أنه إذا مات لم يبعث يعني نفسه ]] .
      فهذا الوجل وشدة المحاسبة مع تلك التضحيات والفضائل والدرجة العليا التي شهد الله لهم بها في كتابه.
      وقد استمرت سيرتهم امتداداً لسيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجهاد -بكل ضروبه- ففتحوا الآفاق والبلاد، وفتحوا القلوب والعقول، ونقلوا للناس هدي نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيَّاً ماثلاً، فما انقضى عصرهم حتى أنفقت كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله، ودانت ملوك الأرض وجبابرتها للملة الحنيفية، وأظهر الله دينه على العالمين حتى دخلت فيه أو في حكمه أمم الأرض إلا من اعتصم وراء لجج البحار أو بعدت بهم المهامة والقفار، أو عاشوا مع الوحوش في الأحراش والأدغال، وسيأتي لهذا مزيد بيان بإذن الله .
      ولقد قصَّر نابليون حين وصف هذه المدة الهائلة بقوله: '' إن المسلمين فتحوا نصف العالم في نصف قرن! '' فما كان القسم الذي لم يفتح نصف العالم قط، وإنما كان حُوشيِّ الأرض التي لم تصلها جيوش الإسلام فقد غزتها ثقافته وحضارته.
      ولكن الأوروبيين منذ عصر الامبراطورية الرومانية إلى الآن يعتبرون أوروبا نصف الدنيا، وكم جمح بهم الغرور فاعتبروها محور العالم، وسائر الأمم حُواشي وهوامش .
      وعلى نهج الصحابة سارت بعدهم أجيال فأكملوا المسيرة، مسيرة الجهاد بكل ضروبه وأنواعه: الجهاد لإدخال الأمم في دين الله وتحريرها من عبودية طواغيت الدجل والاستبداد.
      والجهاد في طلب العلم وتعليمه ليعبدوا الله على بصيرة ويدعوا الناس إلى حق وحقيقة.
      والجهاد في مقاومة البدع والمنكرات وصيانة الأمة من تحريف الغالين وتأويل المبطلين.
      والجهاد في تحمل أذى الدجالين والجبابرة والشياطين من الجن والإنس وجيوشهم من طلاب الشهوات وأتباع كل ناعق.
      وقدمت هذه الأجيال من التضحيات وتحملت من المشقات ما سطره التاريخ وما لم يسطره، مما لا يستطاع حصره ولا تحصى آثاره.
      كل ذلك عملوه وجاهدوه لا على أنه مجرد نوافل وتطوعات، ولا على أنه مهام جانبية تقضى في أو قات الفراغ من الشواغل، ولا على أنه وسيلة قطعية توصلهم للدرجات العلى في الجنة، بل كانوا يعملون ذلك كله على أنه هو حقيقة الإسلام، وهو شُعب الإيمان، وهو أسنان ومفتاح الشهادتين، وهو الطريق إلى الجنة إن سلم من الآفات والعوارض، يعملون ذلك وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، والخوف من التقصير، والخوف من أن ترد عليهم أعمالهم، والخوف من أن تعجل لهم حسناتهم في الدنيا , حاضرٌ في قلوبهم، ماثل أمام أعينهم، كما تشهد بذلك سيرهم التي جمعها بعض المصنفين، وما لم يجمعوه من أعمال القلوب أكثر وأعظم.
      وما نقل عن أحد منهم قط أنه قال: إن إيمانه كإيمان جبريل أو أنه كامل الإيمان، وما كان لمثلهم أن يتفوه بهذا.
    4. خاتمة المطاف

      بعد هذا الاستعراض لحقيقة هذا الدين، وواقعه العملي، وطبيعة سيره، ومنهج حركته وتزكيته، رأيت أن أختم الفصل بإيضاح قضايا مهمة سأوردها في شكل أسئلة خطرت لي كثيراً أثناء الكتابة، وما أحسبها إلا ستخطر لكل قارئ كذلك.
      والمقصود من إيراد هذه الأسئلة والإجابة عليها، هو التعرف على بعض الحكم الربانية في أن تكون حقيقة هذا الدين ومنهجه على ذلك النحو السابق شرحه، إذ ليس من حقنا -نحن العبيد- أن نسأل عن شيء من سنن الله لم كانت هكذا؟
      إلا لنعرف ما يستتبعه ذلك من عبوديات اعتباراً وعملاً.
      ولعل الإجابة على هذه الأسئلة تبدد ما قد يبقى في النفس من آثار الإرجاء الباطن الذي توارثته الأمة وألفته النفوس مع طول الأمد، وتبين كذلك مدى رحمة الله وفضله على المؤمنين المتمسكين بمنهجه، وأنه مع كل ما في التمسك به من ابتلاءات وأعباء ومشقات لم يجعل علينا في الدين من حرج أبداً، بل هذا المنهج نفسه هو منهج السعادة العظمى والفوز العظيم في الدنيا والأخرى، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
      وهذه الأسئلة هي:
      لماذا كل هذه الجهود والتضحيات والمشقات؟
      وما القضية الأساسية التي جاهد من أجلها الأنبياء والشهداء والصالحون؟
      وهل هي جديرة بكل هذه الجهود الكبيرة الهائلة لا سيما وأن بعض الأنبياء -وهم خير من دعا إلى الله- لم يتبعه أحد، ومنهم من لم يتبعه إلا الرجل والرجلان -كما صح في الحديث- وأكثرهم ما آمن له إلا قليل بنص القرآن؟
      والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو أكثر الأنبياء تابعاً- أكانت القضية التي دعا إليها تستدعي أن يهب هو وأصحابه حياتهم كلها في سبيلها، ويكونوا مع ذلك أكثر الناس حرصاً على إيمانهم وحذراً من الذنوب؟
      وأيضاً سؤال مهم، وهو: هل هذه الأعباء والمشقات خاصة بمنهج الإيمان، فيكون ذلك داعياً أن يركن الناس إلى الكفر طلباً للراحة والطمأنينة؟
      وعندما نخاطب المسلمين بأن طبيعة هذا الدين هي هكذا: ألا تكون صعوبة هذا المنهج وارتفاعه وبطء ثمراته وطول طريقه مبرراً لما يتصورونه من إمكان العيش تحت مظلة الجاهلية المعاصرة -مكتفين بأداء الشعائر الفردية هروباً من تلك التضحيات والتكاليف؟
      والدعاة خاصة ألا نخشى أن يكون ذلك مبرراً لمحاولة الحصول على الثمرة من طرق أخرى يحسبونها ميسورة سهلة المنال بعيداً عن هذا الطريق المجهد الشاق، وهو ما يحدث فعلاً في أكثر الدعوات المعاصرة؟
      إن الإجابة الشافية على هذه الأسئلة بإيضاح الحقائق الكبرى التي يغفل عنها من ينظر لهذا المنهج أول وهلة، يمكن أن نستنبطها ونقرأها من العرض السابق نفسه -أي: من واقع سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه- كما أن علماء أهل السنة والجماعة أجابوا عنها بلسان الحال أو بلسان المقال أو تلميحاً وقد وجدت أن أفضل من أجاب على هذه الأسئلة من فقهاء الدعوة المعاصرين هو الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وهأنذا أنقل من كلامه ما يفيد ذلك مع بعض زيادات توضيحية:
      ''إن حقيقة العبادة لو كانت هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب من الرسل والرسالات، وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان، إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن، وفي منهج حياتهم كله للدنيا والآخرة سواء.
      إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة، إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود، وأن تتحمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان... لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه، فالله سبحانه غني عن العالمين، ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياةً لائقةً بالإنسان إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء....
      إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني، وإن كان هذا التصحيح في ذاته غايةً ضخمة يقوم عليها بناء الحياة كله، بل إن أهميتها كذلك في حسن تذوق الحياة، وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق، فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة لله، وحين يصبح كل نشاط فيها -صغر أم كبر- جزءاً من هذه العبادة أو كل العبادة متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه، وهو إفراد الله سبحانه بالألوهية والإقرار الكامل له وحده بالعبودية... هذا المقام الذي لا يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه، ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه، وهو المقام الذي بلغه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعلى مقاماته التي ارتقى إليها، مقام تلقي الوحي من الله ومقام الإسراء أيضاً:
      ((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً))[الفرقان:1].
      ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))[الإسراء:1].
      وننـتقـل إلى قيمة أخرى من قيم توحيد العبادة بمعنى الدينونة لله وحده، وآثارها في الحياة الإنسانية، إن الدينونة لله تُحَرِّرُ البشر من الدينونة لغيره، وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية، هذه الحرية وتلك، اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر غير النظام الإسلامي يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية في صورة من صورها الكثيرة... سواءً عبودية الاعتقاد، أو عبودية الشعائر، أو عبودية الشرائع.... فكلها عبودية، وبعضها مثل بعض تخضع الرقاب لغير الله بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير الله، والناس لا يملكون أن يعيشوا غير مدينين، لا بد للناس من دينونة.
      والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في ألوان العبودية لغير الله في كل جانب من جوانب الحياة.... إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط، ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ويندرجون في عالم البهيمة:
      ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ))[محمد:12].
      ولا يخسر الإنسان شيئاً كأن يخسر آدميته ويندرج في عالم البهيمة، وهذا هو الذي يقع حتماً بمجرد التملص من الدينونة لله وحده، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة.
      ثم هم يقعون فرائس لألوان من العبودية، يقعون في عبودية الأحبار والرهبان والجن والكهان والدجاجلة والمشعوذين، يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم، لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح المشرعين أنفسهم، سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم، أو في طبقة حاكمة أو في جنس حاكم، فالنظرة على المستوى الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري لا يستمد من الله وحده ولا يتقيد بشريعة الله لا يتعداها... ولكن العبودية للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين.
      فهذه هي الصورة الصارخة، ولكنها ليست هي كل شيء، إن العبودية للعباد تتمثل في صورة أخرى خفية، ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصورة ألا وهي عبودية الأعراف والأوضاع والتقاليد، ونضرب مثلاً لهذا: تلك العبودية لصانعي الموضات والأزياء مثلاً! أي سلطان لهؤلاء على قطيع كبير جداً من البشر؟ كل الذين يسمونهم متحضرين.
      إن الزي المفروض من آلهة الأزياء في الملابس أو التصاميم أو الموديلات أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلات؛ أزياء الصباح، أزياء بعد الظهر، أزياء المساء، الأزياء القصيرة، الأزياء الضيقة، أزياء السهرة، الأزياء المضحكة، أزياء المراسم.. إلخ ليمثل عبودية صارمة لا سبيل لجاهلي أو لجاهلية أن يفلت منها، أو يفكر في الخروج عنها، لو دان الناس في هذه الجاهلية الحضارية لله بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عباداً متبتلين، فماذا تكون العبودية إن لم تكن هي هذه؟!
      وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الأزياء أيضاً؟!
      وإن الإنسان ليبصر أحياناً بالمرأة المسكينة وهي تلبس ما يكشف عن سوءاتها، وهو في الوقت ذاته لا يناسب شكلها ولا تكوينها، وتضع من الأصباغ ما يتركها شائهة أو مثاراً للسخرية، ولكن الألوهية القاهرة لأرباب الأزياء والموضات تقهرها وتذلها لهذه المهانة التي لا تملك لها رداً، ولا تقوى على رفض الدينونة لها، لأن المجتمع كله من حولها يدين لها، فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه؟!
      وكيف تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي تلك؟!
      وليس هذا إلا مثلاً واحداً للعبودية المذلة حين لا يدين الناس لله وحده وحين يدينون لغيره من العبيد.
      وليست حاكمية الرؤساء والحاكم وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية البشر للبشر ولعبودية البشر للبشر، وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم التي تصبح كلها ولا عاصم لها عندما يدين العباد للعباد في صورة من صور الدينونة، سواء في حاكمية التشريع، أو في صورة حاكمية الأعراف والتقاليد، وفي صورة حاكمية الاعتقاد والتصور، هذه هي الحقيقة.
      إن الدينونة لغير الله في الاعتقاد والتصور معناها الوقوع في براثن الأوهام والأساطير والخرافات التي لا تنتهي، والتي تمثل الجاهليات الوثنية المختلفة صوراً منها، وتمثل أوهام العوام المختلفة صوراً منها، وتقدم فيها النذور والأضاحي من الأموال وأحياناً من الأولاد!- تحت وطأة العقيدة الفاسدة والتصور المنحرف، ويعيش الناس معها في رعب من الأرباب الوهمية المختلفة، ومن السدنة والكهنة المتصلين بهذه الأرباب من السحرة المتصلين بالجن والعفاريت..، ومن المشايخ والقديسين أصحاب الأسرار، ومن.. ومن..، ومن الأوهام التي ما يزال الناس منها في رعب وفي خوف وفي تقرب وفي رجاء حتى تنقطع أعناقهم وتتوزع جهودهم وتتبدد طاقاتهم في مثل هذا الهراء.
      وقد مثلنا لتكاليف الدينونة لغير الله في الأعراف والتقاليد بأرباب الأزياء والموضات، فينبغي أن نعلم كم من الأموال والجهود تضيع إلى جانب الأعراض والأخلاق في سبيل هذه الأرباب! إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق على الدهون والعطور والأصباغ وعلى تصفيف الشعر وكيه وعلى الأقمشة التي تصنع منها الأزياء المتقلبة عاماً بعد عام، وما يتبعها من الأحذية المناسبة والحلي المتناسقة مع الزي والشعر والحذاء... إلى آخر ما تقضي به تلك الأرباب النكدة.
      إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق نصف دخله ونصف جهده لملاحقة أهواء تلك الأرباب المتقلبة، التي لا تثبت على حال، ومن ورائها اليهود أصحاب رءوس الأموال الموظفة في الصناعات الخاصة بدنيا تلك الأرباب، ولا يملك الرجل والمرأة -وهما في هذا الكد الناصب- أن يتوقفا لحظة عن تلبية ما تقتضيه تلك الدينونة النكدة من تضحيات في الجهد والمال والعرض والخلق على السواء .
      وأخيراً تجيء تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية، وما من أضحية يقدمها عابد الله لله إلا ويقدم الذين يدينون لغير الله أضعافها للأرباب الحاكمة من الأموال والأنفس والأعراض.
      وتقام أصناف من الوطن ومن القوم ومن الجنس ومن الطبقة ومن الإنتاج، ومن غيرها من شتى الأصنام والأرباب... وتدق عليها الطبول، وتنصب لها الرايات، ويدعى عباد الأصنام إلى بذل النفوس والأموال لها بغير تردد، وإلا فالتردد هو الخيانة وهو العار!
      وحين يتعارض العِرْض مع متطلبات هذه الأصنام فإن العرض هو الذي يضحي، ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على جوانبه الدم، كما تقول الأبواق المنصوبة حول الأصنام ومن ورائها أولئك الأرباب من الحكام!
      إن كل التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليعبد الله وحده في الأرض , وليتحرر البشر من عبادة الطواغيت والأصنام , ولترتفع الحياة الإنسانية إلى الأفق الكريم الذي أراده الله للإنسان... إن كل هذه التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليبذل مثلها وأكثر من يدينون لغير الله؛ والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذا هم جاهدوا في سبيل الله عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد وفوقها الأخلاق والأعراض.
      إن تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لم تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير الله , وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار.
      وأخيراً فإن توحيد العبادة والدينونة لله وحده , ورفض العبودية والدينونة لغيره من خلقه ذو قيمة كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأرباب الزائفة كي يوجه بجملته إلى عمارة الأرض وترقيتها وترقية الحياة فيها.
      وهنا ظاهرة واضحة متكررة؛ وهي أنه كلما قام عبد من عبيد الله ليقيم من نفسه طاغوتاً يعبّد الناس لشخصه من دون الله , احتاج هذا الطاغوت كي يعبد -أي: يطاع ويتبع- إلى أن يسخر كل القوى والطاقات: تسبح بحمده وترتل ذكره وتنفخ في صورته العبدية الهزيلة لتتضخم وتشغل مكان الألوهية العظيمة , وألا تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة وإطلاق الترانيم والتراتيل حولها , وحشد الجموع بشتى الوسائل للتسبيح باسمها وإقامة طقوس العبادة لها.
      وهو جهد ناصب لا يفرغ أبداً؛ لأن الصورة العبدية الهزيلة تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل , وفي هذا الجهد الناصب تصرف طاقات وأموال وأرواح -أحياناً- وأعراض، ولو أنفق بعضها في عمارة الأرض والإنتاج المثمر لترقية الحياة البشرية وإغنائها لعاد على البشرية بالخير الوفير , ولكن هذه الطاقات والأموال والأرواح أو الأعراض لا تنفق في هذا السبيل المثمر ما دام الناس لا يدينون لله وحده وإنما يدينون للطواغيت من دونه.
      ومن هذه اللمحة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والأموال والعمارة والإنتاج من جراء تنكبها عن الدينونة لله وحده وعبادة غيره من دونه , وذلك فوق خسارتها في الأرواح والأعراض والقيم والأخلاق , فوق الذل والقهر والدنس والعار، وليس هذا في نظام أرضي دون نظام وإن اختلفت الأوضاع واختلفت ألوان التضحيات.
      والخلاصة التي ينتهي إليها القول في هذه القضية: أنه يتجلى بوضوح أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية التي يعبر القرآن عنها بالعبادة هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام؛ إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم , وقضية إيمان يوجد أو لا يوجد , وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق , ثم هي بعد ذلك -لا قبله- قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام وفي أوضاع وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام وتنفذ فيها الأحكام.
      وكذلك إن قضية العبادة ليست قضية شعائر، وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام وأوضاع في واقع الحياة، وإنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه الرسل والرسالات واستحقت كل هذه العذابات والتضحيات...وهنا يقف الدعاة ليواجهوا الجاهلية العنيدة '' .
  4. حقيقة النفس الإنسانية

    1. تمهيد

      إن من ميزات هذا الدين الكبرى أنه نزل بالحق والعدل الذي قامت عليه السماوات والأرض: ((أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ))[الفرقان:6] وكلما ازداد البشر نظراً في الآيات الآفاقية والنفسية والقرآنية أبصروا من شواهد التطابق العجيب والتوافق الدقيق ما ينطق بأن هذا الدين هو الحق, وأن فاطر النظام الكوني ومنزل الوحي الديني واحد لا شريك له.
      فالنظر السليم لا يرى في خلق الرحمن من تفاوت ولا يرى في وحي الرحمن من اختلاف , لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا, ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.
      والنفس الإنسانية هي موضوع الوحي كتاباً وسنة والمخاطب به، فما نزلت الكتب وأرسلت الرسل إلا لهذا الإنسان -الذي لم يكن شيئاً مذكوراً- بياناً لغاية خلقه وحكمة وجـوده وتزكية لنفسه, وهداية إلى طريق الحق والصلاح، وتحـذيراً من سبل الضلال والفساد, وتعريفاً له بصفات معبوده تعالى -الذي معرفته أشرف أنواع العلوم والمعارف وأعظمها أثراً في صلاح الإنسان- وإخباراً له بمصيره إن أطاع أو عصى.
      فالدين دين الله والنفس خلق الله, والله تعالى أحكم الحاكمين وهو الغني الحميد , فلهذا لم يشرع لها من الدين إلا ما يتفق وطبعها ويتناسق وحقيقتها، ويملأ كل جوانبها، ويشبع كل رغباتها, لكن في حدود مقدرة وضوابط مقررة تحفظ لهذا الإنسان سعادته وتكفل صلاحه, ولا يعود ضرر تجاوزها إلا عليه وحده, قال تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ))[الروم:30].
      وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من مولود إلا ويولد على الفطرة, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه}.
      ولهذا كانت معرفة النفس الإنسانية كما هي في القرآن والسنة من أجلى الأدلة كشفاً عن حقيقة الإيمان الشرعية، ومما يؤكد ذلك أنه يتفق مع منهج الوحي في الاستدلال والمناظرة , ذلك المنهج الفطري الذي يخاطب البديهة بوضوح وتيسير بعيداً عن الخوض في القضايا الذهنية المعقدة.
      فمعرفة الحقيقة النفسية لا تحتاج إلى عناء في الاستدلال والفهم, بل تقوم على بدهيات مسلمة يحسها كل إنسان من نفسه -مؤمناً أو كافراً- ولا ينكرها إلا مكابر مغالط, ومن هنا كثر الاستدلال على التوحيد بما في حقيقة الإنسان من صفات كالعجز والجهل والضعف والافتقار, وهي من أقوى طرق الاسـتدلال وأجلاها لكل ذي لب.
      ويتبع ذلك الاستدلال على ضرورة الاستقامة على دين الله واتباع شرعه بما في النفس البشرية من صفات: كالظلم، والجهل، والطمع، والشح، والهلع، والكبر، وحب الخصام , والإقرار وقت الشدة بما تنكره حال الرخاء!!
      وانطلاقاً من حقيقة مسلمة في التصور الإسلامي عامة، وهي: أن الوحي إنما نزل لتزكية النفس الإنسانية وتقويم عملها؛ ابتداءً من إصلاح الخواطر والإرادات, وانتهاءً بإصلاح الأعمال والحركات, رأيت أن أعرض حقيقة هذه النفس وطبيعة عملها توصلاً بذلك إلى تحويل حقيقة الإيمان الشرعية من مسألة جدلية إلى قضية مسلمة بدهية كتلك؛ أي: إنني سأحاول -ما أقدرني الله عليه- إيضاح العلاقة التطابقية بين الحقيقة البدهية للنفس البشرية وبين المفهوم الصحيح للعبادة؛ ليظهر أي التصورين الصادق المصيب؛ التصور السلفي أم التصور الإرجائي؟
      إن الناظر لحقيقة النفس الإنسانية وطبيعة عملها في الكتاب والسنة وأقوال العلماء الربانيين المستمدة منهما , يجد أن ذلك يقوم على قضايا بدهية يأخذ بعضها برقاب بعض:
      *والقضية الأولى: أن كل إنسان عامل.
      يقول تعالى: (( يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ))[الإنشقاق:6].
      أي: يا أيها الإنسان إنك عامل إلى ربك عملاً فملاقيه به , خيراً كان عملك ذلك أو شراً , يقول: فليكن عملك مما ينجيك من سخطه ويوجب لك رضاه , ولا يكن مما يسخطه عليك فتهلك.
      قال قتادة: ''إن كدحك يابن آدم لضعيف , فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ولا قوة إلا بالله'' ويدل لذلك قوله تعالى: ((لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ))[البلد:4].
      على المعنى الظاهر المختار في تفسيرها وعلى هذا جاء الحديث الصحيح: { كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها } والحديث الصحيح: {أصدق الأسماء حارث وهمام}.
      فالغدو وبيع النفس عمل مشترك لكل حي، وإنما الفارق أن المطيع يعتق والعاصي يوبق.
      وكل إنسان لا يخلو من الحرث والهم , أي: العمل والإرادة، فالتسمية بحارث وهمام وصف للطبيعة البشرية على ما هي عليه دون اقتضاء مدح أو ذم للمسمى، ولهذا كانا أصدق الأسماء.
      و بدهي أن العمل هو أثر النية والإرادة، فكلُّ يعمل وفق ما يعتقد ويرى؛ قال تعالى:
      ((قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً))[الإسراء:84]
      فهذا إخبار بأن كل إنسان يعمل على شاكلته قال ابن عباس: [[على ناحيته]] .
      وقال مجاهد: [[على حدته وطبيعته]].
      وقال قتادة: [[على نيته]].
      وقال ابن زيد: [[على دينه]] ومؤدى هذه الأقوال واحد.
      والمقصود أن الصلة بين الإيمان وبين العمل كالصلة بين العمل والحياة، فالإنسان بمقتضى كونه حياً حساساً هو كادح مكابد؛ أي: عامل دائب العمل , وأساس العمل هو الفكر والإرادة , ومعلوم أن الإنسان لا يخلو قط من الفكر والإرادة، وأنه لا بد لها من متعلق ما وأثر ما في القلب والجوارح , وليست حقيقة العمل إلا هذا.
      فإن لم يكن للفكر والهم والإرادة أثر يوافقها، أو نتيجة تطابقها، أو مظهر يصدقها لم تكن فكرة ولا إرادة على الحقيقة , وإنما هي عارض من عوارض الخاطر وعليه لا يصح أن تسمى إيماناً أو اعتقاداً.
      وعلى قدر صدق الفكرة وقوة الإرادة يكون تحقق العمل في الخارج إن خيراً وإن شراً , فما يظهر على الجوارح هو الجزء الخارجي من الحقيقة الإنسانية المركبة، ومن عملي القلب والجوارح تركيباً مزجياً عضوياً, كالسفينة التي أسفلها تحت سطح الماء وأعلاها فوقه، وهذا ما يطابق تماماً الحقيقة المركبة للإيمان الشرعي.
      يصدق هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} فهذا مع دلالته على الارتباط العضوي بين الإرادة والعمل يؤكد مهمة الدين التي هي إصلاح الأصل ليصلح الفرع والأثر .
      وهذه العبارة النبوية أبلغ من العبارة التي قالها أبو هريرة رضي الله عنه وهي: [[ القلب ملك والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده! ]] لأن العلاقة بين القلب والأعضاء أقوى منها بين الملك والجنود، لا سيما والكلام في مورد الحديث عن الإيمان, وأصل محل الإيمان القلب, ويسري في الجوارح بحسب قوته في الأصل كالطاقة في الآلة، والملك قد يفسد وبعض جنده صالح وبالعكس بخلاف القلب؛ فإن الجسد تابع له لا يخرج عن إرادته ولا يتحرك بدونه.
      فكلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كشف لعين الحقيقة , وكلام الصحابي رضي الله عنه تقريب وتمثيل.
      هذا وقد أنزل الله تعالى الكتب وأرسل الرسل لتدعو هذا الإنسان الكادح بطبعه العامل -بمقتضى حياته- أن يكون كدحه -أي: عمل قلبه وجوارحه- على ما شرع له الله، أي وفق الغاية التي خلقه لأجلها: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ))[الذاريات:56].
      فإن لم يجب داعي الله ويؤمن برسالاته فإن عمله ينصرف قطعا إلى ضد ذلك , أي: أنه إن لم يكن عابداً لله فإنه عابد للشيطان لا محالة: ((أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ))[يس:60-61].
      وهذا هو مفترق الطريق بين شطري الجماعة الإنسانية "المؤمنين والكافرين".
      وذلك أن حكمة الله تعالى في خلق الإنسان اقتضت أن يكون أمام الإنسان طريقان مختلفان: طريق الكفر وطريق الإيمان, وأن يسير في أيهما شاء ابتلاءً له وامتحاناً: ((وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ))[الكهف:29].
      وكان مقتضى ذلك أن جعل للنفس البشرية في حركتها الجبلِّية الدائبة مصدرين متنافرين يمدانها بالطاقة والحركة بين حين وآخر- هما:
      1- ذكر الله بالمعنى الشامل له, ومنه تدبر القرآن والتفكر في المخلوقات والآلاء والعلم النافع، وكل ما من شأنه أن يزكيها ويوقظها ويصلح خلجاتها وخواطرها، وما يقذفه الملك فيها من تصديق بالحق وإيعاد بالخير.
      2- وسوسة الشيطان الذي يعبث بها ويغرها ويلهيها ويزين لها ويمكر بها، ويقذف فيها التكذيب بالحق والإيعاد بالشر.
      فللملك لمة وللشيطان لمة. والنفس كالرحى الدائرة؛ إما أن تستمد وقودها وطحينها من هذا أو من هذا ولا تقف عن العمل قط.
      وهذه القضية وما يترتب عليها من قضايا تحدث عنها علماء الإسلام الربانيون , متخذينها منطلقا لإيضاح حقائق كبرى في معاملات القلوب مع الله تعالى وأسلوب تزكيتها.
      يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله إيضاحاً لحديث ابن مسعود: '' {إن للملك لمة وللشيطان لمة..} هذا الكلام الذي قاله ابن مسعود هو محفوظ عنه , وربما رفعه بعضهم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وهو كلام جامع لأصول ما يكون من العبد من علم وعمل، من شعور وإرادة.
      وذلك أن العبد له قوة الشعور والإحساس والإدراك وقوة الإرادة والحركة , وإحداهما أصل الثانية مستلزمة لها , والثانية مستلزمة للأولى ومكملة لها , فهو بالأولى يصدق بالحق ويكذب بالباطل , وبالثانية يحب النافع الملائم له ويبغض الضار المنافي له، والله سبحانه خلق عباده على الفطرة التي فيها معرفة الحق والتصديق به ومعرفة الباطل والتكذيب به، ومعرفة النافع الملائم والمحبة له، ومعرفة الضار المنافي والبغض له بالفطرة.
      فما كان حقاً موجوداً صدقت به الفطرة -يعني: من العلوم- وما كان حقاً نافعاً عرفته الفطرة واطمأنت إليه وذلك هو المعروف, وما كان باطلاً معدوماً كذبت به الفطرة فأبغضته فأنكرته, قال تعالى: ((يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ))[الأعراف:157].
      والإنسان كما سماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قال: {أصدق الأسماء حارث وهمام} فهو دائماً يهمُّ ويعمل, لكنه لا يعمل إلا ما يرجو نفعه أو دفع مضرته, ولكن قد يكون ذلك الرجاء مبنياً على اعتقاد باطل, إما في نفس المقصود فلا يكون نافعاً ولا ضاراً, وإما في الوسيلة فلا تكون طريقاً إليه وهذا جهل، وقد يعلم أن هذا الشيء يضره ويفعله, ويعلم أنه ينفعه ويتركه؛ لأن ذلك العلم عارضه ما في نفسه من طلب لذة أخرى أو دفع ألم آخر جاهلاً ظالماً حيث قدم هذا على ذاك.
      و إذا كان الإنسان لا يتحرك إلا راجياً , فالرجاء لا يكون إلا بما يلقى في نفسه من الإيعاد بالخير الذي هو طلب المحبوب أو فوات المكروه، فكل بني آدم له اعتقاد؛ فيه تصديق بشيء وتكذيب بشيء , وله قصد وإرادة لما يرجوه مما هو عنده محبوب ممكن الوصول إليه , أو لوجود المحبوب عنده , أو لدفع المكروه عنه.
      والله خلق العبد يقصد الخير فيرجوه بعمله, فإذا كذَّب بالحق فلم يصدق به, ولم يرج الخير فيقصده ويعمل له كان خاسراً بترك تصديق الحق وطلب الخير, فكيف إذا كذب بالحق وكره إرادة الخير؟
      فكيف إذا صدق بالباطل وأراد الشر؟
      فذكر عبد الله بن مسعود أن لقلب ابن آدم لمة من الملك ولمة من الشيطان, فلمة الملك تصديق بالحق وهو ما كان من جنس من غير جنس الاعتقاد الفاسد, ولمة الشيطان هو تكذيب بالحق وإيعاد بالشر, وهو ما كان من جنس إرادة الشر وظن وجوده: إما مع رجائه إن كان مع هوى نفس, وإما مع خوفه إن كان غير محبوب لها -وكل من الرجاء والخوف مستلزم للآخر.
      فمبدأ العلم الحق والإرادة الصالحة من لمة الملك, ومبدأ الاعتقاد الباطل والإرادة الفاسدة من لمة الشيطان ''
      وعن هذه أو تلك تصدر الأعمال -خيرها وشرها- التي لا يخلو منها بشر قط.
      ومن جليل الاستنباط أن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وتلميذه شَيْخ الإِسْلامِ ابن القيم استخرجا هذه الحقيقة من سورة الفاتحة , وكررا ذلك في كثير من تآليفهما النافعة فكشفا بذلك عن طرف من سر الحكمة الربانية في قراءة هذه السورة في كل ركعة , فكل مسلم لا بد أن يتلوها سبع عشرة مرة في اليوم على الأقل .
      يقول ابن القيم رحمه الله: ''لما كان في القلب قوتان: قوة العلم والتمييز, وقوة الإرادة والحب, كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته، فكماله باستعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل, وباستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل, فمن لم يعرف الحق فهو ضال, ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه، ومن عرفه واتبعه فهو منعم عليه.
      وقد أمرنا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، ولهذا كان النصارى أخص بالضلال لأنهم أمة جهل, واليهود أخص بالغضب لأنهم أمة عناد, وهذه الأمة هم المنعم عليهم, ولهذا قال سفيان بن عيينة: من فسد من عبّادنا ففيه شبه من النصارى, ومن فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود '' .
      ثم ذكر بعض الشواهد النقلية وقال: وهذا المعنى في القرآن في مواضع كثيرة؛ يخبر سبحانه أن أهل السعادة هم الذين عرفوا الحق واتبعوه, وأن أهل الشقاوة هم الذين جهلوا الحق وضلوا عنه أو علموه وخالفوه واتبعوا غيره، ويختم الموضوع قائلا: ''وينبغي أن تعرف أن هاتين القوتين لا تتعطلان في القلب, بل إن استعمل قوته العلمية في معرفة الحق وإدراكه وإلا استعملها في معرفة ما يليق به ويناسبه من الباطل.
      وإن استعمل قوته الإرادية العملية في العمل به وإلا استعملها في ضده , فالإنسان حارث همام بالطبع كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام}.
      فالحارث: الكاسب العامل, والهمام: المريد, فإن النفس متحركة بالإرادة, وحركتها الإرادية لها من لوازم ذاتها, والإرادة تستلزم مراداً يكون متصوراً لها متميزاً عندها, فإن لم تتصور الحق وتطلبه وتريده تصورت الباطل وطلبته وأرادته ولا بد....'' .
      فإذا تبين لنا هذا الجانب عن النفس الإنسانية وأنها في حركة لاهثة مستمرة ما بقيت حية , فمن الضروري معرفة شيء من تفصيل حركتها وعلاقة ذلك بالمظهر الخارجي للحركة "العمل", وبمصدر الطاقة المستمر "الملك أو الشيطان", وبالدافع والغرض للحركة "تحصيل النافع الملائم ودفع الضار المنافر".
      وكل هذا جاء مفصلاً في كلام شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله مستنبطاً من نصوص الوحي .
      ونظل مع ابن القيم في تقرير هذه الحقيقة -ولا نقول النظرية- ثم نعود لشيخه الذي عرضها مراراً من خلال التقرير الأهم, وهو تقرير شمول العبودية وضرورتها لكل حي, والربط بين هاتين الحقيقتين الكبريين:
      1- حقيقة الحركة الدائمة للنفس الإنسانية.
      2- حقيقة شمول العبودية لكل خاطرة وهم وعزم وهمس وفعل من تلك الحركة.
      يقول ابن القيم: ''مبدأ كل علم نظري، وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار؛ فإنها توجب التصورات, والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة.
      واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر، فيأخذها التذكر فيؤديها إلى الإرادة؛ فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل، فتستحكم فتصير عادة، فردها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها.
      ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ولا القوة على قطعها فإنها تهجم عليه هجوم النفس، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها ورضاه به ومساكنته له، وعلى رفع أقبحها وكراهته له ونفرته منه , كما قال الصحابة: { يا رسول الله! إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حممة أحب إليه من أن يتكلم به؟ فقال: أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان } ''.
      وفي لفظ: { الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة } .
      وقد خلق الله النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه، فإن وضع فيها حب طحنته, وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته؛ فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى, ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط بل لابد لها من شيء يوضع فيها، فمن الناس من تطحن رحاه حبا يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره. وأكثرهم يطحن رملاً وحصىً وتبناً ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه.
      واعتماداً على ما تقرر يصف ابن القيم ما ينبغي للمؤمن إزاء هذا فيقول: ''فإذا دفعت الخاطر الوارد عليك اندفع عنك ما بعده، وإن قبلته صار فكراً جوالاً...''
      '' ومن المعلوم أن إصلاح الخواطر أسهل من إصلاح الأفكار , وإصلاح الأفكار أسهل من إصلاح الإرادات , وإصلاح الإرادات أسهل من تدارك فساد العمل، وتداركه أسهل من قطع العوائد.
      فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالفكر فيما يعنيك دون ما لا يعنيك، فالفكر فيما لا يعني باب كل شر.
      ومن فكَّر فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه , واشتغل عن أنفع الأشياء له بما لا منفعة له فيه.
      فالفكر والخواطر والإرادة والهمة أحق شيء بإصلاحه من نفسك، فإن هذه خاصتك وحقيقتك التي تبتعد بها أو تقرب من إلهك ومعبودك الذي لا سعادة لك إلا في قربه ورضاه عنك، وكل الشقاء في بعدك عنه وسخطه عليك.
      ومن كان في خواطره ومجالات فكره دنيئاً خسيساً لم يكن في سائر أمره إلا كذلك.
      وإياك أن تمكن الشيطان من بيت أفكارك وإرادتك، فإنه يفسدها عليك فساداً يصعب تداركه, ويلقي إليك أنواع الوساوس والأفكار المضرة, ويحول بينك وبين الفكر فيما ينفعك، وأنت الذي أعنته على نفسك بتمكينه من قلبك وخواطرك فملكها عليك، فمثالك معه مثال صاحب رحى يطحن فيها جيد الحبوب, فأتاه شخص معه حمل تراب وبعر وفحم وغثاء ليطحنه في طاحونته، فإن طرده ولم يمكنه من إلقاء ما معه في الطاحون استمر على طحن ما ينفعه , وإن مكنه في إلقاء ذلك في الطاحون أفسد ما فيها من الحب وخرج الطحين كله فاسداً.
      والذي يلقيه الشيطان في النفس لا يخرج عن الفكر فيما كان ودخل في الوجود لو كان على خلاف ذلك.
      وفيما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
      أو فيما يهلك الفكر فيه من أنواع الفواحش والحرام.
      أو في خيالات وهمية لا حقيقة لها.
      وإما في باطل أو فيما لا سبيل إلى إدراكه من أنواع ما طوي عنه علمه؛ فيلقيه في تلك الخواطر التي لا يبلغ منها غاية, ولا يفق منها على نهاية فيجعل ذلك مجال فكره ومسرح وهمه.
      وجماع إصلاح ذلك أن تشغل فكرك في باب العلوم والتصورات بمعرفة ما يلزمك من التوحيد وحقوقه، وفي الموت وما بعده إلى دخول الجنة والنار، وفي آفات الأعمال وطرق التحرز منها , وفي باب الإرادات والعزوم أن تشغل نفسك بإرادة ما ينفعك إرادته، وطرح ما يضرك إرادته '' .
      وتبياناً لأهمية الإرادة والفكر وكونها مبدأ عمل القلب وعمل الجوارح، ننتقل إلى موضع آخر من كلامه توسع فيه في بيان حقيقة مهمة يمكن أن توجز في أن: كل إنسان مفكر وكل مفكر عامل، بياناً لتضاد الأفكار وتعاقبها بما يخرج الإنسان عن أن يكون تمثالاً تُحفر فيه الكلمة فتبقى ما بقي.
      ثم يعود السياق فينتظم بقية كلامه هنا , يقول: '' أصل الخير والشر من قبل التفكير، فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الرغبة والترك والحب والبغض.
      وأنفع الفكر: الفكر في مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها، وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها.
      فهذه أربعة أفكار هي أجلُّ الأفكار، ويليها أربعة:
      فكر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها , وفكر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتراز منها.
      فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء.
      ورأس القسم الأول: الفكر في آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه، وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما.
      وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة , فإذا فكَّر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها، أثمر له ذلك الرغبة في الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت.
      وهذه الأفكار تعلي همته وتحييها بعد موتها وسفولها وتجعله في واد والناس في واد.
      و بإزاء هذه الأفكار: الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق؛ كالفكر فيما لا يكلف الفكر فيه ولا أعطي الإحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع, كالفكر في كيفية ذات الرب وصفاته مما لا سبيل للعقول إلى إدراكه.
      ومنها: الفكر في الصناعات الدقيقة التي لا تنفع بل تضر؛ كالفكر في الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال والتصاوير.
      ومنها: الفكر في العلوم التي لو كانت صحيحة لم يعط الفكر فيها النفس كمالاً ولا شرفاً , كالفكر في دقائق المنطق , والعلم الرياضي والطبيعي , وآكده علوم الفلاسفة التي لو بلغ الإنسان غايتها لم يكمل بذلك ولم يزك نفسه.
      ومنها: الفكر في الشهوات واللذات وطرق تحصيلها , وهذا وإن كان للنفس فيه لذة لا عاقبة له , ومضرته في عاقبة الدنيا قبل الآخرة أضعاف مسرته.
      ومنها: الفكر فيما لم يكن لو كان كيف كان , كالفكر فيما إذا صار ملكاً أو وجد كنزاً أو ملك ضيعة ماذا يصنع وكيف يتصرف، ويأخذ ويعطي وينتقم ونحو ذلك من أفكار السفّّل .
      ومنها: الفكر في جزئيات أحوال الناس ومداخلهم ومخارجهم , وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة.
      ومنها: الفكر في دقائق الحيل والمكر التي يتوسط بها إلى أغراضه وهواه مباحة كانت أو محرمة.
      ومنها: الفكر في أنواع الشعر وصروفه وأفانينه في المدح والهجاء والغزل والمراثي ونحوها، فإنه يشغل الإنسان عن الفكر فيما فيه سعادته وحياته الدائمة.
      ومنها: الفكر في المقدرات الذهنية التي لا وجود لها في الخارج ولا بالناس حاجة إليها ألبتة، وذلك موجود في كل علم حتى في علم الفقه والأصول والطب.
      فكل هذه الأفكار مضرتها أرجح من منفعتها , ويكفي في مضرتها شغلها عن الفكر فيما هو أدنى به وأعود عليه بالنفع عاجلاً أو آجلاً '' .
      وبعد هذه اللفتات التزكوية القيمة نعود لاستكمال الحديث عن تلك الحقيقة الكبرى:
      ''وبالجملة فالقلب لا يخلو قط من الفكر، إما في واجب آخرته ومصالحها، وإما في مصالح دنياه ومعاشه، وإما في الوساوس والأماني الباطلة والمقدرات المفروضة، وقد تقدم أن النفس مثلها كمثل الرحى تدور بما يلقى فيها، فإن ألقيت فيها حباً دارت به، وإن ألقيت فيها زجاجاً وحصى وبعراً دارت به، والله سبحانه هو قيم تلك الرحى ومالكها ومتصرفها, وقد أقام لها ملكاً يلقي فيها ما ينفعها فتدور به، وشيطاناً يلقي فيها ما يضرها فتدور به، فالملك يُلم بها مرةً والشيطان يلم بها مرةً، فالحب الذي يلقيه الملك إيعاد بالخير وتصديق بالوعد, والحب الذي يلقيه الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالوعد، والطحين على قدر الحب، وصاحب الحب المضر لا يتمكن من إلقائه إلا إذا وجد الرحى فارغة من الحب النافع...'' .
      وعن القضية نفسها ومن الزاوية التي أشرنا إليها يتحدث شيخه شَيْخ الإِسْلامِ، فيقول: ''كل من استكبر عن عبادة الله لابد أن يعبد غيره'' .
      وهذا أصل عظيم من أصول التصور السلفي يشرحه مرتبطاً بحقيقة النفس الإنسانية قائلاً: ''فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة, وقد ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {أصدق الأسماء حارث وهمام}.
      فالحارث الكاسب الفاعل، والهمام فعال، من الهم، والهم أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائماً, وكل إرادة فلابد لها من مراد تنتهي إليه، فلابد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته.
      فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عن ذلك فلابد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب؛ إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله, كالشمس والقمر والكواكب والأوثان وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أرباباً أو غير ذلك مما عبد من دون الله'' .
      وكما أن أحداً لا يخلو من كفر أو إيمان، فكذلك الحال في تفصيلات الإيمان وشعبه، فإن الله شرع للنفس من التعبد ما يستغرق كل حركاتها وإراداتها، فما لم تتعبد بشيء منها وقعت لا محالة في ضده من البدعة أو المعصية، وأقل ما تقع فيه ترك الأولى واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير والغفلة عن الذكر.
      '' وهكذا أهل البدع لا تجد أحداً ترك بعض السنة التي يجب التصديق بها والعمل إلا وقع في بدعة، ولا تجد صاحب بدعة إلا ترك شيئاً من السنة, كما جاء في الحديث: {ما ابتدع قوم بدعة إلا تركوا من السنة مثلها} رواه الإمام أحمد.
      وقد قال تعالى: ((فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ))[المائدة:14].
      فلما تركوا حظاً مما ذكروا به اعتاضوا بغيره فوقعت بينهم العداوة والبغضاء.
      وقال تعالى: ((فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى))[طه:123-124].
      وقال: (( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ))[الأعراف:3].
      فأمر باتباع ما أنزل ونهى عما يضاد ذلك وهو اتباع أولياء من دونه, فمن لم يتبع أحدها اتبع الآخر، ولهذا قال: ((وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ))[النساء:115].
      قال العلماء: من لم يكن متبعاً سبيلهم كان متبعاً غير سبيلهم. فاستدلوا بذلك على أن اتباع سبيلهم واجب، فليس لأحد أن يخرج عما أجمعوا عليه.
      وكذلك من لم يفعل المأمور فعل المحظور, ومن فعل المحظور لم يفعل جميع الأمور، فلا يمكن الإنسان أن يفعل جميع ما أمر به مع فعله لبعض ما حظر, ولا يمكنه ترك كل ما حظر مع تركه لبعض ما أمر، فإن ترك ما حظر عليه من جملة ما أمر به فهو مأمور ومن المحظور ترك المأمور، فكل ما شغله عن الواجب فهو محرم, وكل ما لا يمكن فعل الواجب إلا به فعليه فعله '' .
      وكالشرح لهذا الكلام يتحدث الإمام ابن القيم بأسلوبه الأدبي فيقول: '' قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات.
      فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبةً لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع. كما أن اللسان إذا اشتغل بالتكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النطق بالباطل.
      وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطاعة، لم يكن يشغلها بالطاعة إلا إذا فرغها من ضدها.
      وكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به , لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه إلا بتفريغه من تعلقه بغيره , ولا حركة اللسان بذكره والجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من ذكر غيره وخدمته، فإذا امتلأ القلب بالشغل بالمخلوق والعلوم التي لا تنفع , لم يبق فيها موضع للشغل بالله ومعرفة أسمائه وصفاته وأحكامه، وسر ذلك أن إصغاء القلب كإصغاء الأذن؛ فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته.
      فإذا نطق القلب بغير ذكره لم يبق فيه محل للنطق بذكره كاللسان.
      ولهذا في الحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً} فبين أن الجوف يمتلئ بالشعر، فكذلك يمتلئ بالشبه والشكوك والخيالات والتقديرات التي لا وجود لها والعلوم التي لا تنفع والمفاكهات والحكايات ونحوها.
      وإذا امتلأ القلب بذلك جاءته حقائق القرآن والعلم الذي به كماله وسعادته، فلم تجد فيه فراغاً ولا قبولاً، فتعدته وجاوزته إلى محل سواه....'' .
      وليس تعليل هذا مما يشكل، بل هو واضح لمن تأمله، وبه يظهر خطر البدع -التي هي وضع غير إلهي لطريق العبودية- أي: صرف للحرث والهمِّ عما شرعه الله إلى ما شرعه غيره.
      على أن الذي يهمنا هنا هو أن وقوع البدع الذي لم يخلُ منه دين قط هو في ذاته دليل على عدم انفكاك العبودية عن الإنسان؛ فإنه إن لم يتعبد متبعاً تعبد مبتدعاً.
      ومما يبين ذلك أن ''الشرائع هي غذاء القلوب وقوتها كما قال ابن مسعود رضي الله عنه ويروى مرفوعا: [[إن كل آدب يجب أن تؤتى مأدبته، وإن مأدبة الله هي القرآن]].
      ومن شأن الجسد إذا كان جائعاً فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر حتى لا يأكله -إن أكل منه- إلا بكراهة وتجشم، وربما ضره أكله أو لم ينتفع به، ولم يكن هو المغذي الذي يقيم بدنه.
      فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به بقدر ما اعتاض من غيره، بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع فإنه تعظم محبته له ومنفعته به ويتم دينه ويكمل إسلامه.
      ولهذا تجد مَنْ أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن حتى ربما يكرهه، ومن أكثر السفر إلى زيارة المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت المحرم في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن على قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام. ونظائر هذه كثيرة.
      ولهذا جاء في الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها} رواه الإمام أحمد.
      وهذا أمر يجده في نفسه من نظر في حاله من العلماء والعباد والأمراء والعامة وغيرهم.
      ولهذا عظَّمت الشريعة النكير على من أحدث البدع وحذرت منها؛ لأن البدع لو خرج الرجل منها كفافاً -لا عليه ولا له- لكان الأمر خفيفاً، بل لابد أن توجب له فساداً في قلبه ودينه ينشأ من نقص منفعة الشريعة في حقه؛ إذ القلب لا يتسع للعوض والمعوض عنه....'' .
      وعند مثل هذا الموضوع يلتقي مفهوم العبادة الشامل مع مفهوم زيادة الإيمان ونقصانه، وهما أصلان من أصول التصور السلفي المنسجم تماماً مع حقيقة النفس الإنسانية كما تقرر.
      ونستطيع الآن -مع وضوح هذه الحقائق- أن نضيف إلى القضية السابقة- وهي: كل إنسان مفكر , وكل مفكر عامل -عنصراً ثالثاً تكتمل به القضية وهو: وكل عامل عابد.
      لنخلص إلى المفهوم السلفي الواضح عن ارتباط الحقيقة البشرية المتمثلة في طبيعة النفس الإنسانية كما خلقها الله، بالحقيقة الشرعية المتمثلة في خضوع الإنسان بكل جوانبه النفسية والعملية لعبودية الله وحده.
      وكون كل عامل عابداً- أي: كل إنسان عابدٍ -مع بداهتها- ليست موضع تسليم من التصور الإرجائي الذي لا يخلو من جهل بالحق أو إعراض عنه...
      بل هي قضية غريبة، وأكثر ما تبدو غرابتها في عصرنا الحاضر- عصر الإلحاد والتمرد على الأديان بالجملة والتفلت من العبوديات كلها -كما يتوهمه أكثر أهله- فهناك دول كثيرة تنص دساتيرها بصراحة أنها دول لا دينية, وبعضها ألغى خانة الدين من البطاقة الشخصية لمواطنيها، وأكثر هؤلاء المواطنين- لا سيما في أوروبا وأمريكا فضلاً عن الدول الشيوعية- لو سألت أياً منهم ماذا تعبد؟ لأجابك بداهة أنه لا يعبد شيئاً لأنه إنسان لا ديني!
      هذا التيار العالمي الكبير أضاف إلى التصور الإرجائي الشائع أصلاً بين المسلمين قوةً وتعميماً حتى غدا وكأنما هو من المسلمات الواضحة.
      وهو التصور الذي يفترض أن الناس قسمان: عابد، وغير عابد.
      والأول: العابد, يشمل المنتمين إلى الأديان ولا سيما الإسلام.
      والآخر: يشمل الدول -أو الأفراد- اللادينية.
      ثم إن العابدين -حسب هذا التصور- ينقسمون قسمين:
      1- مؤمن بقلبه عامل بجوارحه.
      2- مؤمن بقلبه غير عامل بجوارحه.
      وهذا التقسيم منطقي مع حقيقة الإيمان -كما يتخيلونها- وهي أنه مادة جامدة معزولة في ضمير صاحبها لا تزيد ولا تنقص ولا تقتضي أثراً ولا تستدعي متعلقاً.
      فهذا الإيمان المتوهم مفقود عند كثير من الناس وهم الصنف غير العابد، وموجود عند الصنف العابد في الحالتين: حالة العمل، وحالة عدمه.
      واستكمالاً للحقيقة الكلية السابقة, ورداً على هذا الزعم الخطأ -أعني زعم وجود إنسان غير عابد- نلقي مزيداً من الضوء على حقيقة النفس الإنسانية من جهة الدوافع التي تحركها للعمل والتي لا تخلو منها نفس قط، وكيف أن لهذه الحركة بالضرورة غاية تسعى إليها، وأن الطريق إلى هذه الغاية لا يكون إلى على قنطرة أعمال القلوب من الخوف والرجاء والحب والكره ونحوها مما يجعله في محصلته النهائية والحقيقية عبادة مهما كابر بعض بني آدم فيها, فهم عابدون حقيقة وجوهراً وإن أنكروا العبودية لفظاً ومصطلحاً.
      ثم نبين -بإذن الله- علاقة العمل الخارجي بما في النفس من الدوافع والغايات مما يظهر به استحالة الشطر الثاني من الفرض الذهني الذي تخيله المرجئة؛ وهو وجود مؤمن غير عامل.
      إن قضية الدوافع -ولازمها الفطري وهو الضوابط- لتعود إلى خاصية أخرى من خصائص النفس البشرية -عدا ما سبق تقريره من خاصية: "الحركة الدائمة حرثاً وهماً"- وهذه الخاصية الأخرى هي: الافتقار الذاتي إلى تحصيل النافع والملائم ودفع الضار والمنافر. وبيان ذلك أن كل إنسان -بل كل كائن حي- إنما يصرف عمله وإرادته حرثه وهمه من أجل الحصول على ما يراه نافعاً لذيذاً، والابتعاد عما يراه ضاراً مؤلماً، وليس في تصرفات العقلاء ما يصح أن يخرج عن هذا , بل ليس في الكائنات ما يقصد إلى خلاف ذلك.
      فالنبات -مع دنو درجته في سلم الأحياء- يضرب بجذوره في الأرض متجهاً إلى الجهة التي فيها الماء، ويضرب بفروعه صاعداً إلى الزاوية التي يكون فيها الضوء.
      والحيوان السارح في الغابة يختار من الغذاء- بهداية الله عز وجل له- ما ينفعه ويلائمه ويتجنب ما يضره وينافره، نعم قد يخطئ فيقتات ما يضر , ولكنه لا يقصد بأكله مضرة نفسه، وإنما آثره للذةٍ وجدها فيه مع جهله بعاقبته.
      والإنسان الذي اختصه الله تعالى بالتكريم والتفضيل على سائر الأحياء في الأرض تظهر فيه هذه النزعة بما يتناسب مع خصائصه الفذة؛ فهو يبني الحضارات المتعاقبة ويتطور في ألوان الاستمتاع ومظاهر الانتفاع، كل ذلك والدافع لا يفتر والمحرك لا يتوقف والتشوق إلى المزيد لا يضعف. وهو حتى حين يرتكب أكثر الأفعال إيلاماً لنفسه -وهو أن يقتلها عامداً- إنما يبتغي بذلك راحتها وخلاصها بزعمه.
      والحاصل أن '' مقصود الحياة -عند الحيوان عامة- هو حصول ما ينتفع به الحيّ ويستلذ به، والحي لابد له من لذة أو ألم، فإذا لم تحصل له اللذة لم يحصل له مقصود الحياة'' .
      فالسعي لتحقيق اللذة والمنفعة هو وقود الكدح الإنساني على الأرض , ولما كان ذلك فطريا في كل نفس , لم يكن من شأن المنهج الرباني الذي نزل متسقاً مع الفطرة أن يقتلعه ويخمده، وإنما شأنه أن يوجهه ويقومه، فالطاقة المحركة لا يعيبها أنها طاقة وإنما العيب أن يساء استعمالها فتتخذ طاقة للشر والخسران .
      إذا تقرر هذا أمكن الوصول إلى النتيجة من خلال الإجابة عن سؤال لابد منه وهو: هل يستطيع الإنسان -مستقلاً منفرداً- معرفة النافع المستلذ وتمييزه عن الضار المكروه في الحال والعاقبة؟
      وإذا عرف شيئاً من ذلك، فهل يستطيع الحصول عليه ودفع العوارض الحائلة دونه بمجرد تشوفه إليه وإرادته الحصول عليه؟
      إن تركيب الإنسان النفسي والعضوي, وواقعه المشهود على مدار التاريخ, وطبيعة الحياة كما خلقها الله تعالى، والكبد الذي خُلق الإنسان فيه والكدح الذي لا ينفك عن بشر لتجيب جميعها بلا.
      فالإنسان مع حرصه الفطري العنيد ومع السعي الدائم والحركة اللاهثة المستمرة يشتمل في تركيبه الذاتي على موانع كثيرة تحول بينه وبين استقلاله بذلك، منها على سبيل التمثيل: الضعف, الجهل، الظلم، العجلة، النسيان.
      ((إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً))الأحزاب:72]
      ((وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً))[النساء:28]
      ((خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَل))[الأنبياء:37]
      ((وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ))[طه:115] والله تعالى هو وحده الذي يريد الشيء فيكون: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))[يس:82].
      أما الإنسان فالمسألة بين إرادته الشيء وتحققه له قد تكون من الطول بحيث تستنفد كل العمر، وتستهلك كل الكدح، وتبلغ به الغاية من الكبد، بل قد لا يتحقق له مراده أصلاً مهما كدح وكابد.
      وهذه المسافة هي معترك الخواطر والإرادات والانفعالات كما هي معترك العمل والنصب والجهد.
      فالبواعث لا تفتر والمطامع لا تقف عند حد, ومع ذلك فالعوارض الباغتة والحوائل المانعة كالسهام المشرعة, حتى إن حصول المراد ليس إلا بداية لمخاوف كثيرة من احتمال فواته أو فوات العمر قبل الاستمتاع به, فالكبد والهم لاستدامته لا يقل عنهما للحصول عليه.
      وهكذا يكون القلب البشري كجناح الطائر لا يكاد يقف حتى يرف، ويظل -العمر كله- ميداناً لمتعارضات تتعاوده ومتضادات تنتابه من خوف ورجاء, وحب، وكره, واستكبار وانكسار, وغفلة وتذكر, وشك ويقين, وفرح وترح.
      وهذه هي أعمال القلوب التي لا ينفك منها قلب بشري قط.
      ومنشأ عدم الانفكاك أن الافتقار الذاتي ملازم للوجود الإنساني شامل للحياة كلها؛ طولاً: من لحظة الميلاد -بل من قبله- إلى لحظة الممات , وعرضاً: مهما اتسعت الإرادات والمطامع والأعمال.
      ولما كانت أعمال القلوب هي الأصل في حركة الإنسان وسعيه، كانت هي موضع التعبد الأصلي , ومحط نظر المعبود من العباد: {التقوى هاهنا وأشار إلى صدره ثلاث مرات}.
      { إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}.
      فإذا تذكرنا ما سبق تقريره من أن الله عز وجل -بلطفه وحكمته- أنزل الدين متسقاً مع حقيقة النفس الإنسانية مساوياً لفطرتها السوية علمنا أنه لا شيء من أعمال القلوب يقع خارج مجال التعبد بحال من الأحوال.
      ومن ثم انقسم الناس من حيث الأصل فريقين:
      1- مؤمن يعبد الله وحده .
      2- مشرك يعبد غير الله معه أو من دونه.
      وهذا -كذلك- هو السر في كون الإيمان درجات متفاوتة في قلوب الفريق الأول.
      وهذا الإجمال يتضح بالفقرة التالية التي نريد بها العبور من الحقيقة النفسية إلى الحقيقة الشرعية.
      إن ما سبق تقريره بشأن الافتقار الذاتي وتفرع أعمال القلوب عنه , هو وصف للحقيقة الإنسانية من حيث هي -مؤمنة أو كافرة- ولهذا نجده قدراً مشتركاً بين فريقي البشر يحسه كل إنساني في نفسه سواء أعرب عنه لسانه أم عجز.
      ولكن نقطة الالتقاء الواحدة هذه يتفرع عنها طريقان مختلفان تمام الاختلاف، طريق الإيمان وطريق الكفر!
      وهذا مثله كمثل عربتين تزودتا بوقود واحد وقادهما قائدان متماثلان في الخبرة والدراية، ولكن إحداهما انطلقت ذات اليمين والأخرى ذات الشمال.
      ومن أبرز مظاهر الاختلاف بين المؤمن والكافر بالنظر إلى أن كلاً منهما حارث وهمام كادح ومكابد مفتقر إلى غيره:
      1- اختلاف غاية كل منهما ومراده ومحبوبه.
      2- اختلاف الأسباب والوسائط التي يتعلق بها القلب لتحقيق غاياته ومراداته.
      3- الاختلاف في الإقرار بحقيقة الافتقار بين حال وحال.
      وكل هذا جاء تفصيله في القرآن والسنة على أكمل الوجوه , وقد جمعتها سورة الفاتحة من كل أطرافها واستوعبت كل معانيها.
      فلنشرح ذلك تفصيلاً.
    2. الإرادات والغايات

      الإرادات والغايات
      فأما اختلاف الإرادات والغايات:
      فإن مراد المؤمن الأعلى ومحبوبه بالقصد الأول هو الله تعالى، وأما الكافر فمراده وغايته ومحبوبه بالقصد الأول هو ما يتخذه من ند معبود وهوىً مألوه.
      فهذا يريد الله والدار الآخرة همًّا وحرثاً، وذاك يريد حظ النفس ومتاع العاجلة.
      وهذا كاف في تفسير التناقض الواضح بين واقع كل منهما في هذه الأرض أمماً وأفراداً، حتى مع اشتراكهما في بعض مظاهر السعي الصورية.
      يقول الله تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ))[البقرة:165].
      ويقول جل ذكره: ((وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً))[الكهف:28].
      ويقول على لسان إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام في إنكاره لقومه: ((أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ))[الصافات:86].
      ويقول: ((فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ))[النجم:29-30].
      ويقول: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً))[الإسراء:18-19].
      والآيات في ذلك كثيرة معروفة.
      كما أن من أعظم أخطاء الأمم الشركية أنها جعلت الوسائط والأسباب المخلوقة غايات ومرادات معبودة -وهذا الذي كثر الحديث عنه في القرآن- سواء اعتقدوا أن هذا السبب يوصل إلى الله تعالى تقرباً وتألها أو يوصل إلى شيء من الرزق والفضل الذي هو بيد الله وحده.
      ولهذا قالوا: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى))[الزمر:3].
      وقالوا: ((هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ))[يونس:18].
      وأبطل الله عز وجل -في مواضع كثيرة من كتابه- الشرك كله، سواء أكان في الغاية أو الواسطة، فحقيقة الشرك -على اختلاف صوره ومظاهره- هي الوقوف بالإرادات عند غاية دون الله عز وجل، أو الانقطاع إلى أسباب من خلق الله عز وجل وصنعه.
      وبيّن أن ذلك من المشركين تخبط في الوهم وتعلق بالسراب.
      ((مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ))[يوسف:40].
      ((إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ))[العنكبوت:42].
      ((وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ))[يونس:66].
      وهذه قضية من أوضح قضايا التصور السلفي وأجلاها، وأصلها أن الناس لو عقلوا عن الله -عز وجل- كلامه وقاموا لله مثنى وفرادى، ثم تفكروا، لوجدوا أنه ما من شيء يتوهمونه مراداً وغاية لذاته، أو سبباً في حصول المرادات وتحقق الغايات، إلا هو مستلزم لسبب آخر وراءه، وما تزال الغايات والأسباب تتسلسل حتى تنتهي إلى الغاية التي ليس وراءها مطلب، والمصدر الذي ليس وراءه سبب وهو الله تعالى.
      وهذا من كنوز التوحيد ودقائقه التي كان يقين السلف الصالح بها يفوق المزاعم النظرية المثالية عند المتصوفة ويبطل التصورات الوهمية الساذجة التي ابتدعها المرجئة، ولهذا ملكوا نواصي الأمم واستذلوا مناكب الأرض جهاداً في سبيل الله.
      يقول ابن القيم رحمه الله:
      ''قول الله تعالى: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ))[الحجر:21] متضمن لكنز من الكنوز، وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيده، وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه.
      وقوله: ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى))[النجم:42] متضمن لكنز عظيم وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع، فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها، فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه، فهو غاية كل مطلوب، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)) فليس وراء الله سبحانه غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى.
      وتحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ولا يسكن إلا بالوصول إليه، وكل ما سواه مما يحب ويراد فمراد لغيره، وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى، ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين، كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين، فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإراداته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك، وزال عنه وفارقه أحوج ما كان إليه، ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه، ظفر بنعيمه ولذته وبهجته وسعادته أبد الآباد'' .
      ''ولا يزال العبد منقطعاً عن الله حتى تتصل إراداته ومحبته بوجهه الأعلى، والمراد بهذا الاتصال أن تفضي المحبة إليه وتتعلق به وحده، فلا يحجبها شيء دونه، وأن تتصل المعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله، فلا يطمس نورها ظلمة التعطيل، كما لا يطمس نور المحبة ظلمة الشرك، وأن يتصل ذكره به سبحانه، فيزول بين الذاكر والمذكور حجاب الغفلة، والتفاته في حال الذكر إلى غير مذكوره، فحينئذٍ يتصل الذكر به ويتصل العمل بأوامره ونواهيه، فيفعل الطاعة لأنه أمر بها وأحبها، ويترك المناهي لكونه نهى عنها وأبغضها.
      فهذا معنى اتصال العمل بأمره ونهيه، وحقيقته: زوال العلل الباعثة على الفعل والترك من الأغراض والحظوظ العاجلة.
      و يتصل التوكل والحب بحيث يصير واثقاً به -سبحانه- مطمئناً إليه راضياً بحسن تدبيره له غير متهم له في حال من الأحوال، ويتصل فقره وفاقته به سبحانه دون من سواه.
      ويتصل خوفه ورجاؤه وفرحه وسروره وابتهاجه به وحده، فلا يخاف غيره ولا يرجوه، ولا يفرح به كل الفرح، ولا يسر به غاية السرور، وإن ناله بالمخلوق بعض الفرح والسرور، فليس الفرح التام والسرور الكامل والابتهاج والنعيم وقرة العين وسكون القلب إلا به سبحانه، وما سواه إن أعان على هذا المطلوب فرح به وسر به، وإن حجب عنه فهو بالحزن به والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله أحق منه بأن يفرح به، فلا فرحة ولا سرور إلا به أو بما أوصل إليه وأعان على مرضاته.
      وقد أخبر سبحانه أنه لا يحب الفرحين بالدنيا وزينتها، وأمر بالفرح بفضله ورحمته، وهو الإسلام والإيمان والقرآن كما فسره الصحابة والتابعون.
      والمقصود أن من اتصلت له هذه الأمور بالله سبحانه فقد وصل، وإلا فهو مقطوع عن ربه متصل بحظه ونفسه وملبّس عليه في معرفته وإراداته وسلوكه''
      إن الكافر العصري -الأوروبي خاصة- بظلمه وجهله ونسيانه يغفل عن أعظم غاية يفتقر إليها قلبه، وهي الإيمان بالله عز وجل، وينسى أن جوعة الإيمان لا يسد رمقها أي نوع من ملاذِّ الدنيا ومتاعها الزائل وغاياتها الدنيئة، وهو إذ يحس ذلك من نفسه، ويرى أنها غير مستسلمة لله ولا منقادة لأمره، لا يرضى أن ينسب للعبودية، بل ينكر أن يكون يعبد شيئاً بإطلاق.
      وهو بهذا يفتقد الصراحة التي كان كفار الماضي يتمسكون بها مع أنفسهم، فقد كانوا مقرين بالعبودية لمعبوداتهم، حتى إنهم ليسمون أنفسهم: عبد اللات، وعبد العزى، وعبد يغوث، ونحوها مما هو كثير في أسمائهم، وهو ما تزال تعترف به عوام الأمم الوثنية المعاصرة في آسيا وإفريقيا وغيرها، فمع اشتراك الفريقين في الضلال والعذاب الشديد بالعبودية لغير الله يزيد الكافر العصري عناداً وجحوداً بمكابرته في إنكار ما هو عليه من الرق لغير الله.
      ولعل مرجع ذلك إلى أن الإنسان المعاصر قد صدق المزاعم الهدامة التي بثها دعاة الضلالة من الخارجين عن الكنيسة النصرانية الوثنية أمثال جوليان هكسلي وسارتر ونحوهما، تلك المزاعم التي تدعي أن الإنسان اختلق فكرة الألوهية لما كان محتاجاً إليها، أما الآن فقد أصبح هو نفسه الإله, تعالى الله عما يفترون علواً كبيراً.
      وبغض النظر عن الغرض الهدام وراء هذه الأفكار، فإن مؤدى التبرير العقلي لها هو: أن الإنسان الحديث بما حصل عليه من المعرفة -التي لا تتجاوز نسبة ضئيلة من أسرار خلق الله- قد أصبح شيئاً آخر وخلقاً جديداً غير الإنسان القديم الذي كان من خصائصه الحاجة إلى الإيمان.
      وكأنما يريدون أن يقولوا: إن الطبيعة البشرية أو الفطرة الإنسانية لم تعد على الحال الذي كانت عليه في الماضي، بل تحولت إلى شيء آخر، وهذا من أعظم أنواع المكابرات، وهذه المزاعم أثر من آثار لوثة [التطور السائب] الذي آمن به الفكر الأوروبي أثناء ثورته الجامحة على طغيان الكنيسة وجمودها.
      والتصور السلفي يرد على هذه الفكرة منذ القدم مبيناً أن الافتقار ذاتي في كل إنسان ما ظل يطلق عليه اسم [إنسان] وما ظل حياً حساساً حارثاً هماماً، وأن الاستكبار عن عبادة الله كالإقرار بالعبودية لغير الله سواء بسواء.
      و هذه حقيقة قائمة لا يضيرها من تملص منها أو كابر فيها، فما مثله إلا كمثل رجل كليلٍ كسيحٍ تظهر عليه كل آثار المرض والفقر والعجز، ومع ذلك يصر بلسانه على أنه أغنى الناس وأصحهم وأقدرهم، ومن أراد الوصول إلى الحقيقة فليضم ما كتبه أدباء أوروبا ومفكروها عن شقاء الإنسان الحديث وضياعه وتمزقه وذعره, إلى قول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية:
      '' القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل وهي العلة الفاعلة '' .
      ولو حصل له كل ما يلتذُّ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذِّة والنعمة والسكون والطمأنينة.
      و هذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))
      فإنه لو أعين على حصول كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم يحصل له عبادة الله، فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب لله، بحيث يكون الله هو غاية مراده ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله لا يحب شيئاً لذاته إلا الله.
      ومتى لم يحصل له هذا، لم يكن قد حقق حقيقة [لا إله إلا الله] ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة لله، وكان فيه من نقص التوحيد والإيمان بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك.
      ولو سعى في هذا المطلوب، ولم يكن مستعيناً بالله متوكلاً عليه مفتقراً إليه في حصوله لم يحصل له، فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فهو مفتقر إلى الله من حيث هو المطلوب والمحبوب والمراد المعبود, ومن حيث هو المسئول المستعان به المتوكل عليه.
      فهو إلهه الذي لا إله له غيره وهو ربه الذي لا رب له سواه.
      ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين، فمتى كان يحب غير الله لذاته أو يلتفت إلى غير الله أنه يعينه، كان عبداً لما أحبه وعبداً لما رجاه بحسب حبه له ورجائه إياه، وإذا لم يحب أحداً لذاته إلا الله، وأي شيء أحبه سواه فإنما أحبه سواه له، ولم يرج قط شيئاً إلا الله، وإذا فعل ما فعل من الأسباب أو حصل ما حصل منها كان مشاهداً أن الله هو الذي خلقها وقدَّرها وسخرها له، وأن كل ما في السماوات والأرض فالله ربه ومليكه وخالقه ومسخره وهو مفتقر إليه, كان قد حصل له من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك.
      فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم وأقربهم إلى الله وأقواهم وأهداهم أتمهم عبوديةً لله من هذا الوجه، وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه، وهو أن يستسلم لله لا لغيره، فالمستسلم له ولغيره مشرك، والممتنع عن الاسستلام له مستكبر .
      ''وكل من استكبر عن عبادة الله لا بد أن يعبد غيره فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة''
      ثم قال بعد هذا الكلام المنقول سابقاً: '' بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله كان أعظم إشراكاً بالله، لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقراً وحاجةً إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود: مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركاً بما استعبده من ذلك.
      ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه، ولا يستعين إلا به، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه، ولا يوالي إلا من والاه الله، ولا يعادي إلا من عاداه الله، ولا يحب إلا لله، ولا يبغض شيئاً إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، فكلما قوي إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات، وبكمال عبوديته لله تكمل تبرئته من الكبر والشرك '' .
      وبعد أن تحدث عن الإسلام الاختياري تحدث عن الإسلام الإجباري، حيث تكون حقيقة الافتقار التي لا مراء فيها لأحد: '' وقال تعالى: ((أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً))[آل عمران:83]
      فذكر إسلام الكائنات طوعاً وكرهاً، لأن المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام، سواء أقر بذلك أو أنكره، وهم مدينون له مدبَّرون، فهم مسلمون له طوعاً وكرهاً، ليس لأحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره وقضاه، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو رب العالمين ومليكهم يصرفهم كيف يشاء، وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم، وكل ما سواه فهو مربوب مصنوع مفطور فقير محتاج مقهور، وهو سبحانه الواحد القهار الخالق البارئ المصور.
      وهو وإن كان قد خلق ما خلقه بأسباب فهو خالق السبب والمقدر له، وهو مفتقر إليه كافتقار هذا، وليس في المخلوقات سبب مستقل بفعل خير ولا دفع ضر، بل كل ما هو سبب فهو محتاج إلى سبب آخر يعاونه وإلى ما يدفع عنه الضد الذي يعارضه ويمانعه.
      وهو سبحانه وحده الغني عن كل ما سواه، ليس له شريك يعاونه ولا ضد يناوئه ويعارضه '' .
      إن كثيراً من المسلمين -ولله الحمد- يدركون حقيقة إسلام الكون القهري لله تعالى، فلا يتطرق إليهم الشك في أن الكفار في أوروبا وأمريكا مربوبون لله تعالى من حيث هو خالقهم ورازقهم ومدبر أمورهم.
      ولكنهم -مع ذلك- لا يدركون الجانب الآخر من الحقيقة، وهو أن هؤلاء الكفار عبيد أرقاء مغرقون في العبودية والرق لغير الله.
      ولا غرابة في خفاء ذلك على أكثر المسلمين، لأنهم -هم- واقعون في شرك الإرادة وهم لا يشعرون.
      حتى البلاد التي عافاها الله فتخلصت من شرك التقرب والتنسك لغير الله غزاها الشيطان بشرك الإرادة الخفي، وفتنها ما فتح الله عليها من كنوز الأرض، فانكب أهلها على الدنيا انكباب الغافلين، وعبدوا الدراهم والدينار -بل التراب والعقار- وتحولت العقيدة الصحيحة إلى نظرية ذهنية موروثة، وحتى شكلها النظري لم يبق منه لدى العامة إلا معانٍ شاحبةٍ إلا من سلَّم الله وحفظ.
      هذا والواجب والأصل أن تكون هذه الحقيقة النفسية واضحة وضوح تلك الحقيقة الكونية.
      ورحم الله الشيخ محمد بن عبد الوهاب فقد عقد باباً خاصاً في كتابه المبارك كتاب التوحيد بعنوان:
      '' باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا. أورد فيه قوله تعالى: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ))[هود:15]
      والحديث الصحيح: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط...} الحديث''
      ومراده أوسع وأعمق مما ذكره حفيده العلامة سليمان بن عبد الله في قوله: ''إن المراد بهذا الباب أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً يريد به الدنيا، كالذي يجاهد للقطيفة والخميلة ونحو ذلك ''
      فهذا وإن كان داخلاً في المراد، لكن تقييده به تضييق لمغزى واسع أحسب أن الشيخ المؤلف أراد إيضاحه، وهو أن أكثر الناس -المسلمين وغيرهم- جعلوا همهم وحرثهم وكدحهم وكبدهم للدنيا وحدها، فلا تتحرك قلوبهم ولا تنفعل إلا لها وبها، حتى أنهم لو دعوا الله وعبدوه، فإنما يريدون بذلك زيادة الخير والبركة في الصحة والرزق، وهذا باب أوسع من باب فساد النية مع عمل صالح يفعله العبد المؤمن، فهذا الباب -الأخير- يصيب الصالحين ويعرض للمخلصين.
      كما أن ظاهر الحديث لا يؤيد كلامه -رحمه الله- فالمقصود من الحديث هو عبودية القلب وإرادته غير الله، وليس مجرد فساد النية مع عمل صالح، ألا ترى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربط بين العبودية للدنيا وعمل القلب بقوله: {إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط} وهو مطابق لمنطوق ما ذكر الله عن المنافقين في قوله: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ))[التوبة:58] وهي ضمن سياق كله في النفاق الأكبر.
      فعبودية القلب للدنيا التي لحظها شَيْخ الإِسْلامِ -المؤلف- هي ذلك الداء العضال الذي ابتليت به الأمة الإسلامية، فنزع الله مهابتها من قلوب أعدائها، وقذف في قلوبها الوهن حب الدنيا وكراهية الموت، فأصبح حرثها وهمها للدنيا وحدها .
      وهذه بلوى أوسع وأخطر من الجهاد من أجل القطيفة والخميلة الذي قد لا يزيد عن كونه ذنباً عارضاً يتاب منه، وليس المرض العارض كالعاهة المزمنة، والرجل قد يعمل أو يجاهد لأجل القطيفة والخميلة حتى إذا ملكها كانت في يده ولم تكن في قلبه، بخلاف الذي استعبد حبها قلبه وملك عليه لبه، فهذا الحقيق بأن يسميه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبداً لها، وينطبق عليه قوله تعالى: ((فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى))[النجم:29-30]
      وإرادة القلب للدنيا إفساد لعمل القلب من اليقين والتوكل والرضا ونحوها, بخلاف صرف شيء من العمل للدنيا، ففيه إفساد لعمل الجارحة من جهاد وصدقة يريد بها نماء ماله ونحوها, ومع تلازمهما فالأول أعظم من الأخير .
      ومما يوضح ذلك أن الرياء إنما كان شركاً أصغر لطروء الفساد على عمل القلب، بخلاف سائر المعاصي التي يكون الفساد فيها مقتصراً على عمل الجوارح، فلم يطلق عليها الشارع لفظ الشرك مثله.
      وإرادة غير الله بالهم والحرث بحيث تنصرف أعمال القلوب لمراد غيره يستهلكها أو أكثرها أمكن في باب الشرك من مجرد الرياء بطاعة من الطاعات أو طلب الدنيا بها، لكن ها هنا مجال التفاوت، فمن صرف إرادته لغير الله بالكلية كان عبداً خالصاً لغير الله، ومن جرد إرادته لله وحده بلغ الذروة من الإيمان، وبين ذلك درجات كثيرة وحالات مختلفة.
      والحالة التي نريد علاجها هنا هي عبودية القلب لغير الله دون أن يشعر، لأن غفلة الناس عنها وراء وقوعهم في الوهم الأكبر: ''وهو أنهم محققون للإيمان مع كونهم غير عابدين لغير لله ''.
      و الحال أنهم بضد ذلك حتى لو سلموا من الشرك الجليّ، وما أقل السالمين منه!
      يقول شَيْخ الإِسْلامِ: '' كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته، ومن توهم أن المخلوق يخرج من العبودية بوجه من الوجوه أو أن الخروج عنها أكمل، فهو من أجهل الخلق بل من أضلهم''
      ثم ذكر النصوص في ذلك، وقال: '' إذا تبين ذلك فمعلوم أن الناس يتفاضلون في هذا الباب تفاضلاً عظيماً وهو تفاضلهم في حقيقة الإيمان، وهم ينقسمون فيه إلى عام وخاص، ولهذا كانت إلهية الرب لهم فيها عموم وخصوص.
      و لهذا كان الشرك في هذا الأمة أخفى من دبيب النمل.
      وفي الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، إن أعطي رضي وإن منع سخط}.
      فسماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد القطيفة وعبد الخميصة وذكر ما فيه دعاء وخبراً، وهو قوله: { تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش }.
      والنقش: إخراج الشوكة من الرجل، والمنقاش: ما يخرج به الشوكة، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولا خلص من المكروه، وهذا حال من عبد المال.
      وقد وصف ذلك بأنه إذا أعطي رضي، وإذا منع سخط كما قال تعالى:
      ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ))[التوبة:58].
      فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله .
      وهكذا حال من كان متعلقاً برئاسة أو بصورة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة: هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فالقلب عبده
      و هذا أمر يجده الإنسان من نفسه، فإن الأمر الذي ييئس منه لا يطلبه ولا يطمع فيه ولا يبقى قلبه فقيراً إليه ولا إلى من يفعله، وأما إذا طمع في أمر من الأمور ورجاه، فإن قلبه يتعلق به، فيصير فقيراً إلى حصوله، وإلى من يظن أنه سبب في حصوله، وهذا في الحال والجاه والصور وغير ذلك.
      قال الخليل: (( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ))[العنكبوت:17]
      فالعبد لا بد له من رزق وهو يحتاج إلى ذلك، فإذا طلب رزقه من الله صار عبداً لله فقيراً إليه، وإذا طلبه من مخلوق صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً إليه. ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة، وفي النهي عنها أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن والمسانيد '' .
      وبعد أن نقل طائفة من الأحاديث في ذلك قال: '' والإنسان لا بد له من حصول ما يحتاج إليه من الرزق ونحوه ودفع ما يضره، وكلا الأمرين شرع له أن يكون دعاؤه لله، فلا يسأل رزقه إلا من الله ولا يشتكي إلا إليه- كما قال يعقوب عليه السلام: ((إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ...))[يوسف:86]
      وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه، كما قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره، وأفضل على من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
      فكذلك طمع العبد في ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله، لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق، بحيث يكون قلبه معتمداً إما على رئاسته وجنوده وأتباعه ومماليكه، وإما على أهله وأصدقائه، وإما على أمواله وذخائره، وإما على ساداته وكبرائه، كمالكه وملكه وشيخه ومخدومه وغيرهم ممن هو قد مات أو يموت، قال تعالى: ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً))[الفرقان:58].
      وكل من علق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مديراً لأمورهم متصرفاً بهم.
      فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة -ولو كانت مباحة له- يبقى أسيراً لها، تتحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها أو مالكها، ولكنه في الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، لا سيما إذا علمت بفقره إليها وعشقه لها، وأنه لا يعتاض عنها بغيرها، فإنها حينئذ تتحكم فيه تحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه، بل أعظم، فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استعبد بدنه واسترق وأسر لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص.
      وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقاً مستعبداً متيّماً لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية الذليلة لما استعبد القلب، وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، فإن المسلم لو أسره كافر أو استرقه فاجر بغير حق، لم يضره ذلك إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استعبد بحق إذا أدى حق الله وحق مواليه فله أجران، ولو أكره على التكلم بالكفر، فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان، لم يضره ذلك.
      وأما من استعبد قلبه فصار عبداً لغير الله، فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس.
      فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
      { ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس } وهذا لعمر الله إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة -امرأة أو صبي- فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب.
      وهؤلاء عشاق الصور من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبداً لها، اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد.
      وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الأرض قلبه رقيق لمن يعينه عليها، ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم، فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم، فيبذل لهم الأموال والولايات، ويعفو عما يجترحونه ليطيعوه ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع، وفي الحقيقة عبد مطيع لهم.
      و التحقيق أن كلاهما فيه عبودية للآخر، وكلاهما تارك لحقيقة عبادة الله، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه مستعبد للآخر.
      و هكذا أيضاً طالب المال، فإن ذلك المال يستعبده ويسترقه ''.
      ثم يقول رحمه الله: '' وهذه الأمور نوعان:
      1- منها ما يحتاج العبد إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده -يستعمله في حاجته- بمنزلة حماره الذي يركبه وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيها حاجته من غير أن يستعبده، فيكون هلوعاً، إذا مسه الشر جزوعاً، وإذا مسه الخير منوعاً.
      2- ومنها ما لا يحتاج العبد إليه، فهذا لا ينبغي له أن يعلق قلبه به، إذا علق قلبه به صار مستعبداً له، وربما صار معتمداً على غير الله فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله، وهذا من أحق الناس بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة}. وهذا هو عبد هذه الأمور فإنه لو طلبها من الله، فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإذا منعه إياها سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله، ويبغض ما أبغضه الله ورسوله، ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله تعالى، وهذا هو الذي استكمل الإيمان كما في الحديث: {من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان} وقال: { أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله} ''
      وشرح الإمام ابن القيم رحمه الله في مواضع متفرقة كيف أن أعظم أصول المعاصي كلها هو تعلق القلب بغير الله، وأن سبب انحراف الناس عن الإيمان انحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الإرادة.
      ويقول: ''إذا أصبح العبد وأمسى، وليس همه إلا الله وحده، تحمل الله سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها، ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم.
      فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره، كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره، فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته، قال تعالى: ((وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ))[الزخرف:36]
      ويقول: "الإنابة هي عكوف القلب على الله -عز وجل- كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله.
      ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوعة، كما قال إمام الحنفاء لقومه: ((مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ))[الأنبياء:52] فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف، فكان حظ قومه العكوف على التماثيل وكان حظه العكوف على الرب الجليل.
      والتماثيل جمع تمثال وهي الصور الممثلة، فتعلق القلب بغير الله واشتغاله به والركون إليه عكوف منه على التماثيل، التي قامت بقلبه، وهو نظير العكوف على تماثيل الأصنام.
      ولهذا كان شرك عبّاد الأصنام بالعكوف بقلوبهم وهممهم وإرادتهم على تماثيلهم، فإذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفاً عليها، فهو نظير عكوف [عباد] الأصنام عليها، ولهذا سماه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبداً لها ودعا عليه بالتعس والنكس، فقال: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش}" .
      ويقول: ''ومن هنا يتبين انحراف أكثر الناس عن الإيمان لانحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الإرادة.
      ولا يتم الإيمان إلا بتلقي المعرفة من مشكاة النبوة وتجريد الإرادة عن شوائب الهوى وإرادة الخلق، فيكون علمه مقتبساً من مشكاة الوحي وإرادته لله والدار الآخرة '' .
    3. الأدلة على صحة هذا المنهج في الواقع

      إن صحة الإرادة -حسب المنهج السلفي- هي النقطة التي لا يمكن تجاوزها في السير على طريق الإيمان، بل هي مما يجب استصحابه حتى موافاة اليقين، وبهذا يتم جمع شتات أعمال القلوب والجوارح لتتجه كلها نحو الغاية التي ليس وراءها غاية.
      وإن من أعظم الأدلة على صحة المنهج السلفي وحده أنك تراه كالنسيج المحكم والحلقة المتماسكة، فكل عنصر من عناصره وقضية من قضاياه تؤدي إلى هذه الحقائق البدهية الواضحة وترتبط بها بأقوى الروابط.
      فإن تحدثوا عن جانب العقيدة والمعرفة فمحور حديثهم هو ما سبق، وإن تحدثوا عن التزكية والمراقبة آل بهم الحديث إلى هذا الموضوع نفسه.. ولنتخذ على هذا مثالين:
      المثال الأول: في التزكية والمراقبة من جهة اندراج كل عمل الجوارح والحياة بامتدادها الطولي والعرضي في نطاق العبودية الشامل:
      وذلك أن مما يؤمن به من سار على منهج السلف الصالح '' أنه لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر، وله عليه نهي، وله فيه نعمة، وله به منفعة ولذة، فإن قام لله في ذلك العضو بأمره واجتنب فيه نهيه فقد أدّى شكر نعمته عليه فيه وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به، وإن عطّل أمر الله ونهيه فيه عطله الله من الانتفاع بذلك العضو، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته '' .
      هذه واحدة.
      والأخرى '' أن لله عليه في كل وقت من أوقاته عبودية تقدمه إليه وتقربه منه، فإن شغل وقته بعبودية الوقت تقدم إلى ربه، وإن شغله بهوى أو راحة أو بطالة تأخر.
      فالعبد لا يزال في تقدم أو تأخر ولا وقوف في الطريق ألبتة، قال تعالى: ((لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ))[المدثر:37] '' .
      '' فإذا عرف العبد أن الحياة ما هي إلا أنفاس تتلاحق ودقائق تتسابق، وأنه لو أحصى حظه منها لوجده ينقص كثيراً عن عمر بعض الطيور والزواحف والأشجار، فضلاً عن أعمار الكواكب والنجوم، فضلاً عن عمر الكون كله فضلاً عن مدى عالمي الغيب والشهادة مجتمعين...
      وعلم مع هذا أنه مخلوق لحكمة واضحة وغاية محددة هي عبادة ربه سبحانه وحده لا شريك له، فلا بد أن يحرص أشد الحرص على حفظ الوقت وإشغاله بالعبودية، وإعمال البدن في الطاعة، وإلا اعتراه النقص في إيمانه بقدر ما يعتريه من نقص في ذلك.
      وهذا ليس نقصاً فحسب، بل هو تأخر وانقطاع، لأنه إن لم يكن في تقدم فهو في تأخر ولا بد، فالعبد سائر لا واقف، فإما إلى فوق وإما إلى أسفل، وإما إلى أمام وإما إلى وراء، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف ألبتة، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي إلى الجنة أو إلى النار، فمسرع ومبطئ ومتقدم ومتأخر وليس في الطريق واقف البتة، وإنما يتخالفون في جهة المسير وفي السرعة والبطء: ((إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ))[المدثر:35-37] ولم يذكر واقفاً، إذ لا منزل بين الجنة والنار ولا طريق لسالك إلى غير الدارين ألبتة، فمن لم يتقدم إلى هذه بالأعمال الصالحة فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة '' .
      وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه الإمام أحمد بسند صحيح: {ما جلس قوم مجلساً فلم يذكروا الله فيه إلا كان عليهم ترة ، وما من رجل مشى طريقاً فلم يذكر الله عز وجل إلا كان عليه ترة، وما من رجل آوى إلى فراشه فلم يذكر الله إلا كان عليه ترة}.
      وهؤلاء أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحققون المثل الأعلى في حفظ الوقت بل في إحيائه وتزكيته -تصحيحاً للإرادة وتوحيداً للهمة- فكان كله طاعة وكله رفعاً للدرجة، دع عنك ما أمضوه من أعمارهم في الدعوة والجهاد والذكر والصيام والتلاوة، ولكن انظر إلى الجانب الآخر الذي أهمل المتأخرون شأنه تبعاً لانحسار مفهوم العبادة عن بعض أعمال القلوب والجوارح -أعني الجانب الذي يدخل في حظ النفس الجبلي- فهذا معاذ رضي الله عنه يقول: [[أما أنا فأنام وأقوم، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي ]] .
      وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: [[يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف يغبنون به قيام الحمقى وصومهم]]
      قال ابن القيم رحمه الله تعليقاً على هذا: ''وهذا من جواهر الكلام وأدله على كمال فقه الصحابة وتقدمهم على من بعدهم في كل خير رضي الله عنهم
      فاعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب لا تقوى الجوارح، قال تعالى: ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ))[الحج:32]
      وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {التقوى هاهنا وأشار إلى صدره}.
      فالكيّس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل، أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير والسفر الشاق، فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة وتطيب السير، والتقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله... '' أهـ.
      وهذا مما يفسر لنا كيف أن الصحابة رضي الله عنهم أعظم الناس إيماناً ويقيناً مع أن فيمن جاء بعدهم من هو أكثر عبادةً وسهراً ومرابطةً من كثير منهم، بل ربما كان في الصحابة من هو أكثر قياماً وصياماً من الصديق الذي لو وزن إيمانه بإيمان أهل الأرض لرجح بهم.
      وحسب الصحابة من علو الهمة أن الأنصار لما بايعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة فاشترط واشترطوا، قالوا: {فما لنا يا رسول الله! قال: الجنة، قالوا: ذلك لك} .
      فانظر إلى هذه الهمة العالية والقوم في أول الطريق، وقارنها بهمة الأحلاس الجفاة من زعماء القبائل الأخرى الذين اشترطوا أن يكون لهم الأمر من بعده.
      المثال الثاني: في المعرفة والإرادة من جهة صفاء التوحيد وشفافيته المستوجب تنبه العبد وحذره الدائم، وما أكثر من هلك في أودية الغفلة والاغترار:
      '' فإن التوحيد ألطف شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه، فأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه، فهو كأبيض ثوب يكون فيه أدنى أثر، وكالمرآة الصافية جداً أدنى شيء يؤثر فيها، ولهذا تشوشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية، فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده وإلا استحكم وصار طبعاً يتعسر عليه قلعه.
      وهذه الآثار والطبوع التي تحصل فيه، منها ما يكون سريع الحصول سريع الزوال، ومنها ما يكون سريع الحصول بطيء الزوال، ومنها ما يكون بطيء الحصول سريع الزوال، ومنها ما يكون بطيء الحصول بطيء الزوال.
      ولكن من الناس من يكون توحيده كبيراً عظيماً ينغمر فيه كثير من تلك الآثار ويستحيل فيه، بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ، فيغتر به صاحب التوحيد الذي هو دونه فيخلط توحيده الضعيف بما خلط به صاحب التوحيد العظيم الكثير توحيده فيظهر تأثيره فيه ما لم يظهر في التوحيد الكثير.
      وأيضاً فإن المحل الصافي جداً يظهر لصاحبه ما يدنسه في المحل الذي لم يبلغ في الصفاء مبلغه، فيتداركه بالإزالة دون هذا فإنه لا يشعر به.
      وأيضاً فإن قوة الإيمان والتوحيد إذا كانت قوية جداً أحالت المواد الرديئة وقهرتها بخلاف القوة الضعيفة.
      وأيضاً فإن صاحب المحاسن الكثيرة والغامرة للسيئات ليسامح بما لا يسامح به من أتى مثل تلك السيئات وليس له تلك الحسنات، كما قيل:
      وإذا الحبيب أتى بذنب واحد            جاءت محاسنه بألف شفيع
      وأيضاً فإن صدق الطلب وقوة الإرادة وكمال الانقياد يحيل تلك العوارض والغواشي الغريبة إلى مقتضاه وموجبه، كما أن الكذب وفساد القصد وضعف الانقياد يحيل الأقوال والأفعال الممدوحة إلى مقتضاه وموجبه... ''
      ومن الشواهد الدالة على حقيقة ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم -مع كمال تحقيقهم للتوحيد- كانوا يخشون أن يفسده عليهم أدنى عارض ويحترزون من ذلك غاية الاحتراز، سواء أكانت الشائبة من جهة المعرفة والانقياد أو من جهة الإرادة والقصد .
      ورحم الله من قال: ''إن القوم قلت ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا'' .
      ومن ذلك ما حدث للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الحديبية، حيث خفي عليه وجه الحكمة والمصلحة في شروط الصلح، فأظهر امتعاضه من قبولها ورادّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك -على ما هو مفصل في السيرة- فعدّ صنيعه هذا شائبة تشوب صفاء معرفة حق النبوة والانقياد لحكم الله، فما لبث رضي الله عنه أن استدرك واستعظم ما صنع، حتى إنه كان يقول: [[ ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذٍ مخافة كلامي الذي تكلمت به... ]]
      فهذا حاله وهو أكمل الأمة بعد نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصديقها، وهو إنما قال ما قال حمية لدينه وغضباً لله ورسوله واجتهاداً في الاستدلال بالرؤيا النبوية.
      وكذلك ما حصل للثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك لما اعتراهم بعض خلل في الهمة والإرادة، ولم يستدركوه كما استدركه أبو خيثمة -حين فارق الظل والزوجة وطوى القفار حتى أدرك القوم- فما أن استيقنوا فوات ركب الجهاد حتى استوحشوا واستعظموا ما صنعوا، ثم كان من أمرهم وعقوبتهم ما هو معروف، فهذا حالهم مع أن اثنين منهم شهدا بدراً -مرارة وهلال- والثالث كعب شهد العقبة، ولم يقع بـتبوك قتال.
      وبمناسبة الحديث عن الصحابة رضي الله عنهم في موضع الاقتداء والتأسي نقول: لعله ليس من الاستطراد التنبيه إلى أن من أركان الانهيار الذي تردت فيه الأمة الإسلامية فساد الإرادة والمقصد المستوجب فساد المعرفة والسلوك.
      دع من فسدت معرفته وسلوكه بالابتداع والتلقي عن غير منبع الوحي كسائر فرق الضلال، ولكن انظر إلى الأجيال المتأخرة التي ورثت عن الصحابة وصح تلقيها منه، غير أن هذا الداء قد اعتراها، ففسدت المعرفة نفسها تبعاً لفساد الإرادة والمقصد، فخرجت من التمسك بالسنة إلى البدعة، ومن إرشاد السائرين إلى قطع الطريق عليهم.
      وفي عصرنا نماذج حية من هؤلاء، ترى الواحد منهم في الأصل وارثاً لعلم السلف معتقداً لعقيدتهم نظرياً، لكن انصراف همته وإرادته للدنيا أخرجه -في واقع حياته- إلى ضلال في التصورات وانحراف في السلوك، شعر أو لم يشعر, فبينا هو يعجب من حال أهل العقائد البدعية إذا الشيطان ينسج حوله شباك بدع من جنس آخر، فأصبح فتنة لأهل البدع ومنديلاً لذوي السلطان ومرقاة لأصحاب الأهواء والشهوات.
      وهذه عقبة كبرى وباب خطر قل من يجتازه وينجو من بلائه، وإنما يبدأ به الشيطان من باب التوسع في المباحات والترفع عن المساكين وإن كانوا من المتقين، ثم يفضي به إلى الانغماس في الشهوات ومجاراة الكبراء في دنياهم، ثم يجوز به من باب التبرير لما هو فيه إلى الإفتاء بصحته ومشروعيته ومعاداة مخالفه، وعندئذ يتكدر عليه صفاء معرفته، وينقلب عليه سلاح علمه، فلا يزال يقول على الله بغير علم، ويكتم ظاهر الحجج، ويتعلل بفنون التأويلات، حتى ينسلخ من نور العلم ويصبح مثله -كمثل الذي ضرب الله في سورة الأعراف- كالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.
      وعن هذا يقول الإمام الحافظ ابن القيم: ''كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلابد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه في خبره وإلزامه، لأن أحكام الرب سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس -و لا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشبهات، فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيراً .
      فإذا كان العالم والحاكم محبيّن للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، ولا سيما إذا قامت له شبهة، فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهراً لا خفاء به ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته، وقال: لي مخرج بالتوبة.
      وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى: ((فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ))[مريم:59]
      و قال تعالى فيهم أيضا: ((فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ))[الأعراف:169]
      فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم، وقالوا: سيغفر لنا، وإن عرض لهم عرض آخر أخذوه، فهم مصرون على ذلك، وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق، فيقولون: هذا حكمه وشرعه ودينه، وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك، أو لا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه، فتارة يقولون على الله ما لا يعلمون، وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه...''
      ''و هؤلاء لا بد أن يبتدعوا في الدين مع الفجور في العمل، فيجتمع لهم الأمران، فإن اتباع الهوى يعمي عين القلب فلا يميز بين السنة والبدعة، أو ينكسه فيرى البدعة سنة والسنة بدعة.
      فهذه آفة العلماء إذا آثروا الدنيا واتبعوا الرياسات والشهوات، وهذه الآيات فيهم إلى قوله:
      ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ))[الأعراف:175-176] '' .
    4. الأسباب والوسائط


      وأما اختلاف الأسباب والوسائط فمع ما سبق له من إيضاح، نقول: إنه قد تقرر فيما مضى أن العبد -كل عبد- من حيث هو مفتقر ذاتياً إلى الله تعالى لا يستطيع أن يحقق مراداته ومطالبه التي لا تنتهي إلا بوسائط وأسباب إما حقيقية وإما متوهمة..
      والقصد هنا بيان اختلاف شطري الجماعة الإنسانية: (المؤمنون والكافرون) بالنسبة لهذا الأمر، وكيف يصرف كل منهما عبادته وخوفه ورجاءه وسائر أعمال قلبه له وفي سبيله.
      فأما المؤمن فمن بدهيات إيمانه تجريد الاستعانة بالله وحده -كتجريد العبادة له وحده- سواء الاستعانة به في الهداية والاستقامة وصلاح القلب، أو في إدراك المطالب وقضاء الحوائج التي يفتقر إليها المخلوق في معاشه ومصالحه .
      فهو يعلم أن الله تعالى هو وحده الذي بيده خزائن كل شيء: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ))[الحجر:21] -كما سبق عنها- وهو يناجي ربه تعالى في حين وآخر: {اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد}
      وهو يردد هذا الكنز من كنوز الجنة { لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم}
      بل إن كل عاقل في الوجود لو تأمل وتدبر لوجد أنه '' ليس في الوجود الممكن سبب واحد مستقل بالتأثير، بل لا يؤثر سبب ألبتة إلا بانضمام سبب آخر إليه وانتفاء مانع يمنع تأثيره، هذا في الأسباب المشهودة بالعيان وفي الأسباب الغائبة والأسباب المعنوية، فكل ما يخاف ويرجى من المخلوقات، فأعلى غاياته أن يكون جزء سبب غير مستقل بالتأثير، ولا يستقل بالتأثير وحده دون توقف تأثيره على غيره إلا الله الواحد القهار.
      فلا ينبغي أن يرجى ولا يخاف غيره، وهذا برهان قطعي على أن تعلق الرجاء والخوف بغيره باطل، فإنه لو فرض أن ذلك سبب مستقل وحده بالتأثير لكانت سببيته من غيره لا منه، فليس له من نفسه قوة يفعل بها، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فهو الذي بيده الحول كله والقوة كلها، فالحول والقوة التي يرجى لأجلها المخلوق ويخاف إنما هما لله وبيده في الحقيقة، فكيف يخاف ويرى من لا حول له ولا قوة؟!
      بل خوف المخلوق ورجاؤه أحد أسباب الحرمان ونزول المكروه بمن يرجوه ويخافه، فإنه على قدر خوفك من غير الله يسلط عليك، وعلى قدر رجائك لغيره يكون الحرمان، وهذا حال الخلق أجمعه، وإن ذهب عن أكثرهم علماً وحالاً، فما شاء الله كان ولا بد، وما لم يشأ لم يكن ولو اتفقت عليه الخليقة ''
      والمتأمل لكتاب الله تعالى ولحال الخليقة يجد أن من أكبر أسباب الشرك ودواعيه توهم المشركين أن غير الله مصدر خير لهم، وأن عبادته سبب لحصول ما ينفعهم ودفع ما يضرهم، وأقل من ذلك من يتخذ من دون الله إلهاً، بمعنى أن يجعله قرة عينه وغاية قلبه ومتعلق إرادته.
      أي أن شرك الدعاء أكثر من شرك المحبة، وذلك لأن حقيقة الافتقار في الأول أظهر وأعم، ولهذا جاء الخطاب به في القرآن أكثر، وأبطل الله عز وجل أن يكون لغيره نفع أو ضر أو ولاية أو شفاعة أو ملك أو شرك في ملك، أو يكون بيد غيره رحمة أو رزق أو فضل أو شفاء أو موت أو حياة أو نصر أو إغاثة أو كشف كرب... إلى آخر ما يفتقر إليه كل مخلوق وتصرف فيه أعمال القلوب, إلا من جعله الله تعالى سبباً لحصول شيء من ذلك.
      وهذه من أكبر الحقائق التي فصَّلها القرآن المكي، وسد الله بها كل منافذ الشرك وذرائعه ودواعيه.
      قال تعالى: ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ))[سبأ:22-23].
      وقال: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً))[فاطر:40].
      ((ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ))[فاطر:13-14].
      وقال على لسان خليله إبراهيم: ((إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ))[العنكبوت:17]
    5. الإقرار بالافتقار من حال إلى حال

      وأما الإقرار بالافتقار فمن أجلى الأدلة على التوحيد وحقيقة الإيمان، والخلاف فيه بين الكافر والمؤمن من أعظم ما يميز كلاً منهما عن الآخر، ثم هو مما يميز الذاكرين الصابرين عن الغافلين الهلعين من المؤمنين.
      فالمؤمن مقر بافتقاره إلى الله في كل لحظة عين، ومن كان شاكراً لأنعمه ذاكراً لآلائه في حال الرخاء والشدة معاً، يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها، ولا يمل دعاءه ولو لأدنى حاجاته.
      وبالجملة هو مشاهد لحقيقة افتقاره إلى مولاه يدعوه صباحاً ومساءً بما أوصى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنته فاطمة رضي الله عنها: {يا حي يا قيوم برحمتك استغيث, أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين} .
      بل إن المؤمن ليستشعر ذلك في أعز ساعات الانتصار والتمكين.
      وقد قصّ الله تعالى من حال أنبيائه في القرآن ما فيه بيان وقدوة؛ فهذا يوسف عليه السلام '' في اللحظة التي تم له فيها كل شيء تحققت رؤياه: ((وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ))[يوسف:100].
      في هذه اللحظة نزع يوسف عليه السلام نفسه من اللقاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر، كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام: ((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ))[يوسف:101]
      وكذلك نبي الله سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضراً بين يديه (من وراء آلاف الأميال) من قبل أن يرتد إليه طرفه: (( فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ))[النمل:40] ''
      وهكذا فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دخل مكة فاتحاً منصوراً؛ فإنه دخلها وهو يقرأ سورة الفتح يُرجِّع ، ونزل بيت أم هانئ فصلّى فيه ثماني ركعات، .
      وظل مكثراً من التسبيح والاستغفار إلى أن توفاه الله تأويلاً لقوله تعالى: ((إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ))[النصر:1-3]
      ولهذا قال أشياخ بدر لـعمر رضي الله عنه: [[ أمرنا أن نحمد ربنا ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ]] وهكذا فعل سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن، وجعلها بعض العلماء سنة فقالوا: يستحب لأمير الجيش إذا فتح بلداً أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات.
      فهذا حال المؤمنين في حال النعمة وذروة الطمأنينة.
      وأما الكافر فإنه مستكبر على ربه متمرد عليه حال الرخاء والنعمة، يكفره ولا يشكره، يستخدم آلاءه في معاصيه، يطغى إذا استغنى، ويفسق إذا أترف، حتى إذا ما نزلت به نازلة، وأحدقت به كربة، وأحاطت به مصيبة، سقط من عرش كبريائه الوهمي، وانهار الزيف أمام الواقع، وانكشف الغيم عن الفطرة المكبوتة، فأيقن حينئذٍ أنه لا يملك حولاً ولا طولاً، وضلت عنه الأرباب المزعومة التي كان يتعلق بها من قبل، وأخلص لله الدعاء، وأظهر له من الافتقار والضراعة ما لم يكن ليخطر له ببال حال الأمن والعافية.
      ((وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ))[فصلت:51].
      ((وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))[يونس:12].
      ((فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ))[الزمر:49].
      ومن أشد المواقف التي يظهر فيها ذلك جلياً موقف الرعب الحاصل لراكب البحر حين يكون الهلاك قاب قوسين أو أدنى.
      ((هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ))[يونس:22-23]
      ((قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ))[الأنعام:63-64].
      ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ))[لقمان:31-32].
      وهذا من أعظم ما ألزم به القرآن المشركين، فإنه أقبح ما يكون الإنكار بعد الإقرار، وأقبح ما يكون الاستكبار بعد التذلل والتضرع.
      وبيّن سبحانه أن كل نعمة هي منه؛ فالافتقار إليه ذاتي، وغناه تعالى مطلق: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ))[فاطر:15].
      ((وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ))[النحل:53-54]
      ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ))[فاطر:3].
      ((أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ))[الملك:21].
      ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ))[الملك:30].
      وحتى هذه الحالة بخصوصها -حالة ركوب البحر- بيّن الله لهم ضلال نظرتهم القاصرة حين يجعلون حاجتهم إليه محصورة في زمن اشتداد العاصفة، وكأنما خلوصهم إلى البر استغناء عنه ومأمنة من عقابه.
      ((وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً))[الإسراء:67-69].
      ومن أعجب ما قصه الله -تعالى- في ذلك ما وقع لفرعون وملئه؛ فقد سلط الله تعالى عليهم صنوفاً من العذاب: (الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم) وكلما اشتد عليهم وطأة عذاب ((وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائيلَ))[الأعراف:134] ولكن ما يكاد العذاب ينكشف حتى يعودوا للكفر والجحود، فتأتي الآية الآخرى من العذاب وهكذا، حتى تم لهم تسع آيات انتهت بإغراقهم أبداً!!
    6. الخــاتمة

      تقرر مما سبق عن حقيقة النفس الإنسانية أن كل إنسان همام -أي مريد ومفكر- وأن كل همام حارث -أي: عامل كادح- وأن كل عامل له غاية ومراد ينتهي إليها همه وإرادته، ويقصدها بكدحه وعمله، فهو عامل لها: أي عابد ولا بد!
      وتقرر قبله ومعه أن الإسلام هو دين الفطرة القويمة، أنزله الله متسقاً مع حقيقة الإنسان، مستوعباً كل نشاطه وحركته -هماً وحرثاً وفكراً وعملاً- ومن ثَم جاء منهجاً متكاملاً لإصلاح النشاط الإنساني كله؛ إصلاح الخواطر والأفكار بالاعتقادات الحقة، والإرادات الصحيحة، والنية الخالصة، وإصلاح الأعمال بأنواع الطاعات والبر والمعروف.
      وتكفل ببيان ضد ذلك من الاعتقادات الباطلة والإرادات الفاسدة والأعمال السيئة والتحذير منها.
      وكما أن الإنسان لا يمكن أن يكون هماماً ولا يكون حارثاً؛ فإن الإيمان لا يمكن أن يكون اعتقاداً ولا يكون عملاً.
      ومن هنا نستطيع أن نتبين أي المذهبين في الإيمان هو الحق؛ مذهب أهل السنة والجماعة أم مذهب المرجئة .
      ومعيار الحكم في هذا يبدأ من أصل الخلاف, وهو اختلاف مصدري التلقي والاستمداد عند الفريقين؛ فمن يستقي من مصدر الوحي المعصوم، فضروري أن يكون مذهبه هو الحق المتفق مع حقيقة الإنسان؛ تبعاً لما تقرر من اتفاق دين الله ووحيه مع خلقه وفطرته، ومن استقى من مصدر آخر -أياًّ كان- فلا بد أن يقع في التناقض، وأن يصادم حقيقة الإنسان تبعاً لمخالفته لصريح القرآن!
      وبنظرة عامة لما سبق نستطيع أن نستخرج بسهولة هذه النتيجة: أن أهل السنة والجماعة في اعتقادهم الجازم أن الإيمان عمل، والعمل إيمان- على ما سيأتي إيضاحه- إنما يستقون من معين الوحي المعصوم- كتاباً وسنةً- ما هو منسجم قطعا مع حقيقة النفس الإنسانية.
      أما ما تعتقده المرجئة من التفريق بين الإيمان والعمل، وإثبات الإيمان كاملاً في القلب مع وقوع عمل الجوارح على خلافه فهو فصل اعتباطي للحقيقة النفسية الواحدة، يجعل أحد شقيها ذاهباً ذات اليمين والآخر ذاهباً ذات الشمال في وقت واحد، وهو ما لا يقع أبداً، بل هذا الفصل يشبه من الناحية العضوية فصل القلب عن الجسد وفصل الطاقة عن الحركة.
      حقيقة الأمر أن المرجئة تعتبر الإيمان قضية ذهنية مجردة -تسميها تصديقاً أو معرفة- تعلق هذه القضية بالقلب كمادة جامدة ومعزولة لا تزيد ولا تنقص، توجد كاملة أو تذهب كاملة، ولا تستلزم أي أثر في الوجدان والشعور أو الحركة والكدح، بل هي مثـل أية معلومة رياضية أو مقولة فلسفية!!
      وهي حين تعتقد ذلك يغيب عنها حقيقة بالغة الأهمية، وهي كيف إذن يفسر العمل الإنساني الدائب الذي لا يتوقف إلا لحظة الموت؟ ما مصدره؟ ما طاقته؟ ما دوافعه إن لم يكن الإيمان أياً كان هذا الإيمان؟!
      حقاً لقد جهدت كثيراً لكي أعثر على وجهة نظر القوم في هذه القضية الكبرى بلسان مقالهم لا بلسان حالهم، وتساءلت أيستطيع هؤلاء أن يلتزموا القول بأن المؤمن -على زعمهم- مصاب بانفصام الشخصية؛ فهو يعتقد غير ما يعمل، ويعمل غير ما يعتقد؟!
      وكيف يجيبون على كثير من الأسئلة البدهية التي يفجؤهم بها مناظرهم قبل الدخول في تفصيلات النقاش العلمي والخوض الجدلي مثل:
      كيف يمتلئ القلب بالحب، وتعمل الجوارح أعمالاً كلها عداء وانتقام؟!
      وكيف يمتلئ القلب بالرحمة، وتعمل الجوارح أعمالاً كلها غلظة وفظاظة؟!
      وكيف يمتلئ القلب بالتصديق، وتعمل الجوارح أعمالاً كلها تكذيب وإعراض؟!
      وكيف يمتلئ القلب بالتقوى وتعمل الجوارح أعمالاً كلها فجور وآثام؟
      ولما لم أجد لهذا ذكراً عندهم خرجت بنتيجة وضعتها أول الأمر على أنها افتراض، ثم صدقها البحث التاريخي المستقصي؛ وهي: أن عقيدة المرجئة لم تكن على الإطلاق ثمرة نظر في النصوص الشرعية ولا وليدة اجتهاد عقلي سَوي، وإنما هي وليدة مواقف انفعالية جدلية أفرزتها المعارك الكلامية الطاحنة بين الفرق البدعية, تلك الفرق التي كان جهلها بالشرع وإعراضها عنه سبباً في تعلقها لدفع خصومها بأوهام ذاتية أو تصورات غريبة منقولة عن مصادر وثنية ولهذا جاءت أصولها الاعتقادية- لا سيما المرجئة- مجافية تماماً للدين والفطرة والعقل والحقيقة الإنسانية.
      ولست أدري أيَّ الخيالين كان أسبق إلى عقول المرجئة وهي تؤسس هذه النظرية الهلامية: أهو تخيل أن الإنسان تمثال شاخص لا علم له ولا إرادة ولا إحساس, أم تخيل أن الإيمان قطعة جامدة هامدة لا تنتج إحساساً ولا إرادةً ولا عملاً؟
      فعلى الخيال الأول يريدون إرغام العقول السوية على أن تتصور قلباً بشرياً مزروعاً في جسد تمثال!
      وعلى الخيال الآخر يريدون إرغامها على أن تتصور إنساناً حياً يعيش بقلب من الخشب أو الفخار الصامت!
      والمهم أنه على كلا الحالين لا نجد خارج أذهان المرجئة إنساناً- أي لا نجد إيماناً- هذه صفته.
      أما الإنسان ذاك الذي خلقه الله تعالى بطبيعته حارثاً همّاماً حياً حساساً مريداً عاملاً، فإنه لا يمكن -في الحالة السوية- أن يؤمن بشيء ولا يعمله، أو يعمل شيئاً وهو لا يؤمن به.
      فالصلة بين الإيمان -أياً كان- وبين العمل كالصلة بين العمل والحياة.
      ولا مخرج للمرجئة من هذه الإلزامات جميعها إلا أن تقر بأن ما تتحدث عنه مسمية إياه إيماناً ليس هو الإيمان الشرعي، ولتسميه بعد ذلك ما شاءت!!
  5. حقيقية الإيمان الشرعية

    مضى الحديث عن الجيل الأول الذي رباه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذلك الجيل الذي كانت حياته الواقعية حقيقة حية للإيمان كما فهموه وتربوا عليه، وهذا ما جعلهم أبعد شيء عن النظريات المجردة في أي مجال، فما بالك ببعدهم عنها في دينهم وإيمانهم الذي يعيشون حقيقته ويتحركون به وله؟!
    حتى العلم الشرعي نفسه لم يكونوا يتلقونه معلومات تراكمية كما صنعت الأجيال من بعد، بل كانوا كما قال بعضهم: { كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن غلمان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فازددنا به إيماناً}.
    هذا الإيمان الذي تلقوه لم يكن- على الإطلاق- درساً يسمى درس العقيدة يقال فيه: إن الإيمان قول وعمل، وإن الطاعات كلها داخلة في الإيمان- كما يصنع أكثر متأخري أهل السنة الذين أهملوا كثيراً من حقائق الإيمان واحتفظوا برسمه ولفظه- فضلاً عن أن يكون درساً كلامياً أو فلسفياً يقال فيه: الإيمان هو التصديق، والتصديق اعتقاد نسبة الصدق إلى المخبر بدلالة المعجزة، والمعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي... إلخ كما هو الحال في دروس العقيدة في أكثر العالم الإسلامي اليوم، وفي القرون الأخيرة الماضية.
    إن معايشة الجيل الأول للوحي وصاحبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -مع ما آتاهم الله من سلامة الفطرة وصحة الفهم وحضور البديهة- جعلتهم أصدق الناس نظراً، وأقلهم تكلفاً، وأحسنهم هدياً.
    فإن سئلوا عن أمر كان جوابهم أوجز بيان وأشفاه وأبينه، إن لم يكن من ذات نور الوحي فهـو قبس من مشكاته.
    وإن في مسألة الإيمان- تلك المسألة التي تشعبت فيها الآراء، وتنافرت فيها الفرق، وتـقاتـلت عليها الأمة- لأصدق دليل على هذا.
    فقد ذهبت الفرق الضالة كل مذهب لتأتي بتعريف للإيمان كما تريد، فمنهم من صرف نظره عن نصوص الوحي كلها، ومنهم من أخذ بعضها وغلا فيه، وتعسف في تأويل الباقي أو إنكاره، ومنهم من ظل حائراً متناقضاً لا يستـقـر له قرار.
    أما الجماعة- الذين هم الصحابة والتابعون لهم بإحسان- فما حادوا عن منهجهم المأمون قط، فكانوا إذا سئلوا عن الإيمان أجابوا بالوحي لا بالهوى، جواباً يراعى فيه حال السائل ومقام السؤال كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل.
    فمرة يجيبون السائل بآية جامعة من كتاب الله تعالى، مثل جواب بعضهم بقوله تعالى: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) [البقرة:177]
    ومرة يجيـبون بحديث كما أجاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل أو وفد عبد القيس.

    ومرة يعرفونه بفهم فهموه من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال بعضهم: ''الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله'' ونحو ذلك.
    ومن الواضح أنه ليس في شيء من هذا تحديد مجرد للإيمان على المنهج المنطقي المتكلف.
    وعندما اتسع الخلاف بين الفرق وانتقلت الأمة من البحث في أعمال الإيمان وفرائضه ليحققوه بكماله إلى البحث في ماهيته المجردة وحده المنطقي- ليتجادلوا فيها- ظهرت الحاجة إلى قول فصل وأصل جامع، يعرف به الناس هذا المفهوم في كتاب ربهم وسنة نبيهم، فتواردت أذهان علماء الجماعة وتواطأت أقوالهم وتواترت أخبارهم- الحجازي منهم والعراقي والشامي والخراساني والمصري والمغربي، ومن كان وراء النهر أو بـالأندلس- على معنى موجز شاف كاف ليس في التعريفات أوضح ولا أيسر منه، مقتبس من الكتاب والسنة، وموافق للعقل والفطرة، ومترجم لواقع الجيل الأول، وهو: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
    وأكثرهم لم يزد عن هذه العبارة ولم ينقص، ومنهم من اختلفت عبارته قليلاً أو أضاف إليها قيداً إيضاحياً، لكن المعنى الذي أرادوه جميعاً واحد؛ فلم يكن اختلافهم في بعض الألفاظ إلا كما يختلف الصادقون عادة في التعبير عن أمر واحد محسوس ظاهر.
    وهذا وحده دليل كاف لمن كانت له بصيرة على أن هؤلاء هم الجماعة حقاً، وأن من عداهم فرق زيغ وضلالة، من اقتفاها فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، فولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.
    وهذا الإجماع نقله كثير من المؤلفين الثقات؛ وها هي ذي نماذج منهم:
    1- يقول الإمام الحجة أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى: '' لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم؛ أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر، لقيتهم كرات قرناً بعد قرن ثم قرناً بعد قرن أدركتهم وهم متوافرون أكثر من ست وأربعين سنة، أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، والبصرة أربع مرات في سنين ذوي عدد، وبـالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد، مع محدثي أهل خراسان، منهم: المكي بن إبراهيم، ويحيى بن يحيى، وعلي بن الحسن بن شقيق، وقتيبة بن سعيد، وشهاب بن معمر.
    وبـالشام: محمد بن يوسف الفريابي، وأبا مسهر عبدالأعلى بن مسهر، وأبا المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، وأبا اليمان الحكم بن نافع ومن بعدهم عدة كثيرة.
    وبـمصر: يحيى بن كثير، وأبا صالح -كاتب الليث بن سعد- وسعيد بن أبي مريم، وأصبغ بن الفرج، ونعيم بن حماد.
    وبـمكة : عبد الله بن يزيد المقري، والحميدي، وسليمان بن حرب -قاضي مكة- وأحمد بن محمد الأزرقي.
    وبـالمدينة: إسماعيل بن أبي أويس، ومطرِّف بن عبد الله، وعبد الله بن نافع الزبيري، وأحمد بن أبي بكر أبا مصعب الزهري، وإبراهيم بن حمزة الزبيري، وإبراهيم بن المنذر الحزامي.
    وبـالبصرة : أبا عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني، وأبا الوليد هشام بن عبد الملك، والحجاج بن المنهال، وعلي بن عبد الله بن جعفر المديني.
    وبـالكوفة : أبا نعيم الفضل بن دكين، وعبيد بن موسى، وأحمد بن يونس، وقبيصة بن عقبة، وابن نمير، وعبد الله وعثمان ابني أبي شيبة.
    و بـبغداد : أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبا معمر، وأبا خيثمة، وأبا عبيد القاسم بن سلام.
    ومن أهل الجزيرة: عمرو بن خالد الحراني.
    وبـواسط : عمرو بن عون، وعاصم بن علي بن عاصم.
    وبـمرو : صدقة بن الفضل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي.
    واكتفينا بتسمية هؤلاء كي يكون مختصراً وألا يطول ذلك، فما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء:
    أن الدين قول وعمل، وذلك لقول الله:
    ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5]... ''
    ثم ذكر عقيدة قيمة جاء فيها -أيضاً- مما يتعلق بموضوعنا: '' لم يكونوا يكفرون أحداً من أهل القبلة بالذنب، لقوله: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))[النساء:48] '' .
    2- وقال الإمامان الجليلان الثقتان أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، فيما رواه عنهما الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم قال: '' سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؟ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار- حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً- فكان من مذهبهم: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ''.
    ثم ذكر عقيدة عظيمة -أيضاً- جاء فيها: '' وأهل الكبائر في مشيئة الله عز وجل، ولا نكفر أهل القبلة بذنوبهم، ونكل أسرارهم إلى الله عز وجل، والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم، ولا ندري ما هم عند الله عز وجل، فمن قال: إنه مؤمن حقا فهو مبتدع، ومن قال: هو مؤمن عند الله فهو من الكاذبين، ومن قال: هو مؤمن بالله حقاً فهو مصيب والمرجئة المبتدعة ضلال.
    وعلامة المرجئة : تسميتهم أهل السنة مخالفة ونقصانية '' .
    3- وروى أبو عمرو الطلمنكي بإسناده المعروف عن موسى بن هارون الحمال قال: '' أملى علينا إسحاق بن راهويه: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، لا شك أن ذلك كما وصفنا.
    وإنما عقلنا هذا بالروايات الصحيحة والآثار العامة المحكمة، وآحاد أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين وهلّم جرا على ذلك، وكذلك بعد التابعين من أهل العلم على شيء واحد لا يختلفون فيه، وكذلك في عهد الأوزاعي بـالشام، وسفيان الثوري بـالعراق، ومالك بن أنس بـالحجاز، ومعمر بـاليمن على ما فسرنا وبينا أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص...''
    قال إسحاق: ''واتبعهم على ما وصفنا من بعدهم من عصرنا هذا أهل العلم إلا من باين الجماعة واتبع الأهواء المختلفة، فأولئك قوم لا يعبأ الله بهم لما باينوا الجماعة''
    4- قال أبو عبيد القاسم بن سلام الإمام -وله كتاب مصنف في الإيمان- قال: هذه تسمية من كان يقول: (الإيمان قول وعمل يزيد وينقص).
    من أهل مكة: عبيد بن عمير الليثي، عطاء بن أبي رباح، مجاهد بن جبر، ابن أبي مليكة، عمرو بن دينار، ابن أبي نجيح، عبيد الله بن عمر، عبد الله بن عمرو بن عثمان، عبد الملك بن جريج، نافع بن جبير، داود بن عبد الرحمن العطار، عبد الله بن رجاء.
    ومن أهل المدينة : محمد بن شهاب الزهري، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، أبو حازم الأعرج، سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، يحيى بن سعيد الأنصاري، هشام بن عروة بن الزبير، عبد الله بن عمر العمري، مالك بن أنس، محمد بن أبي ذئب، سليمان بن بلال، عبد العزيز بن عبد الله -يعني: الماجشونعبد العزيز بن أبي حازم..
    ومن أهل اليمن: طاوس اليماني، وهب بن منبه، معمر بن راشد، عبد الرزاق بن همام .
    ومن أهل مصر والشام: مكحول، الأوزاعي، سعيد بن عبد العزيز، الوليد بن مسلم، يونس بن يزيد الأيلي، يزيد بن أبي حبيب، يزيد بن شريح، سعيد بن أبي أيوب، الليث بن سعد، عبد الله بن أبي جعفر، معاوية بن صالح، حيوة بن شريح، عبد الله بن وهب.
    وممن سكن العواصم وغيرها من الجزيرة: ميمون بن مهران، يحيى بن عبد الكريم، معقل بن عبيد الله ،عبيد الله بن عمرو الرقي، عبد الملك بن مالك ، المعافى بن عمران، محمد بن سلمة الحراني، أبو إسحاق الفزاري، مخلد بن الحسين، علي بن بكار، يوسف بن أسباط، عطاء بن مسلم، محمد بن كثير، الهيثم بن جميل.
    ومن أهل الكوفة : علقمة، الأسود بن يزيد، أبو وائل، سعيد بن جبير، والربيع بن خثيم، عامر الشعبي، إبراهيم النخعي، الحكم بن عتبة، طلحة بن مصرف، منصور بن المعتمر، سلمة بن كهيل، مغيرة الضبي، عطاء بن السائب، إسماعيل بن أبي خالد، أبو حيان يحيى بن سعيد، سليمان بن مهران الأعمش، يزيد بن أبي زياد، سفيان بن سعيد الثوري، سفيان بن عيينة، الفضيل بن عياض، أبو المقدام، ثابت بن العجلان، ابن شبرمة، ابن أبي ليلى، زهير، شريك بن عبد الله، الحسن بن صالح، حفص بن غياث، أبو بكر بن عياش، أبو الأحوص، وكيع بن الجراح، عبد الله بن نمير، أبو أسامة، عبد الله بن إدريس، زيد بن الحباب، الحسين بن علي الجعفي، محمد بن بشر العبدي، يحيى بن آدم، ومحمد ويعلى وعمرو بنو عبيد.
    ومن أهل البصرة : الحسن بن أبي الحسن، محمد بن سيرين، قتادة بن دعامة، بكر بن عبد الله المزني، أيوب السختياني، يونس بن عبيد، عبيد الله بن عون، سليمان التيمي، هشام بن حسان الدستوائي، شعبة بن الحجاج، حماد بن سلمة، حماد بن زيد، أبو الأشهب، يزيد بن إبراهيم، أبو عوانة، وهيب بن خالد، عبد الوارث بن سعيد، معتمر بن سليمان التيمي، يحيى بن سعيد القطان، عبد الرحمن بن مهدي، بشر بن المفضل، يزيد بن زريع، المؤمل بن إسماعيل، خالد بن الحارث، معاذ بن معاذ، أبو عبد الرحمن المقري.
    ومن أهل واسط : هشيم بن بشير، خالد بن عبد الله، علي بن عاصم، يزيد بن هارون، صالح بن عمر، عاصم بن علي.
    ومن أهل المشرق: الضحاك بن مزاحم، أبو جمرة نصر بن عمران، عبد الله بن المبارك، النضر بن شميل، جرير بن عبد الحميد الضبي.
    قال أبو عبيد: ''هؤلاء جميعاً يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؛ وهو قول أهل السنة المعمول به عندنا''.
    5- ويقول الإمام البغوي في شرح السنة: ''اتفقت الصحابة والتابعون فمن بعدهم من علماء السنة على أن الأعمال من الإيمان؛ لقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ))[لأنفال:2] إلى قوله: ((الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ))[الأنفال:3].
    فجعل الأعمال كلها إيمانا، وكما نطق به حديث أبي هريرة -يعني حديث: { الإيمان بضع وسبعون شعبة }، ثم قال: وقالوا: إن الإيمان قول وعمل وعقيدة، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية على ما نطق به القرآن في الزيادة، وجاء في الحديث بالنقصان في وصف النساء [يعني: ناقصات عقل ودين]
    ثم قال: واتفقوا على تفاضل أهل الإيمان في الإيمان وتباينهم في درجاته''.
    6- ويقول الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر: '' أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان".
    ثم ذكر خلاف أبي حنيفة وأصحابه في هذا، وقال: ''وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بـالحجاز والعراق والشام ومصر، منهم: مالك بن أنس، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلّام، وداود بن علي الظاهري، وأبو جعفر البصري، ومن سلك سبيلهم، فقالوا: الإيمان قول وعمل؛ قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة، قالوا: وكل ما يطاع الله عز وجل به من فريضة ونافلة فهو من الإيمان، والإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وأهل الذنوب عندهم مؤمنون غير مستكملي الإيمان من أجل ذنوبهم...''.
    7- ويذكر الإمام الحافظ ابن كثير: ''أن الإيمان إذا استعمل مطلقاً فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً، وهكذا ذهب أكثر الأئمة، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعاً أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص''.
    8- ويقول الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي: ''والمشهور عن السلف وأهل الحديث: أن الإيمان قول وعمل ونية، وأن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، وحكى الشافعي على ذلك إجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم، وأنكر السلف على من أخرج الأعمال عن الإيمان إنكاراً شديداً.
    وممن أنكر ذلك على قائله وجعله قولاً محدثاً: سعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وقتادة، وأيوب السختياني، وإبراهيم النخعي، والزهري، ويحيى بن أبي كثير، وغيرهم .
    وقال الثوري: هو رأي محدث أدركنا الناس على غيره.
    وقال الأوزاعي: وكان من مَضى من السلف لا يفرقون بين العمل والإيمان...''.
    9- وما ذكره الحافظان ابن كثير وابن رجب عن الشافعي -رحمه الله- أن الإجماع على ذلك نقله شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، فقال: ''وقد ذكرنا عن الشافعي رضي الله عنه ما ذكره من الإجماع على ذلك قوله في الأم :
    وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: إن الإيمان قول وعمل ونية، ولا يجزئ واحد من الثلاثة إلا بالآخر''.
    10- ويقول الإمام محمد بن جرير الطبري شيخ المفسرين: ''والصواب لدينا من القول: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وبه الخبر عن جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعليه مضى أهل الدين والفضل''.
    11- وقد روى الإمام أحمد في الإيمان، وابنه عبد الله بن أحمد في السنة، عن جماعة كثيرة من أهل العلم الذين ذهبوا إلى ما ذكر وذموا الإرجاء وعابوه، نذكر منهم:
    مجاهد، سعيد بن جبير، الحسن البصري، أبو وائل، إبراهيم النخعي، علقمة، عطاء بن أبي رباح، قتادة، ابن أبي مليكة، هشام بن عروة، عمر بن عبد العزيز، سفيان الثوري، سفيان بن عيينة، وكيع، الفضيل بن عياض، مالك، الشافعي، حماد بن زيد، حماد بن سلمة، الأوزاعي، شريك، أبو بكر بن عياش، أبو البختري، ميسرة، أبو صالح، ضحاك المشرقي، بكير الطائي، يحيى بن سعيد، عبد العزيز بن أبي سلمة، منصور بن المعتمر، عمير بن حبيب، جرير بن عبد الحميد، عبد الملك بن جريج، يحيى بن سليم، أبو إسحاق الفزاري، عبد الله بن المبارك، الخليل بن أحمد الفراهيدي، ميمون بن مهران، خالد بن الحارث، محمد بن مسلم الطائفي، معمر بن راشد، القاسم بن مخيمرة، صدقة المروزي، محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، سعيد بن عبد العزيز، عبد الكريم الجزري، خصيف بن عبد الرحمن .
    12- وروى أبو بكر النقاش بإسناده عن عبد الرزاق قال: ''لقيت اثنين وسبعين شيخاً (وذكر جملة من كبار الأئمة) كلهم يقول: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص".
    وبعض هؤلاء الأعلام صرح بأن قول أهل الإرجاء بدعة محدثة، وأنهم يهود أهل القبلة أو صابئة هذه الأمة، وأن من أدركوه من أهل العلم- صحابة وتابعين- كانوا على ما عليه أهل السنة، ونحو ذلك من النقول الدالة على الإجماع، تصريحاً أو لزوماً واقتضاءً، ولولا خشية التطويل لنقلنا ذلك تفصيلاً .
    ومعلوم أن أي إجماع لا بد له من مستند نصي، وهذا الإجماع يستند إلى نصوص كثيرة جداً، بل ربما كانت هذه القضية أعظم مسائل الخلاف بين الأمة إجماعاً من الصدر الأول، من حيث تواتر النصوص وتواتر نقل الأقوال فيها.
    ونظراً للاختصار رأيت الاكتفاء بنصين مفصلين من كلام أئمة السنة مذكور فيهما مستند الإجماع:
    1- كلام الإمام هشام بن عمار [مقرئ الشام ومحدثها في عصره] المتوفى 245 هـ:
    قال رحمه الله: ''ومما يبين لأهل العقل أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأحاديث: {أن الحياء شعبة من الإيمان}.
    و{أن حسن العهد من الإيمان}.
    وأن الإيمان عرى، و{أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله}.
    وأن للإيمان أركاناً ودعائم، وذروة وحقيقة ومحضاً، وصريحاً وصدقاً وبراً، وحلاوةً وزينةً ولباساً وشطراً''.
    ثم فصل هذا فقال: '' فمن أركانه: التسليم لأمر الله [الشرعي]، والرضا بقدر الله [الكوني]، والتفويض إلى الله والتوكل على الله.
    ومن دعائمه: الصبر واليقين والعدل والجهاد.
    وصريح الإيمان: أن يصل من قطعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، ويغفر لمن شتمه، ويحسن إلى من أساء إليه.
    وذروته: أن يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والتواضع أحب إليه من الشرف، وأن يكون ذامه وحامده في الحق عنده سواء.
    وحقيقته: ما روي من: {ثلاث من كن فيه فقد استوجب حقيقة الإيمان: حب الرجل المرء في الله...} الحديث .
    أما استكماله: فما روي: {لا يستكمل عبد الإيمان كله حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}، {وحتى يقدم الصلاة في اليوم الدجن}، {وحتى يجتنب الكذب في مزاحه}، وما روي: {لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن لسانه}.
    وأما طعم الإيمان: فأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولا يقول: لولا، ولو أن، ويدع المراء وهو محقٌ، ويدع الكذب في المزاح، روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه.
    وأما محض الإيمان: فما روي أنهم قالوا: {يا رسول الله! إن أحدنا ليحدث نفسه بالشيء ما يحب أن يتكلم به، قال: ذلك محض الإيمان}.
    وأما صدق الإيمان وبره: فما روي عن عبيد بن عمير قال: [[من صدق الإيمان وبره إسباغ الوضوء في المكاره، ومن صدق الإيمان وبره أن يخلو الرجل بالمرأة الحسناء فيدعها لا يدعها إلا لله]].
    وأما لباسه: فالتقوى، روي ذلك عن وهب بن منبه.
    وأما حلاوته: فروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب العبد لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار}.
    وأما شطر الإيمان: فما روي عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {الطهور شطر الإيمان -وفي رواية: إسباغ الوضوء شطر الإيمان- والحمد لله تملأ الميزان، والتكبير والتسبيح يملأ السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها}.
    وأما نصف الإيمان: فروي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله اهـ. ''
    أقول: ما ذكره من الأحاديث والآثار ليس على درجة واحدة من الصحة والقبول، ولكن الشاهد من مجموعها -وهو الاستدلال على صحة مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة- متحقق، والمطلع على السنة وأقوال الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يمكن أن يزيد على ما ذكر أشياء كثيرة.
    وهذه التي ذكرها بعضها أعمال، وبعضها أقوال، وبعضها أقوال القلب وأعماله، وبعضها أقوال لسان وأعمال جوارح، وبعضها فرائض وواجبات، وبعضها نوافل وكمالات.
    ومن تدَّبرها وتدبر أمثالها في النصوص الأخرى، ثم قابل ذلك بقول المرجئة -الذي عليه أكثر كتب العقيدة في العالم الإسلامي اليوم، وهو أن الإيمان هو التصديق القلبي المجرد من سائر أفعال القلوب والجوارح، على الخلاف في النطق بالشهادتين- عرف شذوذ هذا القول وسقوطه، وأنه بدعة لا يجوز اعتقادها.
    2- كلام الفضيل بن عياض مع تعليق الإمام أحمد: .
    قال عبد الله بن أحمد في كتاب السنة: ''وجدت في كتاب أبي: أخبرت أن الفضيل بن عياض قرأ أول الأنفال حتى بلغ: ((أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ))[الأنفال:4]
    قال حين فرغ: إن هذه الآية تخبرك أن الإيمان قول وعمل، وأن المؤمن إذا كان مؤمناً حقاً فهو من أهل الجنة، فمن لم يشهد أن المؤمن حقاً من أهل الجنة فهو شاك في كتاب الله مكذب، أو جاهل لا يعلم، فمن كان على هذه الصفة فهو مؤمن حقاً مستكمل الإيمان، ولا يستكمل الإيمان إلا بالعمل، ولا يستكمل عبد الإيمان ولا يكون مؤمناً حقاً حتى يؤثر دينه على شهوته، ولن يهلك عبد حتى يؤثر شهوته على دينه.
    يا سفيه ما أجهلك! لا ترضى أن تقول: أنا مؤمن حتى تقول: أنا مؤمن حقاً مستكمل الإيمان، والله لا تكون مؤمناً حقاً مستكمل الإيمان، حتى تؤدي ما افترض الله عليك، وتجتـنب ما حرم الله عليك، وترضى بما قسم الله لك، ثم تخاف مع هذا ألا يقبل الله منك، ووصف فضيل الإيمان بأنه قول وعمل. وقرأ:
    ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5]
    فقد سمى الله ديناً قيمةً بالقول والعمل، فالقول: الإقرار بالتوحيد والشهادة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبلاغ، والعمل: أداء الفرائض واجتناب المحارم .
    وقرأ: ((وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً))[مريم:54-55].
    وقال: ((شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ))[الشورى:13].
    فالدين: التصديق بالعمل كما وصفه الله، وكما أمر أنبياءه ورسله بإقامته، والتفرق فيه: ترك العمل والتفريق بين القول والعمل.
    قال الله عز وجل: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ))[التوبة:11].
    فالتوبة من الشرك جعلها الله قولاً وعملاً بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
    وقال أصحاب الرأي: ليس الصلاة ولا الزكاة ولا شيء من الفرائض من الإيمان، افتراءً على الله وخلافاً لكتابه وسنة نبيه، ولو كان القول كما يقولون لم يقاتل أبو بكر أهل الردة.
    وقال فضيل: يقول أهل البدع: الإيمان الإقرار بلا عمل، والإيمان واحد، وإنما يتفاضل الناس بالأعمال، ولا يتفاضلون بالإيمان، فمن قال ذلك فقد خالف الأثر وردَّ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله؛ لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان}.
    وتفسير من يقول: الإيمان لا يتفاضل، يقول: إن فرائض الله ليست من الإيمان، فميز أهل البدع العمل من الإيمان، وقالوا: إن فرائض الله ليست من الإيمان، ومن قال ذلك فقد أعظم الفرية، أخاف أن يكون جاحداً للفرائض راداً على الله أمره.
    ويقول أهل السنة: إن الله قرن العمل بالإيمان، وأن فرائض الله من الإيمان، قالوا: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ))[البقرة:82] موصول العمل بالإيمان، ويقول أهل الإرجاء: لا، ولكنه مقطوع غير موصول.
    وقال أهل السنة: (( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ))[النساء:124] فهذا موصول، وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع .
    وقال أهل السنة: (( وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ))[الإسراء:19] فهذا موصول.
    وكل شيء في القرآن من أشباه هذا فـأهل السنة يقولون: هو موصول مجتمع .
    وأهل الإرجاء يقولون: بل هو مقطوع متفرق، ولو كان الأمر كما يقولون، لكان من عصى وارتكب المعاصي والمحارم لم يكن عليه سبيل، فكان إقراره يكفيه من العمل، فما أسوأ هذا من قول وأقبحه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
    (فيه دليل على أن هذا لازم قولهم لا أنه قولهم، فليبحث عن دليل آخر).
    وقال فضيل: أصل الإيمان عندنا وفرعه- بعد الشهادة والتوحيد، والشهادة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبلاغ، وبعد أداء الفرائض -صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وترك الخيانة، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة لجميع المسلمين، والرحمة للناس عامة.
    قيل له -يعني فضيلاً-: هذا من رأيك تقوله أو سمعته؟ قال: بل سمعناه وتعلمناه، ولو لم آخذه من أهل الفـقه والفضل لم أتكلم به.
    وقال فضيل: يقول أهل الإرجاء: الإيمان قول بلا عمل، ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل، فمن قال: الإيمان قول وعمل، فقد أخذ بالوثيقة، ومن قال: الإيمان قول بلا عمل؛ فقد خاطر، لأنه لا يدري أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه.
    وقال -يعني: فضيلاً- قد بينت لك، إلا أن تكون أعمى.
    وقال فضيل: لو قال رجل: مؤمن أنت؟ ما كلمته ما عشت! وقال: إذا قلت: آمنت بالله، فهو يجزيك من أن تقول: أنا مؤمن، وإذا قلت: أنا مؤمن لا يجزيك من أن تقول: آمنت بالله؛ لأن آمنت بالله أمر، قال الله: ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ))[البقرة:136] الآية، وقولك: أنا مؤمن تكلف لا يضرك ألا تقوله، ولا بأس إن قلته على وجه الإقرار، وأكرهه على وجه التزكية.
    وقال فضيل: سمعت سفيان الثوري يقول: من صلى إلى هذه القبلة فهو عندنا مؤمن، والناس عندنا مؤمنون بالإقرار والمواريث والمناكحة والحدود والذبائح والنسك، ولهم ذنوب وخطايا، الله حسيبهم، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، ولا ندري ما لهم عند الله.
    قال فضيل: سمعت المغيرة الضبي يقول: من شك في دينه فهو كافر، وأنا مؤمن إن شاء الله. قال فضيل: الاستثناء ليس بشك.
    وقال فضيل: المرجئة كلما سمعوا حديثاً فيه تخويف، قالوا: هذا تهديد، وإن المؤمن يخاف تهديد الله وتحذيره وتخويفه ووعيده، ويرجو وعده، وإن المنافق لا يخاف تهديد الله ولا تحذيره ولا تخويفه ولا وعيده ولا يرجو وعده.
    وقال فضيل: الأعمال تحبط الأعمال، والأعمال تحول دون الأعمال '' .
    و يتعلق بهذا مباحث مهمة:
    1. ما في ظاهر ألفاظ بعض السلف من اختلاف عما نقلنا وجوابه

      المبحث الأول :-
      ما في ظاهر ألفاظ بعض السلف من اختلاف عما نقلنا وجوابه :-
      سبقت الإشارة إلى أن بعض السلف عبروا عن المعنى الواحد المجمع عليه بينهم بعبارات مختلفة، ولما كان ظاهر بعض هذه العبارات قد يفهم منه مخالفته للعبارة المختارة المنقولة عن الأكثر، وهي: قول وعمل يزيد وينقص، فإنه يحسن بنا إيضاح المسألة ورفع هذا الاحتمال، فنقول:
      قد نقلت كتب السنة -المذكور أكثرها قريباً- مثل: كتاب الخلال، والسنة لعبد الله بن أحمد، واللالكائي، والآجري، وابن بطة، والطبري -أقوالاً من هذا القبيل عن بعض السلف- كـسفيان، والفضيل، والأوزاعي ونحوهم، وبعضها عن المتقدمين من الصحابة والتابعين.
      ومدار هذه الأقوال على وجوه:
      1- من عرّف الإيمان ببعض خصاله، كمن قال: الإيمان هو الصبر واليقين. أو الإيمان هو الصبر والشكر ونحوها، ومعلوم أن هؤلاء لم يقصدوا حقيقة التعريف الاصطلاحي، وإنما قصدوا بيان أهمية هذه الخصلة، وقد ورد نحو ذلك في أحاديث مرفوعة يأتي بعضها في مبحث أعمال القلوب.
      2- من زاد في التعريف زيادة قد يحسبها الناظر ركناً أو قيداً لا يتم التعريف إلا به، وأكثر ما ورد من ذلك زيادة بعضهم لفظ (النية) فقالوا: هو قول وعمل ونية، ومنهم من زاد عليها: موافقة السنة، ومن الواضح أن هذه الزيادات لم يقصد بها أن الكلمة المتواتر نقلها: قول وعمل ناقصة، فاستدركوا على قائليها بهذه الزيادة، وإنما قصدوا التنبيه على صحة النية وموافقة السنة، مع دخولها في أعمال القلب والجوارح التي تشملها جميعاً كلمة قول وعمل على ما سيأتي تفصيله في المبحث التالي.
      وإنما لم يذكرها الأكثرون؛ لأنها شرط لصحة كل عمل شرعي بلا استثناء، فلا حاجة لذكرها في كل تعريف، وأيضاً فإن العبارة هي أشبه بالحد العقلي، والحدود لا تذكر فيها الشروط، وإنما تذكر الأركان، ومما يوضح ذلك: أن الإمام أحمد رحمه الله قال هو أيضاً: ''الإيمان قول وعمل ونية صادقة'' لكن لما سأله بعض تلاميذه: هل لا بد من النية -وهو سؤال يشعر بأن من لم يذكرها قد أخل بالمراد- قال الإمام: النية متقدمة أي: فمن لم يذكرها فلبداهتها، ومن ذكرها فلأهميتها، ففي كلام الإمام هذا إشارة لسبب ترك أكثر السلف لها، وهو أيضاً في أكثر كلامه.
      3- من عبّر بألفاظ أخرى قد يفهم منها أنها تخالف تلك الكلمة أو استدراك عليها، وأشهر هذه الألفاظ قول من قال منهم: هو اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، وهذه العبارة شاعت عند المتأخرين من أهل السنة، والظاهر أنهم اختاروها احترازاً من الفهم الخطأ الذي فهمه المبتدعة -وغيرهم- من قول السلف: قول وعمل، حيث فهموا أن القول خاص باللسان، والعمل خاص بالجوارح، فكأن السلف غفلوا عن الإيمان القلبي، وهذا من أسوأ الفهم، ولهذا اقتضى الأمر تبيين معنى كلام السلف على النحو الآتي في المبحث الثاني.
      يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: ''... ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة في تفسير الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية واتباع سنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح.
      قال: وكل هذا صحيح، فإذا قالوا: قول وعمل، فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام ونحو ذلك إذا أطلق...''
      وذكر اختلاف الأقوال في مسمى الكلام، ثم قال: '' والمقصود هنا أن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح.
      ومن أراد الاعتقاد، رأى أن لفظ القول لا يفهم منه إلا القول الظاهر، أو خاف ذلك فزاد الاعتقاد بالقلب.
      ومن قال: قول وعمل ونية، قال: القول يتناول الاعتقاد وقول اللسان، وأمّا العمل فقد لا يفهم منه النيّة فزاد ذلك.
      ومن زاد اتباع السنة، فلأن ذلك كله لا يكون محبوباً لله إلا باتباع السنة.
      وأولئك لم يريدوا كل قول وعمل، إنما أرادوا ما كان مشروعاً من الأقوال والأعمال، ولكن كان مقصودهم الرد على المرجئة الذين جعلوه قولاً فقط، فقالوا: بل هو قول وعمل.
      والذين جعلوه أربعة أقسام فسروا مراده، كما سئل سهل بن عبد الله التستري عن الإيمان ما هو؟ فقال: قول وعمل ونية وسنة، لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق، وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة ''
      4- من وضع بدل كلمة: قول كلمة: إقرار أو تصديق وعمل، أو نحو ذلك، وهذا أيضاً مما أساء المرجئة فهمه وتأولوه على مذهبهم، مع أن السلف لم يقصدوا المغايرة بين القول والإقرار، أو القول والتصديق، كما أن معنى الإقرار والتصديق عندهم يختلف عما قررته المرجئة وعلى ما يأتي تفصيله في المبحث الثاني، وما أكثر ما ضل المبتدعة بسبب عدم أخذ معاني اصطلاحات السلف من مصادرهم وكلامهم .
    2. معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل

      المبحث الثاني معنى قول السلف: (الإيمان قول وعمل):-
      من الواضح لكل ذي عقل سليم أن معنى قول السلف: الإيمان قول وعمل هو: أنه التزام وتـنفيذ وإقرار واعتقاد وطاعة -بالقلب واللسان والجوارح- ولكن المرجئة باستخدامهم المتكلف لمنطق اليونان والفلسفة الأعجمية العجماء- فهموا أن هذه العبارة حد منطقي غير جامع ولا مانع، إذ لم يفهموا إلا أن القول هو ألفاظ اللسان والعمل حركات الجوارح، فاعترضوا على قول السلف -من هذا الوجه- بأنهم أهملوا إيمان القلب! وتبعهم في هذا بعض المتأخرين ممن تأثر بمنطق هؤلاء ومنهجهم في التفكير .
      وبعضهم ذهب به الخبث إلى التحايل على العبارة نفسها، فقالوا: صحيح أن الإيمان قول وعمل، ولكن من قال بلسانه: لا إله إلا الله- فقد عمل أما عمل الجوارح فليس من الإيمان فأخرجوا عبارة السلف عن معناها البدهي الفطري إلى هذا المعنى السقيم الساقط.
      ولهذا اقتضى الأمر إيضاح معنى كلام السلف بشيء من التفصيل، فنقول:
      إن الإيمان عند السلف حقيقة شرعية في غاية الوضوح، فهي ترادف وتساوي كلمة الدين، حتى إن كثيراً منهم كان نص عبارته: الدين قول وعمل، وليس في معنى الدين خفاء يحتاج معه أي مسلم إلى تكلفات منطقية وسفسطة كلامية، بل لم يكن هنالك حاجة إلى تعريفه أو بيان معناه أصلاً، وكيف يعرفون أمراً يعيشونه ويعملونه ويقرءون حقائقه كل حين.
      فلما ابتدعت المرجئة قولها: إن الإيمان قول فقط -متأثرة بالمنطق الغريب عن الإسلام والفطرة واللغة- أكذبَهم السلف وردوا دعواهم قائلين: بل هو قول وعمل، فمن ها هنا نشأت العبارة. فلا المرجئة الذين ابتدعوا ذلك -أول مرة- أرادوا ألفاظ اللسان المجردة عن إيمان القلب، ولا السلف الذين ردوا عليهم أرادوا ألفاظ اللسان وحركات الجوارح مجردة عن عمل إيمان القلب أيضاً.
      ولكن المعركة الجدلية المستمرة ودافع الهوى والشبهة وترك منطق الفطرة والبديهة إلى منطق اليونان؛ كل ذلك جعل المرجئة يتحايلون على الألفاظ، ويماحكون في المعاني لتصحيح نظريتهم.
      والحاصل: أن أعمال القلوب لم تكن موضع نزاع بين السلف وأصناف المرجئة المتقدمين، إلا فرقة شاذة هي فرقة الجهم بن صفوان ومن وافقه كـالصالحي، وهي فرقة كفرها السلف بهذا، وبمقالاتها الأخرى في الصفات والقدر , كما سنفصل الحديث عنها ضمن فرق المرجئة.
      وإنما أصبحت أعمال القلوب محل نزاع كبير بعد أن تبنى الأشاعرة مذهب جهم في الإيمان، وحصروه في عمل قلبي واحد وهو التصديق، ومال إليهم الماتريدية الذين كان أصل مذهبهم على إرجاء المتقدمين الحنفية، فحينئذٍ بعدت الشقة وعظمت الظاهرة حتى آل الأمر إلى أن تصبح عقيدة الإرجاء الجهمي هي عقيدة عامة الأمة في القرون الأخرى، وهذا ما سيأتي بسط الحديث عنه -بإذن الله- في الباب الخاص بالظاهرة وانتشارها.
      وهذا ما استدعى علماء السنة في عصر انتشار الظاهرة إلى إيضاح معنى قول السلف وبسط القول في أعمال القلوب وأهميتها، وهذا ما نفعله هنا نقلاً عنهم وإيضاحاً لكلامهم:
      يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: ''أجمع السلف أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، ومعنى ذلك: أنه قول القلب وعمل القلب، ثم قول اللسان وعمل الجوارح.
      فأما قول القلب: فهو التصديق الجازم بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ويدخل فيه الإيمان بكل ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      ثم الناس في هذا على أقسام:
      أ- منهم من صدق به جملةً ولم يعرف التفصيل.
      ب- ومنهم من صدق جملةً وتفصيلاً.
      ثم منهم من يدوم استحضاره وذكره لهذا التصديق -مجملاً أو مفصلاً- ومنهم من يغفل عنه ويذهل، ومنهم من استبصر فيه بما قذف الله في قلبه من النور والإيمان، ومنهم من جزم به لدليل قد تعترض فيه شبهة, أو تقليد جازم.
      قال: وهذا التصديق يتبعه عمل القلب، وهو حب الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعظيم الله ورسوله وتعزير الله ورسوله وتوقيره، وخشية الله والإنابة إليه والإخلاص له والتوكل عليه، إلى غير ذلك من الأحوال.
      فهذه الأعمال القلبية كلها من الإيمان، وهي مما يوجبها التصديق والاعتقاد إيجاب العلة المعلول.
      ويتبع الاعتقاد قول اللسان، ويتبع عمل القلب عمل الجوارح من الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحو ذلك''.
      وقال بعد أن نقل عبارات السلف المذكورة في الفصل السابق: ''وليس بين هذه العبارات اختلاف معنوي، ولكن القول المطلق والعمل المطلق في كلام السلف يتناول قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، فقول اللسان بدون اعتقاد القلب هو قول المنافقين، وهذا لا يسمى قولاً إلا بالتقييد، كقوله تعالى: (( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)) [الفتح:11] .
      وكذلك عمل الجوارح بدون أعمال القلوب هي من أعمال المنافقين التي لا يتقبلها الله.
      فقول السلف يتضمن القول والعمل الباطن والظاهر''.
      قال: ''وكذلك قول من قال: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالجوارح، جعل القول والعمل اسماً لما يظهر، فاحتاج أن يضم إلى ذلك اعتقاد القلب، ولا بد أن يدخل في قوله: اعتقاد القلب أعمال القلب المقارنة لتصديقه، مثل: حب الله وخشية الله، والتوكل على الله ونحو ذلك.
      فإن دخول أعمال القلب في الإيمان أولى من دخول أعمال الجوارح باتفاق الطوائف كلها''.
      وقد سبق ضمن كلامه الشبيه بهذا -في الفصل السابق- قوله: ''إن من قال من السلف: الإيمان قول وعمل، أراد قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح''.
      وقوله: '' فإذا قالوا: قول وعمل، فإنه يدخل في القول قول القلب واللسان جميعاً '' وعند هذه العبارة علق المحقق بقوله: وعلى هامش النسخة الهندية: وقول القلب هو إقراره ومعرفته وتصديقه، وعمله هو انقياده لما صدق به.
      ويقول الإمام ابن القيم: ''إن الإيمان قول وعمل، والقول قول القلب واللسان, والعمل عمل القلب والجوارح، وبيان ذلك أن من عرف الله بقلبه ولم يقر بلسانه لم يكن مؤمناً كما قال عن قوم فرعون: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ))[النمل:14].
      وكما قال عن قوم عاد وقوم صالح: ((وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ))[العنكبوت:38].
      وقال موسى لفرعون: ((قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ))[الإسراء:102].
      فهؤلاء حصلوا قول القلب -وهو المعرفة والعلم- ولم يكونوا بذلك مؤمنين، وكذلك من قال بلسانه ما ليس في قلبه لم يكن بذلك مؤمناً، بل كان من المنافقين.
      وكذلك: من عرف بقلبه وأقر بلسانه لم يكن بمجرد ذلك مؤمناً حتى يأتي بعمل القلب من الحب والبغض والموالاة والمعاداة، فيحب الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويوالي أولياء الله ويعادي أعداءه، ويستسلم بقلبه لله وحده، وينقاد لمتابعة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطاعته والتزام شريعته ظاهراً وباطناً. وإذا فعل ذلك لم يكف في كمال إيمانه حتى يفعل ما أمر به، فهذه الأركان الأربعة هي أركان الإيمان التي قام عليها بناؤه''
      والحاصل أن السلف وعلماء أهل السنة والجماعة في كل عصر إنما يستخدمون في منهج التفكير المنطق الفطري البدهي الذي ينقسم عمل الإنسان بحسبه قسمين: ظاهر وباطن .
      فالباطن: قول القلب وعمله، والظاهر: قول اللسان وعمل الجوارح.
      فعلى هذا قالوا: الإيمان قول وعمل، أي: شامل للظاهر والباطن، لا سيما إذا ضممنا إلى ذلك ما هو معروف -بداهةً وفطرةً- من أن حقيقة الإنسان قسمان: قلب وأعضاء، وأعماله قسمان: أقوال وأفعال، فيكون أشمل عبارة أن يقال: قول وعمل بالقلب والأعضاء، وهذا هو مراد السلف قطعاً، وإنما اكتفوا عن آخر الجملة بأولها؛ لأن منهجهم الفطري في التفكير ومنهجهم البليغ في التعبير هو القصد إلى المطلوب بإيجاز دون العروج على ما هو معلوم بداهة.
      وبهذا يظهر أن عبارة قول وعمل على إيجازها جامعة مانعة، لا من جهة أنها حد منطقي -أي تعريف للماهية- ولكن من جهة أنها كشف عن الحقيقة وبيان لها.
      ولذلك فإنني -بعد طول تأمل- أختار هذه العبارة وأفضلها على عبارة: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان ونحوها، على أن تشرح بما أوضحنا آنفاً، ومن أسباب الاختيار:
      أنها المنقولة عن متقدمي السلف، مع إيجازها وشمولها.
      أن العبارة الأخرى لا تسلم أيضاً من الفهم الخطأ.
      فإن فهم بعض الناس -المرجئة وغيرهم- أن: (قول وعمل) تعني قول اللسان وعمل الجوارح دون قول القلب وعمله أمر تنكره البديهة وترده، ولكن العبارة الأخرى توقع في لبس قلَّ من يفطن له ولا يستطيع كل أحد رده، وهو أن هذه الثلاثة- أي الاعتقاد والقول والعمل- منفصلة بعضها عن بعض، بمعنى أن الطاعات -التي هي فروع الإيمان وشعبه- على ثلاثة أقسام: قسم قلبي، وقسم لساني، وقسم عملي وعلى هذا قد يفهم أنه يمكن أن يتحقق في الإنسان ركنان من ثلاثة بأن يتحقق لديه الاعتقاد والقول مع عدم العمل بالكلية، وهذا الذي جزم السلف باستحالة وقوعه.
      وبيان ذلك يتضح من خلال تأمل كلام أحد علماء السنة المحققين- وهو الحافظ ابن حجر -رحمه الله- وهو من هو علماً وفهماً وإحاطة بأقوال السلف، فانظر إليه حين يقول- شرحاً لترجمة البخاري، وهو قول وفعل يزيد وينقص: فأما القول فالمراد به النطق بالشهادتين، وأما العمل فالمراد به ما هو أعم من عمل القلب والجوارح ليدخل الاعتقادات والعبادات. ومراد من أدخل ذلك في تعريف الإيمان ومن نفاه إنما هو بالنظر إلى ما عند الله تعالى.
      فـالسلف قالوا: هو اعتقاد بالقلب ونطق باللسان وعمل بالأركان، وأرادوا بذلك أن الأعمال شرط في كماله، ومن هنا نشأ لهم القول بالزيادة والنقص كما سيأتي .
      والمرجئة قالوا: هو اعتقاد ونطق فقط .
      والكرامية قالوا: هو نطق فقط .
      والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد، والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطاً في صحته، والسلف جعلوها شرطاً في كماله .
      وهذا كله كما قلنا بالنظر إلى ما عند الله تعالى، أما بالنظر إلى ما عندنا فالإيمان هو الإقرار فقط، فمن أقر أجريت عليه الأحكام في الدنيا ولم يحكم بكفره إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم.. الخ
      فقارئ كلامه يفهم منه التناقض بين تعريفي السلف في موضوع العمل، فإنه في التعريف الأول: قول وعمل يعتبر ركناً، في حين أنه حسب التعريف الأخير: اعتقاد وقول وعمل ليس إلا شرط كمال فقط.
      ويفهم منه -كذلك- أن الفرق بين المرجئة والسلف، أن السلف: زادوا على تعريف المرجئة العمل وجعلوه شرط كمال، وعليه فمن ترك العمل بالكلية فهو عند المرجئة مؤمن كامل الإيمان، وعند السلف مؤمن تارك لشرط الكمال فحسب.
      ويمكن أن نفهم منه أيضاً أن تعريف المرجئة والمعتزلة أوجه من تعريف السلف، لأن المرجئة عرفوه بركنين والمعتزلة بثلاثة والسلف عرفوه -حسب فهمه- بركنين وشرط كمال، والتعريفات إنما تذكر الأركان لا الشروط , فضلاً عن شروط الكمال.
      والأهم من هذا ما سبقت الإشارة إليه من توهم انفصال هذه الأجزاء الثلاثة، بحيث يتحقق الركنان: القول والاعتقاد مع انتفاء العمل بالكلية ولا يزيد صاحبه عن كونه ناقص الإيمان، مع أن السلف نصوا على أن تارك العمل بالكلية تارك لركن الإيمان، لأن انتفاء عمل الجوارح بالكلية لا يكون إلا مع انتفاء عمل القلب أيضاً، فلا يصح أن نقول: إنه حقق اعتقاد القلب وترك عمل الجوارح.
      وسيأتي إيضاح لهذا في باب: الحقيقة المركبة الآتي آخر الرسالة، والمقصود هنا تفضيل العبارة المذكورة، وبيان ما في الأخرى من إيهام لم يقصده قائلوها من السلف قطعاً، ولكن وقوعه لبعض المتأخرين يجعل عبارة الأكثرين هي الأولى بالأخذ والاتباع.
    3. معنى الإقرار والتصديق في كلام السلف

      ورد عن بعض السلف تفسير الإيمان بالتصديق، أو وصف الإيمان بأنه تصديق وعمل، أو إقرار وتصديق، ونحو ذلك ولما كانت المرجئة -وخاصة الأشاعرة- يفسرون الإيمان بأنه التصديق القلبي- على ما سنوضحه في بابه- وهم يعنون به مجرد التصديق الخبري الذهني، الذي هو نسبة الصدق إلى المخبر أو الخبر من غير إذعان ولا قبول، كما تقول لمن أخبرك: إن وراء البحر قارة تسمى أمريكا: صدقت، أو من قال: إن مساحة المربع = طول الضلع مضروباً في نفسه : صدقت، لما كانوا يرون ذلك ويعتقدونه، سرهم أن وجدوا في ظواهر بعض كلام السلف مثل تلك الألفاظ وأنزلوها على مذهبهم.
      ومن هنا وجب إيضاح معنى هذين اللفظين في استعمال السلف، فنقول: إن السلف الذين استعملوا هذين اللفظين لم يخرجوا عما ورد به الكتاب والسنة من معنى.
      1- فإن التصديق في الكتاب والسنة -بل وفي لغة العرب- ليس محصوراً في التصديق الخبري، وإنما ورد كذلك في التصديق العملي، أي: تصديق الخبر بالامتثال والدعوى بالعمل، فهو بمعنى التحقيق ومنه قوله تعالى: ((وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا))[الصافات:104-105].
      أي: قد امتثلت الأمر وحقيقته بإضجاعك ولدك وهمك بذبحه باستسلام وانقياد، فكأنه قد ذبحه فعلاً لأن المقصود هو عمل القلب وإسلام الوجه لله، وإلا فالله غني عن ذلك، قال تعالى: (( لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ))[الحج: 37]
      وقريب من ذلك قوله تعالى: (( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ * وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ))[الزمر:32-33].
      فإن أحد معانيها- وهو الأظهر- أن الصدق هو شهادة أن لا إله إلا الله -أي: الإيمان- فهي التي كذب بها الكفار، ومن جاء بها من المؤمنين مصدقاً بها -أو مصدقاً بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهـو المتقي.
      كما فسّر مجاهد الصدق بأنه: القرآن، والذي صدّق به: المؤمنون، قال: [[أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة، فيقولون: هذا ما أعطيتمونا، فعملنا بما أمرتمونا]].
      قال ابن كثير: ''وهذا القول عن مجاهد يشمل كل المؤمنين، فإن المؤمن يقول الحق ويعمل به''
      ومنه قوله تعالى: ((إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ))[الذاريات:5] أي: متحقق لا محالة، ومنه التحقيق: ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ))[الأحزاب:23] أي: وفوا به وحققوه عملاً.
      ومن ذلك آية: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ))[البقرة:177] التي ورد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسّر الإيمان بها كما سبق، حيث قال تعالى في آخرها: (( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا )).
      قال ابن جرير في تفسيرها: '' يعني تعالى ذكره بقوله: (( أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا )) من آمن بالله واليوم الآخر، ونعتهم النعت الذي نعتهم به في هذه الآية, يقول: فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم وحققوا قولهم بأفعالهم'' ثم روى عن الربيع بن أنس أنه قال: [[أولئك الذين صدقوا فتكلموا بكلام الإيمان، فكانت حقيقته: العمل، صدقوا الله]].
      قال: "وكان الحسن يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقته العمل، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء" .
      وقال ابن كثير: ''أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال فهؤلاء هم الذين صدقوا'' .
      وأما السنة: فقد صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} ودلالته على المراد ظاهرة.
      وأما كلام العرب فكثير, ومنه قول كثير عزة- وهو ممن يحتج بكلامه- يمدح أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز:
      وقلت فصدقت الذي قلت بالذي            عملت فأضحى راضياً كل مسلم
      وبهذا يتضح أن من قال من السلف: إن الإيمان تصديق وعمل فإنه يقصد التصديق الخبري المستلزم للإذعان والانقياد، فهي كعبارة: قول وعمل سواء.
      ومثل ذلك قول من قال: إقرار وعمل.
      ومن قال منهم: الإيمان هو التصديق، فمراده التصديق العملي المتضمن للتصديق الخبري العلمي، وهو احتراز ممن يكذب بعمله ما يدعيه بلسانه.
      فمن الخطأ أن يظن ظان أن مرادهم هو مجرد نسبة الصدق إلى المخبر أو ما أشبهه كالمعرفة المجردة أو العلم المجرد.
      وأما الإقرار فكذلك، حيث ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ))[آل عمران:81].
      وقد سبق القول بأن من أسباب ضلال المرجئة -وسائر الفرق- أنهم يرجعون في تفسير الحقائق الشرعية إلى كلام الناس -المحتج بهم وغيرهم- كاستدلالهم على أن الإيمان هو التصديق بأن الناس يقولون: فلان مؤمن بالبعث -أي: يصدق-.
      وكذلك قولهم في الإقرار -حيث حسبوا أن المراد به في كلام المتقدمين- هو المعروف في كتب الفقه في أبواب الإقرار والخصومات، والذي يعني الاعتراف أو تصديق دعوى الخصم.
      ولو أنهم رجعوا إلى الكتاب والسنة لوجدوا الأمر بخلاف ذلك، فإن لفظ الإقرار في هذه الآية يعني إنشاء الالتزام والإذعان، ولهذا ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية أن الإقرار على وجهين:
      أحدهما: الإخبار: وهو من هذا الوجه كلفظ التصديق والشهادة ونحوها, وهذا معنى الإقرار الذي يذكره الفقهاء في كتاب الإقرار.
      والثاني: إنشاء الالتـزام: كما في قوله تعالى: (( أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ )) [آل عمران:81] وليس هو هنا بمعنى الخبر المجرد فإنه سبحانه قال: (( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي )) [آل عمران:81] فهذا الالتزام للإيمان والنصر للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...
      فالإقرار بالمعنى الأول يقابل الإنكار والجحود، وبالثاني يقابل الإباء والامتناع، كما أن الكفر منه كفر إنكار وجحود وكفر إباء وامتناع ككفر إبليس.
      وبهذا يظهر ضلال المرجئة في فهم ألفاظ النصوص ومصطلحات السلف، وإلا فلو رجعوا للكتاب والسنة، وعرفوا معنى الإقرار والتصديق فيهما، ثم فسروا الإيمان بهما على الوجه الصحيح، لما كان الخلاف بينهم وبين أهل السنة إلا لفظياً واختلاف الألفاظ وقع بين السلف كما سبق، ولكن ألفاظ المرجئة -في الحقيقة- إنما هي نتيجة لمنهجهم البدعي في التفكير والاستنباط والاستدلال.
  6. الباب الثاني نشأة الإرجاء

    ويشتمل على: براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء ذاتاً وموضوعاً الإرجاء خارج مذهب الخوارج :
  7. الفتنة الأولى

    روى الإمام مسلم في صحيحه {عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنه- قال: كنا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الفتنة كما قال؟
    قال: فقلت:أنا!
    قال: إنك لجريء، وكيف قال؟
    قال: قلت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    فقال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد التي تموج كموج البحر!
    قال: فقلت: مالك ولها يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً!
    قال: أفيكسر الباب أم يفتح؟
    قال: لا. بل يكسر!
    قال: ذلك أحرى ألا يغلق أبداً.
    قال: فقلنا لـحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟
    قال: نعم, كما يعلم أن دون غد الليلة، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط.            
    قال -أي الراوي عن حذيفة وهو شقيق-: فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب، فقلنا لـمسروق فسأله، فقال: عمر
    }
    أمّا كيف كسر الباب، فقد استفاض في كتب التواريخ، وروي بأسانيد متضافرة أن الهرمزان الفارسي المجوسي، وجفينة النصراني الصليبي قد تآمرا على حياة الفاروق، ونفَذَّ أبو لؤلؤة- عليه من الله ما يستحق- تلك المؤامرة الدهياء، وانكسر الباب.
    ولم يقف التآمر الصليبي المجوسي عند هذا الحد، فقد انضم إليهما شر الثلاثة المكر اليهودي ممثلاً في عبد الله بن سبأ وخلاياه السرية، فأضرمت نار فتنة هوجاء ذهب ضحيتها الخليفة المظلوم ذو النورين عثمان رضي الله عنه ثم تتابعت الفتن كقطع الليل المظلم وما تزال.
    كان مقتل ذي النورين فاجعةً كبرى، ليس لأن الأمة فقدت خليفتها وأفضلها بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصاحبين فحسب، ولكن -أيضاً- لأن هذه الأمة المباركة المصطفاة ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ))[آل عمران:110] بدأت تتزحزح عن قمتها الشاهقة التي لم تبلغها قبلها أمة من الأمم.
    لقد كان ذلك إيذاناً بانقضاء عصر ما كان التاريخ ليحلم بمثله ولا في خيال الحكماء , عصر الجماعة الإنسانية الفذة التي تعيش كالملائكة المطمئنين في الأرض.
    ولا شك أن لله تعالى حكماً بالغة جرت بها مقاديره -له الحمد عليها علمناها أم جهلناها- تحولت هذه الجماعة بمقتضاها من بركان إيماني يعصف بدول الكفر ذات اليمين وذات الشمال إلى أطراف في فتنة داخلية عمياء.
    ومع أن الاصطفاء الرباني لهذه الأمة تجلى حتى في هذا الموقف الحالك، فأثبتت أنها أفضل الأمم خصومة -كما هي أسماها وفاقاً- فقد كانت دسائس الحاقدين ومعاول الهدامين توسع الشقة، وتنكأ الجراح، وتتلاعب بمشاعر الدهماء مستغلة ما أحدثته الفاجعة من اضطراب وارتباك.
    وانفض المأتم العظيم عن آراء متضاربة ووجهات متباينة:
    1- فقد رأت طائفة أن أول واجب على الأمة هو الثأر لخليفتها الشهيد والقصاص من الخونة السفاحين!
    2- ورأى آخرون أن أول ما ينبغي هو اجتماع الكلمة واستتباب الأمور والتجلد حتى تتكشف ذيول المؤامرة ثم يكون استئصال شأفتها وقطع دابر دواعيها.
    3- ورأت طائفة ثالثة أن الخليفة المظلوم لم يتحمل ذلك الحصار الآثم، وينه أتباعه المؤمنين عن فكه إلا حرصاً على ألا تراق قطرة دم أو تثور أدنى فتنة بين أمة الإسلام، فالأولى بمن بعده جميعاً ألاّ يحركوا ساكناً وألا يكونوا طرفاً في أي نزاع -مهما بدت وجاهته- بل إن بعض من يرى هذا الرأي قد خرج من المدينة منذ أن أطلت الفتنة برأسها، وآثروا الابتعاد حتى تسكن العاصفة.
    وكان في ثغور الجهاد وأطراف البلاد فئات لم تعلم عن سير الأمور شيئاً، فلما صدمتها الفاجعة أذهلها الألم عن التفكير، ووقاها بُعد الشقة شر الخوض في الفتنة.
    4- ونبتت فئة أخرى من أحداث الأسنان وضيقي الأفق الذين ترعرعوا في البداوة، وولدوا من سلالة الأعراب، ونشئوا على الجلافة، فقالوا: إن نزول عثمان عن مرتبة الشيخين مبرر كاف لقتله، وإنه ما من إمام إلى قيام الساعة لا يسير سيرتهما إلا استوجب الخلع أو القتل.
    أما الفئة الآثمة المتآمرة، فقد عادت إلى أوكارها، واندست في صفوف الأمة، تستجمع قوتها، وتخطط للمرحلة التالية مدفوعة بيقينها أن أي اجتماع للأمة، فإنه سيتقاضى رءوسها الفاجرة.
    وأدرك بعض من شارك في الفتنة وخدع بمطلب المتآمرين صدق ما روي في الحديث: {عليكم بالجماعة، فإن ما تكرهونه في الجماعة خير مما تحمدونه في الفرقة}.
    فقد كان غاية ما نقموا على أمير المؤمنين عثمان أنه حمى الحمى, وأتم الصلاة في السفر بـمكة, وآثر أقرباءه, وتوسع في الإنفاق من بيت المال والفيء.
    فماذا كانت نتيجة الفتنة ومآل الأمة بعدها في الآجل والعاجل؟
    لقد ثُلم حمى الإسلام نفسه، وهدمت مساجد وثغور، وتولَّى الأمور من لا يساوي بالنسبة لأولئك الأقرباء شيئاً، وأصبح بيت المال بيت مال الملوك والسلاطين.
    وكان ما كان من أمور لا نملك معها إلا أن نقول: قدَّر الله وما شاء فعل.
    ولما كان الجانب الذي يهمنا الآن من هذه الفتنة هو ما يتعلق بظهور فكر المرجئة، فسوف نستعرض موقف الفئات التي كان لها أثر في نشأة الإرجاء إما على الحقيقة وإما على الادعاء.
    1. الفئات التي كان لها أثر في نشأة الإرجاء

      إن الإرجاء من حيث هو موقف نفسي يمكن أن يوجد في هذه الفتنة العمياء وما تلاها، كما يمكن أن ينشأ في أي قضية مماثلة، فإن من سنن الاجتماع أن أي نزاع يشجر بين طائفتين قد يفرز فئة ثالثة محايدة -لأي سبب من أسباب الحياد- وهكذا وجد في عصر الفتنة الأولى وما تلاها أناس اتخذوا هذا الموقف الحياد في الجملة، ولكن شتان بين قوم وقوم،وإن كان موقفهما في الظاهر سواء.
      فقد كانت الفئة المحايدة حينئذٍ تنقسم في حقيقتها أقساماً، بعضها وافق عين الصواب، وبعضها حاد عن الجادة، ووضع قدمه على طريق أوله الحياد وآخره الضلال، وذلك بحسب الدوافع الاعتقادية لموقف كل منهم.
      وأصل هذا التفاوت أن الموقف العام نفسه يُعد فريداً في التاريخ، فليس هناك ما يمكن أن يشبهه من الخلافات الدينية أو السياسية في غير هذا الجيل المصطفى المختار.
      وذلك أن العادة في مثل هذه الخلافات أن الحياد ليس إلا موقفاً سلبياً يمليه توازن المصالح أو التردد والشك، ولكننا هنا أمام صورة فذة يكون فيها الحياد -إن أسميناه كذلك- هو الموقف الإيجابي الذي يحتل مركز الأفضلية بحكم النصوص، في حين يتقاسم الطرفان المتنازعان مركزي الفاضل والمفضول.
      وإذا كان طرفا النزاع هما أهل الشام وأهل العراق- وكلاً آتاه الله فضلاً- فإن الطائفة الفُضلى هي تلك المجموعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم الذين أمسكوا عن الفتنة ولم يكونوا يرون السيف بين المسلمين أصلاً.
      وليس إمساكهم مجرد حياد سلبي -وهو ما ينطبق على موقف المرجئة فيما بعد- بل هو موقف إيجابي شرعي يستند على النصوص الثابتة، كما سنفصل بإذن الله.
      وهذه الحقيقة غابت عن أذهان بعض العلماء، لا سيما من فقهاء العراق ومن تبعهم، وكذا بعض أصحاب الأهواء قديماً- ثم تلاهم من تلاهم من الحاقدين وجهلة الباحثين المحدثين، الذين زادوا بأن نسبوا الصحابة للإرجاء أو نسبوا المرجئة للصحابة.
      ولكن -للإنصاف- لا بد أن نذكر سبب خطأ أولئك العلماء، وهو سبب كثيراً ما يقع فيه الباحثون، ألا وهو التعميم، ولو استخدمنا الاصطلاحات المنطقية لقلنا: إن هؤلاء جعلوا المحمول موضوعاً والموضوع محمولاً، فانقلبت القضية وكذبت.
      فإن قضية: (إن المرجئة ممسكون عن الفتنة صادقة) فإذا أصبحت القضية كل الممسكين عن الفتنة مرجئة صارت كاذبة.
      ولذلك كان لزاماً علينا أن نفصل أقسام المحايدين لنرى أن هذا الحكم إنما ينصب على بعضهم لا على الجميع:
      1- الفئة الأولى:
      بعض كبار الصحابة وأجلائهم رضي الله عنهم مثل: سعد بن أبي وقاص, وعبد الله بن عمر, وأبي هريرة, وزيد بن ثابت, وأسامة بن زيد, ومحمد بن مسلمة، وغيرهم.
      وقد آثرنا- إجلالاً منا لصحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحتساباً في الذب عنهم- أن نفردهم بمبحث مستقل تال .
      2- الفئة الثانية:
      بعض سكان الأطراف والمرابطين على ثغور الجهاد، وهؤلاء كانوا يجالدون الأعداء، ويفتحون الأمصار، فما شعروا إلا والنبأ ينزل عليهم بمقتل أمير المؤمنين عثمان كالصاعقة، ثم فوجئوا بما تلاه من أحداث، فما استطاعوا أن يستبينوا رأياً فيتبعوه أو يرجحوا طرفاً فيوالوه، فآثروا مسالمة الفريقين المتقاتلين والركون إلى حياد لا حيلة لهم في قبوله.
      وعن هؤلاء يقول الحافظ ابن عساكر: إنهم هم الشكاك الذين شكوا، وكانوا في المغازي، فلما قدموا المدينة بعد مقتل عثمان، وكان عهدهم بالناس وأمرهم واحد ليس بينهم اختلاف، فقالوا: تركناكم وأمركم واحد ليس بينكم اختلاف، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون.
      فبعضكم يقول: قتل عثمان مظلوماً وكان أولى بالعدل وأصحابه.
      وبعضكم يقول: كان علي أولى بالحق وأصحابه.
      كلهم ثقة وكلهم عندنا مصدق، فنحن لا نتبرأ منهما ولا نلعنهما، ولا نشهد عليهما، ونرجئ أمرهما إلى الله حتى يكون هو الذي يحكم بينهما.
      فهؤلاء إن صح إطلاق الإرجاء على موقفهم فهو إرجاء حيرة لا إرجاء فكرة، وهذه الحيرة خاصة بقضية الحكم على المختلفين بالخطأ أو الصواب، أما موالاتهم والإقرار بفضلهم وسابقتهم فلم يكن موضوع شك عندهم.
      3- الفئة الثالثة:
      وهي فئة من ذلك الصنف البشري المحدود الإدراك الذي يضيق أفقه أو علمه عن تفهم الخلاف، فتثور نفسه ساخطة على طرفيه حانقة عليهما دون تبصر في الدوافع أو تريث في الحكم، فمنهم فرقة أعلنت نقمتها وسخطها على كل الأطراف، وربما كان أصل ضجرها وحنقها أن المختلفين هم أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم تكن صحبتهم دافعاً لالتماس العذر، بل كانت- حسب فهمهم- مبرراً للعداء والبراء، إذ قالوا: كيف يختلفون ويتـقاتـلون وهم أصحاب رسول الله وأعلم الناس بالدين، والأصل أن يكونوا أكثر الأمة تمسكاً ووفاقاً ودعوةً وجهاداً؟! إذن لقد انحرفوا عما كانوا عليه زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا شك ولا ريب، ومن ثم فلا حرمة لمن نكص على عقبيه، ولا اعتبار لسابقته في الإسلام ما دامت هذه خاتمته!!!
      هذه الفكرة تبناها الفكر الخارجي الذي بلغ به حنقه على الأطراف جميعها إلى تدبير مؤامرة لاغتيال زعمائها علي ومعاوية وعمرو بن العاص -رضي الله عن الجميع- على ما هو مشهور في التاريخ.
      وعلى رأي الملطي رحمه الله -هذه الفئة هي أصل المعتزلة ولا يخفى ما بين المعتزلة والخوارج من تشابه لا سيما في حكم مرتكب الكبيرة.
      كما أن هذا هو أصل المذهب الذي يرى تخطئة وتفسيق أو تكفير كلا الطائفتين، وهو مذهب كثير من أهل الأهواء من المعتزلة والخوارج وبعض المتكلمين والمتفلسفين.
      وكان من هذه الفئة فرقة أقل غلواً وشططاً، فقالوا: ما حدث من الصحابة ما حدث وهم على الدرجة العليا من الفضل والعلم- إلا وفي الأمر ما لا نستطيع إدراكه ولا نأمن مغبة الحكم عليه، وإذا كنا عاجزين عن تصور حقيقة القضية، ولم يكن بالإمكان ترجيح أحد طرفيها، فلنقف موقفاً وسطاً بين القول بأنهم على الحق -الذي يتنافى مع ما بَدر منهم من خلاف واقتتال وبين القول بأنهم على الباطل- وهو ما يتنافى مع فضلهم وسابقتهم.
      وهذا الموقف -في رأيهم- هو أن نبرئ أنفسنا من الوقوف مع أحد منهم أو عليه، فَنكل أمر الجميع إلى الله، وهو الذي يتولى حسابهم، أما نحن فلا نوالي أحداً منهم ولا نعاديه، ولا نشهد له بحق ولا باطل.
      ولم تستطع هذه الفرقة الأخيرة أن تتجرأ على تكفير الصحابة كحال نظيرتها الأولى، ورأوا أن الذي يتفق مع موقفهم، هو اعتقاد أن ما ارتكبوه -أي: الصحابة- هو دون الشرك بالله تعالى، ومن ثَم فهم داخلون تحت المشيئة.
      وهذه هي الطائفة التي يصح أن توصف بأنها أصل الإرجاء، سواء منه ما نشأ في أحضان الخوارج وهو الأعم الأغلب، أو ما كان آراءً فرديةً ومواقف نفسيةً، مثلما ينسب إلى الحسن بن محمد ونحوه على ما سيأتي تـفصيله في المباحث التالية.
    2. براءة الصحابة رضي الله عنهم من الإرجاء ذاتاً وموضوعاً

      إن البحث في نشأة الفكر الإرجائي يستلزم منا بالضرورة أن ندحض بالحجج الصريحة ما ذهب إليه بعض الناس، من القول بأن أصل المرجئة هو تلك الطائفة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي لم تخض فيما خاض فيه غيرها من الفتن، وفضلت الاعتزال والإمساك عن الدخول في تلك المأساة الكبرى.
      وهذا الزعم تبناه قديماً بعض رءوس الضلالة من المتكلمين وأعداء الصحابة, كـالرافضة والخوارج، ولكنه ظل قولاً مهلهلاً مندثراً، حتى بعثه المستشرقون وأتباعهم من المستغربين، فدرج على ألسنة المؤرخين والدارسين للفرق، وتداولوه حتى أصبح كأنه حقيقة مسلمة، وأرجعوا الفضل في اكتشافها إلى المنهج العلمي الذي انتهجه المستشرقون!!
      والمسألة بالنسبة لنا بدهية معلومة من الدين بالضرورة؛ فالكلام في أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دين، والدين لا يؤخذ عن المسلم الفاسق، ولا اعتبار لرأيه فيه، فضلاً عن المبتدع الضال كـالكعبي؛ ، والجاحظ فضلاً عن الكافر الحاقد كعامة المستشرقين.
      والله تعالى قد قال في الفاسقين: ((وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً))[النور:4] والحكم على أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم من مجرد الشهادة، لأنه دين واعتقاد، وإذا كان من شريعتنا رد شهادة المسلم الفاسق في دعاوى الحقوق الدنيوية, فما بالك بمن يتجرأ على خيار الأمة وأفضل البشر بعد الأنبياء من الصليبيين واليهود؟!
      لقد مقت سلف الأمة عمرو بن عبيد، وضللوه وبدعوه من أجل طعنه في المقتتلين من الصحابة، هذا مع ما هو مشهور عنه من الزهد والتعبد ومجانبة السلاطين، فكيف يلتفت المسلم إلى آراء أهل الكتاب الذين تغلي مراجل قلوبهم بالحقد على الإسلام، وتنفث ألسنتهم السُمَ الزُعاف عليه، وما تخفي صدورهم أعظم؟!
      فماذا نتوقع من جولد زيهر اليهودي إلا مثلما ذهب إليه سلفه عبد الله بن سبأ أو أعظم، وماذا نظن بفان فلوتن، وكريمر ووويلهاوسن ، ونيكلسون... وأضرابهم أن يقولوا، والحرب الصليبية لم تتوقف لحظة واحدة، ولن تتوقف حتى تكون الملحمة مع الروم بأرض الشام بين يدي الساعة كما صح عن الصادق المصدوق؟
      وإن من يقبل كلام هؤلاء -بل يجله ويعظمه- يلزمه أن يقبل كلام عبد الله بن سبأ، وحمدان قرمط، وابن الراوندي، وميمون القداح، وابن النغريلة، وإلا فإنه متناقض، أو مخدوع بالمسحة العلمية الحيادية التي يزعمها هؤلاء المستشرقون.
      وما كان لنا أن نأبه بآراء المستشرقين ونشغل بردها، لا في هذه القضية ولا فيما هو دونها، فنحن لا نتوقع منهم إلا هذا ومثله، فقد تبين لي من قراءة كافية في كتبهم أنهم قوم بهت- كما وصف عبد الله بن سلام رضي الله عنه أجدادهم اليهود- وأنهم لو كان الافتراء على الإسلام في السماء لاتخذوا إليه سلماً، ولو كان في الأرض لابتغوا إليه نفقاً.
      ولكن اقتداء كثير من الكتاب المنتسبين إلى الإسلام بهم ومتابعتهم لرأيهم، واستناد هؤلاء وأولئك إلى آراء مخطئة أو أقاويل بدعية، جعل تبيان هذه القضية أمراً ضرورياً.
      فقد نقل عنهم واقتدى بهم علماء شريعة مشهورون، ومتخصصون في العقيدة بارزون، ومؤرخون وأدباء لهم مكانتهم، وذلك مثل: الشيخ محمد أبو زهرة، والدكتور علي سامي النشار، والدكتور مصطفى حلمي، والدكتور نعمان القاضي...فضلاً عن أحمد أمين وطه حسين وسهير القلماوي وشاكر مصطفى وأمثالهم وأتباعهم.
      ويعجب الباحث أيما عجب حين يجد علماء وأساتذة ومؤرخين عرباً مسلمين يعتمدون اعتماداً كلياً على الكتيّب -بل المقال- الضحل السقيم الذي كتبه فان فلوتن بعنوان السيطرة العربية أو الاستعمار العربي، والذي ترجموه مخففاً باسم السيادة العربية!!
      وإنني لأجزم يقيناً- ولو حلف غيري ما عددته حانثاً- هؤلاء الأساتذة لو قدر لأحدهم أن يناقش ما كتبه فلوتن باعتباره رسالة أو بحثاً لأحد الطلبة الأزهريين، لما منحه أدنى درجة علمية، ولأوسعه نقداً وذماً كما هو الحال في كثير من الرسائل العلمية التي هي أعلى مستوى في ذلك.
      فهل كون الكاتب مستشرقاً يجعل ما كتبه مقبولاً، بل حجة ينقل عنها الأساتذة المتخصصون؟! والأنكى من ذلك أن يعارض به كلام المؤرخين المسلمين، حتى في مسألة تاريخية بحتة، كتحديد وفاة الحارث بن سريج!!
      ويبدو لي أن بعض المستشرقين العرب مثل: أحمد أمين وزميله طه حسين وعبد الحميد العبادي قد تنبهوا لما قد يثار عن هذه المسألة، فما أن وجدوا نصاً للنووي يشعر بما يريدون حتى ألحقوه في هامش الكتاب، وكأنما هو أصل مستندهم أو بعضه.
      وبصرف النظر عن الحقد والتعصب لدى المستشرقين، نقول: إن سبب انحراف منهجهم ومن اتبعهم في هذا الموضوع هو القياس الفاسد؛ فلما كانت الخلافة الإسلامية عندهم لا تختلف عن أية حكومة مذهبية، وكان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجرد أشخاص لا يختلفون عن سائر الناس في المطامع والكيد السياسي، فإن الخلاف الذي وقع بينهم لا يعدو في أنظار هؤلاء أن يكون أزمة صراع على السلطة، من ذلك النوع الذي تشهده الحكومات الأوروبية منذ انقراض عصر الملكيات التقليدية!
      أما التزكية الإيمانية والتربية النبوية فأثرها عند هؤلاء محدود أو معدوم، وإليك رأي مؤلفي فجر الإسلام ''حين يتساءلون: إلى أي حد تأثر العرب بالإسلام؟, وهل انمحت تعاليم الجاهلية ونزعات الجاهلية بمجرد دخولهم في الإسلام؟ الحق أن ليس كذلك، وتاريخ الأديان والآراء يأبى ذلك كل الإباء، فالنزاع بين القديم والجديد، والدين الموروث والحديث يستمر طويلاً، ويحل الجديد محل القديم تدريجياً، وقل أن يتلاشى بتاتاً ''
      ولذلك تم تصنيف الفرق الإسلامية وفقاً لتصنيف الأحزاب السياسية والدينية الأوروبية، وابتدءوا ذلك منذ وفاة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل وفي حياته!!
      فجعلوا في الأمة يميناً ويساراً ووسطاً، وفي كل من اليسار واليمين متطرفون ومعتدلون... إلخ، وكذلك قسموها إلى ديموقراطيين وثيوقراطيين ودكتاتوريين... إلخ.
      ولسنا في مقام تفصيل المهازل الساخرة التي أدى إليها تطبيق هذا القياس الفاسد، والخلافات التي لا يقوم أي منها على أساس موضوعي؛ مثل أن يجعل أحدهم الشيعة من اليسار المتطرف، والآخر يجعلها من اليمين المعتدل، ويجعل الخوارج بالعكس...وهكذا.
      ولكن الذي يهمنا هنا هو: أن هذا التصنيف أدى إلى اعتبار الطائفة الممسكة عن الفتنة- من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هي مجرد طائفة سياسية محايدة، ومن ثم جرى طرد القياس على كل طائفة شابهتها في الموقف أو بعضه، ثم إنهم لما رأوا أن لبعض هذه الفرق- التي تنتمي في أصل تصنيفهم إلى الوسط المحايد، كـالمعتزلة وثورة الحارث بن سريج- آثاراً إيجابية في عالمي السياسة والفكر، كان لابد لهم من التعسف والتكلف، فقالوا: إن المرجئة تحولت من تيار الوسط إلى تيار اليسار بفعل التناقضات السياسية... أو ما أشبه هذا من التعليلات!
      فليس مهمّاً لديهم أن تنقلب حقائق التاريخ، فتصبح المعتزلة مرجئة، وتصبح المرجئة حركة ثورية يسارية، وإنما المهم أن تظل معاييرهم الاعتباطية هي الأصل الذي لا ينقلب ولا ينتقض!
      وها هو ذا ما جاء في كتاب فجر الإسلام الذي يمثل خلاصة آراء المستشرقين، والذي نقل عنه أكثر من بعده، ومنهم أبو زهرة:
      '' إن الشيعة والخوارج كانا أول أمرهما حزبين سياسيين تكونا حول الخلافة، وإن رأي الخوارج فيها رأي ديمقراطي، ورأي الشيعة رأي ثيوقراطي، أما المرجئة فكانت.. حزباً سياسياً محايداً.
      ونواة هذه الطائفة كانت بين الصحابة في الصدر الأول، فإننا نرى أن جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امتنعوا أن يدخلوا في النزاع الذي كان في آخر عهد عثمان -مثل: أبي بكرة، وعبد الله بن عمر، وعمران بن حصين '' .
      ثم ساق حديث أبي بكرة الآتي، وقال: ''هذه النزعة إلى عدم الدخول في الحروب بين المسلمين بعضهم وبعض هي الأساس الذي بني عليه مذهب الإرجاء، ولكنه لم يتكون كمذهب -كما رأينا- إلا بعد ظهور الخوارج والشيعة.
      وبعد أن كان مذهباً سياسياً أصبح- بعد- يبحث في أمور لاهوتية، وكانت نتيجة بحثهم تتفق ورأيهم السياسي!! ''
      وفي الحاشية يعلق على ذلك قائلاً: يقول النووي على مسلم: "إن القضايا كانت مشتبهة، حتى أن جماعة من الصحابة تحيروا فيها، فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا، ولم يتيقنوا الصواب ''.
      ونحن قد سبق أن بيّنّا أن الممسكين عن الفتنة أقسام مختلفة، وهنا لا بد من بيان حقيقة موقف الصحابة -رضي الله عنهم-، وخطأ من نسب إليهم الإرجاء، سواء أكان إرجاء شك وحيرة أم إرجاء اعتقاد وبدعة، والأمر في حقيقته يرجع إلى مسألة فقهية، وهي حكم قتال الفتنة الذي جرى بين الصحابة، وحكم قتال الفتنة بين المسلمين عامة .
      ومع إيماننا بأن الأولى هو الكفُّ عما شجر بين الصحابة -رضي الله عنهم- فإنه لا حرج في عرض مواقفهم على النصوص الشرعية التي أمر الله تعالى بالرد إليها في كل نزاع، لا سيما وهي- ولله الحمد- تدل على صحة ما يعتقده أهل السنة والجماعة فيهم، وخاصة أهل الحديث، كـأحمد وسفيان، بخلاف ما ذهب إليه أهل الرأي وكثير من الفقهاء المتأخرين، مع ما في هذا من مصالح، كأخذ العبرة، ونفي التهمة تفصيلاً بعد نفيها إجمالاً فنقول: إن النووي -رحمه الله- شافعي المذهب، وكثير من متأخري الشافعية يرون تصويب علي رضي الله عنه وتخطئة من حاربه أو توقف عن الحرب معه، ولكن النووي رجل محدث، وقد رأى من صحة أحاديث النهي عن القتال في الفتنة وكثرتها ما لم يستطع معه الجزم بتخطئة من قعد عن نصرة علي -أعني الممسكين عن الخوض في الفتنة- فأراد التوفيق والتأويل، فاعتذر عن هؤلاء بأنهم لم يتبين لهم الصواب مع علي أم مقاتليه، ووضع في اعتباره أن القول بترك قتال المسلمين مطلقاً يؤدي إلى جرأة المفسدين وتطاول المجرمين- وهي العلة التي يذكرها الفقهاء المتأخرون كثيراً - فجعل الإمساك عن ذلك مخصوصاً بهذه الحالة وحدها.
      واعتذر عن العمل بالأحاديث بقوله: ''تتأول الأحاديث على من لم يظهر له الحق، أو على طائفتين ظالمتين لا تأويل لواحدة منهما ''.
      وهذا الذي ذهب إليه هو وغيره من الفقهاء يتبين صوابه أو خطؤه باستعراض مواقف الممسكين عن الفتنة واحداً واحداً:
      1- فهذا أسامة بن يزيد- على عظيم صلته بـعلي رضي الله عنهما- يقول عنه مولاه حرملة: [[أرسلني أسامة إلى علي، وقال: إنه سيسألك الآن فيقول: ما خلف صاحبك؟ فقل له: يقول لك: لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه، ولكن هذا أمر لم أره]].
      فـأسامة يفرق بين العلاقة الحميمة وبين أمر لم يجد له في الشرع مخرجاً، ولو رآه جائزاً لما تردد عنه.
      وينقل الحافظ عن ابن بطال: أن أصل موقف أسامة هذا هو ما نذره على نفسه يوم أن قتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله- أنه لا يقاتل مسلماً أبداً.
      2- وهذا أبو موسى الأشعري، وصاحبه أبو مسعود الأنصاري، يعيبان على عمار مشاركته في القتال- وقد كان مع علي- قال شقيق بن سلمة: '' كنت جالساً مع أبي مسعود وأبي موسى وعمار، فقال أبو مسعود: ما من أصحابك أحد إلا لو شئت لقلت فيه غيرك، وما رأينا منك شيئاً منذ صحبت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعيب عندي من استسراعك في هذا الأمر.
      قال عمار: يا أبا مسعود ما رأيت منك ولا من صاحبك هذا شيئاً منذ صحبتما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعيب عندي من إبطائكما في هذا الأمر''
      قال الحافظ: ''كان أبو مسعود على رأي أبي موسى في الكفِّ عن القتال؛ تمسكاً بالأحاديث الواردة في هذا الأمر''.
      فليس هناك اشتباه، بل القضية من الوضوح بحيث يعيبان عماراً
      3- وأما عبد الله بن عمر، فيتخذ هذا موقفاً مطرداً، فهـو لم يشترك في أي قتال بين المسلمين قط، لا زمن علي ولا فيما بعد، لأنه يراه كله قتال فتنة.
      روى البخاري: ''أن رجلاً جاءه، فقال: يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا))[الحجرات:9] إلى آخر الآية، فما يمنعك ألا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟
      فقال: يا ابن أخي، أُعيّر بهذه الآية ولا أقاتل، أحب إليّ من أن أُعيّر بهذه الآية التي يقول الله تعالى: ((وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً))[النساء:93] إلى آخرها .
      قال: فإن الله يقول: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ))[البقرة:193].
      قال ابن عمر: قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان الإسلام قليلاً, فكان الرجل يفتن في دينه, إما يقتلوه وإما يوثقوه حتى كثر الإسلام, فلم تكن فتنة ''
      4- وأما أبو بكرة رضي الله عنه، فإنه لم يقتصر على كفِّ اليد، بل نهى غيره، وأنكر عليه المشاركة في القتال، فقد روى الشيخان عن الحسن البصري أن الأحنف بن قيس أخبره أنه خرج بسلاحه يريد القتال في الفتنة- وكان ذلك يوم الجمل، وقصده القتال مع علي -رضي الله عنه- فلقيه أبو بكرة -رضي الله عنه- فصده عن ذلك، وقال: يا أحنف ارجع، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار}.
      وليس هذا صنيع الحائر المتشكك, بل هو موقف الواثق المستيقن, وسيأتي حديثه الآخر قريباً.
      5- وهناك من المعتزلين للفتنة من كان وضوح أمرها لديه بحيث إنه احتاط لنفسه من شرها بمجرد انفجارها، فهذا سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- لما قتل عثمان -رضي الله عنه- خرج إلى الربذة، وتزوج هناك امرأة، وولدت له أولاداً، فلم يزل بها، حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة .
      فقد تغرب -رضي الله عنه- حوالي أربعين سنة -منذ مقتل عثمان سنة 35 إلى وفاته سنة 74- ثم مات في دار الهجرة كرامة من الله له.
      6- وممن أحجم عن الفتنة، وحدَّث الناس بخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها أبو هريرة رضي الله عنه، فقد حدَّث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وأبو بكرة أنه قال: {ستكون فتن، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأً أو معاذاً فليعذ به}.
      وهذا لفظ البخاري عن أبي هريرة، ولـمسلم عن أبي بكرة زيادة أوضح: {ألا فإذا نزلت- أو وقعت- فمن كان له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه...} الحديث.
      ويتضح من هذه النصوص:
      أولاً: أن الصحابة الذين اعتزلوا الفتن يعتمدون على أصل شرعي ثابت بنصوص صريحة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعضها أوامر عينية في حق المخاطبين بها وبعضها لم نذكره.
      ثانياً: أن من كمال فقه الصحابة -رضي الله عنهم- التفريق بين صحة إمامة علي وبين وجوب القتال معه، بل صحة قتاله، إذ لا يلزم من كونه إماماً حقاً أن يكون قتاله لأهل الجمل وصفين حقاً بإطلاق على ما سنبينه.
      على أن هؤلاء ليسوا هم كل من اعتزل الفتنة، بل اعتزلها من هو أجل منهم مثل: سعد بن أبي وقاص، فإنه لم يكن على ظهر الأرض يوم صفين أفضل منه سوى علي وسعيد بن زيد، أحد العشرة، وهنالك من هو مثلهم، كـزيد بن ثابت، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن مغفل رضي الله عنهم.
      ومنهم أبو برزة الأسلمي -رضي الله عنه- الذي صدع أيام الفتنة بين ابن الزبير والأمويين والخوارج: [[إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطاً على أحياء قريش]] الحديث، وذلك لأنه ''كان يرى الانعزال في الفتنة وترك الدخول في كل شيء من قتال المسلمين'' .
      وبالجملة: هذا هو مذهب أهل الحديث عامة، ومن تأمله ظهر له قوة دلائله النصية, وصدق نتائجه الواقعية، فقد صرح به إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل، وبنى عليه موقفه في رفض الخروج على الدولة العباسية.
      روى عنه الخلال أنه قال: '' ابن عمر وسعد ومن كفَّ عن تلك الفتنة، أليس هو عند بعض الناس أحمد! هذا علي لم يضبط الناس، فكيف اليوم والناس على هذا الحال... السيف لا يعجبني ''
      وقال أبو بكر المروزي: '' سمعت أبا عبد الله -وقد ذكر عنده عبد الله بن مغفل- فقال: لم يتلبس بشيء من الفتن! وذكر رجل آخر فقال: رحمه الله مات مستوراً قبل أن يبتلى بشيء من الدماء ''
      وممن صح النقل عنه من أهل الحديث سفيان الثوري -رحمه الله- وله كلمة عظيمة في هذا، قال: ''نأخذ بقول عمر -رضي الله عنه- في الجماعة، وبقول ابنه في الفرقة ''
      وكان -رحمه الله- يصرح قائلاً: '' لو أدركت علياً ما خرجت معه!! ''
      قال يحيى بن آدم: ''فذكرت قوله للحسن بن صالح فقال: قل له: يحكي هذا عنك؟ فقال سفيان: ناد به عني على المنار.''
      وعلى هذا المذهب كذلك الإمام البخاري صاحب الصحيح، فإن تراجم أبواب كتاب الفتن من صحيحه تنطق بذلك، وعلى منواله كتب مسلم وغيره من المصنفين في هذا الموضوع.
      وقد رجح هذا المذهب، وانتصر له شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في مواضع من كتبه، ومختصر أدلته على ذلك:
      1- النصوص الكثيرة التي استند إليها الممسكون عن الفتنة، ومنها ما سبق إيراده.
      2- ثناء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحسن، لأن الله أصلح به ما بين المسلمين وحقنت الدماء، في حين أنه لم يثن على قتال أبيه لأهل الشام، بل غاية ما وصف به أنه أدنى منهم إلى الحق، بخلاف قتاله للخوارج، فقد أثنى عليه نصاً، كما أن علياً نفسه فرح واستبشر بقتال الخوارج، وتألم وتكدر بقتال أهل الشام.
      3- أن الممسكين عن الفتنة هم من أكابر الصحابة -رضوان الله عليهم- وأفاضلهم، وقد ذكرنا بعضهم قريباً.
      4- أن العبرة بالنتائج والعاقبة، ولا شك أن نتيجة الاقتتال كانت مؤلمة جداً في حين كانت السلامة في الإمساك، ولهذا ندم بعض من شارك، كما في البخاري عن شقيق بن سلمة حين سئل: '' هل شهدت صفين؟ قال: نعم، وبئست صفون ''.
      بل نقل شَيْخ الإِسْلامِ عن علي نفسه أنه قال: '' لله در مقام قامه سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، إن كان براً إن أجره لعظيم، وإن كان إثماً إن خطأه ليسير'' .
      5- أنه لا حجة في استدلال المخالفين بقتال الفئة الباغية، وذلك أن الله تعالى إنما أمر بقتال الباغية، وسماها باغية إذا رفضت الصلح ولم يأمر بقتالها ابتداءً، وللصلح أبواب كثيرة، ولو بالتنازل عن بعض الحق أو كثير منه.
      6- أنه قد كان في الإمكان اتخاذ وسائل غير السيف لتهدئة الأحوال وجمع الكلمة، ومنها ما أشار به ابن عباس على علي بألا يعزل معاوية عن إمرة الشام، بل يبقيه في منصبه حتى يأخذ البيعة منه ومن أهل الشام، فإذا فعل ذلك وكانت المصلحة عزله، فإن رفض الطاعة يكون حينئذٍ باغياً ناكثاً.
      أما وهم لم يدخلوا في طاعة علي ابتداءً، فإن هذا من أقوى استدلالات من يرى صواب موقفهم، لا سيما والثابت أن معاوية رضي الله عنه لم ينازع علياً الخلافة، وإنما اشترط لدخوله في طاعته تسليم قتلة عثمان.
      * ولذلك تفصيل لا مجال له هنا، وحسبنا الإشارة والتنبيه.
      يبقى أن نرد قول من قال: إنه يلزم من هذا تشجيع المفسدين وقطاع الطرق .
      فنقول: إن قتال الفتنة- كما وقع بين الصحابة- شيء، وقتال قطاع الطرق والمفسدين شيء آخر، وقد قتل من الخوارج بـالنهروان قرابة أربعة آلاف فما تألم لهم أحد، وقتل كعب بن سور يوم الجمل فتألمت لذلك الطائفتان جميعاً، فكيف بـطلحة والزبير وعمار؟ فالمفسدون أقرب شيء إلى الخوارج، ولا يتحرج من قتالهم أحد، ولا يترتب عليه تمزيق صف المسلمين، بل فيه حفظ وحدتهم وأمنهم، وكذا دفع الصائل.
      وأما أن يكون المرء عبد الله المقتول ولا يكون عبد الله القاتل، فذلك مشروع في الفتنة بين المسلمين المختلفين اختلافاً اجتهادياً مصلحياً، والله أعلم.
      والحاصل: أن هذا المذهب أقوى من مذهب من يرى أن الصواب مطلقاً هو القتال مع علي، وبالأولى هو أقوى ممن يرى أن الصواب هو القتال مع من حاربه، وبذلك يتضح أنه أقوى المذاهب وأرجحها.
      على أن الذي يهمنا هنا بخصوصه هو بيان خطأ أو ضلال من نسب هؤلاء الصحابة -رضي الله عنهم- إلى الإرجاء، زاعماً أن الأمور اشتبهت عليهم فتبرءوا من الطائفتين كليهما، وأرجئوا الحكم عليهما بالإيمان- بالحق أو الباطل- إلى الله تعالى، فخلطوا بين هذا الموقف, وموقف بعض الخوارج, وموقف الشكاك الذين سبق الحديث عنهما.
      وما أحسن ما قاله شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في براءة الصحابة -رضي الله عنهم- من كل بدعة، قال: '' إن الصحابة -رضوان الله عليهم- خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس، وهم تلقوا الدين عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا واسطة، ففهموا من مقاصده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعاينوا من أفعاله، وسمعوا منه شفاهاً ما لم يحصل لمن بعدهم.
      وهم قد فارقوا جميع أهل الأرض وعادوهم، وهجروا جميع الطوائف وأديانهم، وجاهدوهم بأموالهم وأنفسهم... ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ممن بعدهم، ولم يكن منهم أحد من أهل البدع المشهورة، كـالخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والجهمية، بل كل هؤلاء إنما حدثوا فيمن بعدهم '' .
    3. نماذج من آراء المستشرقين ومقلديهم في الموضوع

      نعرض هنا نماذج من آراء المستشرقين ومن اتبعهم من المحدثين والمعاصرين عن نشأة الإرجاء وفكره، آخذين في الاعتبار ما أشرنا إليه من أن المؤاخذ في الحقيقة هم هؤلاء المقلدون، فإنهم لو استخدموا عقولهم، وحاولوا الاستنباط بأنفسهم،لكان لهم العذر أو بعض العذر إذا أخطئوا, أما وهم ينقلون ويصرحون بالنقل عن المستشرقين، ويتجاهلون تماماً كلام علماء الإسلام الثقات وأئمة السنة المشهورين- هذا إن لم يطعنوا في آرائهم- فلا بد من بيان فساد منهجهم إحقاقاً للحق وعبرة لمن يدرس الفرق والعقيدة، كي لا يغتر بصنيعهم، ولهذا لم أر مناقشة كلام هؤلاء، مع أن بعضهم أساتذة متخصصون في علم الكلام، بل اقتصرت على عرض كلام المستشرقين لأنه الأصل!!
      والمستشرقون الذين تعرضوا للموضوع كثير، وسنكتفي بأهمهم وطرف من مقلديهم:
      1- فان فلوتن.
      2- يوليوس ويلهاوس.
      وهما من أخبث المستشرقين وأكثرهم أثراً في المقلدين، ونحن ننقل من كلامهما ما يغني بنفسه عن التعليق عليه:
      فأما فلوتن، فإن كتيبه السقيم يقوم على فكرة واحدة: هي أن الفتوحات الإسلامية كانت بغرض الاستعمار- على الطريقة الأوروبية- ومن هنا فسر نشأة الفرق بأنها انتقام من الشعوب المستعمرة ضد مستعمريها!!
      يقول: '' لم يكن الغرض من الفتوحات الإسلامية هو إدماج شعب في شعب، أو العمل على نشر دعوة دينية معينة، وإنما هو احتلال بقوة السيف!!''
      ويقول: وهكذا يصور لنا الاحتلال العربي بوجه عام شعباً يعيش على حساب شعب آخر.
      ثم يقول -بعنوان نشأة الفرق الإسلامية-: إن هذه الطوائف التي نشأت بين العرب في البلاد التي فتحوها، إنما كانت ترمي بادئ ذي بدء إلى غرض سياسي محض، رغم ظهورها بالمظهر الديني.
      وبعد أن ذكر -كعادة المستشرقين- أن الصراع على الخلافة هو الذي فرق المسلمين أحزاباً وشيعاً، أخذ في تفصيل هذه الأحزاب تفصيلاً، فقسمها على أربعة أحزاب:
      '' 1- حزب بني أمية: ومقره بلاد الشام، كان يرى أن أمراء هذا البيت أحق الناس بالخلافة.
      2- حزب أهل المدينة!!: وهم أنصار النبي الذين كانوا- لارتباطهم باليمانيين العرب- يعتبرون أن وصول بني أمية إلى الحكم إنما هو انتصار لأعدائهم القدامى من مشركي مكة!!
      3- حزب الشيعة: هم أنصار أهل البيت المتحمسون للدفاع عن حقوقهم في الخلافة، ولا سيما حق علي.
      4- حزب الخوارج: وهم الجمهوريون، وهم الذين كانوا يقولون باختيار الخلفاء من بين الأكفاء أياً كانت الطبقة التي ينتمون إليها!! ''
      وفي حديثه عن المرجئة خاصة يقول -ضمن حديثه عن الثورات التي قامت بها الشعوب المفتوحة على المستعمرين-: ''على أن بعضهم -أي الثوار- قد ذهب إلى أبعد من هذا -أي: المطالبة بالعدالة الاجتماعية بزعمه- فضمنوا عقيدة التوحيد معنى أخلاقياً ودينياً عميقاً ''.
      فما هو هذا المعنى الأخلاقي الذي لا تتضمنه عقيدة التوحيد، حتى أدخله فيها ثوار العجم من المرجئة؟
      يشرحه قائلاً: ''وقد عُزي إلى جهم بن صفوان -أحد رءوس المرجئة وكاتم السر للحارث بن سريج- هذه الكلمات: إن الإيمان عقد بالقلب، وإن أعلن الكفر بلسانه بلا تقية، وعبد الأوثان أو لزم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام، وعبد الصليب وأعلن التثليث في دار الإسلام ومات على ذلك، فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله عز وجل، ومن أهل الجنة '' .
      '' وكان من الطبيعي أن تدفع مثل هذه العقيدة أصحابها إلى احتقار الفرائض العملية للإسلام، ووضعهم واجبات المرء نحو من يحيط به من الناس فوق آراء الفروض التي جاء بها القرآن!! ''يعني أن العدالة والمساواة بين الناس أهم من الالتزام بأحكام الدين!!
      ثم يقول: '' ومن هذه الناحية كان الإرجاء في خراسان أشبه شيء بأثر عكسي أخلاقي لذلك الإسلام الشكلي؛ دين الحكومة العربية في ذلك الحين، تلك الحكومة التي أصرت على عدم المساواة بين جميع رعاياها في الدين، باتباعها النظام الجائر لجمع الضرائب وجباية المكوس '' .
      وأما يوليوس ويلهاوسون فيبدأ من النقطة نفسها، لكنه أكثر وقاحة حين ينسب ذلك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول -أخزاه الله-: '' كان محمد قد بدأ خطواته وهو مقتنع بأن دينه في جوهره نفس الدين اليهودي والنصراني، فكان يتوقع أن يلقاه اليهود في المدينة وقد فتحوا ذراعهم لاستقباله، غير أنه خاب فأله منهم خيبة مريرة، وبما أنهم لم يعتبروا اليهودية معادية للإسلام، بل عدوها مخالفة له، فإنه هو من جهته جعل الإسلام يخالف اليهودية، بل يخالف النصرانية!! فحدد الصيغ والشعائر التي يتميز بها دينه، بحيث انفكت عن التعبير عن النقاط التي تجمع بين الإسلام وإخوانه من الأديان، بل وسَّعت شقة الخلاف ''.
      وبعد أن ذكر أمثلة لذلك من الشعائر؛ كالجمعة والأذان وصيام عاشوراء ورمضان، قال: '' وبينما كان يؤسس الإسلام! على أسلوب يقضي على الطقوس اليهودية والنصرانية، كان يقرِّبه في الوقت نفسه من العروبة، فهو ما فتئ يعتبر نفسه الرسول المرسل للعرب خاصة!! فبدل القبلة، وأعلن أن مكة هي الحرم المقدس بدلاً من القدس، وشرع الحج إلى الكعبة، بل شرع تقبيل الحجر المقدس، وقبل مركز العبادة الوثنية في الإسلام، وأدخل الأعياد الوثنية الشعبية .... ''
      إلى أن يقول: '' وهكذا فصل الإسلام عن اليهودية، وبدل بحيث يصبح ديناً عربياً قومياً ''.
      ويذكر ما لا يطاق ذكره مما أسماه الإرهاب الذي أقامه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضد اليهودية، وأنه تعلل بحجج واهية ليمحو اليهود من الجزيرة، ويوِّرث أملاكهم ومزارعهم إلى المهاجرين- الذين كانوا بزعمه يعتمدون على الغزو -لأنهم حرسه الخاص... في كلام يكشف عن حقد يهودي أسود .
      ومن هذا المنطق يتحدث عن الإرجاء والمرجئة، فيجعلها إنسانية تطالب بالعدالة والمساواة للشعوب التي استعمرها الفاتحون المسلمون.
      ويذكر أن الإسلام انقسم بسبب هذه المسألة قسمين: محافظ، وهو الذي يحترم الجماعة ويؤيد الوضع القائم، وثائر، ومن الثائر: المرجئة والخوارج والشيعة.
      ويقول: '' والمرجئة هم بالحق أكبر أهمية، وكان لهم بقيادة الحارث بن سريج أثر ضخم في التاريخ!! ''
      ويقول: '' لو كان الحارث في الأزمنة الأولى ثورياً تقياً لعد خارجياً، لكنه لم يلزم نفسه بالشروط القاسية التي يبني عليها الخوارج عقيدتهم، إنما ابتدأ مرجئاً، وكاتبه جهم بن صفوان أشهر عالم من علماء تلك الفرقة، واشترك هو بنفسه في الأحاديث والمناقشات المتصلة بالمذهب.
      والإرجاء في الواقع سياسة في جمع الشمل، فالمسائل المختلف عليها استبعدت وتركت لحكم الله، لا سيما تلك المسألة الدائمة التي لا تحل، والتي تتصل بمن هو الإمام الحق الوحيد!! ومن ثم طرقت النقاط التي يمكن الوصول إلى اتفاق فيها على اختلاف نزعات المناوئين المتدينين، وكان ذلك احتجاجاً باسم حكم الدين على الطغيان الواقع، وباسم الشرع المقدس على سوء العدالة وعلى القوة ''.
      ويستمر في كلام خلاصته: أن المرجئة حركة ثورية ضد طغيان المستعمرين الفاتحين، ولهذا وَسَّعت مفهوم الإيمان ليقبل جميع الشعوب المضطهدة، لكي تكون يداً واحدة على الشعب الفاتح.
      وما قرره فان فلوتن ووويلهاوسن لخصه أحمد أمين وشريكاه، وهذبوه من الكلمات الصريحة، وقدموه على أنه فكرة سليمة محايدة، وقد نقلنا بعض كلامهم.
      وعن أحمد أمين نقل الشيخ أبو زهرة ، ونعمان القاضي، وألبير نصري نادر وعن أبي زهرة نقل كثير من الباحثين ثقة منهم في الشيخ.
      بل قل من كتب عن الحارث بن سريج إلا وينقل عن فلوتن، حتى أساتذة التاريخ!!
      3- ومنهم المستشرق اليهودي الحاقد جولد زيهر:
      الذي يتميز بمهارة فائقة في الدس والتزوير والافتراء، وهو يذهب إلى أن المرجئة من أهل السنة والجماعة، وتبعه على ذلك مقلدون كثير، ورأيه هذا يبدو فيه العمق وبعد الهدف الخبيث أكثر من صاحبيه.
      وعلى هذا سار فاروق عمر؛ الذي ينقل عنه -مقراً مؤيداً-: ''لم يكن مذهب أهل السنة والجماعة في بدايته إلا فكرة غامضة مرنة تتسع لكثير من الجماعات، وبعد المحنة التي عركت الأمة الإسلامية أثناء الحرب الأهلية الأولى وما جرى في أعقابها، بانت الخصائص الأولى لمذهب أهل السنة، حيث انقسم المسلمون إلى فئتين تمثل الأولى دين عثمان، وتمثل الثانية دين مروان ''
      والعجيب أن هذا المؤرخ العربي- مع إقراره بهذه الفكرة وبالقسمة المضحكة التي قسمها جولد زيهر- ينقل أيضاً وجهة نظر فلوتن في موضع آخر مؤيداً لها، ناسياً اختلاف نظرة كل من المستشرقين ومرماه البعيد، فيقول: ''ولعل أبيات ثابت قطنة تشير إلى أن المرجئة ستظهر رأيها بوضوح في أعمال الجور والتعسف والفساد، ويؤكد فان فلوتن أن المرجئة كانوا لا يتحرجون عن قتال أية حكومة تقر مثل تلك المظالم ''
      وعلى هذا الرأي سار المؤرخ البعثي شاكر مصطفى، فهو أيضاً يعتبر المرجئة ضمن الاتجاهات التي تشكل ما يسمى: السنة والجماعة، ويسميهم المرجئة أهل الاعتزال الأول، ويصف هذه الاتجاهات قائلاً:
      '' والصفة التي تجمع هؤلاء جميعاً بعضهم إلى بعض هي الوقوف بجانب الخلفاء الأمويين سياسياً في الأزمات، أو المهادنة لهم، والاحتفاظ بالرأي الديني في حيز الفكر، وعدم نقله إلى العمل الثوري '' .
      ولا يخفى تناقض هذا مع ما قرره الآخرون من أن المرجئة حركة ثورية لها أثر ضخم في التاريخ.
      وعليه أيضاً سار الدكتور نعمان القاضي، حيث قال: '' والمرجئة يشكلون كتلة المسلمين التي رضيت حكم بني أمية، مخالفين في ذلك الشيعة والخوارج، متـفقين إلى حد ما مع طائفة المحافظين من أهل السنة، وإن كانوا كما يرى فون كريمر قد ألانوا من شدة عقائد هؤلاء السنيين باعتقادهم أنه لا يخلد مسلم في النار ''
      وتطبيقاً لذلك ذكر الدكتور في الصفحة نفسها اسم سعيد بن جبير -رضي الله عنه- مع الحارث بن سريج، أي: ضمن المرجئة الذين ثاروا على بني أمية، هذا مع غض النظر عن أن الثورة تتنافى مع الرضا الذي ذكر آنفاً فهو تخليط مركب.
      ومن أهم النتائج المترتبة على هذا: قول هؤلاء بأن المرجئة انتهت بظهور دولة بني العباس، سواء أكان السبب هو أن العباسيين يعتبرونها موالية للأمويين، كما يرى أحمد أمين ونعمان القاضي، ولذلك دمروها، أم على الرأي الأخبث الذي ذهب إليه شاكر مصطفى وفاروق عمر وهو أن الدولة العباسية تبنت رسمياً مذهب أهل الحديث فانمحت هذه الفرقة فيهم، ويستدل أصحاب هذا الرأي بأن كتب الحديث إنما ألفت في العصر العباسي.
      4- ومنهم المستشرق فون كريمر:
      وعنه نقل الدكتور القاضي- كما سبق آنفاً- أن المرجئة ألانت من شدة عقيدة أهل السنة والجماعة، باعتقادهم أنه لا يخلد مسلم في النار، ونحن نسأل الدكتور: وما هو مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك؟!
      على أن لـكريمر رأياً يدعو للسخرية، نقلته عنه الكاتبة البعثية زاهية قدورة، وهو أن الثورات التي قامت في العراق ضد بني أمية -ومنها ثورة المرجئة- لم تكن ثورات دينية، بل لذلك علة أخرى لم يفطن لها من المؤرخين إلا هذا المستشرق العبقري!!
      تقول: ونحن نؤيد قول فون كريمر في أن هذه الثورات كانت ثورات العراقيين ضد السوريين، وذلك للعداء الموروث منذ الجاهلية بين العراق والشام، حيث كانت كل من دولة منهما حليفة لدولة معادية.
      5- ومنهم المستشرق نيكلسون:
      صاحب كتاب محاضرات في تاريخ الأدب العربي، الذي يعتمد عليه الكثيرون، ونظرته للموضوع مماثلة لـ فان فلوتن، حيث يعلل لنشأة المرجئة وثورتها -ثورة الحارث بن سريج- بقاعدة عامة هي: ''أن شعوب البلاد المفتوحة لم تدخل في الأخوة الإسلامية إلا نظرياً وظلت مضطهدة محتقرة بالنسبة للسلالة العربية '' .
      6- ومنهم المستشرق بروكلمان:
      الذي كان أكثر دهاءً وخبثاً حين تستر بالعمل العلمي البحت -فهرسة المخطوطات- لينسب الإرجاء إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، فهو يقول: '' في أوائل الإسلام كان محور الجدل يدور أساساً حول المعصية أتبطل الإيمان أم -كما يقول المرجئة- لا تبطله .
      وفي تاريخ دمشق لـابن عساكر.. ذكر عقيدة للمرجئة كان يدرسها محمد بن عقاشة الكرماني.. في البصرة عن سفيان بن عيينة.. عن وكيع بن الجراح.. عن عبد الرزاق بن همام.. عن أمية بن عثمان. ''
      لقد خان بروكلمان الأمانة العلمية حين أقحم كلمة المرجئة في نص مأثور من مصدر متداول مشهور، وخرج عن مهمته التي هي الوراقة والفهرسة، لينصب من نفسه حكماً عقائدياً في الخلاف بين فرق لا تنتمي إلى دينه، ولكن الحقيقة أنه متى سنحت فرصة للدس على الإسلام، فكل مستشرق -أياً كان فنه- هو أستاذ متخصص!!
      على أن المؤلم -كما أشرنا- هو متابعة المقلدين من المنتسبين للإسلام، كما فعل المستشرق التركي فؤاد سيزكين الذي تابع بروكلمان على الخطأ نفسه.
      وبالرجوع لـتاريخ دمشق لن يجد القارئ هذه الكلمة، بل لا يحتاج الأمر لمراجعة، فهؤلاء المذكورون من جلة علماء السلف، ولو أن ابن عساكر نفسه نسبهم للإرجاء لكان هذا تهمة له هو.
      ويقع بروكلمان في خطأ آخر فادح، حين يقرر أن الإرجاء إنما نشأ في الشام، في حين بقيت العراق متمسكة بتعاليم القرآن الأصلية، ويرجع ذلك إلى أثر النصارى الذين كان لهم مكانة عظيمة عند حكام بني أمية!!
      والحقيقة أنه لم ينفرد بذلك، بل شاركه آخرون منهم جولد زيهر، وتبعهم مقلدون عرب في نسبة الإرجاء إلى بني أمية، وأصل هذا هو كتب الرافضة وبعض المعتزلة، وهو مخالف لما تواتر في أخبار المرجئة وأعلام رجالها من أنهم عراقيون -وسيأتي تفصيل ذلك- حتى لقد صرح بذلك الإمام الأوزاعي رحمه الله قائلا: ''وقد كان أهل الشام في غفلة عن هذه البدعة حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة''
      على أنه لا يفوتنا أن نشير إلى أن بعض أتباع الأمويين كان لديهم إرجاء خاص بالملوك والخلفاء، وهو أن الله إذا ولى أحداً خلافة المسلمين كفر سيئاته بحسناته، والظاهر أن هذا رد فعل لغلو الشيعة ضدهم .
      7- وهناك مستشرق آخر هو نلّينو:
      التقط نصاً من الملطي في أصل تسمية المعتزلة، فخلط بين فرقة الاعتزال المعروفة، وبين الممسكين عن الفتنة المعتزلين لها من الصحابة وغيرهم، واعتبر كل من وقف على الحياد في الفتن معتزلياً، فدخلت المرجئة فيهم بهذا الاعتبار، وقد سبق تفصيل القول في أقسام الممسكين عن الفتنة.
      وهذا القول تابعه عبد الرحمن بدوي وعلي سامي النشار،
      والحديث عن المتأثرين بـالمستشرقين وإيراد اسم الدكتور النشار يقتضي منا أن نقول فيه خلاصة ما انتهى إليه الاطلاع الكثير على آرائه:
      وهو أنه على كثرة كتاباته وسعتها وجودة عباراته هو أكثر الباحثين المحدثين اضطراباً وتناقضاً وتخليطاً، وليس في إمكان الباحث أن يجد له رأياً مستقراً أو منهجاً مطرداً.
      وإنما ذكرته لأهمية كتبه عند كثير من الناس، ولأنه أستاذ لكثير من المتخصصين في الدراسات الكلامية في مصر وغيرها، ومن أجلى شنائعه أنه يكفر معاوية رضي الله عنه وأباه، ويعتمد على كتب الرافضة في النقل عن الراشدين وغيرهم، ويجعل أصل مذهب السلف في الصفات هو اليهود والصابئة وسيأتي بعض آرائه في مواضعها.
  8. الفتنة الثانية



    ليست الفتنة الثانية -أي: ما جرى بين علي ومعاوية رضي الله عنهما- إلا امتداداً طبيعياً للفتنة الأولى، وإنما تتميز بأن وجهات النظر المختلفة التي أنتجتها الفتنة الأولى أصبحت منذ هذه الفتنة عقائد متميزة ومناهج متفرقة.
    ويمكن اعتبار واقعة صفين المنطلق التاريخي لهذه الفتنة، بل إن حادثة التحكيم خاصة هي الشرارة التي فجرت بركانها.
    لقد أنتجت هذه الحادثة وذيولها فرقتين كبيرتين، أو بتعبير أصح منهجين كبيرين يحوي كل منهما فرقاً كثيرة، كانت- وما تزال- لها وجودها الملموس وخطها المتميز وانحرافها البعيد.
    هذان المنهجان هما التشيع والخروج، وكلاهما ناشئ عن علة واحدة هي الغلو, ولكنه غلو متضاد.
    ولسنا بالطبع بصدد الحديث عن هذين المنهجين تفصيلاً، ولكن لا بد من الحديث عنهما فيما له أثر في نشأة الإرجاء وتطوره.
    وذلك أن نمو الأفكار والعقائد أشبه شيء بنمو الكائنات الحية ذات الأطوار المتعددة، بل هي أعقد من ذلك بما يعتريها من التداخل والتركيب والامتزاج، ويقارنها من ردود الفعل والتأثرات النفسية والتقلبات الفكرية، فالتفاعل الفكري أعظم- في كثير من الأحيان- من التفاعل المادي.
    وإذ كانت الفتنة الأولى هي المستنقع الذي وجدت فيه جرثومة الإرجاء الأولى، فإن الأحداث التالية قد ولدت جراثيم أخرى, ومع الزمن ظهرت كائنات جديدة تنتمي لتلك الأصول، ولكنها تختلف عنها كثيراً في الشكل والحقيقة.
    وخفاء العلاقة بين أصول هذه الكائنات الفكرية وبين مراحلها المكتملة يبين أحد أسباب الخلاف بين المؤرخين والباحثين في تصنيفها ونشوئها وتطورها، وهو ما يستدعي تحقيق الأمر وتمحيصه.
    وإن من أعظم المطالب العقدية ومن أهم أصول المنهج التاريخي السليم -معاً- أن نعرف الأسباب الحقيقية لتفرق الأمة الإسلامية وخط السير الواقعي لنمو هذه الفرق وتشعبها، وهو ما سوف نحاول إيضاحه بقدر ما يسمح المقام.
    إن معركة صفين نشبت والأمة على منهج اعتقادي واحد يدين به كلا المعسكرين المتحاربين، وهو منهج أهل السنة والجماعة، أي ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الذين ثبتوا جميعاً على الهدى وما بدلوا تبديلاً، وإنما كانت النخالة فيمن بعدهم.
    ولكنها انتهت بظهور معسكر ثالث ذي بدعة اعتقادية ضالة، وهو معسكر المارقة الخوارج، وفي الوقت نفسه كان مثيرو الفتنة الأولى قد أحكموا الخطة لتأسيس دين جديد يكون بمثابة حصان طروادة لهدم الإسلام، وهو دين التشيع الذي أسهم ظهور الخوارج في تبرير خروجه وانتشاره، حيث كان غلو إحدى الطائفتين مبرراً لغلو الأخرى في الاتجاه المعاكس.
    وإذ أصبحت المعسكرات المتحاربة ثلاثة: أهل العراق، أهل الشام، الخوارج؛ فقد أصبحت المناهج الاعتقادية ثلاثة: السنة -وعليها المعسكران المتحاربان- الخروج، التشيع.
    وهذا التفرق وما صحبه من صراع أدى إلى نمو بذرة الإرجاء، التي تكونت في الفتنة الأولى لتصبح منهجاً رابعاً فيما بعد.
    وقبل الحديث عن هذين المنهجين الخروج والتشيع وأثرهما في نشأة الإرجاء وتطوره لا بد من التنبيه إلى قضيتين كبريين:
    الأولى: أن بعض كتب الفرق وما اقتفاها من كتب المستشرقين والمحدَثين قد وقعت في خطأ بالغ حين جعلت ما جرى يوم السقيفة هو أصل الانشقاقات والتفرق، وهولت من هذه الواقعة العادية العابرة، واستجازت تبعاً لذلك أن تـنسب التشيع والإرجاء والخروج إلى الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين، وهذا عين الافتراء ومحض الاختلاف، وإن قال به من قد يكون حسن النية -كما سبق بعض الحديث عن هذا- .
    إن تصوير المسألة على هذا النحو لا يهدر المنزلة السامية للصحابة فحسب، بل ينسف غاية الدين ومهمة الإسلام من أساسها، إذ يتفق مع الرأي الاستشراقي القائل بأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما هو إلا زعيم عبقري وحد قبائل العرب المتناحرة، فلما توفي سرعان ما عاد الخلاف القبلي بين أحياء قريش وغيرها متستراً بالصبغة الدينية!!
    وإذا كان هذا الرسول لم يستطع تزكية نفوس الخاصة من أصحابه ويرفعها عن مستوى الإحن والأحقاد الشخصية والصراع السياسي، فما فعل إذن؟! ومن ربى؟!
    كما أنه يغفل أصلاً عظيماً من أصول الشريعة وهو الفقه السياسي الإسلامي وأصول الحكم والشورى، التي تتبوأ مركزاً مهماً في الشريعة الكاملة الخالدة.
    فإذا كانت هذه الشريعة لم تأتِ من ذلك بما تسير عليه، وتعرفه الصفوة من الصحابة ووارثو منصب القيادة بعد رسول الأمة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما الذي جاءت به إذن في هذا المجال؟!
    وإليك- من بين عشرات الأمثلة- هذا المثال مما كتبه أحد أساتذة التاريخ في عصرنا، الذي يشغل أستاذ التاريخ ونائب رئيس جامعة القاهرة:
    فهذا الأستاذ يتحدث عما جرى يوم السقيفة وكأنه سلسلة ضخمة من الصراع السياسي، على النمط الذي تشهده الحكومات المعاصرة، بل هو أعمق وأعظم، لأنه حسب تصوره أنتج فرقاً تمتد على طول التاريخ الإسلامي!!
    وهو لا يكتفي بأن يعتبر تلك الحادثة المشكلة الخطيرة الكبرى التي واجهت الأمة الإسلامية الفتية، بل يرجع إليها أصل نشأة الفرق حين يقول: '' ويبدأ التاريخ السياسي للشيعة بذلك النفر من كبار الصحابة، الذي رأى عند اجتماع سقيفة بني ساعدة وبعدها أن علي بن أبي طالب أحق الناس بالخلافة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقرابته من بيت النبوة... واشتهر من هذا النفر أبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والعباس وبنوه. وإذ رأوا أن علياً يفضل كلاً من:أبي بكر وعمر في تولي منصب الخلافة '' .
    وهذا الكلام يتعارض وبدهيات التاريخ وحقائقه الثابتة، سواء في بيعة الصديق أو في نشأة التشيع، اللهم إلا أن يكون مستقى من مصادر الشيعة، وكفى بها كذباً وبهتاً.
    ومع ذلك فقد ورد في كتب بعض الباحثين!! وعلى رأسهم الأستاذ الكبير المتخصص علي سامي النشار.
    الثانية: أن انقسام الأمة حينئذ إلى سنة وشيعة وخوارج- كما أسلفنا- لا يعني أبداً تكافؤ هذه المناهج والفرق، سواء من جهة الكم أو الكيف كما يريد المستشرقون وأشياعهم أن يصوروا.
    فهذه القسمة النظرية شيء، والواقع شيء آخر، وذلك أن الخارجين عن السنة والجماعة لم يكونوا إلا شراذم شاذة، وأفراداً معدودين، لا سيما في أول الأمر، ولم يكن فيهم ذو فضل أو سابقة قط، بل كانوا كلهم من الأعراب وحديثي العهد بالإسلام، أو المنافقين من أبناء الأمم المفتوحة وأشباههم.
    وعلى امتداد الثلاثة القرون المفضلة لم يكن أصحاب البدع إلا مستنقعات جانبية على ضفتي تيار الإسلام الضخم، ولم يكن فيها أحد من أئمة الإسلام المتبوعين ورجاله المعدودين قط.
    بل إن البدع مهما نمت أو طفرت تظل كالشجرة الخبيثة، لا تكاد تهب عليها ريح السنة حتى تجتثها إلى قرار سحيق، ومن أعظم الأدلة على ذلك ما جرى في فتنة الإمام أحمد وبعدها، من تبدُّل تام في موقف الدولة والعلماء، حتى ذل المبتدعة واندحروا بعد الظهور والتمكين.
    ومهما يكن من ظهور البدع في بعض العصور، فإن الحقيقة الثابتة هي أن نقاء المنهج السلفي في ذاته لم يتكدر قط، وأن الطائفة المنصورة القائمة عليه لم تزل وستظل إلى أن يأتي أمر الله.
    والمقصود من هذا هو بيان ضلال المستشرقين ومن اتبعهم أو سبقهم من الحاقدين على الإسلام حين يحسبون أن الإسلام مرت به الحال نفسها التي مرت بـاليهودية والنصرانية في عصورهما الأولى، حيث صدعتهما الانشقاقات، واستعلت البدع والمحدثات حتى طغت وسادت إلى أن لم يبق للحق الخالص من يمثله إلا أفراد، لا يكاد يحس بهم أحد، كما صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إخباره أن الله نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم، فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وكما تشهد به التجربة الحية التي خاضها سلمان الفارسي رضي الله عنه بحثاً عن الحق. .
    1. الخوارج .. الظاهرة المضادة

      كلمة الخوارج علم مشهور على تلك الفرقة المعروفة التي وصفها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمروق من الدين، وتميزت عن سائر الفرق بالغلو والإفراط والشطط والتنطع، كما تميزت في منهجها الحركي بالاندفاع والتهور والثورية العمياء، والقابلية السريعة للتمزق والاشتعال.
      فالجلافة طبعهم، وضيق الأفق سمتهم، ما خيروا بين أمرين إلا اختاروا أعسرهما، وما رأوا طريقين إلا سلكوا أشقهما، وما صادفوا احتمالين إلا انحازوا لأبعدهما.
      وقد امتلأت صفحات تاريخهم بنماذج غريبة لعقيدتهم ومنهجهم، فهم يقيمون الدنيا ويقعدونها، ويثورون ويحجمون من أجل إثبات قضية، قد لا تكون ذات شأن، لكنهم يرون أن عدم إثباتها كفر وضلال، فإذا ما تحقق لهم ذلك نكصوا ونكسوا على رءوسهم، وقالوا: قد كنا مخطئين -بل كافرين- حين فعلنا ذلك، فيثورون ويشتطون أشد من الأول من أجل إبطال ما أثبتوه، والتراجع عما قرروه، ويرون ضد ذلك كفراً!!
      وليس هذا فحسب، بل جرى شأنهم أنه خلال هاتين الثورتين الجامحتين ينشق عنهم بعضهم، ويشتطون في التهجم على الطائفة الأصل، ويكفرونها بسبب التردد والتقلب، أو بسبب أحد الرأيين: إما السابق وإما الآخر، ويحدث عندئذ أن ترد عليهم تلك الطائفة بلا تورع ناسبة الكفر إليهم، بسبب مفارقة الجماعة أو بأي سبب تراه.
      ثم إنه غالباً ما ينشأ من حدة هذا الخلاف فرقة ثالثة تتوسط بين الطائفتين، وتتوقف عن كلا الرأيين، فما تلبث أن تعنف منهما، وتوصم بالكفر، لأن كلاً منهما يوجب عليها أن تكون معه، وإلا فهي كافرة.. وهكذا دواليك، سلسلة من تضخيم المواقف أو الاجتهادات والتكفير بها، يصاحبها سلسلة من الانشقاقات الجذرية والمفاصلات الكاملة.
      فقد ابتدأ أمرهم يوم صفين، حين قالوا لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه: عليك أن تقبل تحكيم كتاب الله، وإلا فأنت كافر.
      فلما وافقهم على التحكيم كارهاً مرغماً، قالوا: حكمت الرجال في دين الله، فأنت كافر، لأنه لا حكم إلا لله!!
      فلما قال لهم: ما حكمت مخلوقاً، إنما حكمت كتاب الله، والكتاب خط مسطور، وإنما ينطق به الرجال، وما فعلت ذلك إلا برأيكم، قالوا: قد كنا لما رضينا بالتحكيم كافرين، والآن نتوب من الكفر، فإن شهدت على نفسك بالكفر وتبت، عدنا إلى طاعتك، فقال: أبعد إيماني بالله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهجرتي وجهادي مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشهد على نفسي بالكفر؛ قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين؟!
      وعندما كتبت وثيقة الصلح، وطلب أهل الشام منه أن يمحو كلمة أمير المؤمنين، محاها رضي الله عنه رغبة في الصلح وتصديقاً لما أخبره به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبل.
      فقال الخوارج: قد محوت عن نفسك إمرة المؤمنين فأنت إذن أمير الكافرين! وعندما قيل لهم: عودوا إلى طاعة أمير المؤمنين ولا تشقوا العصا، قالوا: إذا جئتمونا بمثل عمر فعلنا ولما لم يأتهم أحد بمثل عمر اختاروا لإمرة المؤمنين عبد الله بن وهب الراسبي!! وهو أعرابي بوال على عقبيه، لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه، ولا شهد الله له بخير قط. وتجرأ أشقاهم واغتال أمير المؤمنين، وهو أفضل من على وجه الأرض يومئذ، فما ندم ولا جزع، ولما قطع لسانه جزع لفوات ذكر الله عنه كما قال.
      ومر عليهم عبد الله بن خباب، فقالوا له: أنت ابن خباب صاحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، قالوا: فحدثنا عن أبيك، فحدثهم بحديث: { يكون فتنة فإن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فكن } فقدموه فضربوا عنقه، ثم دعوا سريته وهي حبلى فبقروا عما في بطنها، وكانوا قد مروا على ساقته فأخذ واحد منهم تمرة، فوضعها في فيه فقالوا له: تمرة معاهد فيم استحللتها؟ فقال لهم عبد الله بن خباب: أنا أعظم حرمة من التمرة، فلم يبالوا بأن يقتلوه كما بالوا بحرمة تمرة النصراني!!
      ومن النماذج الكثيرة لذلك قصة طويلة، أصلها فتوى فقهية فرعية، لكن تشعب عنها من الآراء والفرق ما يدعو إلى العجب.
      وذلك أنه كان رجل من الإباضية يقال له إبراهيم أفتى بأن بيع الإماء من مخالفيهم جائز، فبرئ منه رجل يقال له: ميمون وممن استحل ذلك .
      ووقف قوم منهم فلم يقولوا بتحليل ولا بتحريم، وكتبوا يستفتون العلماء منهم في ذلك فأفتوا:
      أ- بأن بيعهن حلال وهبتهن حلال في دار التقية .
      ب- ويستتاب أهل الوقف من وقفتهم في ولاية إبراهيم ومن أجاز ذلك.
      ج- وأن يستتاب ميمون من قوله .
      د- وأن يبرءوا من امرأة كانت معهم وقفت فماتت قبل ورود الفتوى.
      هـ- وأن يستتاب إبراهيم من عذره لأهل الوقف في جحدهم الولاية عنه، وهو مسلم يظهر إسلامه.
      و- وأن يستتاب أهل الوقف من جحدهم البراءة عن ميمون، وهو كافر يظهر كفره.
      قال صاحب المقالات: ''فأما الذين وقفوا ولم يتوبوا من الوقف وثبتوا عليه، فسموا الواقفة، وبرئت الخوارج منهم، وثبت إبراهيم على رأيه في التحليل لبيع الإماء من المخالفين، وتاب ميمون '' .
      لكن الأمر لم يقف عند هذا، بل تشعب الخلاف وتطور فافترقت فرقة من الواقفة وهم [الضحاكية] فأجازوا أن يزوجوا المرأة المسلمة عندهم من كفار قومهم في دار التقية، كما يسع الرجل منهم أن يتزوج المرأة الكافرة من قومه في دار التقية، فأما في دار العلانية- وقد جاز حكمهم فيها- فإنهم لا يستحلون ذلك فيها.
      ''ومن الضحاكية هذه انشقت أيضاً فرقة وقفت فلم تبرأ ممن فعله- أي: التزوج والتزويج- وقالوا: لا نعطي هذه المرأة المتزوجة من كفار قومنا شيئاً من حقوق المسلمين، ولا نصلي عليها إن ماتت ونقف فيها، ومنهم من برئ منها '' .
      '' وهكذا صارت الواقفة من [الضحاكية] فرقتين: فرقة تولوا الناكحة، وفرقة ينسبون إلى عبد الجبار بن سليمان، وهم الذين يتبرءون من المرأة الناكحة من كفار قومهم '' .
      ولم يقف الأمر أيضاً عند هذا، بل حدث داخل فرقة عبد الجبار انشقاق آخر جعلها تتفرق فرقاً, وأشعل قضية مشكلة تفرقت الخوارج فيها, وطال خلافهم وهي قضية -حكم الأطفال- أطفال المسلمين وأطفال المشركين في الدنيا وفي الآخرة؛ في دار التقية ودار العلانية!!
      '' وذلك أن عبد الجبار خطب إلى أحد أصحابه -ويدعى ثعلبة- ابنته, فسأله ثعلبة أن يمهرها أربعة آلاف درهم, فأرسل -أي: عبد الجبار- الخاطب إلى أم الجارية مع امرأة يقال لها أم سعيد يسأل هل بلغت ابنتهم أم لا؟ وقال: إن كانت بلغت وأقرت بالإسلام لم أبال ما أمهرتها.
      فلما بلغتها أم سعيد ذلك قالت: ابنتي مسلمة بلغت أم لم تبلغ، ولا تحتاج أن تدعى إذا بلغت، فرد مرة أخرى ذلك عليها, ودخل ثعلبة على تلك الحال, فسمع بتنازعهما فنهاهما عنه, ثم دخل عبد الكريم بن عجرد وهما على تلك الحال، فأخبره ثعلبة الخبر, فزعم عبد الكريم أنه يجب دعاؤها إذا بلغت, وتجب البراءة منها حتى تدعى إلى الإسلام, فرد عليه ثعلبة ذلك، وقال: لا. بل نثبت على ولايتها.... فبرئ بعضهم من بعض على ذلك '' .
      '' ومع انشقاق الضحاكية في مسألة المرأة , وما بني عليها من الفتوى انشقت أيضاً فرقة تدعى البيهسية '' وقد كان رأيها:
      '' أ- أن ميموناً كفر حين حرم بيع المملوكة في دار كفار قومنا, وحين برئ ممن استحل ذلك.
      ب- وكفر أهل الثبت حين لم يعرفوا كفر ميمون وصواب إبراهيم، وأهل الثبت: الواقفة.
      ج- وكفر إبراهيم حين لم يتبرأ من أهل الوقف لوقفهم في أمرهم, وجحدهم الولاية عنه, وجحدهم الولاية من ميمون. ''
      هكذا آل أمرهم في هذه المسألة, والمسائل مثلها كثير, وهو ما يعطي الحقيقة الواضحة عن منهج القوم الفكري وجبلتهم النفسية، وهو المطلوب هنا، ولنا عودة إلى هذا التشقق ونتائجه.
    2. الخروج بين الحدث التاريخي والظاهرة العقدية

      إن القضية المهمة في دراسة مذهب الخوارج وتحليله, هي معرفة الحقيقة في كون الخوارج فرقة تاريخية ظهرت في عصر من العصور, متأثرة بعوامل بيئية وخارجية, أم ظاهرة عقدية وفكرية تتجدد -أو يمكن أن تتجدد- على مر العصور, وهي تحمل دائماً سمات معينة وملامح محددة.
      والبحث في هذه الحقيقة يقودنا إلى أصل نشأة الخوارج؛ لأنه يفسر لنا الواقعة التاريخية الأولى من جهة, ويعين على تحديد السمات والملامح من جهة أخرى.
      والباحثون العصريون والمحدثون, هم الذين أفاضوا في تحليل قضية الخروج, ولكن بمعايير عصرية وبمنهج مستورد -غالباً- فجاءوا بآراء لا بد من مناقشتها, وأهم هذه الآراء شيوعاً -حسبما رأيت- هو الرأي القائل بأن أصل الخروج هو موضوع الخلافة، وأن التعصب القبلي ومنافسة قريش على هذا المنصب هو السبب الذي يفسر خروج الخوارج, ومن توابع هذا الرأي: القول بأن ظلم بني أمية والعباس وجورهم هو السبب.
      والحق أن القائلين بهذا الرأي -رغم اعتمادهم على بعض المأثورات التاريخية- متأثرون بواقع العصر وروحه أكثر من تأثرهم بالحقائق التاريخية المجردة.
      فإن موضوع الخلافة لا يبدو للباحث المنصف المتعمق إلا مسألة جزئية أو تطبيقية عند أكثر الفرق, وليس هو أصل نشأة جميع الفرق كما يصور هؤلاء؛ بل إن الشيعة -وهي الفرقة التي تجعل الخلافة ركناً من أركان الدين- لم يكن أصل نشأتها هي قضية الخلافة نفسها كما سنرى.
      وكون التعصب القبلي سبب ذلك مردود بالحقيقة التاريخية, التي تبين أن أغلب الخوارج هم من بني تميم؛ أي من مضر لا من ربيعة ولا من اليمن, وهذا يستلزم أن يكون تعصبهم لقريش لا لمناوئيها؛ فإن قريشاً مضرية كما هو متواتر عند أهل النسب, بل ثابت بالأحاديث الصحيحة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. .
      وأما اعتماد مؤلفي ضحى الإسلام ومن تابعهم كالشيخ أبي زهرة, على قول المأمون: '' وأما ربيعة فساخطة على الله منذ بعث نبيه من مضر, وما خرج اثنان إلا كان أحدهما شارياً '' فليس في محله؛ لأن العبارة إن صحت فهي تتحدث عن خصوص قبيلة ربيعة, لا عن الخوارج عامة, وقد نظرت في أسماء قادة الخوارج وزعمائهم بـالنهروان فلم أجد فيها ربعياً.
      أما قبيلة بني تميم في الجملة، فالمشهور عنها الفخر بكون النبوة والخلافة في مضر, وقد كان الفرزدق وجرير -وهما أشهر شعراء ذلك العصر- يفتخران بذلك وكلاهما من تميم، ويعيران الأخطل -كل منهما من جهته- بأن قبيلته ربيعة محرومة من هذا الشرف.
      وفي نونية جرير المشهورة:
      إن الذي حرم المكـارم تغلباً             جعل النبوة والخلافة فينا
      وهذا ما يتفق وعبارة المأمون.
      ولا يضير هذه الحقيقة أن يكون دافع الردة بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو التعصب القبلي- أومن دوافعها- وأن يشترك المرتدون والخوارج أحياناً في النسب؛ فإن أي باحث منصف لا يمكن أن يصنف القراء المتعمقين والمرتدين في صنف واحد , بجامع العصبية القبلية ضد قريش.
      إذ يستحيل تصور اللقاء بين فكر متشدد في الدين متعمق فيه إلى حد اعتبار الخطأ أو المعصية كفراً, وبين دعوة تجاهر بادعاء النبوة وإسقاط بعض الفرائض.
      والحق أن الذي جعل دافع الفريقين وغرضهما واحداً, مستدلاً باشتراكهما في النسب, قد جازف مجازفة يمنعها العدل والإنصاف, حتى لو كان حرقوص بن زهير هو حرقوص بن مسيلمة, ولكن أنَّى لهؤلاء الباحثين أن ينصفوا وهم مقلدون للمستشرقين بلا بصيرة.
      ومن الآراء العصرية غير ذلك ما ذهب إليه نفر من الماركسيين والبعثيين, والمتأثرين عموماً بالنظرة المادية الغربية, أو الناقلين نصاً عن المستشرقين, من أن علة ظهور الخوارج هي بيئتهم الصحراوية المجدبة, وواقعهم المادي المسحوق بالمميزات الطبقية التي كان الخلفاء ومن لف لفهم يتنعمون بها، وليس الرد على هذا بأن الخوارج كانوا أزهد الناس في دنيا معروضة عليهم مبذولة لهم فحسب؛ بل إن الحديث الصحيح في نشأة فكرهم ينقضه ويرده.
      فقد روى الإمام البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: { بينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم, جاء عبد الله بن ذي الخويصرة التميمي فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ قال عمر بن الخطاب: دعني أضرب عنقه, قال: دعه؛ فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاته, وصيامه مع صيامه, يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية, ينظر في قذذه فلا يوجد فيه شيء, ثم ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء, ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء, ثم إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء, قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل إحدى يديه-أو قال: ثدييه- مثل ثدي المرأة -أو قال: مثل البضعة تدردر- يخرجون على حين فرقة من الناس .
      قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأشهد أن علياً قتلهم وأنا معه, جيء بالرجل على النعت الذي نعته النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
      }.
      فهذا ما وقع قبل أن يوجد الظلم وجور الحكام بالفعل, فليس الجور هو أصل النشأة, وإن كان مما يعزز الفكرة ويسوغها, ولكنها المثالية المجنحة التي لا تقيم للمصالح والملابسات أي اعتبار, وإنما تنطلق محلقة في الفضاء, لكن سرعان ما يهوي بها الواقع في قرار سحيق.
      مثالية تنتقد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فما ظنها بما حدث زمن عثمان, فما ظنها بما جرى زمن حكام بني أمية والعباس؟!
      صحيح أن رفض انحصار الخلافة في قريش ورفض جور بني أمية والعباس أصبحا من مميزات الخوارج فكراً وحركة, ولكن هذا ناشئ عن التطور الطبيعي للفكرة والحركة؛ وذلك أن أول أمرهم كان المطالبة بمثل عمر في سيرته وعدله, ولم يكن المطالبة بأن الخليفة منهم, ولكنهم لما رأوا إنكار الأمة عليهم ما فعلوه من اختيار أمير للمؤمنين من أعراب بني تميم, دافعوا عما صنعوا دفاعاً قادهم إلى القول بأن الخلافة جائزة لكل مسلم صالح لها قرشياً أو غير قرشي.
      فالفكرة فلسفة تبريرية لما وقع, وليست أساساً اعتقادياً بني عليه الواقع.
      والعلة الحقيقية لظهور الخوارج هي علة نفسية جبلية, وهي أن النفوس البشرية لا تنضبط دائماً على المنهج العدل الوسط, بل تجنح عنه ذات اليمين أو ذات الشمال؛ إما الإيغال المهلك, وإما التفريط المسرف, وقد وقعت الخوارج في الأول كما وقعت المرجئة في الآخر.
      وإنما تنضبط النفوس بالتزكية المستمرة والتقويم الدائب كما حصل للجيل الأول ولهذا تمثلت فيه حقيقة الأمة الوسط في كل شيء .
      وقد تجلت فطرية هذا الدين وكماله وتوازنه في معالجة كلا الانحرافين:
      فإنه لما كان الغلو بطبيعته لا تطيقه إلا نفوس قلائل تنطلق من تصور فاسد, وكثيراً ما تحظى بالإعجاب والإكبار لما تلزم به أنفسها، فيظن الرائي أنها تمثل حقيقة الدين وسموه, جاءت الأحاديث الصحيحة تبين صفات هذه النفوس وشبهات ذلك التصور, فكان التحذير من الخوارج واضحاً باعتبارها فرقة مارقة ذات منهج عقدي متميز.
      ولما كان التفريط بطبعه غالباً على أكثر النفوس؛ جاء التحذير منه متمثلاً في الأوامر والنواهي عامة, والتذكير بها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وضرورة التـناصح بين الأمة, والوعيد للمفرطين.
      والمقصود بيان خطأ النظرة إلى الخوارج باعتبارها حدثاً تاريخياً له تفسيراته المحلية المحدودة, وضرورة النظر إليها على أنها فكرة عقائدية يمكن أن تتكرر في كل زمان ومكان؛ أي: أنها ظاهرة تدين توجد في كل دين وفي كل عصر, وهذا الذي يستشفه المرء من النصوص الواردة فيهم, ومن تبويب كتب السنة والفقه لأحكامهم استقلالاً.
      فالغلو في دائرته الواسعة ظاهرة كبرى في تاريخ الديانات قبلنا, حتى لقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { إنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين }
      وما تأليه المسيح -أو عزير- ورهبانية النصارى إلا مثال لذلك.
      أما هذه الملة فقد ظهر الخوارج في أولها ووسطها وآخرها, وما يزال خروجهم في المستقبل وارداً .
      ومن هنا كان لا بد من معرفتهم ودراسة فكرهم ومنهجهم؛ ليحذر ويجتنب أولاً, ولضمان عدم نشوء رد الفعل المقابل وهو الإرجاء ثانياً.
      وهذه الحقائق النصية والمصالح الشرعية, تضيع منا إذا استسلمنا لمنهج أكثر الباحثين المعاصرين والمحدثين في دراسة الفرق الإسلامية ونشأتها.
      وإذا أحسنا الظن بهؤلاء، وغضضنا الطرف عما لديهم من التقليد الأعمى أو التحريف المتعمد, فإننا نقول: إن مصدر الخطأ في منهجهم هو تطبيق واقع العصر الحاضر ومفاهيمه على العصور السابقة، مع أن لكل عصر مميزاته الواضحة التي يسمونها روح العصر!
      فلأننا في عصر تغلب عليه الصراعات السياسية والتكتلات الحزبية المجردة, والأغراض النفعية الخالصة؛ قام هؤلاء بتطبيق هذا الواقع على ذلك العصر, الذي كانت العقيدة والمبدأ هي المنطلق والأساس لتصرفات الطوائف والفرق, وإن ما قدمته الفرق المنحرفة من تضحيات ضخمة, وجهود هائلة -تتجرد عن أي غرض مصلحي- لهـو أحد الأدلة على ذلك.
      ومن هنا اصطبغت الكتابة التاريخية المعاصرة -إلا ما قل- بالمنهج الغربي, الذي هو بطبيعة الحال ابن بيئته التي تتمرغ في أوحال المادة, وتعاني مرارة الصراع النفعي, ولا تؤمن بما يسمى القيم المجردة, ثم هي بعد ذلك وقبله غارقة حتى الثمالة في النظرة العصبية الحاقدة على الإسلام.
      ويستوي في ذلك من تبنى المنهج الاستشراقي بصراحة؛ مثل أحمد أمين وزميليه، ومن سلك مسلك اليساريين مثل: شاكر مصطفى وزاهية قدورة , ومن نقل بلا روية وتفكر مثل أبي زهرة والنشار.
      وإذا كان أكثر الكتاب المعاصرين يعتبرون ما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم خلافاً دنيوياً سياسياً؛ فلا عجب أن يجعلوا علة ظهور الخوارج والمرجئة دوافع عصبية أو نفعية .
      وحسبنا أن نورد مصطلحاً واحداً من مصطلحات العصر, لنرى كيف كانت نتيجة تطبيقه على تاريخ الفرق ونشأتها، ألا وهو مصطلح السياسة؛ وذلك لارتباطه الواضح بـالعلمانية الفكرية التي يعتقدها هؤلاء.
      فالناظر في كتابات هؤلاء لا يكتم عجبه من التضاد المفتعل بين مفهومي الدين والسياسة، ذلك التضاد الذي أربك آراءهم, وذبذب نظراتهم حول نشأة الفرق الإسلامية, حين يتجادلون ويتساءلون: أكان الخوارج حزباً دينياً أو سياسياً, وكذلك المرجئة والشيعة؟
      فالذين اعتبروا الخوارج فرقة سياسية جعلوا التعصب القبلي وما أسموه الديكتاتورية في الخلافة هو السبب في وجودها والدافع لحركتها, وحاولوا دحض كل ما يخالف ذلك من الآراء.
      أما الذين عدّوها فرقة دينية؛ فقد جعلوا الحماس الديني والزهد المتطرف هو العلة الحقيقية وتنكروا لما عدا ذلك.
      ونسي هؤلاء وهؤلاء أن السياسة -باعتبارها جانباً أساسياً مهماً من جوانب الإسلام- لا يمكن فصلها كلية عن أي اتجاه عقائدي داخل الحياة الإسلامية, وغاية ما في الأمر أن بعض الطوائف يبرز لديها هذا الجانب أو ذاك وأكثر ما يظهر ذلك من المسار الحركي والتطبيقي, لا في الأصول النظرية التي الأصل فيها هو العقيدة والمبدأ.
      ومع أنه لا مانع من استخدام هذه المصطلحات للتقسيم الفني, أو الوصف التغليبي؛ فإنه يجب أن يحذر من اتخاذ ذلك ذريعة إلى الفصل الاعتباطي بين الدين والسياسة, وأن ينبه إلى خلط التطبيق التعسفي لمعايير العصر ومقاييسه على الإسلام وتاريخه المتميز.
      وبخصوص موضوع الخوارج يستطيع الإنسان أن ينقض كلا طرفي الرأي بسهولة, بأن يقال: إن المصادر التاريخية مطبقة على أن الخوارج منذ خروجهم يوم صفين قد اعتقدوا كفر علي رضي الله عنه, لأنه حكم الرجال في دين الله -بزعمهم- ثم تجمعوا وأمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي, وسموه أمير المؤمنين.
      فعلى الذين يرونها فرقة سياسية مجردة؛ أن يفسروا: كيف قامت هذه الفرقة على مبدأ التكفير بالمعصية وتحت أي فصل من فصول السياسة -كما يفهمونها عصرياً- نجعل قضية التكفير بالمعصية وعلى الذين يرونها فرقة دينية أن يفسروا: لماذا اجتمع هؤلاء في ثورة مسلحة, وبايعوا رجلاً منهم أميراً للمؤمنين, في حين أنها فرقة دينية حسب مفهومهم العصري للدين وتحت أي طقس من طقوس الدين -حسب تصورهم- نضع هذا التصرف الذي نشأ مع الحركة منذ ولادتها.
    3. الخوارج ونشأة الإرجاء

      بعد اتضاح أن الخروج ظاهرة وليس حادثة، وبمعرفة السبب الحقيقي لها، نستطيع أن نصل إلى معرفة الظاهرة المضادة التي سلكت منهج الغلو في التفريط، مقابل غلو تلك في الإفراط.
      وعقدة القضية: أن الظاهرة المضادة إنما انبثـقت في الأصل من الظاهرة الأولى نفسها، أي أنهما لم يكونا منذ النشأة منهجين متعاديين، اشتط أحدهما ذات اليمين والآخر ذات الشمال، وإنما هما منهج واحد في الأصل: الخروج، لكن بعضه أشد غلواً من بعض، وتطور الخلاف بين أصحابه في الجانب التطبيقي، ليصبح موضوعه مرتكب الكبيرة الحقيقي من الأمة، بعد أن كان عثمان وعلياً وسائر الصحابة زمن الفتنة.
      وبهذا التطور الذي لم يدرك أبعاده أكثر الباحثين، آل الأمر إلى منهجين متضادين على الحقيقة، وتجاوز الخلاف بينهما حدود الوقائع التاريخية حين النشأة، ليصبح خلافاً نظرياً عاماً مؤصلاً.
      وقد استوقفتني هذه الحقيقة كثيراً -أعني: حقيقة أن أصل المرجئة هم الخوارج لا بطريق التضاد في الغلو بل ذاتاً وحقيقة- وليس سبب ذلك عدم ثبوتها، ولكنه عدم وضوح تعليلها الذي تبين بعد بالتتبع الدقيق لفرق الخوارج.
      ومن هنا ظهرت ضرورة التوسع في دراسة إحدى الظاهرتين، لمعرفة حقيقة الأخرى.
      وإذا ما أردنا الوصول إلى الحقيقة، فإن علينا أن نعرف تلك الظاهرة البارزة في تاريخ الخوارج، وهي الاختلاف والتشقق إلى أكثر من رأي عادة وفي كل قضية تقريباً، وهو ما أنتج بمجموعه ثلاثة اتجاهات كبرى في مواقف فرق الخوارج، منذ حادثة التحكيم إلى بروز منهج الإرجاء قائماً بنفسه وهي:
      1- الاتجاه الغالي المطرد في غلوه.
      2- الاتجاه المتراجع إلى حد التساهل (نسبياً).
      3- الاتجاه التوسطي أو المحايد (التوقف والتبين).
      والقصة التي سبق إيرادها شاهد على هذه الاتجاهات الثلاثة في المواقف، وفي تاريخ الخوارج أمثلة أخرى، يهمنا منها بالأساس قضية حكم مرتكب الكبيرة عندهم، والدار التي يعيش فيها!!
      لقد اشتطت الخوارج، وغلت في النظرة لمرتكب الكبيرة وتشعب بها الخلاف في أحكامه، حتى كفّر بعض فرقها بعضاً.
      لكن ليس هذا فحسب، وإنما الرزية كل الرزية أن مرتكب الكبيرة عندهم ليس هو الزاني أو السارق أو الكاذب ونحوهم من عصاة الأمة، وإنما هو علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعائشة، وأبو موسى، وعمرو بن العاص، ومعاوية، وأمثالهم من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      فالحكم على هؤلاء بالكفر هو أصل عقيدة الخوارج، وحادثة التحكيم هي التي أثارت ذلك كما سبق.
      وهذه هي البداية المهمة في تاريخهم، وفي تاريخ نشأة الإرجاء وانبثاقه من أصولهم، كما ألمحنا.
      فمنذ أن خرجت المحكمة الأولى على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وهي تجاهر بتكفيره، وظل الإجماع بينهم منعقداً على ذلك، وانطلاقاً منه تم الاتفاق على اغتيال رؤساء المختلفين في الفتنة، وهو ما فعله ابن ملجم وأخفق فيه صاحباه.
      لكن هذه البدعة الشنيعة ترعرعت وتطورت، واتخذت فيما بعد مجالاً تطبيقياً وتفصيلياً أوسع من مجرد اعتقاد كفر الصحابة المختلفين، ومن هنا كان طبيعياً أن يظهر الخلاف بينهم تبعاً لمنهجهم السابق إيضاحه.
      وكان من أعظم أسباب تطور الفكرة واتساع مجالها، نجاحهم في حكم بعض الأقاليم في زمن الخلاف بين ابن الزبير والأمويين، حيث أسسوا لهم دار إسلام وهجرة -بزعمهم- ومن هنا ظهرت دواعي الأحكام الفرعية والتطبيقية التي تتخذ عندهم -كما أسلفنا- منزلة الأصول والعقائد.
      ولهذا فسوف نتتبع تطور العقائد والخلافات، من خلال العرض التاريخي للأحداث المسببة لها، وبذلك نصل إلى معرفة أشمل وأعمق، لا سيما عن الاتجاهات الثلاثة، وخاصة الاتجاه التوسطي.
      و يبدأ تاريخ الخلاف بينهم بما أحدثه نافع بن الأزرق الحنفي، زعيم الخوارج الأزارقة حول الحكم على الدار وعلى معاملات أهلها، وهي القضية التي أصبحت أصلاً من أصول الخوارج المنهجية قديماً وحديثاً، إذ سائر الأحكام عندهم مترتبة عليها.
      وكان سبب الاختلاف الذي أحدثه نافع، أن امرأة من الخوارج عربية تزوجت أحد الخوارج من الموالي، فأنكر أهلها عليها ذلك، فأخبرت زوجها، وخيرته بين اللحاق بمعسكر نافع للدخول في دار الإسلام، أو الاختفاء، أو الطلاق، فخلى سبيلها، وأخذها أهلها فزوجوها ابن عم لها لم يكن على رأيها.
      فاختلف الخوارج في حكمها، فعذرها بعضهم بأنها مجبرة وأن الدار بالنسبة لها دار تقية، إذ لا تستطيع إظهار دينها، وترفض الزواج بالمشرك!!
      و لكن نافعاً وحزبه لم يعذروها هي وزوجها، وقالوا: ''كان ينبغي لهما أن يلحقا بنا، لأنا اليوم بمنزلة المهاجرين بـالمدينة، ولا يسع أحداً من المسلمين التخلف عنا، كما لم يسع التخلف عنهم، وبرئوا من القائلين بالتقية ''.
      ثم تطورت المسألة حتى كفَّروا كل من لم يهاجر إليهم، وإن كان على رأيهم، ولم يعذروه، وإن كانت إقامته تقية، وقالوا: إن كل من لم يظهر موافقتهم كافر، لا تحل ذبيحته ولا مناكحته، بل لم يقتصروا على الكبار البالغين وإنما صرحوا بأن حكم الأطفال حكم آبائهم.
      وقالوا: لا بد من امتحان من قصد دارنا، حتى نعلم صحة إسلامه.
      وهكذا برزت قضية الدار، وأصبح من أصول الأزارقة المميزة لهم: '' أن كل كبيرة كفر، وأن الدار دار كفر -يعنون دار مخالفيهم- وأن كل مرتكب كبيرة ففي النار خالداً مخلداً، وأن من أقام في دار الكفر فكافر لا يسعه الخروج ''
      ولم يقفوا عند هذا، بل طبقوا ذلك على أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعلوا من أصولهم تكفير علي بسبب التحكيم، وتكفير الحكمين أبي موسى وعمرو
      وبالأولى يكفرون معاوية وأهل الشام رضي الله عن الصحابة أجمعين .
      وهذه الآراء جعلت نجدة بن عامر الحنفي يستقل عن نافع، وينشئ دار إسلام خاصة به وأصحابه، ومال إلى التخفيف من حدة هذا الغلو، فقرر: أن الجاهل في غير الأصول معذور، حتى تقوم عليه الحجة، وأن المجتهد المخطئ معذور، وأن من خاف العذاب على المجتهد المخطئ قبل قيام الحجة عليه فهو كافر!!
      وأطلق على من لم يهاجر إلى دارهم اسم النفاق -ولم يقل الكفر كـنافع- وقال: إن أصحاب الحدود والجنايات- ممن هو على دينهم- لا يستوجب البراءة بل نتولاه، وأن الله يخلده في النار.
      ومما أحدثه نجدة وأصّله مسألة الإصرار، فقال: إن المصر على أي ذنب صغيرة أو كبيرة كافر وقد تحولت هذه المسألة إلى أصل منهجي من أصول أكثر الخوارج قديماً وحديثاً.
      وكالعادة تفجر الخلاف داخل أصحاب نجدة، فانقسموا ثلاث فرق: النجدية، والعطوية، والفديكية.
      والعطوية: منسوبة إلى عطية بن الأسود الحنفي، الذي فارق نافعاً ونجدة، منتقلاً إلى سجستان بأرض فارس، وهناك انتشر الخوارج وحكموا فترات متقطعة، وتفرقوا أيضاً فرقاً شتى، حيث خرج من العطوية رجل يدعى عبد الكريم بن عجرد، فانبثقت من آرائه خمس عشرة فرقة، يطلق عليها جميعاً اسم العجاردة.
      - فمنهم فرقة قالوا: ''إنه يجب أن يدعى الطفل إذا بلغ، وتجب البراءة منه قبل ذلك حتى يدعى إلى الإسلام ويصفه هو '' وتميزت بذلك.
      - وفرقة أخرى أعادت النظر في مسألة الدار وأهلها، فقالوا: '' إن الواجب هو قتال السلطان خاصة، ومن رضي بحكمه، فأما من أنكره فلا يرون قتله إلا إذا أعان عليهم، أو طعن في دينهم أو صار عوناً للسلطان أو دليلاً له! ''
      - وفرقة ثالثة تفردت بالقول بالتوقف في الأطفال عامة فقالوا: '' ليس لأطفال الكافرين ولا لأطفال المؤمنين ولاية ولا عدواة ولا براءة، حتى يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام، فيقروا به أو ينكروه ''.
      - وفرقة أخرى عممت التوقف فهم: ''يتوقفون عن جميع من في دار التقية، من منتحلي الإسلام وأهل القبلة، إلا من قد عرفوا منه إيماناً فيتولونه عليه، أو كفراً فيتبرءون منه '' .
      وإذا تركنا سجستان وخوارجها، وعدنا إلى اليمامة والعراق، فسنجد أن رجلين من مخالفي نجدة ونافع أسسا فرقتين كبيرتين من الخوارج، وكل فرقة منهما تشعبت كالعادة إلى فرق أخرى.
      - هاتان الفرقتان هما: الصفرية أتباع زياد بن الأصفر، والإباضية أتباع عبد الله بن إباض.
      - وفي الوقت نفسه -على ما يبدو- خرجت طائفة لم يسمها الأشعري، لكن قولها مهم وهو ''أن ما كان من الأعمال عليه حد واقع، فلا يتعدى بأهله الاسم الذي لزمهم به الحد، وليس يكفر بشيء ليس أهله به كافراً، كالزنا والقذف وهم قذفة زناة.
      وما كان من الأعمال ليس عليه حد كترك الصلاة والصيام فهو كافر, وأزالوا اسم الإيمان في الوجهين جميعاً '' .
      وهذه الفرقة ينطبق عليها اسم الإرجاء، من حيث إنها لا تقول بإسلام ولا كفر، فيما كان دون الشرك والكفر، فهي إحدى فرق ما يسمى مرجئة الخوارج والله أعلم.
      * أما الإباضية: فقد مالت إلى مذهب قريب من هذا التوقف أو الإرجاء، وابتعدت عن غلو نافع أكثر مما ابتعد نجدة، وذلك أن جمهور الإباضية يزعمون أن مخالفيهم من أهل الصلاة كفار وليسوا بمشركين حلال مناكحتهم، وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب، وحرام ما وراء ذلك، وحرام قتلهم وسبيهم في السر إلا من دعا إلى الشرك في دار التقية ودان به.
      '' وزعموا أن الدار -يعنون دار مخالفيهم- دار توحيد، إلا عسكر السلطان فإنه دار كفر...
      وقالوا: إن مرتكبي الكبائر موحدون وليسوا بمؤمنين ''.
      وقالوا: ''إن جميع ما افترض الله سبحانه على خلقه إيمان، وإن كل كبيرة فهي كفر نعمة لا كفر شرك، وإن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها '' .
      وأما مسألة الأطفال فقد توقفت الإباضية -أو أكثرهم- فيها، وقالوا: يجوز أن يعذبهم الله، ويجوز ألا يعذبهم على تفصيل فيه.
      وتطورت فكرة التوقف والإرجاء عند الإباضية، بعد حدوث الواقعة التي سبق ذكرها بشأن الإماء والنساء من مخالفيهم، حيث ظهر فيهم فرقة سميت: الواقفة كما سبق.
      وهؤلاء الواقفة -إضافة إلى ما نقلناه من افتراق الضحاكية عنهم، ثم انشقاق الضحاكية- لم يتفقوا على رأي محدد، بل ''اختلفوا في أصحاب الحدود، فمنهم من برئ منهم، ومنهم من تولاهم، ومنهم من توقف، كما اختلفوا في أهل دار الكفر عندهم، فمنهم من قال: هم عندنا كفار إلا من عرفنا إيمانه بعينه، ومنهم من قال: هم أهل دار خلط فلا نتولى إلا من عرفنا فيه إسلاماً، ونقف فيمن لم نعرف إسلامه'' .
      وقد ظهر للواقفة عدو منافس هم فرقة البيهسية أصحاب أبي بيهس، الذي كفر الواقفة بسبب المسألة المذكورة كما سبق، وعلل ذلك بالتفريق بين التوقف في الحكم نفسه، والتوقف في حق من ارتكبه قائلاً: ''إن الوقف لا يسع على الأبدان، ولكن يسع على الحكم بعينه ما لم يواقعه أحد من المسلمين، فإذا واقعه أحد من المسلمين، لم يسع من حضر ذلك ألا يعرف من أظهر الحق ودان به، ومن أظهر الباطل ودان به '' .
      أي: أن الإنسان قد يتوقف عن حكم ما لا يدري أهو كفر أم إيمان، فإذا فعله فاعل وحضر ذلك، فلا بد أن يعرف أهو محق أو مبطل في فعله، ويحكم عليه بالكفر أو الإيمان، بحسب الاجتهاد والعذر ونحو ذلك.
      وعابت البيهسية مخالفيهم في ذلك، وأسمتهم الواقفة.
      ثم إنه انشقت عن البيهسية فرقة يقال لها العوفية وهي في الحقيقة فرقتان: فرقة تقول: "من رجع من دار هجرتهم ومن الجهاد إلى حال القعود، نبرأ منهم '' وفرقة تقول: '' لا نبرأ منهم، لأنهم رجعوا إلى أمر كان حلالاً لهم ''
      وكلا الفريقين من العوفية يقولون: ''إذا كفر الإمام فقد كفرت الرعية، الغائب منهم والشاهد ''.
      وهم بهذا الرأي الأخير يعودون إلى ما قالته المحكِّمة ونافع من قبل، وإن كان الكفر عندهم يختلف عن الكفر عند أولئك، ولكن غلو هذه الفكرة واضح، حتى في حق من ارتكب الكفر الحقيقي.
      ولا أدري ما الفرق بين هذه الفرقة وبين الفرقة الأخرى من البيهسية، التي قال عنها أبو الحسن: ''وقالت طائفة من البيهسية: إذا كفر الإمام كفرت الرعية، وقالت: الدار دار شرك وأهلها جميعاً مشركون، وتَركت الصلاة إلا خلف من تعرف، وذهبت إلى قتل أهل القبلة وأخذ الأموال واستحلت القتل والسبي على كل حال '' .
      إلا أن يكون ما زاده في هذه لم تذهب إليه تلك، فالله أعلم.
      ثم ينقل عن فرقة أخرى من البيهسية أنهم قالوا: ''من ارتكب كبيرة لم نشهد عليه بالكفر، حتى يرفع إلى الإمام أو الوالي ويحد، فوافقهم على ذلك طائفة من الصفرية إلا أنهم قالوا: نقف فيهم ولا نسميهم مؤمنين ولا كافرين ''.
      وإذا انتقلنا للحديث عن الصفرية نجد هذا الاتجاه -أعني التوقف والإرجاء- لدى فرقة أخرى منهم غير هذه، وهي الفرقة المسماة الحسينية.
      وهم: ''يرون الدار دار حرب وأنه لا يجوز الإقدام على من فيها إلا بعد المحنة، ويقولون: بالإرجاء في موافقيهم خاصة كما حكي عن نجدة ''.
      وما عداه فليس للصفرية قول متميز ذو شأن، إلا إذا صحت نسبة صالح بن مسرج إليهم .
      وصالح هذا كان من زعمائهم، حكم ببعض أحكام في الغنائم وغيرها، فاختلف عليه الخوارج في ذلك، فبرئت منه فرقة فسميت الراجعة، وصوب أكثر الخوارج رأي صالح، ووقف شبيب في صالح والراجعة وقال: لا ندري ما حكم به صالح حقاً كان أو باطلاً.
      ويقال: ''إن أكثر الراجعة عادوا إلى قول صالح.. فأما بعض الإباضية فيذهب إلى أن الذين برئوا من صالح كفروا، وأن من وقف في كفرهم كفر ''.
      وأما شبيب فقد انتسب إليه فرقة تسمى الشبيبية، وذلك أن شبيباً وقف في صالح وفي الراجعة فقالوا: ''لا ندري أحق ما حكم به صالح أم جور. وحق ما شهدت به الراجعة أم جور. فبرئت الخوارج منهم وسموهم: مرجئة الخوارج ''.
  9. الخلاصة والنتيجة

    نخلص من هذا العرض لفرق الخوارج واختلافاتها واتجاهاتها الثلاثة في الخلاف- كما أشرنا- إلى أن الحكم على مرتكب الكبيرة هو أساس أصولهم، ومجمع زمامها، سواء المجمع عليه منها، أو المختلف فيه، وبحسب الحكم عليه يكون الحكم على الدار التي ينتمي إليها.
    فإذا ما عدنا إلى منبع الفكرة وسببها، وهو حادثة التحكيم، وعرفنا أن مرتكب الكبيرة عندهم إنما هو بالقصد الأول علي وعثمان ومعاوية وعمرو وأبو موسى وطلحة والزبير.. إلخ، وأن كل من ارتكب كبيرة بعدهم، فالحكم عليه في نظر أي فرقة من الخوارج، إنما هو بحسب حكمها على أولئك الأصحاب السابقين.
    إذا علمنا ذلك، برزت لنا حقيقة مهمة، وهي أن طائفة من الخوارج -تشمل فرقاً أو بعض فرق- تقف من الحكم على الأصحاب المختلفين في الفتنة موقفاً وسطاً، بين قول المحكمة والأزارقة، الذين يكفرونهم رأساً، وبين قول الإباضية ونحوهم، ممن يقول: هم كفار نعمة.
    وهذا الموقف هو التوقف والإرجاء، أي إرجاء حكمهم في الآخرة إلى الله تعالى، مع إثبات اسم الإيمان لهم في الدنيا، بناءً على الأصل الذي اتخذته أكثر فرق التوقف، وهو أن كل معصية دون الكفر لا يطلق على صاحبها اسم الكفر، ولا ينفى عنه اسم الإيمان.
    فتكون خلاصة عقيدة هذه الطائفة: '' أن كل من ارتكب كبيرة، دون الشرك بالله تعالى، فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، أما في الدنيا فنحن نجزم بكفر من أشرك بالله فقط، وما عداه نثبت له اسم الإيمان. ''
    وبغض النظر عن مفهومهم لمصطلحي الكفر والإيمان، ومدى موافقته لـأهل السنة والجماعة من عدمها، فالمهم هو أنهم لا يحكمون على مرتكب الكبيرة، كالزنا والقذف والسرقة بالكفر والخلود في النار، كعامة الخوارج, بل يرجئون أمره إلى الله تعالى، فإذا ما أرادوا تطبيق هذا الأصل على ما تقرر لديهم، من كون الصحابة المختلفين في الفتنة مرتكبين للكبائر، كانت النتيجة: أن عثمان وعلياً وطلحة والزبير ومعاوية.. إلخ مؤمنون لأنهم لم يشركوا بالله، فلا ننفي عنهم اسم الإيمان، ولكن لا ولاية لهم ولا محبة، نظراً لما ارتكبوه، ومقتضى ذلك -كما رأينا من واقع انشقاقاتهم- أن يقولوا: إن الخوارج مخطئون في تكفيرهم لهم!!
    وإذا أضفنا إلى هذا ما لاحظناه من براءة الخوارج من مخالفيهم ومنابذتهم لهم، وتصورنا ما لا بد أن تتعرض له هذه الطائفة من مهاجمتهم وعداوتهم، وما سوف تقابلهم به هي بطبيعة الحال، أدركنا أن من الممكن المعقول أن يتعمق العداء بينهما، ليصبح عداءً بين منهجين متفاصلين متضادين، لا سيما إذا وضعنا في الحسبان أن هذه العقيدة تتفق مع الإرجاء، الذي هو موقف نفسي يمكن أن يقع عند كل خلاف، كما أسلفنا وذكرنا وجهة نظر أصحابه في الفتنة الأولى.
    ويؤكد لنا صحة ما ذهبنا إليه منطوق قصيدة ثابت قطنة، المسمى شاعر المرجئة وهي ما يوصف بأنه الأثر الإرجائي الوحيد الباقي.
    وهذا ما يقودنا تلقائياً إلى الحديث عما سمي تاريخياً المرجئة الأولى, والاستقلال عن موضوع الخوارج ابتداءً من هذه النقطة.
    1. المرجئة الأولى

      المرجئة الأولى علم على الطائفة التي فصلنا الحديث عن نشأتها في المبحث السابق أي الاتجاه التوسطي أو التوقفي من الخوارج ومن وافقها في نظرتها للصحابة خاصة.
      وهذه التسمية صحيحة وثابتة، وما حفظه التاريخ عن هذه الطائفة -على قلته- يكفي لإعطاء تصور جيد عنها.
      ولن نتبع منهج المؤرخين والباحثين في استقاء فكرتها من قصيدة ثابت قطنة ونحوها، بل نسلك مسلك المحدثين، فنأخذ الحديث عنها من مصادره الصحيحة -إن وجدت- ثم نعرج على ما أثر في كتب التاريخ والفرق والأدب.
      يقول الإمام الحجة محمد بن جرير الطبري في كتابه تهذيب الآثار: '' فإن قال لنا قائل: ومن هم المرجئة؟ وما صفتهم؟
      قيل: إن المرجئة هم قوم موصوفون بإرجاء أمر مختلف فيما ذلك الأمر؟ فأما إرجاؤه فتأخيره، وهو من قول العرب: أرجأ فلان هذا الأمر فهو يرجئه إرجاء، وهو مرجئه، بهمز. وأرجاه فلان يرجيه إرجا، بغير الهمز فهـو مرجيه، ومنه قول الله تعالى ذكره: ((وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ))[التوبة:106].
      يقرأ بالهمزة وغير الهمز بمعنى: مؤخرون لأمر الله، وقوله مخبراً عن الملأ من قوم فرعون: ((قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ))[الأعراف:111] بهمز أرجه وبغير الهمز
      فأما الأمر الذي بتأخيره سميت المرجئة مرجئة، فإن ابن عيينة كان يقول فيما حدثني عبد الله بن عمير الرازي قال: سمعت إبراهيم بن موسى -يعني الفراء الرازي- قال: سئل ابن عيينة عن الإرجاء؟ فقال: الإرجاء على وجهين: قوم أرجوا أمر علي وعثمان، فقد مضى أولئك. فأما المرجئة اليوم فهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل، فلا تجالسوهم ولا تؤاكلوهم ولا تشاربوهم ولاتصلوا معهم ولا تصلوا عليهم '' .
      ثم قال الطبري -بعد نقل آثار عنهم-: ''والصواب من القول في المعنى الذي من أجله سميت مرجئة أن يقال: إن الإرجاء معناه ما بيناه قبل من تأخير الشيء، فمؤخر أمر علي وعثمان -رضي الله عنهما- وتارك ولايتهما والبراءة منهما مرجئاً أمرهما فهو مرجئ، ومؤخر العمل والطاعة عن الإيمان مرجئهما عنه فهو مرجئ.
      غير أن الأغلب من استعمال أهل المعرفة بمذاهب المختلفين في الديانات في دهرنا هذا الاسم فيمن كان من قوله: الإيمان قول بلا عمل، وفيمن كان مذهبه أن الشرائع ليست من الإيمان، وأن الإيمان إنما هو التصديق بالقول دون العمل المصدق بوجوبه'' .
      ففي كلام الإمام ابن عيينة وشرح الطبري له، ما يدل على أن المرجئة الأولى هي طائفة من الناس كانت ترجئ أمر عثمان وعلي إلى الله، فلا تتولاهما ولا تتبرأ منهما، فهي مضادة لمن يكفرهما أو يغلو فيهما- أو أحدهما- وكذا لمن يرى تقديمهما وفضلهما ووجوب موالاتهما.
      والغاية أن الإرجاء عندها ليس في مسألة الكفر والإيمان عامة، وإنما هو في الموقف من الصحابة المختـلفين في الفتنة- رضي الله عنهم- خاصة، فهم مناقضون لما عليه عامة الخوارج من تكفيرهما، وما عليه عامة الشيعة من الغلو في علي والحط على عثمان أو تكفيره، وكذلك مخالفون لما عليه الجماعة في أمرهما.
      ومن هنا كان طبيعياً أن تتعرض هذه الطائفة لنقد وعيب هذه الطوائف جميعاً، وكل طائفة تعيبها وتخالفها من الزاوية التي تراها مخالفة لها فيها، ومن هنا تشعب القول عن المرجئة الأولى واختلف.
      فالجماعة يعدونهم من الخوارج -وهم كذلك لمن تأمله- كما قد سبق إيضاح ذلك وإثباته من واقع فرق الخوارج.
      والشيعة تعدهم نواصب، ولهذا أدخلت أهل السنة عامة في مسماهم -كما سنرى- فهم يطلقون على كل من لم يغل في علي مرجئاً، إلا إذا كان يكفره فهو خارجي.
      والخوارج يعدونهم مرجئة، لأنهم لم يجزموا بكفر علي وعثمان -في أول الأمر- وبالتالي لم يجزموا بتكفير مرتكب الكبيرة عامة بعد تطور النزاع على النحو الذي سبق.
      وهذا ما يفسر السر في تضارب الأقوال عنهم، واختلافهم حتى أعيا الكثير من المصنفين والباحثين الجمع بينها، في حين أن من اعتمد على المصادر السلفية وحدها لا يجد أي اختلاف, وعلى هذا نسوق الشواهد:
      فمن المرجئة الأولى محارب بن دثار قاضي الكوفة، المتوفى حوالي سنة 116، يقول عنه ابن سعد: '' كان من المرجئة الأولى، الذين كانوا يرجون علياً وعثمان، ولا يشهدون بإيمان ولا كفر '' .
      وينقل الذهبي النص مع زيادة: ''قال ابن سعد: كان من المرجئة الأولى، الذين يرجون علياً وعثمان إلى أمر الله، ولا يشهدون عليهما بإيمان ولا كفر '' .
      وإذا كان هذا يعد عند الجماعة بدعة وجرحاً، فإن الشيعة تعده كفراً بالنسبة لـعلي، وقد نسب صاحب الأغاني، وصاحب كتاب الزينة- وكلاهما رافضي- هذه الأبيات إلى محارب:
      يـعيب علي أقـوام سـفاها            بأن أرجي أبا حسن عليا
      وإرجائي أبا حسن صواب            عن العمرين براً أو شقيا
      فإن قدمت قوماً قال قوم            أسأت وكنت كذاباً رديا
      إذا أيـقنـت أن الله ربي            وأرسل أحمداً حقاً نبيا
      وأن الرسل قد بعثوا بحق            وأن الله كان لهم وليا
      فليس عليَّ في الإرجاء بأس            ولا لبس ولست أخاف شيئا
      وعند الأخير زيادة بيتين:
      وعثمان وماج الناس فيه            فقالت فرقة قولاً بذيا
      وقال الآخرون إمام صدق            وقد قتلوه مظلوماً بريا
      فرد عليه أحد شعراء الشيعة سائراً على منهجهم في الغلو والفحش :-
      يود محارب لو قد رآها             وأبصرهم حواليها جثيا
      وأن لسانه من ناب أفعى            وما أرجا أبا حسن علياً
      وأن عجوزة مصعت بكلب            وكان دماء ساقيها جريا
      متى ترجئ أبا حسن عليا            فقد أرجيت يا لكع نبيا
      ولشاعرهم الحميري الملقب بالسيد، قصيدة في المعنى نفسه قال:
      خليلي لا ترجيا واعلما            بأن الهدى غير ما تزعمان
      وأن عمى الشك بعد اليقين            وضعف البصيرة بعد العيان
      ضلال فلا تلججا فيهما            فبئست لعمركما الخصلتان
      أيرجا علي إمام الهدى            وعثمان ما اعتدل المرجيان
      ويرجا ابن حرب وأشياعه             وهوج الخوارج بـالنهروان .
      و يرجى الألى نصروا نعثلاً            بأعلى الخريبة والسامران
      يكون أمامهم في المعاد            خبيث الهوى مؤمن الشيصبان

      وهكذا تعرض محارب -ومن كان معه- لهجوم الشيعة في كلا جانبي رأيه وهما: إرجاء علي، إذ كيف يرجأ وهو عندهم نبي، كما صرح الأول، أو إمام الهدى الوحيد!!
      وإرجاء عثمان، إذ كيف يرجأ وهو إمام ضلالة -وكذا معاوية- فالواجب تكفيرهما!!
      وعن الشك الذي يظهر في أبيات محارب، وخوفه من لوم الطوائف المعارضة نقول:
      إنه لم يسلم من اللوم، بل عرض الحميري ذلك واصفاً له بالضلال، وإن عمى الشك بعد اليقين لضلال حقاً، لكن ليس على ما يرى الحميري.
      هذا ولا يصح أن يكون إرجاء محارب هو تأخيره علي إلى الدرجة الرابعة في ترتيب خلافة الراشدين، كما ظن ذلك بعضهم، لأن هذا هو مذهب الجماعة وإجماع الأمة، وإنما إرجاؤه ما سبق، أما مصادر الشيعة فهي تعتبره كذلك، لكن لا عبرة بقولها، فهو فرع عن عقيدتها ودينها.
      هذا وقد ذكر صاحب الأغاني -أيضاً- أن أحد الشيعة أشرف على الموت، فأظهرت المرجئة الشماتة به، فقال السيد الحميري قصيدة في مدح الشيعة، وهذا مما يدل على تنافس وعداء.
      ولعل ما يؤيد معرفة سفيان بن عيينة لهذا الطائفة، أن أحد شيوخه عاصم بن كليب الجرمي هو تلميذ لـمحارب بن دثار، وقد كان على الإرجاء نفسه، كما وصفه بذلك شريك بن عبد الله، ومما يدل عليه قوله لأحدهم: "إنك خشبي"، والخشبية: هم الرافضة أو طائفة منهم، فكأنه يدافع عن نفسه بأنه موقفه خير من الغلو في علي .
      ونجد إماماً فقيهاً آخر هو إبراهيم النخعي، وقد كان معاصراً لـمحارب وأعدائه يتكلم عن هذه الطائفة.
      فقد ذكر ابن سعد بسنده ''أن رجلاً كان يأتي إبراهيم النخعي فيتعلم منه، فيسمع قوماً يذكرون أمر علي وعثمان، فقال: أنا أتعلم من هذا الرجل وأرى الناس مختلفين في أمر علي وعثمان؟ فسأل إبراهيم النخعي عن ذلك، فقال: ما أنا بسبئي ولا مرجئي '' .
      أي لست من الشيعة -الذين أسس مذهبهم عبد الله بن سبأ كما هو معلوم- ولا من المرجئة الذين يقابلون غلو الشيعة بالإجحاف وعدم التولي له، يعني فهو من أتباع السلف أهل السنة، وأراد أن يعلم تلميذه أن يجتنب هاتين الفرقتين اللتين كانتا في الكوفة حينئذ.
      وفي العصر نفسه نجد إماماً آخر مشهوراً هو الشعبي -الذي كان أول أمره خشبياً، ثم ترك ذلك وفضح كثيراً من أصول التشيع، لا سيما علاقته باليهود - ينصح تلميذاً له قائلاً: ''أَحِبَّ صالح المؤمنين وصالح بني هاشم ولا تكن شيعياً، وأرج ما لم تعلم ولا تكن مرجياً، واعلم أن الحسنة من الله والسيئة من نفسك ولا تكن قدرياً، وأحبب من رأيته يعمل الخير وإن كان أخرم سندياً '' .
      فهو يحذره من الطوائف الأربع التي كانت معاصرة حينئذٍ: وهي الشيعة، والمرجئة، والقدرية، والشعوبية، ويبين له أن الإنسان يكل علم ما لم يعلم إلى الله، لكن أمر عثمان وعلي -رضي الله عنهما- هو من المعلوم الثابت، وهو الشهادة لهما بالإيمان والجنة، وموالاتهما وعدم البراءة منهما، بخلاف ما تقوله المرجئة فيهما، كما سيأتي في أبيات شاعرهم ثابت قطنة.
      وممن نسب إليه الإرجاء على هذا المعنى من رجال الحديث: خالد بن سلمة الفأفاء، وهو يروي عن الشعبي، ويروي عن سفيان بن عيينة، قيل عنه: كان مرجئاً يبغض علياً، وعبارة الذهبي: ''كان مرجئاً ينال من علي رضي الله عنه''
      ولا شك أن عدم تولي علي هو بغض له.
      ولنأت الآن إلى قصيدة ثابت قطنة -شاعر المرجئة المشهور- التي وصفت بأنها الأثر الإرجائي الباقي، الذي يصور عقيدة هذه المرجئة وأفكارها ، وهي:
      يا هند إني أظن العيش قد نفدا            ولا أرى الأمر إلا مدبراً نكدا
      إني رهينة يـوم لست سابقه            إلا يكن يومنا هذا فقد أفِدا
      بايعت ربي بيعاً إن وفيت به            جاورت قتلى كراماً جاوروا أحدا
      يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا             أن نعبد الله لا نشرك به أحدا
      نرجي الأمور إذا كانت مشبهةً            ونصدق القول فيمن جار أو عندا
      المسلمون على الإسلام كلهم            والكافرون استووا في دينهم قددا
      ولا أرى أن ذنباً بالغ أحـداً            مِ الناس شركاً إذا ما وحدوا الصمدا
      لا نسفك الدم إلا أن يراد بنا            سفك الدماء طريقاً واحداً جددا
      من يتق الله في الدنيا فإن له            أجر الحساب إذا وفَّي الحساب غدا
      وما قضى الله من أمر فليس له            رد وما يقض من أمر يكن رشدا
      كل الخوارج مخطٍ في مقالته            ولو تعبد فيما قال واجتهدا
      أما علي وعثمان فإنهما            عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا
      وكان بينهما شغب وقد شهدا            شق العصا وبعين الله ما شهدا
      يجزى علي وعثمان بسعيهما            ولست أدري بحقٍ أيّـةً وردا
      الله يعلم ماذا يحضران به             وكل عبد سيلقى الله منفردا
      هذه القصيدة التي رواها صاحب الأغاني وجادة، ذكر معها سببها قال: '' كان ثابت قطنة قد جالس قوماً من الشراة وقوماً من المرجئة، كانوا يجتمعون فيتجادلون بـخراسان، فمال إلى قول المرجئة وأحبه، فلما اجتمعوا بعد ذلك أنشدهم قصيدة قالها في الإرجاء '' .
      والقصيدة من الناحية الشعرية جيدة وتعبر عن عقيدة صاحبها بوضوح ويمكن تلخيصها في الآتي:
      1- إرجاء الأمور المشتبهة والمختلف فيها إلى الله، وهو تمهيد لما سيقرره عن الخليفتين الراشدين.
      2- إثبات الإسلام لكل من أظهره (أي ما لم يشرك أو يرتد) .
      3- أن الذنوب والمعاصي لا تخرج من الملة، فلا يُكفَّر مسلم موحد إلا إذا قارف ذنباً يبلغ به حد الشرك بالله تعالى (وهذا تمهيد لما سيحكم به على الخليفتين، اللذين هما عاصيان فقط في نظره) .
      4- الأصل الإمساك عن دماء المسلمين، إلا على سبيل الدفاع عن النفس.
      5- أن المتقين ينالون جزاءهم كاملاً يوم القيامة.
      6- الإيمان بالقضاء والقدر وحكمة الله فيه.
      7- تخطئة الخوارج في تكفير المسلمين -لا سيما عثمان وعلي- ولا يشفع لهما تـنسكهم واجتهادهم في العبادة، (أي ولو كانوا يظنون أن هذا اجتهاد منهم وعبادة) .
      8- أن عثمان وعلياً لم يثبت عليهما شرك منذ أسلما فلا نكفرهما، وإنما كان منهما وبينهما فتنة واختلاف، والله أعلم بسرائرهما، وسيجزيهما بسعيهما، وقد مضيا إلى ربهما، ولا ندري أهما من أهل الجنة أم من أهل النار، فالله يعلم ماذا يأتيان به يوم القيامة حين يحاسب كل إنسان على انفراد.
      وأما فهم بعض الباحثين المعاصرين من القصيدة: ''أن المرجئة يرجئون الحكم على مرتكب الكبيرة، أي: يؤخرونه ويجعلونه لله, ويرجئون العمل عن الإيمان، إذ أن الإيمان عندهم ألا يشرك الناس بالله الواحد الصمد, وهو في غنى عن العمل، خلافاً للـخوارج الذين يرونهما- يعني العمل والإيمان- شيئاً واحداً لا وزن لأحدهما بدون الآخر، وعلى هذا فإن الخوارج مخطئون في هذا التصور، وعثمان وعلي وغيرهما مؤمنون، ولا يستطيعون الحكم على أحدهم بخطأ، وكذلك جميع المسلمين لا يصح التعرض لهم بحكم، إذ يكفي أن يكونوا مسلمين, أما عملهم فذلك موكول إلى ربهم ولو لم يصوموا أو يصلوا أو يحجوا فهم مسلمون، ولا يصح أن يطردوا من حظيرة الإسلام'' .
      فهو بلا شك مبالغ فيه، أراد صاحبه أن يدخل عقيدة المرجئة بمفهوم الإرجاء العام، ضمن مفهوم هذه الأبيات، التي قصد بها قائلها الإرجاء الخاص بالصحابة إرجاء المرجئة الأولى الذي هو في أصله شعبة من الفكر الخارجي كما أوضحنا، لكن المؤلف في كتابه كله لم يستطع الفصل بين المفهومين.
      وأحسب أن من يقرأ القصيدة دون تصور سابق، لا يفهم منها الاستهانة بالعمل والتـفلت من الفرائض، بل العكس هو المنطوق، كيف وقد اعتبر ما وقع من عثمان وعلي من المعاصي- بزعمه- مبرراً لأن يخالف ما هو ثابت مشهور لدى الأمة قاطبة من فضلهما والشهادة لهما بالجنة .
      كما أن سيرة ثابت وحياته التي قضاها على الثغور ومجالدة الأعداء أقرب إلى سير الخوارج منها إلى غيرهم.
      والواقع أن اللبس حاصل من منطوق الأبيات، فهي في الحقيقة متناقضة, وتناقضها هذا يعطينا شاهداً آخر على تطور بدعة الإرجاء -كما سبق أن قررنا في المبحث السابق- وذلك أن الجدل بين غلاة الخوارج ومتساهليهم -واقفتهم- بشأن ما وقع من الصحابة من ذنوب ومعاصي أدى إلى ظهورمرجئة الخوارج، الذين يقولون بإرجاء عثمان وعلي رضي الله عنهما .
      وانطلاقاً من القاعدة المتفق عليها عند الخوارج عامة وهي أنهما مرتكبا كبيرة، استمر الجدل بشأن مرتكب الكبيرة، مع تناسي الأشخاص تدريجياً، حتى أصبح موضوعه مرتكب الكبيرة عامة، حيث أصر غلاة الخوارج على تكفيره، وأصر هؤلاء على إرجائه, على ما سبق تفصيله.
      فانتقل الأخيرون- ربما وهم لا يشعرون- إلى نقطة بعيدة جداً عن نقطة البداية، حيث تحولوا من الفكر الخارجي إلى نقيضه، وبعضهم عادى الخوارج معاداة شديدة كالحال دائماً في الفئات المنشقة, مع أن فيه بذرة أو شعبة منه.
      و هذا بدقة هو الحال مع ثابت قطنة فهو يصرح بتخطئة الخوارج، ويقرر أن العاصي الموحد لا يحكم عليه بالكفر، ومع ذلك يصرح بإرجاء علي وعثمان، ويشك في دخولهما الجنة، وهذا عين ما قالته في حقهما مرجئة الخوارج الأولون.
      وحال ثابت -مع ما سبق قبله- هو الذي يفسر التـناقض المستمر بين أصحاب الإرجاء الأول وبين الشيعة، بخلاف الإرجاء بمفهومه العام المتداول، فبعض الشيعة من الغلاة فيه كما سيأتي، إذ ليس ثَمة شك في أن ثابتاً في نظر الشيعة خارجي سافر، سواء سموه كذلك أم سموه مرجئاً.
      فهو على أية حال ناصبي غالٍ عندهم، كما أنه خارجي واضح في نظر أهل السنة، إذا نظرنا لموقفه من الخليفتين، مجرداً عما قرره من مبدأ في صاحب الكبيرة عامة (البيتين السادس والسابع).
      أما إذا نظرنا نظرة متكاملة- وهو الصواب- فلا شك أنه متناقض، وما كان أصحاب البدع إلا كذلك.
      وعلى هذا المعنى للإرجاء نستطيع أن نفهم أبيات بشر بن المعتمر- رئيس معتزلة بغداد أيام الرشيد- فقد بلغ الرشيد عنه أنه رافضي، فسجنه، فكتب في الحبس قصيدة رجزية طويلة تبلغ -كما قيل- أربعين ألف بيت, منها قوله:
      لسنـا من الرافضة الغلاة            ولا من المرجئة الحفاة
      لا مفرطين بل نرى الصديقا            مقدماً والمرتضى الفاروقا             نبرأ من عمرو ومن معاوية
      فـالمعتزلة -كما هو معلوم- هم أقرب شيء إلى الخوارج في حكم مرتكب الكبيرة، إذ قالوا: إنه لا مؤمن ولا فاسق من حيث إطلاق الاسم، بل هو في منزلة بين المنزلتين، وأما من حيث العاقبة والمآل، فهم يتـفقون مع الخوارج على أنه مخلد في النار أبداً كالكفار!!
      فخلافهم مع المرجئة في هذه المسألة خلاف تضاد، ولا موضع لتهمة المعتزلي بالإرجاء في الإيمان.
      أما في مسألة الحكم على الصحابة المختلفين في الفتنة، فبعض المعتزلة الكبار كـعمرو بن عبيد تبرأ من الطائفتين، وقال: '' إحدى الطائفتين فاسقة لا بعينها '' .
      وهذا قريب من قول الخوارج، بل هو في الأصل قول بعض طوائفهم- كما سبق- لكن بتعديل وتحوير، ومعلوم أنه قول الروافض- أو بعضهم- بالنسبة للشيخين، ولـعمرو ومعاوية، وإجمالاً لغير علي وطائفته.
      ومن هنا جازت التهمة على بشر بأنه رافضي يتبرأ من الصحابة -أو مرجئي يرجئ أمرهم إلى الله معتبراً إياهم أصحاب كبائر، غير مقر بالشهادة لهم بالجنة- وحبسه الرشيد، ودافع بشر عن نفسه بأنه ليس من الرافضة الغلاة -والغلاة هنا وصف لا مفهوم له- وأيضاً ليس من المرجئة الحفاة, المتنقصين لحق الصحابة، مقابل غلو أولئك منهم، بل هو وسط بزعمه غير مفرط، وفسر هذا التوسط بأن عقيدته ومن اتبعه تقديم الشيخين والإقرار بفضلهما والبراءة من بني أمية وأهل الشام والمحاربين لـعلي وسكت بشر عن رأيه في عثمان وعلي أو لم تبلغنا الأبيات.
      لكن حصل مراده بنفي تهمة الرفض عنه بما قاله عن الشيخين، وإن كان هذا لا يخرجه عن كونه خارجياً، فـالخوارج يقدمون الشيخين ويرضونهما، ثم يبرءون ممن بعدهما.
      والمقصود: أن مفهوم المرجئة في ذلك الزمن، كان يطلق على المرجئة الأولى أيضاً، أي: الإرجاء المتعلق بالصحابة.
      على أن هناك إشكالاً بين ما تقرر هنا عامة وما ذكره القاضي المعتزلي عبد الجبار وهو قوله: ''إن طائفة يقولون: إن الله تعالى يجوز أن يعفو عن الفاسق، ويجوز أن يعاقب، ولا يعلم حقيقة ذلك، وهو الذي تقوله المرجئة الأولى '' .
      فهذا إرجاء عام لا إرجاء المرجئة الأولى.
      لكن الإشكال يزول إذا عرفنا أن ما كان يقوله المرجئة الأولى في خصوص الصحابة، قال به المتأخرون- أو بعضهم- في مرتكب الكبيرة عامة، وجعلوهما سواء -كما سبق- فالقاضي نسب القول للأصل، أو أنه الذي عمم ما خصصته المرجئة الأولى، فوضع الفاسق مطلقاً مكان علي وعثمان الوارد حكمهما في قصيدة ثابت وهو عدم القطع لهما بالعفو أو العقوبة.
      والحاصل أن المرجئة الأولى كانت مقابلة للتشيع من وجه، لا سيما وأهل الشام -كما هو معلوم- لم يكونوا يرون كفر علي، وإنما كانوا- إذا غلوا- يرون البراءة منه وجواز مقاتلته، وهذا في نظر الشيعة يماثل موقف المرجئة منه، ومن هنا أطلقوا عليهم وصف الإرجاء ولا غرابة، فقد أطلقوه على أهل السنة عامة، لمجرد أنهم لا يفضلونه على الشيخين!!
      ومن الطبيعي أن تثور الخصومة ويقوم الجدل بين الشيعة وبين حزب بني أمية من أهل الشام وغيرهم، وبهذا يفسر ما يوجد في كتب الأدب، من ذكر وقائع بين الشيعة والمرجئة، مثل كتاب الأغاني وكتاب البيان والتبيين لا سيما وصاحباهما رافضي ومعتـزلي، والرافضة والمعتزلة اتحدتا منذ القرن الثالث تقريباً.
      وعلى ذلك نفهم أيضاً ما أورده الجاحظ من شعـر لأحد الشيعة:
      إذا المرجيّ سرك أن تراه            يموت بدائه من قبل موته
      فجدد عنده ذكرى علي            وصل على النبي وآل بيته
      فالمقصود في هذه كلها هو الإرجاء الخاص.
      وإذا رجعنا إلى المصادر الشيعية فسنجد ذلك وأجلى منه، يقول صاحب كتاب الزينة في شرح معنى الإرجاء والمرجئة: '' وأما المرجئة فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: { المرجئة يهود هذه الأمة} .
      وروي عن محمد بن علي عليه السلام أنه قال: (المرجئة بدلوا سنة الله، ظاهرها وباطنها، وهم يهود هذه الأمة، وهم أشد لنا عداوة من اليهود والنصارى).
      وقد تأول الناس في هذا اللقب تأويلات كثيرة، فكل فريق يتنصل منه ويلزمه غيره, ويتأول فيه تأويلاً ينتفي به عنه '' .
      ثم ذكر قول أهل السنة والجماعة فيهم -نقلاً عن ابن قتيبة- وقول المرجئة الفقهاء وردهما، وقال: ''و المرجئة هو لقب قد لزم كل من فضّل أبا بكر وعمر على علي بن أبي طالب، كما أن التشيع هو لقب لزم كل من فضل علياً على أبي بكر وعمر، هذا ما يتعارفه الناس بينهم ظاهراً واتفقت الأمة عليه''
      واستدل على ذلك بإطلاق الاسم: قيل: فلان مرجئي قدري، وفلان شيعي قدري... ولم نر أحداً يقال له: هذا مرجئي شيعي، أو مرجئي رافضي، هذا محال جداً، كما أنه محال أن يقال: هذا ثوب أبيض أسود، وهذا شيء حلو مر، لا تجتمع صفتان متضادتان في شيء واحد، وهذا حكم بيّن عند الإمامية أن المرجئ لا يكون شيعياً، والشيعي لا يكون مرجئاً.
      فالإرجاء -على ما قلنا- هو نعت قد لزم كل من فضل أبا بكر وعمر على علي، كما أن التشيع قد لزم تفضيل علي على أبي بكر وعمر، وإنما سموا مرجئة، لأنهم أرجئوا علياً، أي أخروه وقدموا أبا بكر عليه، فهذا اللقب لازم لكل من ذهب هذا المذهب، من أي الفرق كان.
      ثم ذكر أبيات محارب بن دثار، زاعماً أن إرجاءه هو تأخير علي وتقديم أبي بكر، ثم قال: ''ومن ألقاب فرقهم -أي: أصحاب هذه المقالة الذين لزمهم اسم الإرجاء فإنهم فرق كثيرة- أنهم أهل السنة والجماعة، وهم على أصلين، يقال لهما: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي '' .
      ثم ذكر من فرقهم-بزعمه- الحشوية والمشبهة والشُكاك والمالكية والشافعية والجهمية، في خلط يذكرك بخلط المستشرقين.
      وما ذكره هذا الشيعي يصحح ما قلناه، من التفريق بين المرجئة الأولى وبين الإرجاء العام، الذي موضوعه الإيمان والكفر، لكنه لما لم يتضح له الفرق بينهما، جاء بهذا الخلط حتى أنه نفى أن يكون للإرجاء علاقة بقضية الإيمان والعمل، وحصره في تأخير علي عن الشيخين فقط، ولكن من عرف ملته لم يفاجئه ذلك منه.
      صحيح أنه لا يقال: مرجئي شيعي، أو مرجئي رافضي، ولكن على أي معنى من معاني الإرجاء!
      أما على معنى إرجاء المرجئة الأولى فحق وهذا ما قررناه، وأما على الإرجاء العام، فإنه يقال: شيعي مرجئي، ورافضي مرجئي، ولا مانع عقلاً من أن يكون الرجل غالياً في علي، معادياً للشيخين، وهو مع ذلك لا يرى أن العمل من الإيمان، أو أن المعاصي تضر صاحبها، وهذا هو حال بعض فرق الشيعة.
      يقول الملطي في كتابه، الذي هو منقول عن الإمام خشيش بن أصرم في باب ذكر الروافض وأجناسهم ومذهبهم: ''ومنهم صنف يقال لهم: المغيرية، زعموا أنه من ظلم نفسه من عترة علي، فلا حساب عليه ولا عذاب ولا وقوف عليه ولا سؤال، وإن ترك الفرائض وركب العظائم، وأشرك بالله، وزعموا أن أبا طالب في الجنة...'' .
      فهؤلاء لا شك يقال: فيهم شيعة مرجئة.
      والمؤمن عند الشيعة ليس من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وليس دخول الجنة عندهم مبنياً على فعل الواجبات وترك المحرمات، بل الإيمان عندهم من آمن بـعلي إماماً معصوماً، تُتلقى منه وحده أحكام الدين وتتبع أقواله وأعماله، وتكفير الخطايا عندهم هو اعتقاد أن علياً هو (باب حطة) تأويلاً لقوله تعالى: ((وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ))[البقرة:58].
      هذه خلاصة ما في كتبهم، التي لا يتسع المجال للتفصيل فيها، وما تزال عقيدتهم حتى في هذا العصر.
      يقول أحد المصنفين في الإيمان منهم: ''إن المؤمن هو الذي يدخل باب حطة على الكيفية التي أمره الله بها، وإن الذي يمتنع من الدخول، أو يدخل على خلاف ما أمره الله فهو كافر.
      إذا عرفت هذا فاستمع لما يقوله النبي، استمع أيها المسلم، المصدق بالنبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما يقوله لك نبيك، ويرويه عنه الثقات من العلماء '' .
      ثم ذكر حديثاً موضوعاً لفظه: علي باب حطة، من دخل منه كان مؤمناً، ومن خرج منه كان كافراً وقال: '' أيها المسلم، قد عرفت معنى باب حطة، وسمعت قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمراد من قوله: أن من اتخذ علياً إماماً بعد النبي، وعمل بأقواله، فهو كالداخل من باب حطة، يعد عند الله وعند الرسول مؤمناً، ويغفر الله ذنوبه، ومن لم يتخذ علياً إماماً، ولم يعمل بأقواله، ولم يتخذ أحكام دينه منه لم يكن من المؤمنين، كما ذكر النبي، فهو عند الله من الكافرين، ولم يغفر له ذنوبه ويعاقبه عليها '' .
      ويقول: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن ليأمر أمته أجمع بالرجوع إلى شخص، ويحثهم على أخذ أحكام دينهم منه، ويحكم بإيمان المتمسك، وكفر المبتعد عنه... لم يحث على هذا إلا بالنسبة إلى شخص يكون مثله، باتصافه بجميع الأخلاق والصفات الحميدة، وجمعه لجميع العلوم
      ولست في مجال الحديث عن الشيعة، وحقيقة الإيمان عندها، وإنما المقصود أن إطلاقهم وصف المرجئة على أهل السنة عامة -أو على بعضهم- تبع لهذا المبدأ لديهم، فلا بد من معرفة مصطلح كل فرقة، حتى لا يقع المرء فيما وقع فيه من اطلعت على كلامه من المؤرخين والباحثين المعاصرين.
      والعجب- وكل أمر الشيعة عجب- أن هذا الإرجاء المرفوض في حق علي، الذي يستحق صاحبه عليه الكفر عندهم، هو مشروع محمود في حق الشيخين أبي بكر وعمر، بل هو الدرجة الدنيا من الإيمان عندهم، ويتلوها درجات لا يرتقي إليها إلا من جاز ذلك!!
      وما أصدق ما قاله شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية عنهم: ''إن الذي ابتدع الرفض كان يهودياً أظهر الإسلام نفاقاً، ودس إلى الجهال دسائس يقدح بها في أصل الإيمان. .
      ولهذا كان الرفض أعظم أبواب النفاق والزندقة، فإنه يكون الرجل واقفاً، ثم يصير مفضلاً، ثم يصير سباباً، ثم يصير غالياً، ثم يصير جاحداً معطلاً '' .
      فهذا السلم الزندقي يبتدئ سالكه بالتوقف في حق الشيخين، فلا يشهد لهما بأنهما أحق من علي بالخلافة، ولا أن علياً أحق منهما، بل يكِّل أمر الجميع إلى الله، فلا تزال به الرافضة حتى يصبح مفضلاً يفضل علياً عليهما، كما هو مذهب الزيدية -أو كان هو مذهبهم - ثم يرتقي إلى سبهما وشتمهما متعبداً بذلك، ثم يصير غالياً يكفرهما، ويعتقد أنهما الجبت والطاغوت وصنما قريش، ثم يخرج من الإسلام كلية ويدخل في دين، ابن نصير أو قرمط أو العبيديين، وأمثالهم، فيعتقد إنكار الشرائع جملة، ويدين بالفلسفة التي وضعتها كل فرقة .
      هذا وسيأتي الحديث عن الحسن بن محمد بن الحنفية، ما يزيد أمر المرجئة الأولى والعلاقة بينها وبين الشيعة وغيرها إيضاحاً.
    2. الإرجاء خارج مذهب الخوارج

      من موقف نفسي إلى عقيدة ومبدأ:
      سبق الحديث عن الطوائف والآراء التي ظهرت منذ الفتنة الأولى، وقلنا: إن منها طائفة الشكاك الذين لم يستطيعوا أن يحددوا لأنفسهم موقفاً معيناً من الخلاف، وخاصة من كان على الثغور البعيدة منهم، وغاية ما كانت هذه الطائفة تشعر به هو الألم الفاجع لما حل بالمسلمين، والأسى البالغ لتفرقهم بعد الاجتماع، فكانت تحن إلى عهد الشيخين وأول عهد عثمان، وتكره أن تسمع أو تفكر في شيء مما حدث بعد.
      ومن الطبيعي أن يوجد في الأمة مثل هذا الاتجاه، ومن الطبيعي -أيضاً- أن يستمر هذا الألم المكبوت متوارثاً لأجيال عديدة، ولهذا عرض لها ما يعرض لغيرها من تطور وتداخل بفعل التقلبات السياسية والفكرية والمجادلات والخصومات، ولم يكن هؤلاء خوارج، ولا ممن يحب الخوارج، أو يواليهم، بل نجزم أنهم ممن يكرههم ويعاديهم، ولكن يجمعهم بـالخوارج تعظيم الشيخين والسخط من الفتنة في الجملة.
      غير أن انشقاق المرجئة الأولى عن الخوارج، واكتفائهم بالموقف السلبي من المشتركين في الفتنة دون القطع لهم بجنة ولا نار، قد أوجد بالفعل طائفة أو رأياً قريباً مما عليه هؤلاء، إلا أن هؤلاء لم يصلوا إليه نتيجة بحث عقائدي ولا حوار نظري، كما أنهم لم يدخلوا أنفسهم في مسألة الحكم على الناس أصلاً.
      وقد كان طرف الرأي المشترك بينهما هو أنه إذا كان الأمر أمر الخلافة وشأنها، فما لنا لا نقول بإمامة الشيخين اللذين أجمعت عليهما الأمة، وندع شأن من بعدهما، فلا نتقاتل ولا نتخالف من أجلهم.
      وإلى هنا تقف هذه الطائفة في حين يذهب أولئك في الحكم على عثمان إلى ما سبق، أما هم فيظلون على هذا الإرجاء السلبي، الذي هو إرجاء شك وحيرة ونفرة من الخوض في القضية، لا إرجاء عقيدة وفكرة.
      وبخلاف أفكار الخوارج التي لم يدونوها بأنفسهم، بل جمع بعض مأثوراتهم مؤرخون متأخرون فقد قدر لهذا الإرجاء أن يكتب، والكتابة تحول الرأي إلى عقيدة، ولم يكن غريباً أن يكون الذي كتبه رجل من آل البيت، من ذرية علي رضي الله عنه.
      ذلك أن آل البيت ابتلوا بطائفتين متقابلتين: طائفة تنقص قدرهم وتجحد حقهم ولا تقيم لهم حرمة ولا مكانة، وطائفة أخرى أدهى وأمر وهي التي غلت فيهم وألهتهم، حتى أنها أنشأت حركات ثورية ضالة تـنتسب إليهم، وتزعم الدعوة لإمامتهم, والثورة لقيام خلافتهم، كما حصل من ادعاء المختار الكذاب وأمثاله الدعوة لـمحمد بن الحنفية.
      وظل أئمة آل البيت ينكرون تلك الادعاءات الهدامة علناً، ولكن الهدامين يزعمون للرعاع والأتباع أن ذلك منهم على سبيل التقية، وكان طبيعياً أن يتردد الناس إلى آل البيت، ويكاتبوهم سِراً أو علناً يسألونهم عن حقيقة الأمر، وكان الجواب يؤكد ويكرر، لكن دون جدوى.
      وفي هذا الجو المشحون بالفتن، لم يكن غريباً أن يميل بعض ذرية علي إلى رد فعل عنيف، يجعلهم يقولون علناً: إن إمامة علي نفسها كانت موضع شك، لأن الأمة لم تجتمع عليه، وهذا دفع بعيد للتهمة، وتخلص من الأزمة التي يعانونها، حيث يخضعون لرقابة شديدة من ولاة بني أمية، في الوقت الذي تدعيهم فيه تلك الفئات الهدامة السري منها والعلني، حتى أن أثر ذلك ظهر في الجانب العلمي البحت، فقد تجنب بعض الرواة الأخذ عنهم، وتجنب بعضهم ذكر أسمائهم في الإسناد.
      هذا الموقف النفسي الخانق، هو- في نظرنا- الذي دفع بالإمام العالم الفاضل الحسن بن محمد بن الحنفية إلى كتابة الإرجاء على النحو الذي ستذكره الروايات، وسوف نرى أنه لم يضعه ليؤسس به فرقة أو مذهباً، بل سرعان ما عاد عنه، وندم على أنه خرج ذلك الرأي منه.
      قال الإمام أحمد في كتاب الإيمان: '' حدثنا أبو عمر قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة قالا: أتينا الحسن بن محمد، فقلنا: ما هذا الكتاب الذي وضعته؟ -وكان هو الذي أخرج كتاب المرجئة- قال زاذان: فقال لي: يا أبا عمر , لوددت أني كنت مت قبل أن أخرج هذا الكتاب، أو قال: قبل أن أضع هذا الكتاب '' .
      وروى الحافظ ابن عساكر والمزي -واللفظ له- بسنديهما عن عثمان بن إبراهيم بن حاطب قال: ''أول من تكلم في الإرجاء الأول الحسن بن محمد، كنت حاضراً يوم تكلم وكنت في حلقة مع عمي، وكان في الحلقة جحدب وقوم معه، فتكلموا في علي وعثمان وطلحة والزبير فأكثروا، والحسن ساكت ثم تكلم فقال: قد سمعت مقالتكم، ولم أر شيئاً أمثل من أن يرجأ علي وعثمان وطلحة والزبير، فلا يتولوا ولا نتبرأ منهم، ثم قام فقمنا.
      فقال لي عمي: يا بني، ليتخذن هؤلاء هذا الكلام إماماً.
      قال عثمان: فقال به سبعة رجال رأسهم جحدب من تيم الرباب، ومنهم حرملة التيمي تيم الرباب.
      قال: فبلغ أباه محمد بن الحنفية ما قال، فضربه بعصاً فشجه، وقال: لا تتولى أباك علياً!
      قال: وكتب الرسالة التي نبت فيها الإرجاء بعد ذلك '' .
      ويذكر ابن عساكر ما ذكره الإمام أحمد من توبته، وهو ما ذكره محمد بن سعد من قبل، حيث قال في ترجمته: ''هو أول من تكلم في الإرجاء '' .
      ثم روى ''أن زاذان وميسرة دخلا عليه فلاماه على الكتاب.. '' وذكر مثل رواية الإمام على أن الحافظ ابن عساكر ينقل عن الدارقطني ما يؤيد ما ذكرناه عن الحسن، وهو أنه قال: يا أهل الكوفة، اتقوا الله ولا تقولوا في أبي بكر وعمر ما ليسا له بأهل، إن أبا بكر كان مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار ثاني اثنين، وإن عمر أعز الله به الدين.
      والكوفة هي موطن التشيع، لا سيما في ذلك الوقت كما هو مشهور!
      ويعقب الإمام الحافظ ابن حجر على كلام المزي بعد تهذيبه قائلاً: '' قلت: المراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه، غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة المتعلق بالإيمان، وذلك أنه وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور، أخرجه ابن أبي عمر العدني في كتاب الإيمان له في آخره قال:
      حدثنا إبراهيم بن عيينة، عن عبد الواحد بن أيمن قال: كان الحسن بن محمد يأمرني أن أقرأ هذا الكتاب على الناس: أما بعد: فإنا نوصيكم بتقوى الله -فذكر كلاماً كثيراً في الموعظة والوصية لكتاب الله واتباع ما فيه وذكر اعتقاده، ثم قال في آخره -: ونوالي أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما-، ونجاهد فيهما، لأنهما لم تقتتل عليهما الأمة، ولم نشك في أمرهما، ونرجئ من بعدهما ممن دخل في الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله.. إلى آخر الكلام '' .
      فمعنى الذي تكلم فيه الحسن، أنه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتـتلتين في الفتـنة بكونه مخطئاً أو مصيباً، وكان يرى أن يرجئ الأمر فيهما.
      وأما الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان فلم يعرج عليه أحد، فلا يلحقه بذلك عاب، والله أعلم .
      وكلام الحافظ في معنى الإرجاء الذي كتبه الحسن صحيح، وتدل عليه عبارة المزي -أول من تكلم في الإرجاء الأول- وعلى هذا القيد يحمل ما نقله ابن عساكر عن الإمام أحمد، وما نقله هو عن ابن سعد وعن أيوب، من أنه أول من وضع الإرجاء أو تكلم فيه عدا من نقل عنهم المزي ذلك.
      لكن ينبغي أن نستدرك على الحافظ رحمه الله قوله: ''فمعنى الذي تكلم فيه الحسن.. إلى قوله فلا يلحقه بذلك عاب!! ''فالحق أن العاب يلحق الحسن، من جهة أن كلامه أعم مما خصصه به الحافظ، بل الروايات غير رواية العدني مصرحة بقوله في عثمان وعلي فلا يتولوا ولا نتبرأ منهم.
      ونفي الولاية عن الخليفتين مما يعاب ويبدع به صاحبه بلا ريب، كيف وقد ضربه أبوه وقال: لا تتولى أباك علياً؟ وندم هو على ذلك، ولا يكون الندم إلا على خطأ أو خطيئة.
      وقد نص الحافظ ابن كثير على ما يغاير مفهوم الحافظ ابن حجر فقال عن الحسن: '' كان يتوقف في عثمان وعلي وطلحة والزبير، فلا يتولاهم ولا يذمهم'' .
      نعم لا يلحقه عابٍ بعد أن ندم وتاب.
      أما الذي يلحقه العاب -فعلاً- فهم بعض المحدّثين أو المعاصرين، الذين ضربوا بهذه النصوص العلمية عرض الحائط، واختلقوا أن الحسن -بل أباه محمداً من قبل- كان فيلسوفاً أو متكلماً، تعمد أن يؤسس مذهباً كلامياً يقاوم به الخوارج.. الخ، وعلى رأسهم الدكتور علي سامي النشار.
      فقد عرض النشار تاريخ الفتنة ونشوء الفرق عرضاً لا يختلف عن عرض أي مؤلف رافضي أو معتزلي، وقد كانت مصادره فعلاً كذلك.
      ويا ليته اقتصر على هذه المصادر، إذن لكانت كتابته شيعية واضحة، وسَلِم من التناقض العجيب الذي وقع فيه، حين يخلط كلام هؤلاء بكلام أهل السنة بالمعنى العام للكلمة، فيقرر في صفحة أو مبحث ما ينقضه فيما بعده، بل ربما تناقض في الصفحة الواحدة.
      لقد أساء الدكتور النشار إلى التابعي الجليل محمد بن علي بن أبي طالب (محمد بن الحنفية) حين نسب إليه تأسيس مدرسة أو مكتب انبثق منه الاعتزال والإرجاء، وأنا أعجب من إساءة الدكتور إلى آل البيت رغم ما يظهره من تشيع شديد، فحين يصف أبا سفيان وابنه معاوية وبني أمية كلهم بالزندقة والجاهلية، والحقد الدفين على الإسلام كدين، وعلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ويصف عثمان رضي الله عنه بأنه شيخ متهاوٍ متهالك، لا يحسن الأمر ولا يقيم العدل، يترك الأمر لبقايا قريش الضالة .. إلى آخر هذه المفتريات فإن هذا يتمشى مع منهجه التشيعي الترفضي!!
      أما حين يقرر أن العامل الاقتصادي هو أحد أسباب نشأة الفرق، ويقول: فقد كان الاقتصاد إلى حد كبير، أو بمعنى أدق شعور الطبقات المحرومة في عهد عثمان، داعياً إلى قيام التشيع، والتفاف جماهير كبيرة من الفقراء حول علي بن أبي طالب، وتمثل هذا بصورة صادقة حين سوى علي بين أغنياء الصحابة وفقراء المسلمين، مما دعا الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله إلى الانتفاضة ضد علي، وإثارة الحرب الأليمة ضده. فلا أدري على أي منهج يسير إلا منهج ماركس ولينين!!
      ولنتابع كلام الدكتور بخصوص قضية الإرجاء مقتصرين على فقرات منه:
      قال بعد الحديث عن الفتنة ونشوء الفرق من شيعة وخوارج ومعتزلين للفتنة:
      '' وفي وسط هؤلاء المعتزلة عن الناس، ظهرت أول مدرسة فكرية في تاريخ الإسلام، وهي مدرسة محمد بن الحنفية الابن الثالث لـعلي بن أبي طالب وأكثر أولاده علماً وسمتاً وفضلاً، وقد عبر عن هذه المدرسة باسم المكتب، ولم ينتبه الباحثون إلى أهمية هذه المدرسة الأولى، بالرغم من أهميتها، وبالرغم من أنها تفوق مدرسة الحسن البصري في آثارها في أفكار المسلمين حينئذ، ولم ينتبه الباحثون أيضاً إلى أن نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام إنما كان في المدينة حيث ازدهرت تلك المدرسة ولم يكن في البصرة '' .
      ولم يشر الدكتور إلى أي مصدر عن هذه المدرسة الموهومة.
      ثم تحدث عما لـمحمد من أثر فكري، حيث تدعيه كل فرقة حتى الكيسانية والقرامطة، وقال: ''ويهمنا الآن أنه كان في مكتب محمد بن الحنفية أو في مدرسته في المدينة ابناه الإمامان أبو هاشم عبد الله بن محمد.. والحسن بن محمد ''
      ثم يذكر أقوالاً شيعية واعتزالية في أن أبا هاشم هو مؤسس الاعتزال، ويقول: فمنشأ الاعتزال طبقاً لهذه الرواية هو أبو هاشم عبد الله بن الحنفية وموطن الاعتزال طبقاً لهذه الرواية أيضاً المدينة لا البصرة.
      وينتـقل للحديث عن الحسن وهو الذي يهمنا هنا، قال: '' أما ثانيهما، فهو الإمام الحسن بن محمد بن الحنفية المتوفى سنة 101 هـ، شخصية من أهم شخصيات الفكر الإسلامي الأول.
      ويذكر عبد الجبار: لم يكن الحسن بن محمد بن الحنفية مخالفاً لأبيه وأخيه إلا في شيء من الإرجاء أظهره.
      وقد كتب أول كتاب في العقائد في الإسلام، وهو كتاب في الإرجاء.
      وكان أكبر تلامذته غيلان بن مسلم الدمشقي، فقد حمل عنه الإرجاء في الشام، كما أن الإمام أبا حنيفة النعمان قد تأثر به، وإن لم يكن قابله وتـتـلمذ عليه، فقد نفذ إرجاء الحسن إليه، وردده أبو حنيفة كما هو.
      وقد كان لكتاب: (في الإرجاء) أثر كبير في ا لعالم الإسلامي.
      تلك هي المدرسة الإسلامية الفكرية الأولى، التي خرج أكبر رواد الفكر الإسلامي الأولين منها '' .
      وبعد استطراد لا ضرورة له، كرر فيه القول بوصف خلفاء بني أمية بالجاهلية، والعمل لهدم الإسلام وتحطيمه.. إلخ, عاد إلى موضوع المكتب فقال: '' وفي هذا المكتب، وفي المدينة نفسها، تبلورت الفكرة التي عرفت باسم القدرية.. كان معاوية يعلن الجبر في الشام.. ورأى محمد بن الحنفية وابنه أبو هاشم، وهما أصحاب البيت الذي سُلب الحق، أن يعلنا في هدوء الفكرة المضادة: إنكار القدر وإنكار إضافته إلى الله '' .
      وهو يؤيد هذه التهمة الخطيرة بأن معبداً الجهني الذي يكتبه الدكتور (الجهمي): '' إنما كان تلميذاً وأثراً لـمحمد بن الحنفية '' .
      ويحاول الدكتور بمصدر وبدون مصدر أن ينسب كل الضلالات والبدع التي نشأت في القرن الأول -عدا الخوارج- إلى محمد بن الحنفية وابنيه، ظاناً أنه بذلك يرفع من قيمة آل البيت، حين يرجع إليهما فضل تأسيس ما أسماه الفكر الفلسفي الإسلامي!!
      والواقع أن هذا بعينه هو ما تذهب إليه الشيعة، فهم لفرط جهلهم بما يعظم أهل البيت وما يشينهم، ولاعتقادهم تلك الضلالات ينسبونها جميعاً إلى علي من طريق نسبتها إلى ابنه محمد وابنيه، وهذا ما فعله صاحب منهاج الكرامة من قبل.
      وقد رد شَيْخ الإِسْلامِ على هذا الهراء بأنه من الممتنع أن يكون أبو هاشم واضع الاعتزال والحسن واضع الإرجاء, وكلاهما يأخذ ذلك عن أبيه, لأنهما مذهبان متناقضان، كما أن كلاً منهما قد نسب إليه الرجوع عن ذلك.
      وأعجب من ذلك أن النشار نفسه قال بعد حوالي عشر صفحات فقط: ''نشأت القدرية إذن، واعتنقها كثيرون من المسلمين، خارجة عن مذهب أهل السنة والجماعة منذ القدم، وقاومها أهل السنة والجماعة منذ القدم أيضاً '' .
      فهل ابن الحنفية وابناه خارجان أيضاً عن أهل السنة والجماعة أم ماذا؟!
      إن هذه هي نتيجة الاستقاء من مصادر متناقضة دون تمييز.
      والخوارج هي الفرقة الوحيدة التي سَلِمت من نسبتها إلى مكتب ابن الحنفية!! ولكن الحديث عنها جر إلى إلصاق الإرجاء الغالي الصريح بهذا المكتب, يقول النشار متابعاً حديثه: ''لقد ضج المجتمع الإسلامي بـالخوارج وبآرائهم، ومع ذلك فقد كانت تلقى صدى في عقول الكثيرين فاستجابوا لها، ولم يعرف الخوارج التقية كما عرفها الشيعة، فانقضوا على مخالفيهم يفشون فيهم القتل الذريع، ووجدت دعوتهم في عدم إيمان المخالف أكبر صدى، ووجد الإمام الحسن بن الحنفية أن الذين قاتلوا جده مستندين إلى أصل ظاهره الصدق وباطنه الإفك (الحكم لله لا لـعلي) ينشرون أصلاً آخر خطيراً لقتل المسلمين وهو أن لا عقد بدون عمل، فنفر لمجادلتهم وأعلن أنه لا يضر مع الإيمان معصية، وكان يكتب الكتب للأمصار ويعلنها للناس، وبينما كان منطق الخوارج أن مرتكب الكبيرة كافر يجب قتله، كان الحسن يعلن أن االطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الإسلام حتى يزول بزوالها '' .
      ونلاحظ أنه مع هذا الظلم الفاحش للحسن ، قد نسب إليه في آن واحد مذهب المرجئة الغلاة، والمرجئة الفقهاء -الحنفية- دون أن يفطن، فإن القائلين: إنه لا يضر مع الإيمان معصية هم الغلاة الذين كفرهم السلف، وأما من قال: إن الطاعات ليست من أصل الإسلام، لكنها شرائعه، وأن ترك المعاصي مطلوب والعقوبة عليها ثابتة، فهم مرجئة الفقهاء، وهم بريئون من الأول.
      والنشار إنما ذكر ذلك تخلصاً، لينتـقل إلى الحديث عن أبي حنيفة، ومن ثم تابع كلامه قائلاً: '' وهنا ظهرت أول فرقة من أهل السنة، ويمثلها بعد الحسن بن محمد، مجموعة من العلماء، على رأسهم أبو حنيفة النعمان، المتوفى 150 هـ، لم يكفروا أصحاب الكبائر ولم يحكموا بتخليدهم في النار.. '' .
      وهنا سؤال لا بد منه وهو: كيف تكون هذه هي أول فرقة من أهل السنة لا تكفر صاحب الكبيرة؟ أمعنى هذا أن الصحابة والتابعين كانوا يكفرونه، أم المقصود الأولية المطلقة، فلا يكون الصحابة والتابعين معدودين عنده من أهل السنة؟
      ثم إن هذا ليس هو الإرجاء، ولم يسمه أحد كذلك إلا الخوارج، أما ما شرحه هو في الأسطر السابقة فليس هذا، فذلك إرجاء، وهذا جزء من عقيدة أهل السنة في الإيمان.
      هذا فوق نسبته مذهب المرجئة الحنفية إلى الحسن وهو منه براء, وقد عاد فأكد ذلك قائلاً: '' أما أن أبا حنيفة كان مرجئاً فهذا حق، ولكنه كان مرجئاً- كما سنرى بعد- إرجاء سنة، ولم يخرج بإرجائه عن الجماعة الإسلامية على الإطلاق..." .
      ويقول: '' وقد نادى أبو حنيفة بهذا المذهب، لكي يحمي المجتمع الإسلامي من عقيدة الخوارج التي كانت تنادي بأن: الإيمان عقد وعمل، فمن لم يعمل لم يكن مؤمناً... فقام الحسن بن الحنفية بدعوته وتابعه عليها أبو حنيفة ''.
      ثم يضيف مؤكداً: ''إن مرجئة أهل السنة قد نشئوا على يد رجل من أهل البيت، وهو الحسن بن محمد بن الحنفية، وكان الحسن يرمي إلى حماية المسلمين- شيعة كانوا أو جماعة- من بطش الخوارج، وكانت حركة الأزارقة في أوجها إبان الوقت، ثم نادى بالفكرة نفسها أبو حنيفة...'' .
      ويقول: ''وينبغي أن نلاحظ أن مرجئة أهل السنة يختلفون تماماً عن بقية المرجئة، وهؤلاء الآخرون يقولون: إن من شهد شهادة الحق دخل الجنة، وإن عمل أي عمل، وكما لا ينفع مع الشرك حسنة، كذلك لا يضر مع التوحيد معصية.. '' إلخ
      وهذا كما ترى يناقض تماماً ما قرره هو قبل قليل، من أن الحسن أعلن أنه لا يضر مع الإيمان معصية، فيلزمه أن يجعل الحسن من المرجئة الأخيرين، أي غير مرجئة أهل السنة، أو أن ينفي عنه ما اتهمه به من القول.
      والحق -كما أوضحنا سابقاً- أن الحسن بريء من هذا وذاك، وأن إرجاءه لا علاقة له بالإيمان أصلاً.
      وأما أن أولئك النفر الذين سمعوا كلام الحسن وقرءوا كتابه قد اتخذوا ذلك ديناً، كما قال عم الراوي فحق ومتوقع، وهذه هي الطائفة التي يلحقها الذم والعيب، والتي لا شك أن من السهل والطبيعي أن تندمج في فرق المرجئة، أي أن تخضع لسنة التطور نفسها التي عرضناها سابقاً.
      وهنا يجدر أن نذكر عالماً آخر، ينطبق عليه ما ينطبق على الحسن من الوقوع في هذا الإرجاء، من غير اتباع لرأي الخوارج ولا تعمد تأسيس بدعة، وهو عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.
      والظاهر أن هذا الاعتقاد لم يدم طويلاً، حيث استدعاه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وكلمه في ذلك، فاستبان له الخطأ وعاد عن قوله، وقال في ذلك شعراً:
      لأول ما نفارق غير شك            نفارق ما يقول المرجئونا
      وقالوا مؤمن من آل جور            وليس المؤمنون بجائرينا
      وقالوا مؤمن دمه حلال            وقد حرمت دماء المؤمنينا
      .
      ومن أهمية إرجاء عون، أنه سطر لنا في هذه الأبيات شيئاً مما تعتقده المرجئة الأولى، وهي أبيات يصعب فهمها وتفسيرها على من لم يفهم حقيقة هذا الإرجاء من غيرها.
      والتفسير الذي يتناسب مع عقيدة القوم، أنهم يعتقدون في عثمان وعلي الإيمان، ولا يخرجونهما من الملة، لكنهم يطعنون في إمامة علي، ويصفونه بالجور في السيرة، حيث سفك من الدماء -بزعمهم- ما سفك .
      وكذلك يرون مع إيمان عثمان أنه دمه كان حلالاً، لأنه عدل عن سيرة الشيخين، وارتكب ما ارتكب بزعمهم!!
      هذه هي عقيدتهم التي نقضها عون، والتي ربما لم يتبين له لوازمها البعيدة إلا بعد مقابلته لـعمر، وقد ردها بقوله:
      وقالوا مؤمن من آل جور            وليس المؤمنون بجائرينا
      والمقصود هنا علي، أي: أن الشهادة له بالإيمان تقتضي منكم ألا تصفوه بالجور، لا سيما والأصل الذي انشقوا عنه الخوارج يرى التكفير بالجور كأي معصية , فمن أثبت له الإيمان، لزمه أن ينفي عنه الجور.
      وأما عثمان، فكيف تثبتون له الإيمان، ثم تقولون: إن دمه حلال، ودماء المؤمنين حرام معصومة؟!
      هذا ما ظهر لي، والله أعلم.
      بقي أن نشير في ختام هذا الموضوع إلى بعض ما ورد عن الإرجاء مما لا يتضح تفسيره إلا على الإرجاء الأول.
      ومن ذلك ما رواه عبد الله بن أحمد عن أبيه بسنده إلى الأوزاعي: '' كان أبو سعيد الخدري يقول: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، والإرجاء بدعة '' .
      وهو منقطع الإسناد، لكن رواه في موضع تال بسند صحيح متصل إلى جماعة من خيار التابعين، قال: ''حدثني أبي حدثنا وكيع عن سفيان عن سلمة بن كهيل قال: اجتمعنا في الجماجم: أبو البختري وميسرة وأبو صالح وضحاك المشرقي وبكير الطائي، فأجمعوا على أن الإرجاء بدعة، والولاية بدعة، والبراءة بدعة، والشهادة بدعة '' .
      ورواه أبو عبيد عن بعضهم.
      وقد فسر الإمام أحمد نفسه ذلك، فيما رواه عنه الخلال في باب ذكر أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن إسحاق قال: ''سألت أبا عبد الله قلت: الشراة يأخذون رجلاً، فيقولون له: تبرأ من علي وعثمان وإلا قتلناك، كيف ترى له أن يفعل؟
      قال أبو عبد لله: إذا عذب وضرب فليصر إلى ما أرادوا، والله يعلم منه خلافه.
      أخبرنا أحمد بن محمد قال: حدثنا أبو طالب قال: سألت أبا عبد الله عن البراءة بدعة والولاية بدعة والشهادة بدعة؟
      قال: البراءة: أن تبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والولاية: أن تتولى بعضاً وتترك بعضاً. والشهادة: أن تشهد على أحد أنه في النار '' .
      فقد فسر الإمام هذه الألفاظ عدا الإرجاء، فلم يسأله عنه أبو طالب، لكن الثلاثة كلها تتعلق بالصحابة، فهو أيضاً كذلك وتفسيره: أن ترجئ أمر علي وعثمان فلا تتولاهما ولا تتبرأ منهما على ما سبق.
      وهذا ما كانت الخوارج -أو بعضها- تقبله ممن تظفر به، بخلاف من أظهر موالاتهما وأقر بفضلهما، فقد يكون مصيره القتل.
      كما أورد للإمام أحمد عبارة قد يتعسر فهمها وهي قوله في كتاب السنة المطبوع مع كتاب الرد على الزنادقة: '' إن الخوارج هم المرجئة '' .
      وتفسيرها بإرجاء الصحابة هو ممكن، أما الإرجاء العام المتعلق بالإيمان فلا يمكن- اللهم إلا إذا كانت العبارة ناقصة أو محرفة- وذلك بأن يقال: إن الخوارج يتهمون أهل السنة بأنهم مرجئة لأنهم لا يقطعون على صاحب الكبيرة المعين بأنه خالد مخلد في النار.
      فرد عليهم الإمام بأنهم هم المرجئة، لأنهم لا يقطعون بدخول عثمان وعلي الجنة من ثبوت الخبر فيهما بدخولها، بل هم إما يكفرونهما -كحال غلاتهم- أو يرجئون أمرهما ولا يقطعون, كحال مرجئتهم.
      فكانوا بذلك أحق بهذا الاسم من أهل السنة، لأن من يشك في أمر ثابت جلي هو أولى بهذا اللقب المذموم، ممن يتوقف في أمر لا علم له به.
      هذا ما ظهر لي، والله أعلم .
  10. الباب الثالث الإرجاء الظاهرة

    ويشتمل على: البدايات والأصول. أصول مذاهب المرجئة نظرياً. الأثر الكلامي في تطور الظاهرة. الأثر المنطقي. النتيجة: حكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة .
  11. توطئة

    الحديث عن الإرجاء العام -أي: الإرجاء المتعلق بالإيمان- والذي تحول من بدعة نظرية يدين بها أفراد معدودون إلى ظاهرة عامة تسيطر على الفكر الإسلامي، بل والحياة الإسلامية - يقتضي منا أن نستعرض بداياته التاريخية بما يسمح به المقام. وهذا الإرجاء -كما هو مشهور معلوم- على نوعين:
    1. الأول: إرجاء الفقهاء والعباد

      وهو شبهة نظرية أخطأ فيها بعض العلماء نتيجة ردود فعل خاصة، أو رأي غير محرر، أو فهم قاصر للنصوص، أو متابعة بلا تبصر، مثله في ذلك مثل زلة العالم، أو خطأ المجتهد في أي مسألة نظرية.
      وهذا لا يقلل من خطورة آثاره، ولا يهون من ضرورة مقاومته، ولهذا أكثر علماء السلف من التحذير منه، وهجر أصحابه وتبديعهم.
    2. الآخر: إرجاء المتكلمين والمتمنطقين

      وهو شبهة فلسفية بحتة ليس لها في الأصل أي مستند نصي، ولهذا لم يتردد أئمة السلف في تكفير أصحابه والتشنيع به.
      لكن التطور الطبيعي، والتداخل والامتزاج الفكري، وتقهقر الحياة الإسلامية عامة جعل هذا الإرجاء يسيطر في النهاية؛ مستنداً إلى الشبهات النصية التي استند لها النوع الأول وزيادة.
      وهذا ما يستلزم أن ندرس الظاهرة الفكرية في عمومها، دون التقيد بالترتيب التاريخي على النحو الذي انتهجناه في الفصول السابقة، على أن الجانب التاريخي لن يهمل بمرة، بل لا بد من عرض البدايات الأولى لكلا النوعين -أي: للظاهرة- من خلاله، وسوف يكون ركن العمل هو: محور الاهتمام وموضوع الدراسة الأساس، تقيداً بما التزمنا به في الأصل .
  12. البدايات والأصول

    1. أولاً: المرجئة الفقهاء

      لا شك أن البذور والبدايات الأولى للإرجاء وجدت بعد صفين، إما من المعادين للخوارج أو من المنشقين عنهم، كالشأن في ردود الأفعال، ولكن بروز الرأي والمجادلة فيه وبه تأخرت عن ذلك، وكان ظهورها في وقت الفتنة والاضطراب الكبير الذي عم البلاد، حين كان للأمويين دولة، ولابن الزبير دولة، وللخوارج دولة كما سبق في حديث أبي برزة الأسلمي.
      برز الإرجاء حينئذٍ نتيجة المجادلات المستمرة بين الفرق -لا سيما بين الخوارج وغيرهم- وكانت الفتنة من أسباب التسرع في الرد وقدح الرأي؛ إذ لم يكن المجال ميسوراً للسؤال والتأكد والأمور هائجة والأحداث متلاحقة.
      وكان هذا في أواخر عصر الصحابة، وقد كان بعض قدماء المرجئة من صغار التابعين، كما سيأتي في تراجمهم.
      وأوثق نص ورد فيه هذا الاصطلاح هو الجامع الصحيح للإمام البخاري؛ فقد قال -رحمه الله- في كتاب الإيمان منه: ''(باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر).
      وقال إبراهيم التيمي: [[ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً]].
      وقال ابن أبي مليكة: [[أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل]].
      ويذكر عن الحسن: [[ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق]].
      وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة؛ لقول الله تعالى: ((وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ))[آل عمران:135].
      حدثنا محمد بن عرعرة، حدثنا شعبة عن زبيد، قال: سألت أبا وائل عن المرجئة، فقال: حدثني عبد الله أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:{سباب المسلم فسوق وقتاله كفر }''
      فالآثار التي ذكرها البخاري في الترجمة تدل على أنه عقد هذا الباب للرد على المرجئة القائلين: إن الإيمان قول بلا عمل، وأن الناس يتساوون فيه، وهذا هو إرجاء الفقهاء كما سيأتي بيانه.
      ثم ذكر الحديث الذي يعطينا أقرب تحديد لنشأة هذه الفرقة، فالمسئول عنهم هو أبو وائل شقيق بن سلمة التابعي المشهور، من خيار أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقد توفي قبل نهاية القرن الأول - مع الخلاف في تحديد تاريخ وفاته؛ فقد '' قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: مات في زمان الحجاج، بعد الجماجم، وقال خليفة بن خياط: مات بعد الجماجم سنة اثنتين وثمانين، وقال الواقدي: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز، وكذلك روي عن أبي نعيم، قال المزي: والمحفوظ الأول '' .
      قال الحافظ في الفتح: ''قوله: سألت أبا وائل عن المرجئة -أي: عن مقالة المرجئة- ولـأبي داود الطيالسي، عن شعبة، عن زبيد، قال: لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل، فذكرت ذلك له، فظهر من هذا أن سؤاله كان عن معتقدهم، وأن ذلك كان حين ظهورهم، وكانت وفاة أبي وائل سنة تسع وتسعين، وقيل: سنة اثنتين وثمانين، ففي ذلك دليل على أن بدعة الإرجاء قديمة'' .
      هذا وفي رواية عبد الله بن أحمد عن أبيه بسنده إلى زبيد قال: ''لما تكلمت المرجئة أتيت أبا وائل فسألته...الحديث، وذكر عن شعبة أنه قال: وحدثنيه الأعمش ومنصور، سمعا أبا وائل، عن عبد الله...'' .
      وأبو وائل عُمَّر طويلاً، فقد أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودفع لعامله الصدقة، لكنه لم يظفر بشرف رؤيته.
      وأما السائل زبيد فهو زبيد بن الحارث اليامي، المتوفى سنة 122هـ، وهو من صغار التابعين، رأى عدداً من الصحابة، ذكر أبو نعيم منهم ابن عمر، وأنس.
      ومن السؤال والجواب نستطيع أن نستنبط حقيقة القضية المسئول عنها ووجه الجواب، إذ لا ريب أن أبا وائل أفاد وشفى، وأن زبيداً فهم واكتفى!!
      فالقضية التي كانت تشغل أذهان الناس يومئذ -في موضوع الإيمان- هي حكم مرتكب الكبيرة، وبناءً على الأصل الفاسد المشترك بين الخوارج والمرجئة معاً وهو أن الإيمان شيء واحد، لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل أهله فيه قال الخوارج: إن مرتكب الكبيرة قد ذهب إيمانه فهو كافر، وقالت المرجئة: بل هو كامل الإيمان مهما فعل!! كما يدل عليه أثر ابن أبي مليكة والحسن، وكلام إبراهيم، واستدلال البخاري بها.
      فلما ذكر زبيد ذلك لشيخه أبي وائل، أجابه بأفضل أنواع الأجوبة وأعلاها؛ وهو أن يجيب المفتي من سأله بنص من الوحي في محل الإشكال.
      فالحديث بمنطوقه يدل على التفاوت في الإيمان، وعلى ما يستحق أن يسمى به مرتكب الكبيرة.
      فإيمان من قاتل مسلماً ليس كإيمان من سبه، ومفهوم منه أن من سلم من هذا وذاك فهو أكثر إيماناً، وقتال المسلم وسبابه معصية تذهب عن صاحبها اسم الإيمان المطلق، فيستحق اسم الفسق إن سبه، واسم الكفر إن قاتله، ولا يسمى مؤمناً بإطلاق إلا من سلم المسلمون من لسانه ويده، وأمنه الناس على أنفسهم وأموالهم، كما دلت النصوص الأخرى.
      وفي هذا دليل على خطر المعاصي التي تهون المرجئة من شأنها؛ إما نصاً وإما لزوماً.
      ومما يوضح هذا الأمر وموقف أبي وائل منه - ما رواه عنه الطبري بسنده، قال: ''قوم يسألوني عن السنة، فأقرأ عليهم: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ...))[البينة:1] حتى قوله: ((وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5] يعرض المرجئة " .
      وإذا كان هذا النص يعطينا ًمفهوماً عن الفكرة، فإن نصاً آخر يقدم تاريخاً أكثر تحديداً، وهو ما رواه ابن بطة من طريق الإمام أحمد عن قتادة أنه قال: ''إنما أحدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث " .
      والحقيقة أن هذا النص يقدم لنا ما هو أعم من ذلك، وهو ردة الفعل النفسية تجاه الهزيمة.
      فـابن الأشعث هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي، أحد ولاة بني أمية أيام الحجاج، استعمله الحجاج في الوقت الذي كانت مظالمه تملأ البلاد، وكانت الخوارج تثير الناس بذلك، وتتذرع به لنشر ضلالها، وكان العلماء والصالحون حيارى بين فتنة الخوارج ومظالم الحجاج - حتى إنه لما قام بعضهم يدعو الخوارج إلى السلم والدخول في الطاعة، أنكر عليهم آخرون -على سبيل اليأس- قائلين: إلى من تدعوهم؟ إلى الحجاج؟!
      في هذا الجو الحالك أعلن ابن الأشعث تمرده على الحجاج، ودعا الناس إلى النهوض معه لإقامة العدل ورفع الظلم وتحكيم الكتاب والسنة، وفعلاً قام معه علماء وصلحاء لله تعالى؛ لما انتهك الحجاج من إماتة وقت الصلاة، ولجوره وجبروته.
      ولم يكن معروفاً عنه بدعة، وإنما هو ثائر سياسي، فرأى فيه هؤلاء العلماء والقراء منفذاً بين نارين، واستعجلوا الأمر، ورفضوا ما أشار به الحسن وغيره من الصبر والدفع بالتي هي أحسن، وتجنب سفك الدماء ما أمكن -كما هو مذهب سائر أهل السنة والجماعة في مثل هذا- ولكن هذا الاندفاع والتحمس سرعان ما تبدد، وأنتج أسوأ النتائج حين ظهر الحجاج على ابن الأشعث وقضى عليه، وأخذ في ملاحقة العلماء واحداً واحداً، وكان أشهرهم سعيد بن جبير الذي كان مقتله فاجعة .
      وهنا برز قرن الإرجاء بين صفوف هؤلاء اليائسين المستسلمين للأمر الواقع، كما تجرأ الذين كانوا مرجئة من قبل فأعلنوا مذهبهم، واستغلوا آثار الهزيمة لنشره، كما نشط الخوارج وخلت لهم الساحة أكثر من ذي قبل، وندم بقية القراء الثائرين على ما تركوا من رأي الحسن وأمثاله.
      وكانت الكوفة مركز إمارة الحجاج ومصب جوره، كما كانت هدف هجمات الخوارج ومطمع قادتهم، ولهذا كان طبيعياً أن تكون أيضاً بيئة الإرجاء ومركزه، لا سيما والتشيع سمة عامة لها.
      وبلا شك قام أهل السنة والجماعة وأئمة العلم بجهد مشكور لمقاومة هذه الفكرة ومحاصرتها، ولم يقدر لها انتشار عام حقيقي إلا زمن بني العباس، حين تبنت الدولة رسمياً مذهب أهل الرأي؛ الذي يدين فقهاؤه بهذه العقيدة كما سنرى ومع ذلك صمد لها أهل السنة، ولا سيما الإمام أحمد وتلميذه أبو داود، ثم سار على منهجه علماء النقد والرجال وغيرهم.
    2. أقوال الأئمة المعاصرين للإرجاء

      وإن مما يعطينا تحديداً أدق لتاريخ هذه الفرقة وانتشارها، وفي الوقت نفسه موقف أهل السنة والجماعة منها أن نستعرض بعض أقوال الأئمة المعاصرين لنشوئها فيها:
      1- إبراهيم النخعي:
      التابعي المشهور، فقيه الكوفة الأكبر في عصره، ومن تلاميذه كان مرجئة الفقهاء كـحماد، وقد عاصر تلك الأحداث، وتوفي بعد الحجاج ببضعة أشهر سنة 96هـ باتفاق.
      ومن أقواله فيهم:-
      '' الإرجاء بدعة.
      إياكم وأهل هذا الرأي المحدث - يعني: الإرجاء.
      وكان رجل يجالس إبراهيم يقال له: محمد، فبلغ إبراهيم أنه يتكلم في الإرجاء فقال له إبراهيم: لا تجالسنا.
      ودخل عليه قوم من المرجئة فكلموه، فغضب، وقال: إن كان هذا كلامكم فلا تدخلوا عليّ.
      وقال: تركوا هذا الدين أرق من الثوب السابري.
      وقال له بعض تلاميذه: إنهم يقولون لنا: مؤمنون أنتم؟ وقال: إذا سألوكم فقولوا: ((آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ))[البقرة:136] إلى آخر الآية '' .
      وقال: ''لفتنتهم عندي أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة'' .
      أو: ''لفقوا قولاً، فأنا أخافهم على الأمة، والشر من أمرهم كثير، فإياك وإياهم'' .
      2- سعيد بن جبير:
      وهو كبير القراء الثائرين على الحجاج، قال: "المرجئة يهود القبلة'' .
      وقال: ''المرجئة مثل الصابئين'' .
      ويشرح ذلك في رواية أخرى، مبيناً وقوفهم في الوسط بين أهل السنة والخوارج -بزعمهم- قال: ''مثلهم كمثل الصابئين، إنهم أتوا اليهود، فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: اليهودية، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: موسى، قالوا: فماذا لمن تبعكم؟ قالوا: الجنة.
      ثم أتوا النصارى، فقالوا: ما دينكم؟ قالوا: النصرانية، قالوا: فما كتباكم؟ قالوا: الإنجيل، قالوا: فمن نبيكم؟ قالوا: عيسى، قالوا: فماذا لمن تبع دينكم؟ قالوا: الجنة. قالوا: فنحن بين ذين'' .
      3- الزهري:
      الإمام المشهور المعاصر لهؤلاء، قال: ''ما ابتدعت في الإسلام بدعة هي أضر على أهله من هذه - يعني الإرجاء'' .
      4- شهاب بن خراش:
      قال هشام: '' لقيت شهاباً وأنا شاب في سنة أربع وسبعين، فقال لي: إن لم تكن قدرياً ولا مرجئاً حدثتك، وإلا لم أحدثك، فقلت: ما فيّ من هذين شيء '' .
      5- يحيى وقتادة:
      قال الأوزاعي: ''كان يحيى وقتادة يقولان: ليس من أهل الأهواء شيء أخوف عندهم على الأمة من الإرجاء ''
      وسيأتي بقية من هذا ضمن تراجم المرجئة القدماء، والمراد أن هذه الفرقة ظهرت وترعرعت في ذلك الزمن، وأن أهل السنة والجماعة لم يألوا جهداً في مقاومتها، وكان نظرهم بعيداً وصائباً حين توقعوا آثارها المدمرة على الأمة، مع أنه لم يكن لها حينئذ من الواقع ما يستلفت النظر، بل كان القائلون بهذا عباداً زهاداً في الغالب.
      وعلى هذا فلا غرابة في تشديد ورثة هؤلاء من أئمة السنة على المرجئة، مثل وكيع، وابن المبارك، والسفيانين، وابن مهدي، وابن معين، والإمام أحمد، والبخاري، وأبي داود، ونحوهم؛ وذلك أن الآثار قد ظهرت، والإرجاء الغالي حينئذ قد برز.
      والقضية التي لا ينبغي أن تفوتنا هي أن كلمة المرجئة في اصطلاح هؤلاء العلماء إنما تعني هذا الإرجاء -أي: إرجاء الفقهاء- وظل هذا قائماً حتى بعد ظهور الجهمية -كما سنرى- فكل ذم أو عيب قيل في المرجئة فهو منصرف لهم وحدهم حتى منتصف القرن الثاني تقريباً، بل هو الأغلب إلى القرن الثالث، ولهذا نجد من المصنفين من لم يطلق اسم الإرجاء على سواهم؛ كـابن عبد البر في التمهيد؛ فإنه لم يذكر المرجئة الجهمية الأشعرية، ولعله تبع أبا عبيد في ذلك.
      ومن علماء السنة الكبار من فرق بين مسمى المرجئة ومسمى الجهمية، وذلك لأن المرجئة عندهم مبتدعة، والجهمية كفار.
      يقول الفضيل بن عياض: ''أهل الإرجاء يقولون: الإيمان قول بلا عمل، وتقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل'' .
      ويقول وكيع بن الجراح: ''ليس بين كلام الجهمية والمرجئة كبير فرق، قالت الجهمية: الإيمان المعرفة بالقلب، وقالت المرجئة: الإقرار باللسان'' .
      وكذلك قال الإمام أحمد: قال حمدان بن علي الوراق: '' سألت أحمد، وذكر عنده المرجئة، فقلت له: إنهم يقولون: إذا عرف الرجل ربه بقلبه فهو مؤمن، فقال: المرجئة لا تقول هذا، الجهمية تقول بهذا، المرجئة تقول: حتى يتكلم بلسانه وتعمل جوارحه، والجهمية تقول: إذا عرف ربه بقلبه وإن لم تعمل جوارحه، وهذا كفر؛ إبليس قد عرف ربه، فقال: رب بما أغويتني '' .
    3. مؤسس هذه الطائفة

      اختلف العلماء في أول من أسس هذا المذهب -أي: أفصح عنه وأعلنه ودعا إليه- وإلا فبذوره متقدمة -كما سبق- فقيل هو:
      1- ذر بن عبد الله الهمداني:
      وهو تابعي متعبد، توفي قبل نهاية القرن الأول، روى حديثه الجماعة.
      قال إسحاق بن إبراهيم: '' قلت لـأبي عبد الله -يعني: الإمام أحمد-: أول من تكلم في الإيمان من هو؟ قال: يقولون: أول من تكلم فيه ذر " وهكذا نقل الذهبي في الميزان عن الإمام.
      ويبدو أن ذراً قد عرضت له الشبهة، وكان شاكاً فيها، ثم جزم بها وأصر عليها لما لاقت رواجاً -وهكذا شأن أصحاب البدع-.
      قال سلمة بن كهيل: ''وصف ذر الإرجاء، وهو أول من تكلم فيه، ثم قال: إني أخاف أن يتخذ هذا ديناً، فلما أتته الكتب في الآفاق، قال: فسمعته يقول: وهل أمرٌ غير هذا'' .
      وعن الحسن بن عبيد الله قال: '' سمعت إبراهيم النخعي يقول لـذر: ويحك يا ذر، ما هذا الدين الذي جئت به؟
      قال ذر: ما هو إلا رأي رأيته!
      قال: ثم سمعت ذراً يقول: إنه لدين الله الذي بعث به نوح!! ''
      وقد تعرض ذر لنقد العلماء المعاصرين؛ فقد ذمه إبراهيم النخعي بما سبق، وكان يعيبه، ولا يرد عليه إذا سلم.
      '' وكان سعيد بن جبير شديداً عليه -حتى إن ذراً أتاه يوماً في حاجة فقال: لا، حتى تخبرني على أي دين أنت اليوم -أو رأي أنت اليوم- فإنك لا تزال تلتمس ديناً قد أضللته، ألا تستحي من رأي أنت أكبر منه؟ '' .
      وشكاه ذر إلى أبي البختري الطائي؛ أنه لا يرد عليه إذا سلم، فقال سعيد: '' إن هذا يحدث -أو يجدد- كل يوم ديناً، والله لا كلمته أبداً '' .
      وهذا وقد نقل الحافظ أن ذراً شهد مع ابن الأشعث قتاله للحجاج، وذلك سنة ثمانين .
      2- وقيل: إن أول من أحدثه هو قيس الماصر:
      نقل الحافظ ذلك عن الأوزاعي؛ قال: ''أول من تكلم في الإرجاء رجل من أهل الكوفة يقال له: قيس الماصر''.
      ولم أعثر له على ترجمة، إلا أن أبا حاتم الرافضي صاحب كتاب الزينة السابق ذكره، قال ضمن فرق المرجئة الذين هم عنده أهل السنة: ''ومنهم الماضرية '' نسبوا إلى قيس بن عمرو الماضري، ويقال لهم مرجئة أهل العراق، وهم أبو حنيفة ونظراؤه....
      3- وقيل: إن أول من أحدثه حماد بن أبي سليمان:
      المتوفى سنة 120هـ، شيخ أبي حنيفة، وتلميذ إبراهيم النخعي، ثم تبعه أهل الكوفة وغيرهم. وذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية.
      ولا شك أن حماداً كان مرجئاً، وأنه كان معاصراً لـذر، فقد روى عبد الله بن أحمد أن إبراهيم النخعي -شيخ حماد- قال: '' لا تدعوا هذا الملعون يدخل عليّ، بعدما تكلم في الإرجاء -يعني حماداً '' .
      ومع ذلك فقد ادعى حماد غير هذا، إلا أن يقال: إنه كان مستتراً خائفاً، ثم أظهر وأعلن.
      قال أبو هاشم: '' أتيت حماد بن أبي سليمان، فقلت: ما هذا الرأي الذي أحدثت لم يكن على عهد إبراهيم النخعي؟ فقال: لو كان حياً لتابعني عليه - يعني الإرجاء '' .
      وفي هذا ما يدل على أولية حماد، لكن النص الآتي يدل على أنه اتبع غيره، إلا أن يقال: إنه دليل فقط لما قررناه من أن الجذور متقدمة، وهو ما ذكره الذهبي عن معمر، قال: '' كنا نأتي أبا إسحاق -يعني السبيعي- فيقول: من أين جئتم؟
      فنقول: من عند حماد، فيقول: ما قال لكم أخو المرجئة؟
      قال معمر: قلت لـحماد: كنت رأساً وكنت إماماً في أصحابك، فخالفتهم فصرت تابعاً؟
      قال: إني أن أكون تابعاً في الحق خير من أكون رأساً في الباطل.
      قال الذهبي: قلت: يشير معمر إلى أنه تحول مرجئاً إرجاء الفقهاء؛ وهو أنهم لا يعدون الصلاة والزكاة من الإيمان، ويقولون: الإيمان: إقرار باللسان ويقين في القلب.
      والنزاع على هذا لفظي إن شاء الله، وإنما غلو الإرجاء؛ من قال: لا يضر مع التوحيد ترك الفرائض، نسأل الله العافية '' .
      ويبدو أن الخلاف بين هذه الأقوال غير مؤثر، فكلهم متعاصرون، وكلهم في بلد واحد، وقولهم في الإرجاء واحد.
      ويستفاد من بعض الآثار أن للفكرة وجوداً غير خاف، فهذا سالم بن أبي الجعد التابعي المحدث المتوفى سنة 100هـ أو حولها - كان له ستة بنين؛ فاثنان شيعيان، واثنان مرجئان، واثنان خارجيان، فكان أبوهم يقول: قد خالف الله بينكم!!
      وهذا دليل على نمو البدع حينئذ لا سيما في الكوفة.
      وهناك رجل آخر لا شك أنه من أوائل القوم الدعاة؛ وهو سالم الأفطس، وفيه قصة تستحق الإيراد، لا سيما وقد ذكرها مصدران متقدمان بسندين مختلفين هما: السنة لـعبد الله بن أحمد، وتهذيب الآثار للطبري، كلاهما عن معقل بن عبيد الله الجزري العبسي قال: '' قدم علينا سالم الأفطس بالإرجاء، فعرضه، فنفر منه أصحابنا نفاراً شديداً، وكان أشدهم ميمون بن مهران وعبد الكريم بن مالك، فأما عبد الكريم فإنه عاهد الله لا يأويه وإياه سقف بيت إلا في المسجد.
      قال معقل: فحججت، فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي، قال: فإذا هو يقرأ سورة يوسف، قال: فسمعته قرأ هذا الحرف ((حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا))[يوسف:110] مخففة.
      قال: قلت: إن لنا إليك حاجة فاخل لنا، ففعل، فأخبرته أن قوماً قبلنا قد أحدثوا وتكلموا، وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين، قال: فقال: أوليس يقول الله: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ))[البينة:5].
      فالصلاة والزكاة من الدين.
      قال: فقلت له: إنهم يقولون: ليس في الإيمان زيادة. قال: أوليس قد قال الله فيما أنزله: ((فَزَادَهُمْ إِيمَاناً))[آل عمران:173] فما هذا الإيمان الذي زادهم؟!
      قال: قلت: فإنهم قد انتحلوك، وبلغني أن ذراً دخل عليك وأصحابه، فعرضوا عليك قولهم فقبلته وقلت هذا الأمر، فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو ما كان هذا مرتين أو ثلاثاً.
      قال: ثم قدمت المدينة، فجلست إلى نافع، فقلت له: يا أبا عبد الله، إن لي إليك حاجة، قال: أسر أم علانية؟ فقلت: لا، بل سر، قال: رُبّ سر لا خير فيه! فقلت له: ليس من ذلك، فلما صلينا العصر قام وأخذ بيدي، وخرج من الخوخة ولم ينتظر القاص، فقال: ما حاجتك؟ قال: قلت: أخلني من هذا، قال: تنح يا عمرو، قال: فذكرت له بدو قولهم، فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أمرت أن أضربهم بالسيف حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوا: لا إله إلا الله عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقه، وحسابهم على الله}، قال: قلت: إنهم يقولون: نحن نقر بأن الصلاة فريضة ولا نصلي، وأن الخمر حرام ونشربها، وأن نكاح الأمهات حرام ونحن نفعل، قال: فنتر يده من يدي، وقال: من فعل هذا فهو كافر.
      قال معقل: ثم لقيت الزهري، فأخبرته بقولهم: فقال: سبحان الله!! أوقد أخذ الناس في هذه الخصومات، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب الخمر حين يشربها وهو مؤمن}.
      قال: ثم لقيت الحكم بن عتيبة، قال: فقلت: إن ميموناً وعبد الكريم بلغهما أنه دخل عليك ناس من المرجئة، فعرضوا عليك قولهم، فقبلت قولهم.
      قال: فقيل ذلك على ميمون وعبد الكريم؟ قلت: لا.
      قال: دخل عليّ منهم اثنا عشر رجلاً، وأنا مريض، فقالوا: يا أبا محمد، بلغك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاه رجل بأمة سوداء أو حبشية، فقال: يا رسول الله! إن عليّ رقبة مؤمنة، أفترى هذه مؤمنة؟ قال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أتشهدين أن لا إله إلا الله قالت: نعم، قال: وتشهدين أني رسول الله، قالت: نعم، قال: وتشهدين أن الجنة حق، وأن النار حق، قالت: نعم، قال: أتشهدين أن الله يبعثك من بعد الموت قالت: نعم، قال: فأعتقها فإنها مؤمنة} قال: فخرجوا وهم ينتحلوني.
      قال: ثم جلست إلى ميمون بن مهران، فقيل له: يا أبا أيوب: لو قرأ لنا سورة نفسرها، قال: فقرأ أو قرأت: ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ))[التكوير:1] حتى إذا بلغ: ((مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ))[التكوير:21] قال: ذاك جبريل، والخيبة لمن يقول: إيمانه كإيمان جبريل '' .
      ويروي ابن بطة بسنده عن المبارك بن حسان قصة أخرى، قال: قلت لـسالم الأفطس: رجل أطاع الله فلم يعصه، ورجل عصى الله فلم يطعه، فصار المطيع إلى الله فأدخله الجنة، وصار العاصي إلى الله فأدخله النار، هل يتفاضلان في الإيمان؟
      قال: لا.
      قال: فذكرت ذلك لـعطاء، فقال: سلهم الإيمان طيب ( أم ) خبيث؟ فإن الله تعالى قال:
      ((لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ))[الأنفال:37] وجه الاستدلال: أنه إذا كان الإيمان واحداً لا يتفاضل فيلزم أنه خبيث لدخوله النار، والنار لا يدخلها طيب وإنما يدخلها الخبيث، وإن قال: إنه حين دخولها ليس معه الإيمان فقد كفره؛ لأن الإيمان عنده شيء واحد فزواله يكون بالكلية، وهذا عكس مذهبه .
      فقال النحات : إنما الإيمان منطق ليس معه عمل! فذكرت ذلك لـعطاء، فقال: سبحان الله! أما تقرءون الآية التي في سورة البقرة: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ))[البقرة:177].
      قال: ثم وصف الله هذا الاسم فألزمه العمل، فقال: ((وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ))[البقرة:177]
      إلى قوله: ((صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ))[البقرة:177].
      قال: سلهم هل دخل هذا العمل في هذا الاسم؟
      وقال: ((وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِن))[الإسراء:19].
      فألزم الاسم العمل وألزم العمل الاسم.
      هذا الجدل المبكر -زمن التابعين- في موضوع العمل يعطينا فكرة واضحة عن مذهب المرجئة الفقهاء فيه، وحقيقة الخلاف بينهم وبين أهل السنة والجماعة منذ نشأتهم، كما يبين لنا منهج السلف العلمي في مجادلتهم، وهو أن أهم جانب في القضية شغل أذهان السلف هو موضوع عمل الجوارح؛ أي: أداء الفرائض واجتناب المحرمات، وأن حقيقة الإيمان لا تكون إلا به مع عمل القلب، فإذا انتفى أحدهما انتفى الإيمان.
      - الجهم بن صفوان:
      أما الجهم بن صفوان فهو رأس الضلالات وأس البليات، جعله الله فتنة للناس، وسبباً للإضلال، كما جُعل السامري في بني إسرائيل.
      حسبنا أن نعلم أن هذا الرجل الذي كان من شواذ المبتدعة في مطلع القرن الثاني، قد ترك من الأثر في الفرق الإسلامية الثنتين والسبعين ما لا يعادله أثر أحد غيره.
      هذا مع أنه ليس بإمام يحتج بقوله، ولا عالم يعتد بخلافه، ولا شهد له أحد بخير!!
      وقد جمع المصنفون من السلف في سيرته الشيء الكثير، وكله ذم وتكفير وتشنيع من أئمة الإسلام ورجال النقد، جمع ذلك الإمام أحمد، وابنه عبد الله، وأبو عبيد، والبخاري، والدارمي، وابن خزيمة، وابن أبي حاتم، وسائر من ألف في الفرق أو الصفات أو الإيمان؛ كـالبيهقي، والأشعري، والبغدادي، واللالكائي، وكذا المؤرخون وأصحاب التراجم.
      وهذا ما سنورد بعضه مقتصرين ما يهمنا هنا؛ وهو مذهبه في الإيمان.
      والأصل الذي ينبغي معرفته في هذا، هو: أن الجهم لم يبتدع مذهبه في الإيمان اعتماداً على شبهة نقلية أو أثارة من علم، وإنما كان رجلاً لَسِناً مجادلاً، مجبولاً على المحادة والاعتراض والمراء، ومع ذلك لم يقدر له أن يجلس إلى عالم أو يتفقه على إمام، بل شهد عليه بعض من عاصره بجهل بالغ في معرفة الأحكام الشرعية، حتى الجلي منها، وقالوا: '' إنه لم يحج البيت، ولم يجالس العلماء قط.
      وإنما جالس جهم أصحاب الأهواء
      وبعض الملاحدة، من المنتسبين إلى فلسفات الأمم الجاهلية الموتورة، ولما أراد الله فتنته اتصل بطائفة من الزنادقة الهنود، يقال لهم: السمنية، وأولئك قوم لهم فلسفة خاصة ومدرسة فكرية مؤصلة، قد أعدوا لكل عقيدة لدى غيرهم شبهة، وأعدوا لكل سؤال جوابه، ولكل مأزق مخرجاً.
      وتجشم جهم وتكلف أن يجادلهم ويخوض معهم، وهو صفر من العلم، خلو من الحجة، فما رآه بعقله المجرد ورأيه القاصر، وكان مجرد خوضه معهم نذيراً بالشر وشؤم العاقبة.
      فقد ابتدءوا معه الجدال بالحديث عن مصدر المعرفة الصحيح المتيقن -وهي أكبر قضية فلسفية على الإطلاق، وأصل كل بحث ونظر- وكان فلسفتهم تقوم على: أن المصدر الوحيد للمعرفة الحواس الخمس، ولما نازلهم جهم وهو جاهل بدينه خال من مصدر اليقين الأصلي -وهو الوحي- حصروه وأفحموه بسؤال هو: صف لنا ربك هذا الذي تعبده يا جهم، وبأي حاسة أدركته من الحواس، أرأيته أم لمسته، أم... إلخ؟!
      وسُقط في يد هذا الضال المسكين، وطلب منهم مهلة ليفكر في الأمر، ولم يستطع أن يستلهم حجة، ولم يسأل العلماء فيداووه ويلقنوه.
      وقادته الحيرة إلى الشك في دينه، فترك الصلاة مدة، ثم استغرق في التفكير والتأمل، حتى انقدح في ذهنه جواب خرج به عليهم قائلاً: هو هذا الهواء مع كل شيء، وفي كل شيء، ولا يخلو من شيء '' .
      وهذا الجواب الذي هو أساس نفي الصفات، هو قول طائفة من زنادقة الهند الآخرين.
      وهذا المنزلق تلاه ما تلاه من هوى ورأي.
      وكانت حياة جهم في آخر عصر بني أمية، حيث ظهرت البدع وتشعبت أصول الفرق، وكان مقتضى خوضه وجداله أن يخوض في قضية الإيمان، ويدلي بدلوه في هذه المسألة التي كانت الفرق حوله تتجادل فيها كثيراً، وكان طبيعياً أن يخرج جهم بقول لم يسبقه إليه أحد، وهو أن الإيمان هو مجرد المعرفة بالقلب، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن، دون ما حاجة إلى قول باللسان ولا عمل بالجوارح.
      والذي يظهر لمن يطالع سيرة الرجل وواقع عصره، أنه ركَّب هذا القول من كلام المتفلسفة من الزنادقة، الذين لا يعدو الإيمان عندهم مجرد الإقرار النظري بوجود الله، ومن كلام المرجئة الفقهاء الذين أصروا على نفي دخول الأعمال في الإيمان.
      والجديد في عمل جهم أنه نقل كلام الطائفة الأولى من محيط الفلسفة التي لا صلة لها قط بالإسلام ليدخله في الإسلام، متذرعاً في ذلك بلوازم كلام الطائفة الأخرى ومفهومه الذي لم يقصدوه قط، وبذلك أصبح هذا القول الفلسفي الشاذ مقالة من مقالات الإسلاميين، وإن كانت الجهمية في حكم جملةٍ من علماء السلف ليست من فرق [ المسلمين ] أهل القبلة.
      حتى لقد قال الإمام البخاري رحمه الله: ''نظرت في كلام اليهود والنصارى والمجوس، فما رأيت أضل في كفرهم منهم، وإني لأستجهل من لا يكفرهم إلا من لا يعرف كفرهم'' .
      ومن هنا أَضرب أبو عبيد والطبري صفحاً عن مناقشة مذهب جهم؛ لأنه ليس من مقالات المجتهدين في النصوص، بل هو من مذاهب أهل الجدل والتفلسف والكلام، ومنسلخ عن أقوال الملل الحنيفية جميعها.
      ولكن أسباباً ومؤثرات -يأتي تفصيل الحديث عنها- أفضت في النهاية إلى أن يكون هذا المذهب أكثر المذاهب في الإيمان انتشاراً، مع ما لحقه من تعديل هو لفظي أكثر من كونه حقيقياً، ومن نفي لبعض لوزامه.
      فالذي حصل هو أن مذهب المرجئة الفقهاء مَهدَّ لرأي جهم، ثم جاء المرجئة المتكلمون كـالأشعري والماتريدي، فجعلوه عقيدة أكثر طوائف الأمة - مع ما أشرنا إليه من تعديل.
      ولهذا قال وكيع بن الجراح -الإمام الكبير شيخ الإمام أحمد-: '' أحدثوا هؤلاء المرجئة الجهمية، والجهمية كفار والمريسي جهمي وعلمتم كيف كفروا، قالوا: يكفيك المعرفة وهذا كفر والمرجئة يقولون: الإيمان قول بلا فعل، وهذا بدعة...'' .
      وهذا من أهم ما يجب معرفته والاعتبار به.
      أما معرفته فلكي تعلم التطور التدريجي للظاهرة وخط سيرها، وأما الاعتبار به فلأن البدع قد تبدو صغيرة لكنها تؤول إلى أن تصير كباراً، فيجب الحذر من صغيرها وكبيرها، وإلا فإن الأئمة والعباد من المرجئة الفقهاء لم يدر بخلدهم ما صار إليه جهم، ولم يخرجوا الأعمال من الإيمان إلا لفظاً فقط، وأما وجوبها والمعاقبة عليها ووجوب ترك المحظورات فأمر لم يخالفوا فيه قط.
      ولهذا عَدَّ بعض العلماء الخلاف كله لفظياً - وليس كذلك بإطلاق.
      يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية عنهم: ''وهذه الشبهة التي أوقعتهم -يعني شبهة عدم التعدد والتبعيض في الإيمان- مع علم كثير منهم وعبادته وحسن إسلامه وإيمانه، ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين، ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحداً من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال لا من بدع العقائد؛ فإن كثيراً من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب، فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سبباً لخطأ عظيم في العقائد والأعمال، ولهذا عظم القول في ذم الإرجاء'' .
      وقال أيضاً: ''والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان والأعمال ليست منه، وكان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمناً إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه، وعرفوا أن إبليس وفرعون كفار مع تصديق قلوبهم.
      لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً فإنها لازمة لها، ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم'' .
      وهذا الذي قاله الشيخ قاله من هو أقدم منه؛ كالإمام أبي عبيد القاسم بن سلام، على ما سننقله.
      هذا وبيان الفروق بين مذهب جهم، ومذهب المرجئة الفقهاء، وبين هذا ومذهب أهل السنة والجماعة، مما يتضمنه الفصل التالي لهذا، غير أننا لن ندع الحديث عن جهم إلا بعد تنبيه مهم؛ وهو:
      إن مذهب جهم لم يكن له في حياة صاحبه، ولا بعد ذلك بزمن أي أثر بارز في واقع الحياة الإسلامية، وإنما ظهرت آثاره وعمت ببروز من تبناه من المتكلمين، وعلى رأسهم بشر المريسي، وقد عاش متهماً محارباً -لكن أقل من حال جهم في هذا- ثم ابن كلاب، وقد كان متهماً أيضاً -لكن أقل من حال بشر- ثم الأشعري والماتريدي، وهما اللذان نشراه، حتى أصبح ظاهرة عامة في فكر الأمة وحياتها.
      وإنما خصصنا هذا بالذكر مع ما سبق من الإشارة إليه لأهميته في معرفة تطور الظاهرة، ولننبه إلى جسامة الخطأ الذي وقع فيه بعض المستشرقين -وتبعهم من تبعهم- في زعم أن ثورة الحارث بن سريج كانت قائمة على عقيدة الإرجاء، وكأن جهماً قد ربَّى تلك الآلاف الثائرة على عقيدته، حتى اندفعوا للخروج على الدولة وإقامة مذهبهم.
      والواقع يكذب هذا، فإن جهماً كان كاتباً لقائد الثورة، وكان إرجاء جهم رأياً خاصاً وفكرة شخصية، لأ أثر لها في توجيه الثورة التي لم تكن تمثل أية عقيدة دينية، وإنما كانت حركة تمرد وعصيان على الدولة، ضَمت في صفوفها من كل الطوائف، بل ضمت أهل الذمة ومشركي الترك، وإنما انضم إليها جهم -على ما يظهر لي- لأنه هو أيضاً خارج عن الطاعة، ملاحق من الدولة بسبب بدعته في الصفات التي أطاحت برأس شيخه الجعد من قبل، ويدل لذلك الوثائق الرسمية للدولة، ومخاطبة والي مرو له عند قتله.
      روى اللالكائي بسنده عن أحدهم: '' قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك إلى عامله بـخراسان نصر بن سيار: أما بعد: فقد نجم قبلك رجل من الدهرية من الزنادقة، يقال له: جهم بن صفوان، فإن أنت ظفرت به فاقتله، وإلا فادسس إليه من الرجال غيلة ليقتلوه '' .
      ونقل الحافظ عن ابن أبي حاتم '' أن سلم بن أحوز عامل نصر بن سيار على مرو لما قبض على جهم قال: يا جهم! إني لست أقتلك لأنك قاتلتني، أنت عندي أحقر من ذلك، ولكني سمعتك تتكلم بكلام باطل أعطيت لله عهداً أن لا أملك إلا قتلتك. فقتله '' .
      وهذا شبيه بما فعله خالد بن عبد الله القسري مع شيخه الجعد.
      وأما ما ذكره الطبري من شعر لـنصر بن سيار يتهم فيه الحارث وجيشه بالإرجاء، فلا شك أن كون الجهم كاتباً للحارث يعد سبباً كافياً لخصمه السياسي أن يطعن في عقيدته، ويشهر به بين المسلمين، فإذا ضممنا إلى ذلك رقة دين الحارث، واستعانته بالمشركين على المسلمين، كان المبرر أقوى، على أن المنقول من أخبار نصر يدل على فضل وصلاح فيه.
  13. أصول مذاهب المرجئة نظرياً

    1. أولاً: منطلق الشبهة وأساسها

      إن منطلق الشبهات كلها في الإيمان وأساس ضلال الفرق جميعها فيه هو أصل واحد اتفقت عليه الأطراف المتناقضة جميعها، ثم تضاربت عقائدها المؤسسة عليه؛ وذلك أن الخوارج والمعتزلة والمرجئة -الجهمية منهم والفقهاء والكرامية- اتفقوا على أصل واحد انطلقوا منه هو: أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وأنه لا يجتمع في القلب الواحد إيمان ونفاق، ولا يكون في أعمال العبد الواحد شعبة من الشرك وشعبة من الإيمان.
      والعجيب أن هذه الفرق تحسب أن هذا موضع إجماع وتدعي ذلك، وعليه تبني معتقدها، وإنما هو إجماع بينها فقط، وربما كان ذلك لأن أكثر المصنفين في الفرق والمقالات هم من غير أهل السنة، ولا يذكرون مذهب أهل السنة، وإنما يذكرون مذاهب أهل الكلام والجدل.
      على هذا الأصل بنى الخوارج قولهم: إن مرتكب الكبيرة غير مؤمن؛ لأن إيمانه زال بارتكاب الكبيرة، ثم اختلف عليهم بعض فرقهم في معنى هذا الكفر وبعض لوازم هذا القول.
      ووافقهم المعتزلة على هذا، لكن لما رأوا أن التسوية في الحكم بين الكافر والمرتد، وبين الزاني والسارق والشارب يستبعده العقل والشرع، حيث فرق الله بين حكم كل من هذين في الدنيا والآخرة، اكتفوا بإزالة اسم الإيمان عنه ولم يدخلوه في مسمى الكفر، فابتدعوا ما أسموه المنزلة بين المنزلتين.
      أما في المآل والعاقبة -أي: أحكام الآخرة- فهم والخوارج سواء؛ فقد اتفقتا في الحكم - وهو التخليد في النار واختلفتا في الاسم، فـالخوارج سموه كافراً وهؤلاء جعلوه في منزلة بين المنزلتين.
      وأما المرجئة فإنهم -مع إيمانهم بالأصل- وجدوا النصوص الكثيرة والنظر العقلي يدلان على فساد قول الخوارج ومعهم المعتزلة، ووجدوا كذلك -وهذه شبهة أساس عندهم- أن ارتكاب المحظورات وترك الفرائض هو من جنس الأعمال لا الاعتقادات، فاتفقت سائر فرقهم على إخراج الأعمال من مسمى الإيمان حتى يسلم لهم الأصل المذكور، فيظل تارك الفريضة أو مرتكب المحرم مؤمناً، بل لم يتورع بعضهم عن التصريح بمساواة إيمانه بإيمان الملائكة والنبيين بناءً على هذا الأصل.
      ثم إن المرجئة اختلفت فرقهم؛ فمنهم من يقول: الإيمان محله القلب، ومنهم من يضيف إليه إقرار اللسان.
      والذين قالوا: محله القلب اختلفوا في التسمية؛ فقال بعضهم: هو المعرفة، وقال آخرون: هو التصديق.
      والذين قالوا: إن الإيمان يشمل الاعتقاد والإقرار معاً افترقوا؛ فمنهم من خص الاعتقاد بالتصديق، ومنهم من أدخل سائر أعمال القلب فيه، والذين خصوه بالتصديق أولوا أصل مذهبهم في الإقرار والنطق بأنه علامة على ما في القلب فقط، أو ركن زائد وليس بأصلي ونحو ذلك.
      والكرامية -خاصة- بقوا على الأصل نفسه أنه شيء واحد، لكن جعلوه الإقرار والنطق فقط.
      وبهذا الإيجاز والإجمال يتبين لنا أنه يمكن هدم مذاهب المخالفين في الإيمان جميعها بهدم هذا الأصل الفاسد الذي هو رأي مجرد عن النصوص، كما يمكن وضع ضابط لمعرفة مذاهب الناس في الإيمان -ولا سيما المرجئة- بحسب محل الإيمان من الأعضاء.
    2. ثانياً: هدم هذا الأصل شرعاً

      من أسهل الأمور وأجلاها بيان فساد هذا الأصل؛ ولهذا سنكتفي بإيراد هذه الأدلة المجملة:
      1- انعقاد الإجماع على ذلك من الصحابة والتابعين وتابعيهم -كما سبق- وهو إجماع مستند إلى النصوص الصريحة من الكتاب والسنة في زيادة الإيمان ونقصه، واجتماع النفاق والإيمان في القلب الواحد، واجتماع الشرك والإيمان في عمل الرجل الواحد.
      2- تفاضل المؤمنين في الأعمال الظاهرة تفاضلاً لا ينكره إلا مكابر؛ فمنهم القانت الأواب، والمجاهد الدائب، ومنهم المقتصد، ومنهم الظالم لنفسه المنهمك في فسقه.
      3- تفاوت المؤمنين في الأعمال الباطنة؛ كالحب والخوف والرجاء والذكر والتفكر في آلاء الله وآياته والخشوع واليقين...ونحو ذلك مما لا يجحده إلا معاند عامد.
      4- تفاوت الناس في العلم بما يؤمن به - حتى لو سلم جدلاً أنه التصديق؛ فمنهم من يعلم من صفات الله وآياته وأسباب سخطه ومرضاته الشيء الكثير، ويؤمن بذلك ويعتقده مفصلاً، ومنهم من لا يعلم منه إلا النزر اليسير المجمل، فلا مراء في أن الأول مصدق بأضعاف ما الآخر مصدق به، فالمعرفة والعلم واليقين كل منها درجات متفاوتة، والإنسان الواحد نفسه يكون إيمانه بشيء أقوى من إيمانه بشيء آخر، ويكون إيمانه بالشيء اليوم أقوى منه غداً أو العكس.
      5- أن الإيمان يتفاوت بتفاوت سببه ومستنده؛ فمن آمن بسبب آية خارقة رآها، ليس كمن آمن تبعاً لإيمان غيره من الناس أو نحو ذلك من الأسباب العارضة.
    3. ثالثاً: ضابط معرفة أصول الفرق في الإيمان

      يمكن معرفة أصول الفرق المختلفة في الإيمان بتقسيم الأقوال منطقياً حسب الأعضاء الثلاثة: القلب، واللسان، والجوارح، وقد وضع هذا الضابط -نصاً أو تلميحاً- بعض المؤلفين من العلماء؛ عوضاً من استعراض الفرق الذي سارت عليه كتب الفرق والمقالات، ومنهم الإمام الطبري وابن حزم وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وابن أبي العز .
      وقد رأيت أن أستفيد من مجموع كلامهم، وأوجز كلامهم، وأستخرج منه مع الزيادة والإيضاح ضابطاً يعين على معرفة الأقوال والتفريق بينها بيسر وسهولة فكان هذا التقسيم:
      1-            أن الإيمان بالقلب واللسان والجوارح:
      1- أهل السنة
      2- الخوارج
      3- المعتزلة.
      2- أن الإيمان بالقلب واللسان فقط:
      1- المرجئة الفقهاء.
      2- ابن كُلاب.
      3- أن الإيمان باللسان والجوارح فقط:
      الغسانية أو فرقة مجهولة؟
      4- أن الإيمان بالقلب فقط:
      1- الجهمية
      2- المريسية.
      3- الصالحية.
      4- الأشعرية.
      5- الماتريدية وسائر فرق المقالات.
      5- أن الإيمان باللسان فقط:
      1- الكرامية
      وبعض هذه الأقسام تحتاج لتفصيل إيضاحي، وهي:
      أ- الذين قالوا: إنه بالقلب واللسان والجوارح طائفتان:
      1- الذين قالوا: الإيمان فعل كل واجب وترك كل محرم، ويذهب الإيمان كله بترك الواجب أو فعل الكبيرة؛ هم:
      أ- الخوارج:
      ومرتكب الكبيرة عندهم كافر.
      ب- المعتزلة:
      ومرتكب الكبيرة عندهم في منزلة بين المنزلتين.
      2- الذين قالوا: الإيمان قول وعمل ، وكل طاعة هي شعبة من الإيمان أو جزء منه، والإيمان يكمل باستكمال شعبه وينقص بنقصها، ولكن منها ما يذهب الإيمان كله بذهابه ومنها ما ينقص بذهابه.
      فمن شعب الإيمان أصول لا يتحقق إلا بها، ولا يستحق مدعيه مطلق الاسم بدونها.
      ومنها واجبات لا يستحق الاسم المطلق بدونها.
      ومنها كمالات يرتقي صاحبها إلى أعلى درجاته.
      [ وتفصيل هذا كله حسب النصوص ]
      * وهم أهل السنة والجماعة
      ب- الذين قالوا: إنه يكون بالقلب واللسان فقط طائفتان:
      1- الذين منهم يدخلون أعمال القلب وهم بعض قدماء المرجئة الفقهاء وبعض محدثي الحنفية المتأخرين.
      2- الذين لا يدخلون أعمال القلب، وقد تطور بهم الأمر إلى إخراج قول اللسان أيضاً من الإيمان وجعلوه علامة فقط وهم عامة الحنفية [ الماتريدية ]
      جـ- الذين قالوا: إنه يكون بالقلب فقط ثلاث طوائف:
      1- الذين يدخلون فيه أعمال القلب جميعاً؛ وهم: سائر فرق المرجئة كـاليونسية والشمرية والتومنية.
      2- الذين يقولون: هو المعرفة فقط: الجهم بن صفوان.
      3- الذين يقولون: هو التصديق فقط: الأشعرية والماتريدية.
      هذه هي الأصول النظرية عامة.
      أما في واقع الظاهرة فقد تقلصت هذه الفرق إلى أقل من ذلك نظراً للتداخلات والتطورات الفكرية التي كان أهمها وأجلاها:
      1- استخدام قواعد المنطق وإدخاله علماً معيارياً يحكم في القضايا النظرية الخلافية عامة، ومنها قضية الإيمان.
      2- تحول مباحث العقيدة أو التوحيد والإيمان إلى علم الكلام الذي يقوم على أسس فلسفية ويستخدم القواعد المنطقية، وإجمالاً هو مباحث نظرية عقلية ليس للنصوص فيها -إن وجدت- إلا مكانة ثانوية، لا سيما في العصور الأخيرة.
      وهذا ما سوف نفصل الحديث فيه عما قليل.
      والمهم أن هذه الأسباب وغيرها من الأسباب التاريخية البحتة أدت إلى انقراض بعض الفرق الإرجائية، وهي:
      1- الكرامية:
      لم يعد لهم وجود ولا لفكرهم إلا في كتب المخالفين، مع أنها آخر المذاهب المبتدعة في الإيمان ظهوراً.
      وانقراضهم قديم نسبياً، يقول الذهبي -في القرن الثامن-: وكان الكرامية كثيرين بـخراسان ولهم تصانيف، ثم قلوا وتلاشوا، نعوذ بالله من الأهواء.
      هذا مع أنه كان لهم وجود ظاهر حتى نهاية القرن السادس ومطلع السابع، فإن المؤرخين للرازي وعلى رأسهم ابن السبكي ذكروا مناظراته لهم، وكتب الرازي تنضح بذلك، والرازي هو الإمام الثاني للأشعرية توفي سنة 606هـ وقد كتب أحد الباحثين رسالة علمية في ذلك.
      وقبل ذلك أثناء ظهور إمام الأشعرية الأول وناشر المذهب -أبو بكر الباقلاني- كان مقدمهم ابن الهيصم يكتب ويناظر في الطرف الآخر.
      قال شَيْخ الإِسْلامِ: ''وقد رأيت لـابن الهيصم فيه مصنفاً في أنه قول اللسان فقط، ورأيت لـابن الباقلاني فيه مصنفاً أنه تصديق القلب فقط، وكلاهما في عصر واحد، وكلاهما يرد على المعتزلة والرافضة '' .
      2- الجهمية وأصحاب المقالات [ كـاليونسية والشمرية ]:
      انقرض القائلون بأن الإيمان هو مجرد المعرفة القلبية.
      ولكن العجيب هو قيام أعظم مذهبين في الإرجاء وهما الأشعرية والماتريدية اللذان يشكلان جملة الظاهرة العامة على أصوله في أن الإيمان هو ما في القلب فقط، حتى إن الماتريدية أوّلت ما هو مشهور عن أبي حنيفة أن الإقرار باللسان ركن آخر للإيمان، وجعلوه علامة فقط -كما سيأتي عنهم-.
      هذا مع أن الأشعري نفسه صرح بمذهب جهم وجعله الفرقة الأولى من فرق المرجئة، والمنتسبون إليه يقرءون ذلك إلى اليوم، بل إن كلام إمامهم المتقدم الباقلاني في الإيمان يماثل ما ذكره إمامهم المنتسبون إليه (الأشعري) عن جهم!! وهذا من تناقضهم.
      وعلى هذا يصح أن نقول: إن مذهب الجهمية في جملته لم ينقرض، وإنما انقرض القسمان الأولان من الأقسام الثلاثة المتفقة على أن الإيمان يكون بالقلب وحده - أعني: سائر الفرق ذات المقالات والجهمية [ راجع الجدول ].
      أما الفرقة الثالثة: فكل ما عملته هو تحوير أو تعديل في كلام جهم، فوضعت التصديق بدلاً من المعرفة، وصرحت بنفي أعمال القلب الأخرى مثلما صرح جهم، وجعلت الأعمال المكفرة مجرد علامة على الكفر الباطن، وجعلت كل من حكَّم الشرع بكفره فاقداً للتصديق القلبي، ونحو ذلك من الآراء واللوازم التي لم يخالفوا جهماً في شيء منها، إلا إذا صح أن جهماً التزم القول بأن من أعلن التثليث في دار الإسلام وحمل الصليب بلا تقية أنه يكون مؤمناً إذا كان يعرف الله، على أن ابن حزم نسب هذا الالتزام للأشعري معه، ولا يصح هذا عن الأشعري.
      لكن الأشعرية يقولون: إنه يمكن أن يكون مؤمناً في الباطن، ولكن إعلانه التثليث وحمله الصليب دليل على كفره وعلامة عليه، فهو كافر ظاهراً مع كونه مؤمناً باطناً إذا كان مصدقاً!!
      وعلى أية حال فإن الفرق بين التصديق المجرد من أعمال القلب وبين المعرفة مما يتعذر على العقول إدراكه، كما نص شَيْخ الإِسْلامِ على أن الانقراض قد شمل أيضاً آراء بعض قدماء المذهب الأشعري؛ فمؤسسه ابن كلاب كان على عقيدة المرجئة الفقهاء، وأما أبو عبد الله بن مجاهد تلميذ الأشعري وشيخ الباقلاني، وأبو العباس القلانسي، ونحوهم؛ فكانوا على عقيدة السلف في الإيمان كما نقله عنهم أبو القاسم الأنصاري شيخ الشهرستاني في شرح كتاب الإرشاد للجويني، . وكل هؤلاء لم يبق لهم في مذهب الأشعرية أثر.
      3/ المرجئة الفقهاء:
      بعد أن استقرت الأمة على التمذهب بالمذاهب الأربعة المشهورة، استقر مذهب المرجئة الفقهاء ضمن مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- ولهذا أصبح يسمى مذهب الحنفية.
      وأبو حنيفة -رحمه الله- تضاربت الأقوال في حقيقة مذهبه وموقفه من أعمال القلوب خاصة - أهي داخلة في الإيمان أم لا؟
      ولم يثبت لديّ فيما بحثت أي نص من كلام الإمام نفسه، إلا أنني لا أستبعد أنه -رحمه الله- رجع عن قوله ووافق السلف في أن الأعمال من الإيمان، وهذا هو المظنون به.
      أما المشهور المتداول عنه فهو مذهب المرجئة الفقهاء -أي: أن الإيمان يشمل ركنين؛ تصديق القلب وإقرار اللسان، وأنه لا يزيد ولا ينقص ولا يستثنى فيه، وأن الفاسق يسمى مؤمناً؛ إذ الإيمان شيء واحد ينتفي كله أو يبقى كله حسب الأصل المذكور سابقاً.
      وأشهر من يمثل هذا المذهب هم فقهاء الحنفية المتمسكون بعقيدة السلف، وعلى رأسهم الإمام أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة المشهورة، والإمام القاضي ابن أبي العز شارحها، وقليل من المتأخرين.
      وحقيقة الأمر أن مذهب هؤلاء مضطرب متردد، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: ''إنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً- فإنها لازمة لها'' .
      وعبارة الطحاوي -رحمه الله- تدل على هذا فإنه قال: ''والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، ملازمة الأولى''
      فقوله: (والإيمان واحد) شاهد لما قلنا: من أصل الشبهة ومنطلقها هو هذا.
      وقوله: '' وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى... '' إلخ مخالف لذلك، فاضطربت عبارته؛ لأن قوله: وأهله في أصله سواء يدل على أن للإيمان أصلاً وفرعاً أو فروعاً -هو أعمال الجوارح وأعمال القلب-.
      فيقال: إن كان الفرع داخلاً في مسمى الأصل كما هو الشرع واللغة والعرف لم يعد الإيمان واحداً، بل متفاوتاً متفاضلاً - كإثباته التفاضل في الخشية والتقى.
      وإن كان غير داخل في مسماه فقوله: (وأهله في أصله سواء) غير دقيق، فينبغي أن يقول وأهله فيه سواء.
      والذي دفعه رحمه الله إلى الوقوع في هذا هو محاولة الجمع بين مذهبي السلف وأبي حنيفة؛ لأن الرجل حنفي سلفي، وكذا شارح عقيدته، فإنه حاول ذلك أيضاً وأراده، ولهذا قال في شرح العبارة: ولهذا -والله أعلم- قال الشيخ رحمه الله: وأهله في أصله سواء، يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه '' .
      فيقال له: ما هذا الأصل من التصديق الذي يكون أهل الإيمان كلهم مشتركين فيه، ويكون ما فوقه زيادة عليه؟ وما حده؟ ومن الذي وضعه؟
      وهذا في الحقيقة يقودنا إلى قضية فلسفية منطقية هي إثبات الماهية المشتركة خارج الذهن، وهو ما لا يقره الشارح رحمه الله.
      وهاهنا قضية مهمة، وهي أن بعض الناس يثبتون أن الخلاف بين مذهب السلف ومذهب أبي حنيفة لفظي بإطلاق، مستدلين بظواهر بعض كلام شَيْخ الإِسْلامِ وبمثل صنيع الطحاوي والشارح، والأخير نص على أن الخلاف صوري، ونحن وإن كان غرضنا هنا ليس التفصيل وإنما هو إثبات الظاهرة، فإننا نبين وجه الحق في ذلك وعلاقته بتطور الظاهرة قائمة أيضاً؛ لأن بعض الناس قد يحسب أن الماتريدية -وهي الطور النهائي للظاهرة بالنسبة للمرجئة الفقهاء- هي على مذهب أبي حنيفة كما تزعم، والخلاف بينها وبين السلف صوري.
      وسوف نبطل ذلك ببيان حقيقة الخلاف بين أبي حنيفة والسلف، ثم نبين بعد خروج مذهب الماتريدية عن حقيقة مذهب الإمام.
      بل إن بيان حقيقة مذهب أبي حنيفة والمرجئة الفقهاء عامة لهو مما يدل على انقراضه إلا من أمثال هذين الإمامين .
    4. حقيقة الخلاف بين مذهب السلف ومذهب الحنفية

      فما حقيقة الخلاف بين مذهب السلف ومذهب الحنفية؟ قبل الإجابة المباشرة يجب أن نتذكر ما سبق في فصل (المرجئة الفقهاء) من نقل ذم علماء السلف للمرجئة وأنهم هم هؤلاء، وبيان ضلالهم وبدعتهم، وهو ما تنضح به كتب العقيدة الأثرية عامة، فهل يعقل أن يكون هذا كله والخلاف لفظي فقط؟!
      والذي تبينته من خلال الدراسة والتتبع أن سبب اللبس الواقع أحياناً هو أن للمسألة جانبين:
      * الأول: ما يتعلق بحقيقة الإيمان أو ماهيته التصورية -إن صح التعبير-:
      والخلاف فيها حقيقي قطعاً، وله ثمراته الواضحة وأحكامه المترتبة مثل:
      1- فـالسلف يقولون: بزيادته ونقصانه، وهؤلاء يقولون بعدمها.
      2- إطلاقه على الفاسق أو عدمه، فـالسلف لا يطلقونه على الفاسق إلا مقيداً، وهؤلاء بعكسهم.
      3- هل يقع تاماً في القلب مع عدم العمل أم لا؟ عند السلف لا يقع تاماً في القلب مع عدم العمل، وعند هؤلاء يقع.
      4- وعند السلف أعمال القلب هي من الإيمان، وعند هؤلاء خشية وتقوى لا تدخل في حقيقته.
      5- وعند السلف الإيمان يتنوع باعتبار المخاطبين به...فيجب على كل أحد بحسب حاله وعلمه ما لا يجب على الآخر من الإيمان، وعند هؤلاء لا يتنوع.
      6- السلف يقولون: إنه يستثنى فيه باعتبار، وهؤلاء يقولون لا يجوز ذلك لأنه شك.
      7- إطلاق نصوص الإيمان على العلم أهو حقيقة أم مجاز؟ فـالسلف يقولون: حقيقة، وهؤلاء يقولون: مجاز.
      8- وهؤلاء يقولون: يجوز أن يقول أحد: إن إيماني كإيمان جبريل، والسلف يقولون: لا يجوز بحال.
      * الثاني: ما يتعلق بالأحكام والمآلات وأهمها:
      1- حكم مرتكب الكبيرة عند الله، وأنه لا يطلق عليه الكفر في الدنيا، ولا يخلد في النار في الآخرة، بل هو تحت المشيئة.
      2- كون الأعمال مطلوبة، لكن أهي أجزاء من الإيمان أم مجرد شرائع له وثمرات؟ فمن نظر إلى هذا فقط قال: إن الخلاف صوري، أو إن النزاع لفظي.
      ولكن مما يردُّ به على أصحاب هذا المذهب في هذا القول نفسه - فضلاً عن القسم الأول:
      1- أن إخراج الأعمال من مسمى الإيمان بدعة لم يعرفها السلف.
      2- أن ذلك اتخذ ذريعة لإرجاء الجهمية -كما سبق- بل أدى إلى ظهور الفسق كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ.
      3- أنه تكلف وتعسف في فهم الأدلة ورد ظواهرها الصريحة.
      4- أن كل شبهة لهم في ذلك منقوضة بحجة قوية .
      على أن القضية المهمة في الموضوع والتي ترتب عليها خلافهم في حكم تارك الصلاة -وقولهم: إنه يقتل حداً- هي قضية ترك جنس العمل بالكلية.
      فقولهم: إنه مؤمن يجعل الخلاف حقيقياً بلا ريب، بل هم يجعلونه كامل الإيمان على أصلهم المذكور.
      فالخلاف فيها لا يقتصر على التسمية والحكم في الدنيا بل في المآل الأخروي أيضاً، هذا ما أخطأ فيه شارح الطحاوية حين قال: ''وقد أجمعوا -أي السلف والحنفية- على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله، مستحق للوعيد'' .
      واستدل بهذا على أن الخلاف صوري، والواقع أن مجرد الاتفاق على العقوبة لا يجعل الخلاف كذلك.
      بل مذهب السلف أن تارك العمل بالكلية كافر؛ إذ انعقد إجماع الصحابة -عليهم رضوان الله- على تكفير تارك الصلاة، ولم يخالف في ذلك أحد حتى ظهرت المرجئة وتأثر بها بعض أتباع الفقهاء الآخرين، دون علم بأن مصدر الشبهة وأساسها هو الإرجاء.
      ونعود إلى موضوع انقراض هذا المذهب وتطور الظاهرة، فنقول: إن أحداً في النصف الثاني من القرن الثاني لم يكن يتوقع انقراض هذا المذهب؛ لأنه كان يمثل مذهب الدولة الرسمي -أو شبه الرسمي- ويكاد يسيطر على أصحاب المناصب العلمية والقضائية الرسمية في بغداد والأقاليم.
      ولكن لم يلبث أن انقرضت صورته الأولى وتحول إلى مذهب فلسفي كلامي منذ القرن الرابع، ومن أهم أسباب ذلك:
      1- المقاومة الشديدة التي بذلها أهل السنة والجماعة في محاربته، وعلى رأسهم الإمام أحمد- الذي كان يدرّس كتاب الإيمان وكتاب الأشربة له في الحلقات العامة، وماثله واقتدى به علماء الحديث والرجال فلم يحقق مذهب الحنفية أي انتصار علمي يذكر.
      وبعد التغير الجذري الذي انتهت إليه فتنة الإمام أحمد، والمكانة العليا التي تبوأها لدى الخلفاء والعلماء والعامة، وبروز المذاهب الأخرى -لا سيما الشافعية- تقلصت مكانة هذا المذهب في الفروع، وكان تقلصها في الأصول أكثر.
      2- انتشار المنطق والفلسفة وعلم الكلام، فقد حاول متكلمو هذا المذهب تعويض الهزيمة التي لحقته في المجال العلمي النصي -الكتاب والسنة- بإضفاء الطابع الفلسفي عليه، مستفيدين من هذا الانتشار الذي لم يقابله أهل السنة بما يستحق -لأسباب يطول ذكرها- فمال إليه معظم الطبقة المثقفة، وتخلى معظم الفقهاء الحنفية -وغيرهم- عن التعرض لأمور العقيدة وأحالوها إلى علماء الكلام، وهنا برز من متكلمي الحنفية رجل كان له أعظم الأثر في الانتصار لمذهب جهم وتحويل مذهب الحنفية إليه، وهو أبو منصور الماتريدي
      وقد اضطر الحنفية في بعض المراحل إلى الالتصاق بـالأشعرية الذين كانوا أكثر منهم تعمقاً في الكلام، حتى أصبح كلام الباقلاني والرازي من أهم مصادرهم.
      وهذا مما جعل الفرقتين تتقاربان كثيراً، حتى إن مسائل الخلاف بينهما حصرت في قضايا معدودة أكثرها فلسفي.
    5. الخلاصة

      والخلاصة أن الظاهرة العامة للإرجاء في طورها النهائي أصبحت مكونة من مذهبي الأشعرية والماتريدية، اللذين شمل انتشارهما معظم الأقطار الإسلامية، وتبنتهما أكثر المعاهد العلمية الإسلامية شرقاً وغرباً، وهذا من أعظم السمات الفكرية لعصور الانحراف في الفكر الإسلامي والحياة الإسلامية عامة.
      ونظراً لما التزمناه من الاهتمام بالدرجة الأولى بقضية العمل، وكيف تدهورت قيمته في الفكر الإسلامي في عصور الانحراف، فإننا سنبحث أعظم الأسباب والمؤثرات التي أدت إلى ذلك؛ لنصل إلى حكم تارك العمل في الطور النهائي للظاهرة، ثم نرد ذلك كله رداً تفصيلياً على ضوء مذهب أهل السنة والجماعة.
  14. الأثر الكلامي في تطور الظاهرة

    إن الدارس لتاريخ الفكر الإسلامي عامة يجد أن أكبر ظاهرة غريبة وفدت عليه وامتزجت به وتركت فيه أبلغ الأثر -شكلاً ومضموناً- هي ظاهرة الغزو الفلسفي الإغريقي!! حقاً إن أكبر حرب نفسية وفكرية أثيرت على الإسلام هي الغزو الفكري الحديث، الذي وفد مع الحملات الصليبية الأخيرة المسماة الاستعمار. غير أن هذا الغزو الأخير -وإن كان لا مبرر لقبوله على الإطلاق- له تفسير معقول؛ وهو التفاوت الكبير في مستوى التقدم الحضاري بين الأمتين المتصارعتين. فأمة تعاني من ضعف مزمن في كل مجالات الحياة ليس غريباً أن تخضع لغزو أمة قوية قاهرة حققت -وفق سنة الله الكونية- من الكشوفات والصناعات ما لم يكن الخيال البشري يحلم به من قبل. أما الظاهرة المستعصية على العقل، الغريبة في تاريخ الإنسانية، فهي أن تتقبل أمة حية قوية تملك مصدراً مستقلاً للمعرفة والثقافة - غزواً فكرياً من أمة بائدة. ويكون الأمر أكثر استعصاءً وغرابةً إذا كانت الأمة المتقبلة للغزو هي أمة الوحي النقي والتوحيد الخالص، اللذين فتحت بهما قلوب الأمم، وحطمت طواغيت العالم، وبلغت من الاستعلاء بالحق ما لم تبلغه أمة قط ومع ذلك تتقبل الغزو من تراث مندثر لأمة مشركة منقرضة!!
    1. أسباب تقبل الغزو الكلامي

      ولست في معرض الحديث عن أسباب تقبل هذا الغزو المدمر، لكني لا أرى بداً من التعرض لذكر سببين رئيسيين له. إن لم يكونا السببين الرئيسين! وهما:
      1- التخطيط التآمري لأعداء الإسلام:
      الذي انتهج أمكر الأساليب، ومنها: الغزو من الداخل، وما ظاهرة الزندقة إلا رأس من رءوس أفاعي الظلام، التي أكل الحقد قلوبها فقذفته سموماً من الآراء والبدع والفلسفات الهدامة.
      والمتأمل لرءوس الضلالة يجد طائفة منهم تنتمي للأديان والفلسفات التي سحقها الإسلام وحرر منها العباد مثل:
      بشر المريسي ((يهودي) عبد الله بن المقفع (مجوسي)، إبراهيم النظام (برهمي) عبدك الصوفي (ثيوصوفي)) .
      وقد عرف الهدامون كيف يدخلون من أوسع الأبواب بالتدسس إلى السلطة الحاكمة والتأثير فيها لكي تتقبل هذه الأفكار، والناس من بعد لهم تبع.
      وهكذا وقع لـخالد بن يزيد الأموي والمأمون العباسي -وإن كان الأول أقل- وغيرهما ممن أغرته هذه الفلسفات، على أن هذا السبب يظل أقل السببين شأناً، فإن الأمة الإسلامية متى كانت مستقيمة على الإيمان لم يضرها كيد كائد ولا عداوة حاقد ((وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا)) [آل عمران:120].
      2- المنهج التوفيقي:
      إن الإيمان بالله ورسوله يحتم على الأمة الإسلامية أن تتمسك بمصدر الحق المعصوم الذي مَنَّ الله به عليها دون سائر الأمم، وألا تتلقى من غيره فيما كفاها مؤنته، بل تحكمه في كل ما تأخذ وما تذر، وهذا أصل قطعي كلي تضافرت للدلالة عليه الآيات والأحاديث.
      ومنها: عن جابر بن عبد الله {أن عمر بن الخطاب أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتاب أصابه من بعض أهل الكتب، فقرأه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغضب فقال: أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو باطل فتصدقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني }
      فهذا الموقف يرسم منهج التعامل مع الوحي المنسوخ، فكيف بالفكر البشري المحض الذي سماه الله تعالى: [ هوى وظناً وخرصاً وإفكاً...]، وهي كلها أسماء يدخل في مسماها دخولاً أولياً ما يسمى (الفلسفة الميتافيزيقية) وما تفرع عنها.
      وحسبك أن الله تعالى قال:
      ((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً))[الكهف:51].
      فهذه الآية نسفت كل النظريات والفلسفات المخالفة للوحي -الكوني منها والإنساني- ووسمت أصحابها باسم [المضلين] وما كانوا دائماً إلا كذلك!
      وعلى هذا المنهج سار عمر بن الخطاب -نفسه- '' فإنه لما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتباً كثيرة، كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب ليستأذن في شأنها وتنقيلها للمسلمين، فكتب إليه عمر أن اطرحوها في الماء، فإن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ضلالاً فقد كفانا الله! فطرحوها في الماء أو في النار '' .
      وعليه -كذلك- كان موقف أئمة الإسلام وعلماء الملة؛ كالأئمة الأربعة ووكيع وابن المبارك والسفيانين والفضيل...وغيرهم ممن سبقهم أو لحقهم.
      وعلى هذا ثبتت الطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة في كل العصور، فقد تعرضت كتب الفلسفة والمنطق للحرق والمصادرة في عصور متعاقبة، ولاحقها علماء الإسلام بالفتاوى المدمرة، حتى إن كتب الفقه سطرت أن الوقف إذا وقف على طلبة العلم لا يدخل فيه أصحاب الكلام.
      وقد تجلى هذا الموقف الأصيل أعظم ما تجلى في موقف إمام السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، الذي حقق أعظم انتصار في التاريخ الفكري في الإسلام وهو سجين أعزل، ما ذلك إلا لأنه يمثل منهج الوحي في مقابل الخرص والهوى والخرافة.
      ولكن المنهج التوفيقي وهو منهج ابتليت به الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً -عكّر على هذا المنهج الحازم الحاسم مواقفه وأفسد كثيراً- في حين أراد إصلاحاً وتوفيقاً!
      هذا المنهج -الذي انتهجه الأشاعرة والماتريدية- يرى إمكان الجمع بين الوحي والفلسفة؛ بين منهج القرآن ومنهج اليونان، والخروج بموقف أو رأي وسط بينهما أو مركب منهما!!
      ويظهر ذلك بوضوح في تعامله مع نصوص الوحي كتاباً وسنة، فهو يقرر جزماً وجوب الأخذ ببعض الآيات والأحاديث على ظاهرها المجمع عليه المعروف عند السلف، في حين يقرر أيضاً -على الدرجة نفسها من الجزم والإيجاب- تأويل بعضها الآخر بما لم ينقل عن السلف، بل قام إجماعهم على خلافه، ولا يتحرج أصحابه من ذكر الإجماع ومستنده النصي، ثم التصريح بمخالفته بقول يعلمون أنه منقول عن اليونان!!
      وهذا المنهج -فوق أنه محكوم عليه شرعاً بالخطل والضلال- هو خطأ بيّن بالفطرة العلمية المحضة؛ لأنه يقوم على غير معيار موضوعي متميز، وحسبك إقرار أصحابه قاطبة بأن التأويل ظني، ولهذا يختلفون فيه اختلافاً شديداً حتى لا يكاد يجمعهم أحياناً إلا مخالفة دلالة النص التي يسمونها ظاهراً، وإن كان نصاً لا يقبل الاحتمال، وهذا ينطبق على نصوص الإيمان والقدر كنصوص الصفات سواء.
      ولهذا شهد الخط البياني لهذا المنهج تذبذباً شديداً، ثم انحيازاً تاماً في النهاية إلى جانب الفلسفة!
      كما أن هذا المنهج -بحسب أفراده- يشهد تنقلات وتطورات عجيبة تلفت نظر كل دارس لأعلامه وأئمته، فالواحد منهم يبتدئ معتزلياً، وينتهي سنياً صرفاً، أو فلسفياً صرفاً، يتردد بينهما فيناقض في كتاب ما قاله في الآخر، وخيرهم من يرجع إلى مذهب السلف عند الاحتضار أو قبيله!!
      ولهذا كانت أصولهم -المتفق عليها بينهم- عرضة لتفسيرات مختلفة (مثل: معاني الصفات، والكلام النفسي، والكسب...) .
      ولا شك أن لهذا تفسيره كظاهرة نفسية عامة تبرز في الاختلافات العقائدية والسياسية وغيرها، وأياً كان هذا التفسير فإن حلول الوسط في خلاف بين حق محض صراح، وباطل محض صراح هي بالبداهة ترجيح للباطل وهضم للحق.
      بل مجرد الخروج عن مصدر المعرفة المعصوم (الوحي) هو الضلال بعينه أياً كان المصدر الآخر.
      وعلى أي حال أصبح هذا المنهج حقيقة واقعة بعد أن كانت الأمة قبله فريقين متنافرين:
      1- أهل السنة والجماعة ومعهم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصريح العقل، مجمعين على الدعوة إلى المنهج الناصع المستقيم.
      2- رءوس الضلالة من الجهمية والقدرية والزنادقة والمتفلسفة، وهؤلاء معهم فلسفات وجدليات وتنطعات ترجموها عن أمم الشرك والضلال، وضربوا لأجلها كتاب الله بعضه ببعض حين خلطوها بتحريف للمحكم وفهم سقيم للمتشابه .
    2. ظهور الفكر التوفيقي ونتائجه

      في غمرة العداء الصارم والمعترك الصاخب ظهر الفكر التوفيقي وبزغ قرنه، فدعا أصحابه إلى التوسط بين هذا وذاك، فاتهموا أهل السنة بأنهم متمسكون بالظواهر النقلية معادون للدلائل العقلية، واتهموا الآخرين -بحق- بأنهم معادون للنقل مقدسون للعقل، ورأوا -هم- أن الصحيح هو وجوب الأخذ ببعض أصول أهل السنة مع وجوب تأويل بعضها الآخر -لمخالفة صريح العقل بزعمهم!! وكذلك وجوب تأويل بعضها الآخر- لمخالفة صريح العقل بزعمهم!! وكذلك وجوب الأخذ ببعض ما يدعو إليه الآخرون من العقليات ورد البعض الآخر!!
      وهكذا جعلوا -وهم لا يشعرون- فلسفة اليونان، وآراء الصابئين والبراهمة، وخرافات المجوس والنصارى تقف موقف النِّد المنافس لما أنزل الله من الوحي المحفوظ المعصوم!!
      وبعثوا تلك الرمم الفكرية البالية لتشاطر هدى الله عقول المسلمين وتقاسمه قلوبهم.
      وليس هذا فحسب، بل إن من أخطر نتائج هذا المنهج أنه حطم وحدة التجمع الضخم الذي كان أهل السنة والجماعة يحظون به دون سائر الفرق؛ حيث كانت الفرق الأخرى -كـالشيعة والمعتزلة- لا تمثل إلا مستنقعات جانبية على ضفتي تيار السنة الكبير.
      ولكن هذا المنهج جنى على ذلك جناية كبرى -لا سيما وكثير من رءوسه ينتسبون للسنة ونصرتها- فانقسم الرأي وتفسخ الموقف، واستصغرت الأمة خطر ما يدعو إليه هؤلاء، استكبارها له نفسه حين كان دعاته هم أعداء السنّة الصرحاء.
      حتى جماهير الأمة وعامتها اختلط عليهم الأمر وانقسم الولاء فما كان لهم من قبل أن يقارنوا بين الكتاب والسنة وبين زندقة الفرس والهنود والصابئين، ولا أن يعتقدوا كون ابن أبي دؤاد وبشر وجهم وغيلان والنظام أعلم بدين الله وأتبع للحق وأهدى سبيلاً من مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة والحسن وسفيان والفضيل.
      فلما ظهر هؤلاء المتمسحون بالسنة المعظمون ظاهراً لأولئك السلف، مؤيدين لأولئك المبتدعة في كثير من أصولهم فتر العداء أو اضمحل، وتشتت الولاء وهاج الرأي بين التجمع السني نفسه!!
      وهذا الموقف تجلى بوضوح في المسألة المهمة لنا هنا؛ وهي مسألة الإيمان - وبخاصة العمل.
      فقد ظهر أصحاب المنهج التوفيقي والخلاف في المسألة دائر بين فريقين:
      1- الأول: الأمة كلها -تقريباً- غير أنها كانت على مذهبين:
      أ- الغالبية العظمى: وهم متمسكون بما أجمعت عليه القرون المفضلة، وصرحت به نصوص الوحي القطعية من أن الإيمان قول وعمل -على ما سبق شرحه-.
      ب- طائفة معدودة من الفقهاء تتفق مع الأولى في أهمية العمل ووجوبه، فضلاً عن اتفاقها معها في أن من لم يقر بالإيمان بلسانه أو لم يقم بقلبه شيء من أعماله (كالرضا واليقين والصدق والإخلاص) كافر لا إيمان له، ولكن انقدحت لديهم شبهة في كون الأعمال -أعمال الجوارح- تدخل في مسمى الإيمان، وفهموا -خطأ- أن القول بزيادته ونقصانه موافق لقول الخوارج، ولهم على ذلك تأويلات وتعللات.. وهؤلاء هم المسمون مرجئة أهل السنة أو مرجئة الفقهاء.
      2- الفريق الآخر: غلاة المرجئة، وهم الجهمية -حينئذ- ومن شابههم، ولهم في الإيمان قول اتفقت الأمة على شذوذه وعدم الاعتداد به، وعدم اعتباره في الخلاف بل أخرجهم أئمة الإسلام الكبار من فرق الأمة الاثنتين والسبعين الضالة، وعدوهم أكفر من اليهود والنصارى والمجوس لمسائل ذهبوا إليها، منها هذه المسألة.
      فقد كان مذهبهم في الإيمان أنه مجرد المعرفة بالقلب؛ فكل من عرف الله بقلبه فهو عندهم مؤمن تام الإيمان أي: وإن لم يعمل، فلما ظهر دعاة المنهج التوفيقي التوسطي وطبقوا منهجهم في التوفيق بين هذه المذاهب، أخذوا من الجهمية أن الإيمان محله القلب وحده وأنه يقع كاملاً فيه، وأن النطق بالشهادة فضلاً عن سائر الأركان غير داخل فيه وإنما هو شرط ظاهري فقط، أي: شرط لإجراء أحكام الإسلام الظاهرة على قائله!!
      وأخذوا من أهل السنة الحديث عن أحكام المرتدين وتاركي الدين كله أو بعض أركانه أو بعض واجباته، وتعرض فاعل ذلك للوعيد ونحو ذلك...، حتى إن الواحد من أصحاب هذا المنهج ربما يكتب بما يوافق الجهمية -باعتباره متكلماً- فإذا كتب باعتباره فقيهاً ذكر كلام علماء السنة ونقل أقوالهم كأي فقيه منهم!!
      على أن هذا الحكم لم يخرجوا به نتيجة توسطهم في هذه المسألة بمفردها، بل هو مقرون ومرتبط بتوسطهم في مسألة أكثر شهرة في التاريخ، وهي مسألة خلق القرآن.
      وبيان ذلك: أن مسألة خلق القرآن كانت أشهر المسائل الخلافية وأعظمها وبها امتحنت الأمة كلها وتعرض علماؤها شرقاً وغرباً للأذى والسجن والقتل، وشغلت أذهان الناس وأوقاتهم وعلومهم وكتبهم...، وكان الخلاف فيها حاسماً واضحاً بين فريقين:
      1- علماء الأمة قاطبة؛ وهم مجمعون على ما كانت عليه الأمة قبل هذه البدعة من اعتقاد أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق.
      2- الفرقة الكلامية الشاذة ومعها السلطة الغاشمة؛ ورأيها أن القرآن مخلوق.
      ورغماً عما نزل من البلاء والزلزلة والفتنة ثبتت الأمة وانتصرت في النهاية تبعاً لثبات الإمام أحمد-رضي الله عنه- وانتصر منهج الوحي انتصاراً حاسماً، واندحرت أفاعي الابتداع، وكمنت شياطين المكر بذلة.
      ولكن المنهج التوفيقي لم يدع فرحة الأمة بالنصر تتم وتماسكها على الحق يكمل، فقد نبغ دعاته -وعلى رأسهم عبد الله بن سعيد بن كلاب برأي توفيقي مبتدع؛ لم يقل به أحد من الفريقين المتخاصمين وهو أن كلام الله نوعان:
      أ- نفسي: وهو صفة أزلية قديمة قائمة بالنفس، وهذا غير مخلوق -موافقةً لـأهل السنة- .
      ب- لفظي: وهو الكلام المسطور في المصحف، وهذا مخلوق (موافقة منهم للمبتدعة) .
      فعاد الاضطراب إلى الأمة وظهر التشويش، وانقمست وحدة عامة المسلمين التي كانت متماسكة صفاً واحداً مع علماء السنة، ومال بعض أهل الكلام والمشتغلين بالعلم إلى هذا الرأي الجديد، ثم شاع حتى كاد يغلب على أكثر معاهد العلم في العصور الأخيرة.
      وهكذا أصبح القول بالكلام النفسي من أعظم أصول المذهب التوفيقي، تبعاً لضخامة المعركة الدائرة حينئذٍ في هذه المسألة الكبرى، وكان طبيعياً أن يظهر أثره في الأصول الأخرى -ومنها الإيمان- فقد دخل أصحابه في مخاضة فلسفية في موضوع الكلام، أهو ما يقوله اللسان أم ما يدور في النفس فقط؟ وما العلاقة بينهما حينئذٍ؟ والمتكلم أهو من فعل الكلام؟ أم من قام به الكلام؟...إلى آخر هذا التفلسف.
      فلما جاءوا لمبحث الإيمان وتفسيره، أهو الإقرار باللسان، أم الإقرار بالقلب وحده، أم بهما معاً، أم بهما مع ضم غيرهما؟ استصحبوا ذلك الأصل وطبقوه وردوا هذا له، فكان من أوليات ذلك إسقاط كون العمل من الإيمان، وتطبيق مذهبهم في التأويل على ما ورد في ذلك من نصوص!!
      يقول أبو المعالي الجويني في باب الأسماء والأحكام - بعد أن أطال النفس في تقرير صحة مذهبهم في الكلام النفسي: ''اعلموا أن غرضنا في هذا الفصل يستدعي تقديم ذكر حقيقة الإيمان، وهذا مما اختلفت فيه مذاهب الإسلاميين:
      1- فذهبت الخوارج إلى أن الإيمان هو الطاعة، ومال إلى ذلك كثير من المعتزلة...
      2- وصار أصحاب الحديث إلى أن الإيمان معرفة بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان.
      3- وذهب بعض القدماء إلى أن الإيمان هو المعرفة في القلب والإقرار بها.
      4- وذهبت الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فحسب... .
      والمرضي: عندنا أن حقيقة الإيمان: التصديق بالله تعالى؛ فالمؤمن بالله من صدّقه، ثم التصديق على التحقيق كلام النفس، ولكن لا يثبت إلا مع العلم، فإنا أوضحنا أن كلام النفس يثبت على حسب الاعتقاد '' .
      ثم قال: ''وقد يشهد لما ذكرناه إجماع العلماء على افتقار الصلوات ونحوها من العبادات إلى تقديم الإيمان، فلو كانت أجزاء من الإيمان لامتنع إطلاق ذلك.
      فإن استدل من سمى الطاعات إيماناً بقوله تعالى: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ))[البقرة:143].
      قالوا: المراد بذلك -أي الإيمان- الصلوات المؤداة إلى بيت المقدس
      وربما يستدلون بما روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الإيمان بضع وتسعون خصلة، أولها شهادة أن لا إله إلا الله، وآخرها إماطة الأذى عن الطريق} .
      قلنا: أما الإيمان في الآية التي استروحتم إليها فهو محمول على التصديق، والمراد: وما كان الله ليضيع تصديقكم نبيكم فيما بلغكم من الصلاة إلى القبلتين!! وأما الحديث فهو من الآحاد، ثم هو مؤول، والعرب تسمي الشيء باسم الشيء إذا دل عليه أو كان منه بسبب '' .
      ويقول الكمال بن الهمام -من أئمة الحنفية المتأخرين- في كتابه الذي ألفه على منوال الرسالة القدسية للغزالي: اختلفوا في التصديق بالقلب الذي هو جزء مفهوم الإيمان أو تمامه أهو من باب العلوم والمعارف، أو من باب الكلام النفسي؟ فقيل بالأول، ودفع بالقطع بكفر كثير من أهل الكتاب مع علمهم بحقية رسالته عليه الصلاة والسلام وما جاء به، كما أخبر عنهم تعالى بقوله: ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))[البقرة:146].
      وبأن الإيمان مكلف به، والتكليف إنما يتعلق بالأفعال الاختيارية، والعلم مما يثبت بلا اختيار، كمن وقعت مشاهدته على من ادعى النبوة وأظهر المعجزة فلزم نفسه عند ذلك العلم بصدقه.
      وذهب إمام الحرمين وغيره إلى أنه من قبيل الكلام النفسي.
      قال صاحب الغنية: '' اختلف جواب أبي الحسن -أي: الأشعري- في معنى التصديق؛ فقال مرة: هو المعرفة بوجوده وإلهيته وقدمه، وقال مرة: التصديق قول في النفس غير أنه يتضمن المعرفة ولا يصح دونها، وارتضاه القاضي -أي: الباقلاني- فإن التصديق والتكذيب والصدق والكذب بالأقوال أجدر، ثم يعبر عن تصديق القلب باللسان..'' انتهى
      قال: ''وظاهر عبارة الشيخ أبي الحسن أنه كلام النفس مشروط بالمعرفة، ويحتمل أنه المجموع من المعرفة وذلك الكلام النفسي.
      فلا بد في تحقيق الإيمان من المعرفة -أعني: إدراك مطابقة دعوى النبي للواقع- ومن أمر آخر هو الاستسلام والانقياد لقبول الأوامر والنواهي المستلزم للإجلال وعدم الاستخفاف - لما ذكرنا من ثبوت مجرد تلك المعرفة مع قيام الكفر'' .
      قال: ''ثم جعل بعض أهل العلم الاستسلام والانقياد الذي هو معنى الإسلام داخلاً في معنى التصديق، وأطلق بعضهم اسم المترادف على الإسلام والإيمان.
      والأظهر أنهما متلازما المفهوم، فلا يكون إيمان في الخارج شرعاً بلا إسلام، ولا إسلام بلا إيمان.
      وأن التصديق قول للنفس غير المعرفة؛ لأن المفهوم منه لغة نسبة الصدق إلى القائل، وهو فعل، والمعرفة من قبيل الكيف المقابل لمقولة الفعل.
      قال: فلزم خروج كل من الانقياد -الذي هو الإسلام- والمعرفة عن مفهوم التصديق وثبوت اعتبارهما شرعاً في الإيمان؛ إما على أنهما جزءان لمفهومه شرعاً أو شرطان لاعتباره شرعاً، وهو الأوجه '' .
      وقد علق صاحب الحاشية قاسم بن قطلوبغا المتوفى 878هـ عليه قائلاً: ''قلت: لم يتكلم المصنف على قول الشيخ أبي الحسن: إن التصديق هو المعرفة بوجوده وإلهيته وقدمه.
      والظاهر أن الشيخ أبا الحسن أراد المعرفة النفسية المكتسبة بالاختيار؛ لأنها هي التي تكون تصديقاً، لا المعرفة التي ذهب إليها جهم وبعض القدرية؛ لأن أبا حنيفة رحمه الله أبطل أن تكون إيماناً، كما نقله عنه الأئمة من أصحابنا، وأنه قد أطبق العلماء على بطلانه ''.
      وذكر أيضاً أنه لم يظهر له دخول الاستسلام والانقياد في القول النفسي، وقال: '' والظاهر من قول أبي الحسن: (التصديق قول في النفس غير أنه يتضمن المعرفة) أنه التركيب الخبري النفساني المتضمن للإذعان للنسبة الواقعة في الخبر.
      وقوله: ولا يصح بدونها، أي: لا يكون تصديق بدون الإذعان والقبول لتلك النسبة.
      والحاصل أن الشيخ أبا الحسن فسر مرة بما هو من مقول الكيف ومرة بما هو من مقول الفعل، والثاني مرتضى القاضي وصاحب الغنية '' .
      هذا غيض من فيض من كلامهم في حقيقة الإيمان وتفسيرها تفسيراً موافقاً لقولهم في الكلام النفسي عامة، ومتمشياً مع المقولات الفلسفية مع الإعراض عن النصوص الواردة فيه، فكان طبيعياً ألا يدخلوا العمل فيه بمرة، وهذا هو المطلوب.
      وقد سبق قريباً التنبيه إلى معنى الإذعان والانقياد عندهم، فإن بعض الناس قد يفهم أنهم يريدون به العمل والامتثال، ولكن كلامهم واضح في عدم قصد ذلك، وأنهم إنما يريدون به الإيمان بوجوب الفرائض لا فعلها.
      وليس هذا فهمنا فحسب، بل هو ما شرحه به شارح كلام ابن الهمام نفسه حين قال: '' الإيمان هو التصديق بالقلب فقط: أي قبول القلب وإذعانه لما علم بالضرورة أنه من دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بحيث تعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر ولا استدلال؛ كالوحدانية والنبوة والجزاء ووجوب الصلاة والزكاة وحرمة الخمر ونحوها '' .
      بل قال المؤلف نفسه في مبحث قال: ''متعلق الإيمان ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيجب التصديق بكل ما جاء به من اعتقادي وعملي؛ أعني: اعتقاد أحقية العملي'' .
      قال شارحه: '' أعني بالتصديق الثاني اعتقاد حقية العملي أي: اعتقاد أنه حق وصدق كما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!! '' .
      وكذلك يقول شارح الجوهرة: '' (والاسلام اشرحنَّ) حقيقته (بالعمل) الصالح؛ أي امتثال المأمورات واجتناب المنهيات؛ والمراد الإذعان لتلك الأحكام وعدم ردها سواء عملها أو لم يعملها!!
      وقال: والمراد إذعان المذكورات الصلاة والصيام... وتسليمها وعدم مقابلتها بالرد الاستكبار '' .
      فالإذعان عندهم هو جزء من الفعل النفسي أو الكيف النفسي أو متعلق من متعلقاتهما لا غير، فهو ضد التكذيب، أو ضد جحد الوجوب على أحسن الأحوال، ومن الواضح أن إذعاناً كهذا الذي وصفوه ليس هو الإذعان المطلوب شرعاً، وإن كان لا بد منه في الإذعان الشرعي الذي هو الامتثال بفعل المأمور وترك المحظور على ما جاء في النصوص الكثيرة، ومنها ما في حديث جبريل حين سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم، وقال: فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم }
      وعلى هذا قال الإمام أحمد رحمه الله: "من قال: إنه يكون مؤمناً أو مسلماً مع عدم العمل فقد عاند الحديث!! وسيأتي في الباب الخامس -بإذن الله- كشف هذه الشبهات كاملاً، وإنما المراد هنا تبيين الأثر الكلامي في هذه العقيدة المخالفة للكتاب والسنة وإجماع السلف" .
  15. الأثر المنطقي

    سوف نتناول الحديث عن الأثر المنطقي من خلال هذه الحقائق:
    1- أن المنطق وجد -أول ما وجد- لمواجهة السفسطة؛ تلك اللوثة التي أصابت الفكر اليوناني بعد أن أتخمت الجاهلية اليونانية بضروب من الفلسفات المتناقضة، فجاءت السفسطة لتوجه معولها لهدم المعرفة العقلية من أساسها، وذلك بإنكار حقائق الأشياء وبداية المعارف، والتصريح بأن كل الأحكام العقلية نائشة من تصورات ذاتية محضة ليس لها أصل موضوعي، أو هي على الأقل يمكن أن تكون كذلك.
    2- لما كان المنطق هو رد الفعل لهذه اللوثة كان طبيعياً أن يصب اهتمامه على إثبات حقائق الأشياء، فابتدأ بإثبات الحقائق الكلية المجردة توصلاً بها إلى إثبات الأجزاء والأعيان خارج الذهن، كما وضع قوالب عقلية خاصة تستخدم للحكم على الأجزاء، وذلك عن طريق إثبات أحكام كلية، ثم الحكم على الجزء بحكم الكل.
    ومن هنا انحصرت مباحث المنطق في مبحثين:
    أ- الحدود التي بها يعرف حقائق الأشياء (التصورات) .
    ب- القياس الذي به يتوصل إلى معرفة حكم الأشياء (التصديقات).
    3- اقتضى الأمر في مبحث الحدود -وهو المبحث الذي يهمنا هنا- تحليل عناصر الأشياء والمسميات لمعرفة صفاتها الذاتية -الداخلة في الماهية- والعرضية -الخارجة عن الماهية- لكي يتم التوصل إلى تحديد الذات وتصورها في ذاتها، أي مجردة عن الأعراض فوضعت ألفاظ كلية عامة تتألف منها الحدود وهي الكليات الخمس : الجنس، والنوع، والفصل، والخاصة، والعرض العام.
    فالجنس: هو جزء الماهية المشترك بينها وبين غيرها [ المشترك الذاني ].
    والنوع: هو تمام الماهية.
    والفصل: هو المميز الذاتي.
    والخاصة: هي المميز العرضي.
    والعرض العام: هو المشترك العرضي.
    فحقيقة النوع: هو الشيء المعرف نفسه (الموضوع)، كلفظ (الإنسان) في سؤال: ما الإنسان؟ وجوابه الذي هو (حيوان ناطق) هو ماهية الإنسان وعين حقيقته -عندهم- وهو مركب من الجنس (حيوان) الفصل ناطق.
    فيقولون للسفسطي: إن تصور حقيقة الإنسان يحصل بهذا الحد، ومن ثم تكون القضايا الآتية كلها صحيحة:
    1- كل إنسان حيوان ناطق.
    2- كل حيوان ناطق إنسان.
    3- كل ما ليس إنساناً ليس حيواناً ناطقاً.
    4- كل ما ليس حيواناً ناطقاً ليس إنساناً.
    وقضايا أخرى مبنية كلها على أنه حيثما وجدت الحيوانية والناطقية، وجدت ماهية الإنسان وحقيقته، وحيثما فقدت فلا إنسان.
    فإذا أنكر السفسطي أن يكون زيد من الناس إنساناً، وقال: قد يكون زيد هذا جبلاً أو شجرة أو عدماً، ألزموه بهذه الأحكام الكلية على الإقرار بأن زيداً إنسان!! فهذا مبلغهم من العلم في الرد على أولئك المرضى، والحمد لله على ما مَنَّ به على أمة الإسلام من نعمة العقل والفطرة السليمة.
    وبسبب هذا الرد على منكري الحقائق فَخِر مناطقة اليونان على سائر فلاسفة الدنيا وتبعهم عليه من تبعهم، ولو وقف المناطقة عند هذا لربما هان الأمر، ولكنهم غلوا في تقدير منطقهم حتى أفضى بهم الغلو إلى القول بتحكمات لا صحة لها، يهمنا منها:
    1- قولهم بوجود المعاني الكلية المجردة -أي: الماهيات المطلقة من كل قيد ونسبة- في الواقع - أي: خارج الذهن.
    2- قولهم بأن التصورات لا تنال إلا بالحدود فقط.
    ولسنا في مقام نقد أصول المنطق وإنما ينحصر غرضنا في الكلام عن تعريف الإيمان حسب قواعده وما رتب عليه من نتائج، ولهذا سنتقتصر على بحث قضايا أساسية تتعلق جميعها بموضوع النوع؛ لأنه هو الشيء المعرف كما سبق.
    وهذه القضايا هي:
    1- كون الغرض من التعريف هو تصور الحقيقة والماهية.
    2- وجود الأنواع خارج الذهن.
    3- تماثل أفراد النوع في الحقيقة والماهية.
    1. القضية الأولى

      إنه من المعلوم في كل العلوم والفنون أن أصحابها يبحثون فيها دون العروج على التعريف المنطقي لمفرداتها، بل يكتفون بالاسم المتعارف عليه أو الموضوع في أصل اللغة، وهذا في علوم العصر أجلى وأشهر، حيث عزف الفكر الغربي الحديث عن المنطق التقليدي (الكلاسيكي) جملة، كما أن هذا هو الحال بالطبع قبل أن يوجد أرسطو ومنطقه.
      ثم إن المقصود من التعريف -عند أصحاب العلوم جميعاً ما عدا الفلسفة والمنطق- هو تمييز الشيء عن غيره، بحيث لا يشتبه به وهذا هو المراد من كونه جامعاً مانعاً، وعلى هذا جرى الفقهاء والأصوليون والنحويون وغيرهم؛ كالكيميائيين والرياضيين ونحوهم، فأي وصف جامع مانع يكفي للتعريف، ولو كان عرضياً في نظر المناطقة .
      بل المتكلمون أنفسهم كانوا على هذا الأصل - حتى مال بعضهم إلى كلام الفلاسفة المنتسبين للإسلام فأصابتهم لوثتهم .
      أما الأصوليون فلم يكونوا يدخلون المنطق في مباحثهم أصلاً، ولهذا عاب العلماء على أبي حامد الغزالي أنه فعل ذلك في أول المستصفى، وقال: إنه مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحيط به فلا ثقة بعلومه أصلاً، ثم تلاه من تلاه.
      والمقصود: أن القدماء من علماء النحو والأصول -وهما من أهم علوم الوسائل- كانوا يعرّفون الشيء بما يميزه عن غيره؛ كالتعريف بالمثال؛ فيقول النحويون: الفعل مثل: ضرب، والاسم مثل: زيد، والحرف مثل: في...وهكذا.
      ويقول الأصوليون: الأمر مثل: أقيموا الصلاة، والنهي مثل: لا تقربوا الزنا، والعام مثل: كذا، والخاص مثل: كذا...وهكذا.
      فلما فسدت الفطر والعقول على النحو الذي عبر عنه الإمام الشافعي بقوله: ''ما جهل الناس واختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس '' ظهر الاضطراب والاختلافات الكثيرة في معاني المفردات الواضحة البدهية، فاختلف النحويون في تعريف الاسم إلى أكثر من سبعين قولاً، واضطر كثير من الأصوليين إلى الاعتراف بعسر وضع حدٍ للعلم!! وما ذلك إلا لأنهم حاولوا وضع تعريف للشيء من حيث هو هو، أو من حيث هو في ذاته - كما يقولون.
      وهكذا الحال في علم الكلام، الذي هو علم بدعي من أصله كما نص على ذلك أئمة الإسلام.
      فإن المتكلمين الأوائل عرفوا الإيمان بالتصديق أو بالمعرفة، وهو شرح لغوي لمعنى الكلمة في الشرع -بزعمهم- ولهذا يحتجون عليه باللغة، سواء قالوا: إن الشارع نقل المعنى اللغوي أو لم ينقله؛ إذ هم مختلفون في ذلك.
      فلما تأثر المتكلمون بالمنهج الفلسفي المنطقي، وانتقلوا بالتعريف من الغرض المعهود في كل العلوم إلى الغرض الفلسفي اليوناني خاضوا خوضاً تجريدياً جدلياً في ماهية الإيمان المجردة ولوازمها الداخلة -الذاتية- ولوازمها الخارجة -العرضية- وخرجوا على منهج أسلافهم، فأصبحوا يجعلون تعريف الإيمان بأنه التصديق تعريفاً لغوياً فقط، ثم يتبعونه بالتعريف الاصطلاحي الذي هو تعريف له من حيث هو هو -كما يقولون- فيأتون بتعريف سائر على قواعد المنطق كقولهم: الاعتقاد الجازم المطابق للواقع بالدليل أوالتصديق بما جاء به الرسول وثبت عنه بالضرورة -جملة أو تفصيلاً - وهكذا نحوها من العبارات المختلفة.
      وليس الغرض الآن مناقشة هذه التعريفات، وإنما هو بيان أصل استمدادها الذي يغني تلقائياً عن الحديث عن فسادها، وأهم من ذلك هو ما رتب عليها من نتيجة بالغة الخطورة؛ وهي عدم إدخال العمل في حقيقته، كما سيأتي إيضاحه.
      فأصل هذه التعريفات هو التقليد الأعمى للمناطقة اليونان، الذين كان غرضهم من المنطق ومن مبحث الحدود خاصة هو تصور الماهية من حيث هي هي، وإثبات الذوات المجردة، ليتوصلوا بذلك إلى إثبات حقائق الأشياء التي أنكرها خصومهم السفسطيون .
      والمعركة بين فلاسفة اليونان والسفسطيين معركة جدلية ذهنية لا تتعدى نطاق الخيالات والفروض المجردة، ولا مساس لها بواقع حياة الناس من حيث الصلاح والفساد والخير والشر والهدى والضلال، بل لا أثر لها عند غير المشتغلين بها من أهل ملتهم وبني جنسهم، وهذا وحده كاف لاستغناء أي أمة من الأمم عنها، فما بالك بأمة الوحي المعصوم؟!
      ويا ليت أن المنتسبين للإسلام إذا نقلوها حصروها -كما هي عند أهلها- في قضايا الذهن المجردة، ولكنهم طعنوا بها في صميم الدين، ليس في التوحيد والصفات فحسب، بل في مبحث الإيمان أيضاً!!
      وذلك أن البحث في ماهية الإيمان المجردة - بزعمهم - والتفريق بين لوازمها الذاتية والعرضية أدى بهم إلى الحكم بأن العمل ليس داخلاً في الماهية ولا من اللوازم العرضية، وإنما هو من قبيل العرض العام.
      ومع يقيني بأن هذا تحكم محض لا تقتضيه قواعد المنطق بالضرورة، فإني لا أشك أن مجرد الخوض المنطقي سيؤدي إلى مثل هذه النتيجة الخطأ؛ لأن طابعه التجريدي العام يتنافى مع إدخال العمل.
      ولست تجد منطقياً متمكناً إلا وهو مقر بأن التفريق بين الذاتيات والعرضيات متعذر أو متعسر ، وإن كان أكثر إنصافاً فسيعترف بحقيقة أن هذه الأحكام كلها تعود إلى تقديرات وفرضيات ذاتية، ولهذا يجوز -كما هو الواقع- أن تختلف ما بين إنسان وآخر.
      فإذا وضعنا في الاعتبار المعركة الجدلية الطويلة بين الفرق الإسلامية وحرص النفوس على الانتصار، ولو كان بتصيد الشبهات البعيدة وتعسف الاستدلالات - أدركنا مدى التحكم والاعتباط في استخدام علم المنطق، بل ربما كان هذا الدافع النفسي الكامن هو السبب في تقديس المنطق، مع علم القوم بما فيه وإمكان الاستغناء المطلق عنه.
      ولإيضاح كون تعريف الإيمان بأنه قول وعمل من قبيل التعريف بالعرض العام، نقول:
      إن العرض العام عندهم هوالكلي الخارج عن الماهية، الذي يقال عليها وعلى غيرها فهو أعم منها، ومن هنا كان هو الكلي الوحيد من الكليات الخمس الذي لا يصح أن يدخل في التعريفات، وإنما ذكروه معها على سبيل التمييز .
      فهو لا يصلح جواباً عن الماهية أصلاً، كما يمثلون لذلك بلفظ (الماشي) في جواب (ما الإنسان؟) فلو عرف أحد (الإنسان) بأنه (الماشي) لكان خطأ؛ لأن المشي خارج عن ماهيته، ويطلق عليه وعلى غيره؛ كالفرس والقطار ونحو ذلك.
      فهذا وجه نقدهم لتعريف السلف، ومن الإنصاف أن نقول: إن بعضهم ينقدون التعريف على أنه تعريف المعتزلة والخوارج - في حين يتجاسر بعضهم على التهجم على السلف، ولكن الجميع لا يعذرون بجهلهم الفرق بين مذهب السلف ومذهب المعتزلة والخوارج.
      والباحث يعجب أن يقع ذلك من المتكلمين المحترفين الذين يجمعون شواذَّ الأقوال ويذكرون ساقط المذاهب، ومع هذا يجعلون مذهب سلف الأمة وأئمتها المقتدى بهم ومذهب الخوارج والمعتزلة سواء، أو يذكرون المذاهب كلها -حتى ما انقرض منها- إلا مذهب السلف، مع أنهم في معرض التقسيم والحصر.
      وأعجب من ذلك وأسوأ أن يقوم بعضهم بتحريف كلام السلف ليوافق رأيه ومذهبه - كما فعل أبو حامد الغزالي وشارح كلامه الزبيدي، فقد قالا شرحاً لقول السلف ومن اتبعهم: ''إن الإيمان يزيد وينقص'' ''وفيه دليل على أن العمل بالجوارح (ليس من أجزاء الإيمان) التي تتركب منها ماهيته، [ و] لا من [ أركان وجوده ] بحيث لا يوجد ولا يتحقق إلا به، كما هو شأن الركنية، [ بل هو مزيد عليه، ويزيد به ] إذا وجد معه وينقص إذا انعدم.
      [ والزائد موجود والناقص موجود ] وهو العمل، [ و] لا يخفى أن [ الشيء لا يزيد بذاته، فلا يجوز أن يقال الإنسان يزيد برأسه ]؛ لأنه جزؤه الذي تتم به إنسانيته، [ بل يقال: يزيد بلحيته ]...، [ وسمته] هو السكينة والوقار.
      ولا يجوز أن يقال: الصلاة تزيد بالركوع والسجود؛ فإنهما من صلب الصلاة كما يعرف من حدها الشرعي -ذات ركوع وسجود- [ بل تزيد بالآداب والسنن الواردة في السنة... ]
      [ فهذا تصريح بأن الإيمان له وجود ] في حد ذاته، [ ثم بعد الوجود تختلف حاله بالزيادة والنقصان ]، ويفهم منه أن الزيادة والنقصان باعتبار جهات هي غير نفس الذات '' ا هـ .
      فـالغزالي يثبت أن للإيمان وجوداً ذاتياً يتجرد عن وصف الزيادة والنقص، وهما (الزيادة والنقص) عرضان يطرآن على تلك الذات، وقد استخراج ذلك من عبارة السلف مدعياً في أول كلامه أن هذا هو الفهم الصحيح لها.
      وسيأتي بحث قضية الوجود الذاتي في الفقرة التالية، غير أنه لا بد هنا من بيان ما في كلامه من نوع المغالطة والحيدة عن موضع النزاع.
      أما المغالطة ففي استدلاله بكون الشيء يزيد وينقص على أن له ماهية واقعية معينة، لم يزدد أو ينقص إلا بعد وجودها، فهذا كما لو قيل لك: كم مال زيد من الناس؟ فقلت: يزيد وينقص.
      فإن السائل لا يستنتج الجواب أن لماله مقداراً محدداً؛ يزيد عنه مرة وينقص عنه أخرى مع ثبات هذا المقدار في الوجود والخارج، بل لو حددت المقدار فقلت: يزيد حتى يصل الألف، وينقص حتى يصل الصفر، فإن السائل -وغيرهم- لا يفهم أن لماله حداً مقرراً هو خمسمائة -مثلاً- وهذه الخمسمائة موجودة على الحقيقة، وإنما هذا من صنيع الذهن وحده، كما أن المتوسط الحسابي في الرياضيات هو عملية عقلية لا وجود لمدلولها في الواقع، حتى لو كان مستخرجاً من أرقام واقعية، فكيف بمسألة الإيمان الذي هو أمر معنوي بطبعه؟
      والفهم الصحيح لعبارة السلف: أن إيمان كل إنسان قابل للزيادة والنقصان كل وقت، وعليه فالزيادة والنقص هما بالنسبة لمستوى الإيمان وحاله وقت وقوع أي منهما، لا بالنسبة لمستوى ثابت محدد في حق كل أحد في كل وقت.
      ومما يوضح ذلك: أن السلف لا يعتبرون مجرد نقص الإيمان كفراً، ولو أنهم اعتقدوا أن له حداً معيناً ثابتاً وقد يزيد عليه أو ينقص عنه لوافقوا أكثر المرجئة القائلين بأن نقصه كفر؛ فإن هذه هي أعظم شبهة يحتج بها أولئك، وهي مبنية على قولهم: إن التصديق قدر ثابت، متى نقص صار شكاً، ومتى قبل الزيادة صار ناقصاً فهو شك أيضاً، فمن هنا أنكروا الزيادة والنقصان.
      وبهذا يظهر أنه مع اشتراك كل المرجئة في الخطأ -الذي هو تصور حد معين ثابت- يتفرد القائلون بإثبات الزيادة والنقصان بزيادة فيه؛ وهو إنكارهم لأول عبارة السلف -أي: قول وعمل- وإيمانهم بآخرها -يزيد وينقص- مع تأويله بما يوافق مذهبهم.
      وأما الحيدة عن موضع النزاع -في كلام أبي حامد- ففي قوله: لا يزيد بذاته... إلخ؛ فإن السلف لم يقولوا: إن الشيء يزيد بذاته، وإنما موضع النزاع هو هل الشيء تزيد ذاته وتنقص أم لا؟
      فالسلف يدخلون الأعمال في ذات الإيمان وحقيقته، ولا يقولون: إنها زائدة على الذات كـالمرجئة، وما ذكره من الأمثلة هي عليه لا له؛ فإن السلف لا يقولون: إن الإنسان يزيد برأسه، ولا إن الصلاة تزيد بالركوع، وإنما يقولون ما معناه: إن الإنسان في حقيقته المجتمعة قابل للزيادة والنقص، والصلاة في حقيقتها قابلة للزيادة والنقص؛ فإن الإنسان يمكن أن يكون عملاقاً وأن يكون قزماً، ويمكن أن يقتطع منه عضو كبير أو صغير، وكذلك الصلاة يمكن أن تقع تامة وأن تقع ناقصة، والنقص يتفاوت من ترك الركن إلى ترك المستحب.
      وهذا مثل جميع الأعيان والذوات الواقعة في الخارج كالشجرة والكتاب ونحوها، فمسمى الشجرة والكتاب يقبل الزيادة والنقصان إذا تعين خارج الذهن؛ فتقول: هذه الشجرة كبيرة أو صغيرة، وكتاب كذا صغير أو كبير ونحو ذلك، ولا يدل ذلك على وجود ذاتي معين للمسمى نقيس به الزيادة والنقصان.
      فقول الغزالي والزبيدي: '' فهذا تصريح بأن الإيمان له وجود في حد ذاته، ثم بعد الوجود تختلف حاله... '' هو خلط بيّن بين ما في الأذهان مجرداً وما في الوجود معيناً، فهو كما لو قيل: الإنسان له وجود في ذاته، ثم بعد الوجود تختلف حاله بين أن يكون طفلاً أو رجلاً، أو الشجرة أو الكتاب لكل منهما وجود في ذاته، ثم بعد الوجود تختلف حاله في الصغر والكبر ونحو ذلك.
      فمن الواضح أن -وجود هذه الحقائق في حد ذاتها- لا يزيد عن كونه تقديراً ذهنياً، وأن ما يوجد في الواقع لا يوجد إلا مقيداً موصوفاً، فليس هناك وجود واقعي مطلق من كل قيد ووصف -إلا في وهم فلاسفة اليونان ومن اتبعهم كـالغزالي وأمثاله- كما سيتضح في الفقرة التالية.
      وعلى ضوء هذه الحقائق نستطيع أن ننظر إلى تعريف السلف للإيمان وإلى ما هو أعظم من ذلك؛ وهو ما عرفه به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه.
      فـالسلف حين قالوا: إن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، لم يقصدوا الخوض في هذه المتاهات الفلسفية أصلاً، ولم يريدوا بهذه العبارة حقيقة التعريف العامة فضلاً عن أن يقصدوا التعريف المنطقي بالذات.
      أي إنهم لم يقصدوا تمييز الماهية عن غيرها -كالعادة في عامة العلوم- فضلاً عن أن يأتوا بحدٍ خاص يصورها من حيث هي هي - كالشأن في المنطق.
      وإنما غرضهم بيان حقيقته الشرعية ووصفها بما يظهر بطلان دعوى من زعم أنه اعتقاد مجرد لا يدخل العمل فيه، واشتقوا هذا البيان والوصف من فهم متكامل لنصوص الوحي فيه، ومن واقع حي عاشوه وتربوا عليه.
      وإذ قد بينا الفارق الجوهري بين غرض فلاسفة اليونان -ومن اقتفاهم من المتكلمين- من التعريف، وبين غرض سائر أرباب العلوم والفنون منه - ومنهم قدماء المتكلمين، فما بالك بالفارق بين غرض هؤلاء جميعاً وبين سلف الأمة الصالح؟
      فأما تمييز الإيمان عن غيره، فلعمر الحق ما على وجه الأرض أعرف عند المسلمين من الإيمان -الذي هو دينهم- ولا بعد بيان الله ورسوله له بيان، ولقد كان عوام المسلمين قبل ظهور لوثة الفلسفة وبعدها أرفع عقلاً من أن يسألوا عما يميز الإيمان عن غيره، أو يرتابوا في زيادته ونقصانه، وعلى هذا أكثر المسلمين ولله الحمد، لا يشذ عنه إلا من فسدت فطرته بالتفلسف والتمنطق، فما بالك بالصدر الأول وعلماء السلف الأجلاء؟!
      ولولا هذا ما تواردت أذهانهم واتفقت كلمتهم في وقت واحد دون تشاور أو تواطؤ على عبارة واحدة - كما روى عنهم الإمام البخاري رحمه الله، قال: ''كتبت عن ألف نفر من العلماء وزيادة، ولم أكتب إلا عمن قال: الإيمان قول وعمل، ولم أكتب عمن قال: الإيمان قول'' أهـ.
      وأما إن كان المراد من التعريف هو تصوير الماهية وإثبات الكليات المجردة خارج الذهن -على ما يزعمه هؤلاء- فهذا هو المحال بعينه، وقد نزه الله هذه الأمة -إلا من أبى- عن التكلف فيما لا قبل لها به.
      والمناطقة من أولهم إلى آخرهم قد تكلفوا وضع حد منطقي لماهية الإنسان وحقيقته المجردة، واعتصروا أدمغتهم فلم يستطيعوا أن يأتوا بحدٍ لا اعتراض عليه بينهم، وأشهر حدودهم هو -كما ذكرنا- حيوان ناطق، وعليه من الاعتراضات ما لا يستطيعون رده.
      فكيف يكون حالهم في الحقائق الشرعية المعنوية والغيبيات عامة؟! هذا مع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أراحنا وهدانا وبين لنا الإيمان المطلوب منا، ولم يكلفنا أن نبحث في ماهية مطلقة له فكيف يظن هؤلاء أنه تعالى يرضى أن يردوا ما أنزل في كتابه وعلى لسان نبيه من الحق بما يرتبونه على إثبات هذه الماهية المختلفة؟!!
      ولو أننا تنزلنا مع المناطقة أكثر من هذا لقلنا: إن المناطقة يقررون أن للسؤال أداتين هما: ما، وأي؛ فالأولى للسؤال عن الماهية الحقيقة، والأخرى يسأل بها عن المميز عما يشاركه في الجنس.
      وقد صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أجاب عن هذين السؤالين في الإيمان؛ ففي حديث وفد عبد القيس سألهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه: {أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة....} إلخ الحديث.
      وفي حديث جبريل -عليه السلام- أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما الإيمان -أو: أخبرني عن الإيمان؟- وهما روايتان صحيحتان -والمؤدى واحد؛ وهو تمييز الإيمان الخاص عن الإسلام الخاص، فإنه سأله عنهما معاً، وكلاهما يشترك في اسم الدين- كما قال في آخر الحديث: {هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم، أويعلمكم دينكم}.
      وعليه ترجم البخاري للباب بقوله: '' باب سؤال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمان والإسلام والإحسان...ثم قال: جاء جبريل عليه السلام يعلمكم دينكم؛ فجعل ذلك كله ديناً ''.
      وقال البخاري عقب انتهاء الحديث: '' جعل ذلك كله من الإيمان '' أي: الإيمان العام المرادف للدين.
      والمقصود أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجاب من هو خالي الذهن عن حقيقة الإيمان -أو في منزلة خالي الذهن- بالجواب المعروف الذي لا علاقة له قط بالجواب المنطقي -الذي ينتج عنه تصور الماهية، والذي يذكر فيه الجنس والفصل، أو الفصل وحده، أو الخاصة وحدها... إلخ- ومع ذلك حصل به المراد على أتم وجه وأجلى بيان.
      ولم يكتف بعدوله عن ذلك، بل أعاد اللفظ المسئول عنه في الجواب؛ فإن جبريل سأله: ما الإيمان؟ فأجاب: أن تؤمن بالله.... وهذا مما لا يقره المناطقة؛ لأنه تعريف للشيء بنفسه يلزم منه الدور!!
      فهاهنا أمر عظيم وموقف خطير، وهو أن أحد التعريفين خطأ شرعاً: إما تعريف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإما تعريف المتكلمين الجاري على قواعد المنطق!!
      ونحن لا كلام لنا إلا مع من يؤمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً، وإليه نوجه السؤال! وأما الكافر برسالته فلا كلام معه؛ لأنه -على الأقل- لا يدعي أن تعريفه المنطقي تعريف شرعي، ولا أحد من المسلمين يتلقى عنه دينه، وهو كافر بما هو أعظم من هذا.
      ولا مخلص للمتكلمين إلا بالإقرار بخطأ المنهج المنطقي -إن لم يكن في كل شيء ففي الشرعيات على الأقل- اللهم إلا أن يقولوا: إن كلامنا هذا فلسفة محضة لا علاقة لها بالشرع، وعليهم حينئذ أن يجردوا كتب العقيدة من هذا كله، وينفوا عن أنفسهم صفة الاشتغال بعلم التوحيد كما يسمونه.
      وليت الأمر اقتصر على المتكلمين، ولكنه تجاوزهم إلى شراح السنة الذين تأثر بعضهم بهؤلاء، ونقلوا كلامهم في مباحث الإيمان وعارضوا به إجماع السلف -كما سيأتي مفرقاً- ومنه هذه المسألة:
      فإن الحافظ ابن حجر والطيـبي والكرماني تأثروا بذلك -ربما بدون شعور- حين استشكلوا لماذا لم يجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل بأنه التصديق!! وخرّجوا ذلك بأنه سأله عن متعلقات الإيمان لا عن معنى لفظه! أو أن في الجواب تضميناً للمعنى اللغوي! أو أن المراد من المحدود الإيمان الشرعي، ومن الحد الإيمان اللغوي!
      فالمتمنطقون من المتكلمين -وهم أكثر المتأخرين كما سبق- افترضوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنزلة أرسطو أو فرفريوس وهو يناظر السفسطيين!!
      والآخرون - ومن تأثر بهم من الشراح - افترضوه بمنزلة الخليل بن أحمد أو الأصمعي وهو يجيب الناس عن معاني الألفاظ اللغوية!
      والله تعالى نزه نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخوض الفلسفي في المطلقات والماهيات المجردة وسائر مباحثهم، بل نزه أصحابه الذين جاء جبريل يعلمهم دينهم أن يكون فيهم من ينكر حقيقة الإيمان، بل كفار قريش سائر العرب لم يعرفوا السفسطة، كما لم تعرفها أمة سوية على ظهر الأرض.
      أما مجرد الشرح اللغوي؛ فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجل شأناً من أن يكون هو همه في مثل هذه المقامات العليا من التعليم؛ حيث الأمر يتعلق بأصل الدين وأسمائه وأصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحتاجون أن يتعلموا لغتهم، ولو أرادوا ذلك لأمكنهم من غير طريقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو معها، كما أن مجيء جبريل عليه السلام أعظم قدراً من أن يكون لمجرد التعريف اللغوي.
      فظهر من هذا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقام التعليم الشرعي أجاب الجواب الشرعي الكامل الذي لا يجوز العدول عنه - سواء ما ورد في هذين الحديثين أو في غيرهما - كحديث الشُّعب، فلا وجه للاستشكال أصلاً، وأن قول السلف: قول وعمل يزيد وينقص، هي أصدق عبارة في الكشف عما تضمنته هذه الأحاديث - مع الآيات - من معنى، وأن ما أطال فيه المتكلمون من التفلسف وأرغمونا على الإطالة في رده لا يجوز التعريج عليه، وهذا ما نزيده إيضاحاً بالفقرات التالية لهذه.
    2. القضية الثانية: وجود الأنواع خارج الذهن

      استحوذت السفسطة على تفكير أكثر الشباب الإغريقيين، وأصبحت كأنما هي الفكرة المسيطرة على أثينا، وعز على أساطين الفلسفة والجدل - وعلى رأسهم أرسطو أن يتسنم هؤلاء الشباب الأحداث ذروة الفكر ويظهروا بمظهر المنتصر في محاوراتهم ومجادلاتهم، وأن تتهاوى صروح الفلسفة الإغريقية أمام جدلهم القائم على فكرة واحدة؛ هي التشكيك في المعارف البدهية إلى حد إنكار كل الحقائق الموضوعية.
      وضاق المسلك الجدلي في وجه الفلاسفة الكبار وهم يواجهون هذه الفكرة التي لا تبقي من نظرياتهم ولا تذر، واستجمعوا عقولهم لمحاصرة هذا الوباء وتحطيم غرور هؤلاء الشبان.
      والواقع أن السفسطة لم تنشأ اختراعاً من أصحابها، وإنما هي إفراز من إفرازات مجتمع وثني حقت عليه الضلالة بانقطاعه عن نور الوحي وتعلقه بأذيال الخراصين، وأصولها مستمدة من الفكر الإغريقي نفسه؛ ذلك الفكر الذي قام على أساس نظرية الجواهر والأعراض - أو الذوات والصفات - إذ يجعلون لكل موجود جوهراً هو حقيقته وماهيته، وأعراضاً وهي صفات طارئة، ويتصورون الذات مجردة من كل صفة!!
      فما زادت السفسطة شيئاً على أن جعلت الموجودات كلها في حكم الأعراض التي لا جواهر لها، ومن ثم أنكرت - أو شككت - أن يكون في إمكان العقل إثبات أي حقيقة جوهرية.
      وإنما انتشرت هذه الفلسفة الحمقاء وطغت بسبب تهافت الفلسفة المقابلة، وقيامها على التخرصات والأوهام، وتناقضها الشديد.
      ففي حين ترى الفلسفة العامة أن الحقائق التصورية والتصديقية ثابتة في ذاتها، وأن اختلاف العقول في إدراكها أو تناقضها في الحكم عليها يعود إلى طبيعة التفكير الإنساني ذاته، ترى السفسطة أن المشكوك فيه - حقيقة وأصلاً - هو وجود هذه الحقائق، وأنه ما من شيء نفته الفلسفة إلا والاحتمال قائم بأن يكون إثباته أولى، والعكس بالعكس!
      وكذلك ترى أنه ما من خديعة أثبتت الفلسفة أن الحس والعقل يقعان فيها إلا ويحتمل انطباقها على ما تظنه الفلسفة قطعيات وبدهيات - إن لم يكن ذلك بيقين!
      وقد دخلت السفسطة من ثغرة كبرى في التفكير البشري عامة؛ وهي النسبية اللازمة له؛ فالعلم البشري -المحدود أبداً- لا يستطيع أن يتصور شيئاً غائباً إلا بالنسبة لشيء آخر مشاهد، بل ربما كانت معارفه كلها معتمدة على هذا وهو لا يشعر، أما إدراك كنه الذوات وحقائقها بإطلاق وتجريد، فإن لم يكن محالاً إلى الأبد فهو -في كثير من الأشياء- عسير للغاية.
      ومن هنا رأت السفسطة أن إنكاراً جذرياً لكل الحقائق - مهما قيل عن بداهتها - كفيل بأن ينسف جميع الأسس الفلسفية التي تقوم -بطبيعة الحال- على الاستدلال على المجهول بالمعلوم، وقياس الغائب على الشاهد، واستنباط النتائج المتنازع فيها من المقدمات المسلمة، وبذلك تتفرد بالانتصار في هذه المعارك الجدلية الضارية.
      وهنا لم يجد الفلاسفة الكبار بداً من البرهنة على ثبوت الجواهر أو الحقائق المطلقة استنقاذاً للمعرفة من الانهيار، وفي دوامة البحث المضني تفتق عقل أفلاطون عن نظرية المثال التي تزعم أن لكل شيء في عالم الواقع نظيره المطلق في عالم المثال.
      وكأن أفلاطون اعتقد أن رفع حقائق الأشياء من عالم الواقع إلى عالم المثال يجعلها في منأى عن تشكيكات السفسطيين.
      وأثبت أفلاطون كليات مطلقة مثل العقل الكلي، والنفس الكلية، والعلم الكلي، وغير ذلك على أنها ماهيات وجودية في عالم المثال، وما يوجد في الواقع من آحاد العقول والنفوس هو أجزاء منها.
      وجاء تلميذه أرسطو فأراد أن يضع منهجاً عقلياً للتفكير يجابه السفسطة، فاستمد من أستاذه أصل الفكرة - حين قرر أن الأفراد والأعيان الموجودة ما هي إلا أجزاء للوجود الكلي المطلق الذي هو ماهية هذه الأفراد وحقيقتها الجوهرية، وفي نظره أن إنكار السفسطيين لحقائق الذوات المشخصة لا يرقى إلى القدح في وجود الماهيات المطلقة.
      ومن هنا ظهرت لدى المؤمنين بفلسفته ضرورة التشبث بإثبات هذه الماهيات لتظل المعقل الأخير أمام هجمة التشكيك السفسطية.
      وعلى هذه القاعدة بنى أرسطو ما يسمى المنطق -كما سبقت الإشارة- وفصل الحديث عن الكليات الخمس التي أهمها النوع الذي هو تمام الماهية، وهو الكلي المقول على كثيرين متفقين في الحقيقة في جواب (ما هو؟) مثل حيوان ناطق، في جواب (ما الإنسان؟).
      وإثبات هذه الكليات لم يقتصر على مبحث التصورات، بل تعداه إلى مبحث التصديقات، حيث اعتمد المنطق على قياس الشمول دون قياس التمثيل، بل غالى المناطقة حتى أسقطوا قيمة قياس التمثيل بمرة، واعتبروا التعريف بالمثال من أنواع التعريف الخطأ.
      تلك هي أصل قصة وجود الأنواع خارج الذهن، عرضناها دون الإطالة بردها ونقضها،
      وحسبنا أننا رأينا كيف أن الفلسفة اليونانية المتخبطة قد عالجت جنون السفسطة - التي تنكر الحقائق الحسية - بعوج المنطق الذي لم يجد سبيلاً إلى إثبات البدهيات إلا باختلاف المعدومات وتكلف المحالات، وأحسن أحواله أنه يعرف الجلي بالخفي.
      وكان الوضع الطبيعي أن تبقى هذه التخبطات العمياء رهينة بيئتها وحبيسة أرضها، فلا تفسد بها عقول بني البشر الآخرين، ولكنها - وهو الأمر المحزن حقاً - أفسدت العقول والفطر التي استنارت بنور الوحي ونعمت بالعافية من هذه الأوبئة.
      والمؤلم جداً أن يتطوع بعض المنتسبين للإسلام بنقل هذه الفلسفة والتعصب لها وتكدير صفو التفكير الإسلامي بها، فلو أنها جاءت نتيجة استعباد يوناني للمسلمين لكان للعذر مقال - مع أن أمة الوحي لا عذر لها قط في اتباع الضلالات - فكيف إذا أخذتها طائعة مختارة!!
      لقد نقلت هذه الفلسفة والمعركة بين المرجئة وأهل السنة على أشدها، فاستنصر بها أولئك المبتدعة في مسألة الإيمان، بعد أن كان موضوعها الأصلي هو نفي صفات الله تعالى، ولكن الجهمية كانوا يجمعون بين نفي الصفات والإرجاء، ودار الزمان دورته، وإذا بعقيدة الجهمية تصبح عقيدة الكثرة الكاثرة من المشتغلين بالعلم الشرعي، وإذا بأكثر متون العقائد انتشاراً يبدأ بعبارة [ حقائق الأشياء ثابتة والتشكيك فيها سفسطة ]، وكأنها هي عقيدة للأثينيين من أتباع أرسطو، لا للمسلمين أتباع محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!!
      جاء هؤلاء المرجئة فأثبتوا تلك الماهيات المطلقة التي اختلقها أفلاطون وأرسطو، وطبقوا كل نتائجها على موضوع الإيمان فكانت النتيجة القاصمة وهي: أن أعمال الإسلام كله ابتداء من قول لا إله إلا الله وانتهاء بالنوافل، ما هي إلا عرض للإيمان وليس من ماهيته، وأنه لم يأتِ بشيء من ذلك قط يدخل الجنة بسلام - ولو بعد حين-!!
    3. القضية الثالثة: تماثل أفراد النوع في الحقيقة والماهية

      علمنا مما سبق أن المنطق هو قواعد نظرية من اجتهاد رجل يوناني أراد به غرضاً معيناً - هو الرد على السفسطة - وسواء وُفق هذا الرجل في عمله أو لم يوفق، فإنه من المبالغة القصوى والتقديس المتناهي أن يقال: إن ما وضع من رأي واجتهاد هو معيار المعرفة الإنسانية الذي تعصم مراعاته الذهن من الخطأ والذي لا نستطيع بغيره أن ندافع عن ديننا ونصد هجمات الملحدين والمشككين، ولا فيما هو أعظم من ذلك؛ وهو معرفة الحقائق الشرعية، ولا فيما هو أعظم؛ وهو معرفة صفات الله تعالى ما نثبته منها وما ننفيه!!
      ولقد أصبح من الحقائق المقررة أن العلم البشري - جملة - له حدود لا يستطيع تجاوزها، وأن إخضاع عالم الغيب لما علمه البشر من عالم الشهادة - وهو ضئيل جداً - أمر في غاية الاعتساف والغرور، فما بالك بمن يُخضع الوحي المعصوم والعلم الإنساني بكامله لفكر رجل واحد عاش في أمة جاهلية قديمة كانت البشرية ما تزال تحبو في أدنى درجات العلم؟!
      غير أن الذي حصل في تاريخ الإسلام كان بخلاف هذه الحقيقة، وقد اجتمعت له أسباب كثيرة، منها المؤامرات والدسائس الحاقدة، ومنها الاجتهادات المخطئة، ومنها المتابعة بلا بصيرة، ومنها الترف الفكري...إلخ.
      وكانت النتيجة أن أخضع الوحي - مِنَّة الله الكبرى على العالمين ونعمته العظمى للثقلين - لآراء الخراصين وتوهمات المضلين، فأخضعت الحقائق الشرعية للمقاييس اليونانية، وصدّق من يسمون علماء الكلام أن التصورات لا تنال إلا بالحدود على النحو الذي قرره أرسطو وفرفريوس!!
      وطبقوا ذلك على الموضوع الأكبر الذي شغل الأمة منذ ظهور الخوارج؛ وهو موضوع الإيمان فوضعوا سؤالاً هو: ما الإيمان؟ وأخذوا يبحثون في جوابه على الأسلوب المنطقي الذي يقصد من التعريف تصور الماهية -كما سبق في القضية الأولى-.
      ومن طبيعة الحد أو التعريف أو القول الشارح - وهي ألفاظ مترادفة - أنه مفهوم كلي يندرج فيه كل ما يصدق عليه اللفظ المعرّف، والنوع الذي هو أحد الكليات الخمس عندهم هو تمام الماهية، فمتى كان التعريف بالحد التام؛ أي: المشترك الذاتي (الجنس) والمميز الذاتي (الفصل) معاً، حصل تصور تمام الماهية المعبر عنه بالنوع.
      والخطأ الأساسي الذي وقع فيه أرسطو ويقع فيه كل المناطقة أنه - مع زعمه أن التصورات لا تنال إلا بالحدود - وضع الحد بناء على تصور سابق، وهذا هو الدور الذي يقولون بامتناعه؛ وذلك أن أرسطو نظر إلى آحاد الناس مثل زيد وبكر وعمرو وحلل صفاتهم مميزاً بين الذاتيات الداخلة في الماهية، والعرضيات اللازمة، والعرضيات غير اللازمة، واستخرج من الذاتيات الداخلة في الماهية - في نظره - ماهية الإنسان وحقيقته التي هي القدر المشترك من هذه الذاتيات، وهي كما زعم (الحيوانية والناطقية) معاً (الصفة الأولى جنس والأخرى فصل) كما سبق .
      ثم أثبت وجود هذه الماهية في الخارج، أي: في الوجود الحقيقي - كما في القضية السابقة - وهذه الماهية هي عنده وجود مطلق لا يوصف بالزيادة ولا بالنقصان ولا بأي صفة أخرى، بل كل من ينطبق عليه اسم الإنسان من الآحاد فهذه الماهية متحققة فيه على السواء، بحيث إنه لو قلنا: إن فرداً من أفراد النوع أقوى في الماهية أو أضعف لكان هذا إثباتاً لنوع آخر.
      ولهذا اعتبر أرسطو تمام الماهية هو التعريف أو الحد، وجاء المناطقة بعده وعلى رأسهم فرفويوس المتوفى سنة 303م فسموا تمام الماهية النوع، والخلاف لفظي.
      والمهم لنا هو أنهم عرفوا النوع بأنه: الكلي المقول على كثيرين متفقين في الحقيقة في جواب ما هو .
      فالقول باختلاف الحقيقة يتنافى وهذه الماهية!!
      وهذا الخطأ نفسه بما فيه من دور وقع فيه المتكلمون حين أرادوا تعريف الإيمان متبعين المسلك المنطقي - أي: تعريفه من حيث هو في ذاته كما يقولون- فقد نظروا أولاً إلى من يطلقون هم عليه اسم الإيمان من الآحاد على تفاوتهم، واستخرجوا القدر المشترك بينهم - الذي اعتبروه الصفة أو الصفات الذاتية الداخلة في الماهية - وجعلوا هذا القدر هو حقيقة الإيمان وماهيته المجردة.
      وبعد أن تصوروا هذه الماهية وعبروا عنها - كل بحسب لفظه - أخذوا يحكمون على أي فرد بأنه مؤمن أو غير مؤمن بناءً على وجود هذه الماهية لديه أو عدمها، ثم وصفوا هذه الماهية بما وصف به المناطقة النوع، فقرروا أن المؤمنين سواء في إيمانهم، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأن نقص الماهية عدم، وقبول الزيادة دليل على النقص وهو عدم، فكذلك الإيمان شك، وقبول الزيادة يعني أنه ناقص فهو شك!!
      وهذا تفصيل ما أجملناه:
      1- الأفراد التي استخرجوا منها القدر المشترك (الماهية):
      يطلق المرجئة اسم الإيمان على كل من هؤلاء:
      أ- جبريل ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ بدلالة الإجماع ].
      ب- من أقر بالإيمان ولم يعمل شيئاً [ بدلالة حديث الجارية بزعمهم ].
      جـ- من صدق بقلبه ولم يقر بلسانه [بدلالة اللغة، ولأن الكلام عندهم هو الكلام النفسي].
      وطبيعي أن بين هذه الدرجات في الإيمان درجات أخرى كإيمان أواسط الصحابة، وإيمان الفاسق من أهل الصلاة، ولكن هذه المراتب الثلاث هي كالأركان نظرياً .
      2- فلما أرادوا استخراج القدر الكلي المشترك بين هذه الدرجات ليتصوروا ماهية الإيمان وحقيقته مع حذف صفاتها العرضية، كان طبيعياً ألا يدخلوا الأعمال في الإيمان؛ لأنها مفقودة بكاملها عند أصحاب الدرجة [جـ].
      واختلفوا في إدخال النطق باللسان الذي هو موجود عند أصحاب الدرجة [ ب ]، لكنه مفقود عند أصحاب الدرجة [جـ]: أهو ذاتي داخل في الماهية أم لازم عرضي.
      3- ومن هنا جاءت حدودهم - أو تعريفاتهم - للإيمان خالية من ذكر عمل الجوارح بمرة، بل محصورة في عمل قلبي واحد هو التصديق أو الاعتقاد؛ كقولهم: (الاعتقاد الجازم المطابق للواقع بدليل) أو (التصديق بما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان معلوماً بالضرورة) أو (اعتقاد صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخبر به) وما أشبه ذلك مما يستجلي عند ذكر نصوصهم في اشتراط النطق أو عدمه.
      والمهم أن قاعدة (تساوي أفراد النوع في حقيقته وماهيته) التي استعاروها من المنطق وطبقوها هنا أفسدت عليهم تصورهم، وجعلتهم يعرضون عن كل النصوص الواردة في زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله فيه ودخول الأعمال فيه، أو يتعسفون في تأويلها حتى تسلم لهم هذه القاعدة.
      ومن أخطر النتائج التي رتبوها على ذلك قولهم بتساوي إيمان الملائكة والأنبياء كجبريل ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع إيمان الفساق المنهمكين في الفسق، بل وإيمان من لم يقل: لا إله إلا الله بلسانه، وإنما صدق بقلبه بزعمهم!!
      وهذه النتيجة مع منافاتها للبدهيات الثابتة عند عوام المسلمين سطروها وقرروها بإطناب وإسهاب، فلما صدمهم اعتراض المسلمين التمسوا تقييدات واهية تغض من مقام النبوة أكثر مما ترفعه عن مستوى الانهماك في الفسق!!
      ونكتفي من كلامهم بنصين عن رجلين من كبار أئمتهم المتقدمين:
      1- أبو بكر بن فورك:
      أحد كبار الأشاعرة المتوفى سنة 403هـ أو بعدها.
      وقد شرح كتاب العالم والمتعلم المنسوب للإمام أبي حنيفة، وأطال في تقرير هذه القاعدة حتى استغرقت منه أكثر من عشر لوحات بكلام فلسفي مجرد، نذكر منه ما نقله عن المتن المنسوب للإمام وهو: قال المتعلم: أخبرني من أين ينبغي لنا أن نقول: إيماننا مثل إيمان الملائكة والرسل، وقد نعلم أنهم كانوا أطوع لله منا؟
      قال العالم: ''قد علمنا أنهم كانوا أطوع لله منا، وقد حدثنا أن الإيمان غير العمل، فإيماننا مثل إيمانهم؛ لأنا صدقنا من وحدانية الرب وربوبيته وقدرته بما جاء من عنده بمثل ما أقرت به الملائكة وصدقت به الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم.
      فمن هاهنا زعمنا أن إيماننا مثل إيمان الملائكة؛ لأنا آمنا بكل شيء آمنت به الملائكة مما عاينته الملائكة من عجائب الله تعالى ولم نعاينه'' .
      ثم شرحه مبيناً أن التصديق جنس واحد لا يفضل بعضه بعضاً، وعلل ذلك بقوله: ''لأن تصديق القلب هو الإيمان، فإذا اعتقد النبي صدق الله في أخباره، واعتقدنا صدقه في أخباره تعالى - كان جنس اعتقادنا بصدقه جنس اعتقاده بصدقة بلا تفاوت''.
      ثم أسهب في بيان أن فضل الأنبياء في الإيمان على سائر الخلق إنما هو بالنظر للعاقبة والثبات، فإيمان الأنبياء معصوم عن الردة والكفر بخلاف غيرهم، فاحتمال طروء ذلك عليه قائم.
      وأخيراً أجاب عن إشكال وارد؛ وهو إذا كان إيمان سائر البشر كإيمان الأنبياء، فلماذا فضل الله الأنبياء عليهم في الأجر والثواب؟!
      ونقل ما في المتن ثم شرحه وهو: ''قال المتعلم: لَحَسَنٌ ما فسرت، ولكن أخبرني: إن كان إيماننا مثل إيمان الرسل، أليس ثواب إيماننا مثل ثواب إيمانهم؟ فلم فضلهم علينا وقد استوينا في الإيمان في الدنيا، واستوينا في ثواب الإيمان في الآخرة؟
      وإن كان ثواب إيماننا في الدنيا دون ثواب إيمانهم، أليس هذا ظلماً إذا كان إيماننا مثل إيمانهم، ولم يجعل لنا من الثواب ما جعل لهم؟
      قال العالم: قد أعظمت المسألة ولكن تثبت في الفتيا؛ ألست تعلم أن إيماننا مثل إيمانهم لأنا آمنا بكل شيء آمنت به الرسل، ولهم بعد علينا الفضل في الثواب على الإيمان وجميع العبادة؛ لأن الله تعالى كما فضلهم بالنبوة على الناس كذلك فضل صلواتهم وبيوتهم ومساكنهم وجميع أمورهم على غيرها من الأشياء!!
      ولم يظلمنا ربنا إذ لم يجعل لنا مثل ثوابهم؛ وذلك أنه كان إنما يكون الظلم إذا أنقصنا حقنا فأسخطنا، فأما إذا زاد أولئك ولم ينقصنا حقنا وأعطانا حتى أرضانا فإن ذلك ليس بظلم '' .
      2- أبو المعالي الجويني:
      كبير الأشعرية في عصره وشيخ أبي حامد الغزالي
      يقول: ''فإن قيل: فما قولكم في زيادة الإيمان ونقصانه؟ قلنا: إذا حملنا الإيمان على التصديق فلا يفضل تصديق تصديقاً كما لا يفضل علم علماً، ومن حمله على الطاعة سراً وعلناً -وقد مال إليه القلانسي فلا يبعد على ذلك إطلاق القول بأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهذا مما لا نؤثره!
      فإن قيل: أصلكم يلزمكم أن يكون إيمان منهمك في فسقه كإيمان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قلنا: النبي عليه الصلاة والسلام يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله إياه من مخامرة الشكوك واختلاج الرِّيب.
      والتصديق عرضٌ لا يبقى، وهو متوال للنبي عليه الصلاة والسلام، ثابت لغيره في بعض الأوقات، زائل عنه في أوقات الفترات فيثبت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعداد من التصديق لا يثبت لغيره إلا بعضها، فيكون إيمانه بذلك أكثر.
      فلو وصف الإيمان بالزيادة والنقصان، وأريد بذلك ما ذكرناه لكان مستقيماً فاعلموه '' .
      وهذه النصوص تغني عما عداها، ومجرد الاطلاع عليها كاف في تصور فسادها والحكم بمخالفتها لصحيح المنقول وصريح المعقول!
      وعلى مثل هذه الشبه الواهية اعتمد أتباعهم في الحكم على من يدخل العمل في الإيمان بأنه موافق لمذهب الخوارج، ناسين أن هؤلاء موافقون موافقة تامة لرأي الفلاسفة!
      هذا، وقد سبقت الإشارة إلى أن المنطق في ذاته لا يقتضي بالضرورة إخراج العمل من الإيمان، أو القول بأنه لا يزيد ولا ينقص، ونزيد هذا إيضاحاً فنقول: إن المرجئة لو تركوا مبحث التعريف بمرة، واكتفوا بما يذكره المناطقة في مبحث الأسماء -نسبة الاسم للمعنى- وهو قولهم: ''إن الكلي ينقسم إلى قسمين:
      القسم الأول: المتواطئ؛ وهو الذي تستوي جميع أفراده في صدق الكلي عليها واشتراكها فيه، مثل: إنسان ومثلث وشجرة...
      والقسم الثاني: المشكك، وهو الذي لم تتساو أفراده في صدق الكلي عليها وذلك بأن يكون المعنى المقصود من الكلي أولى في بعضها من البعض الآخر، أو أقدم منه، أو أشد، أو أقوى...، وذلك مثل الضوء - فإنه في الشمس أقوى منه في المصباح...'' .
      أقول: لو فعلوا ذلك واعتبروا الإيمان من القسم الأخير لأراحوا واستراحوا، لكن الذي حصل هو العكس، فإنه لما فطن متأخروهم إلى هذا أخذوا يتعسفون في تخريجه كي يوافق المذهب، وخاضوا في ماهية المشكك، فعاد الأمر إلى قضية الماهية التي لم يستطيعوا التخلي عنها!!
      يقول صاحب المسايرة بشرح المسامرة: والحنفية، ومعهم إمام الحرمين وغيره وهم بعض الأشعرية، (لا يمنعون الزيادة والنقصان باعتبار جهات هي) أي تلك الجهات، (غير نفس الذات) أي ذات التصديق، (بل بتفاوته) أي بسبب تفاوت الإيمان باعتبار تلك الجهات، (يتفاوت المؤمنون) عند الحنفية ومن وافقهم، لا بسبب تفاوت ذات التصديق.
      [ وروي عن أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- أنه قال: إيماني كإيمان جبريل، ولا أقول: مثل إيمان جبريل؛ لأن المثلية تقتضي المساواة في كل الصفات، والتشبيه لا يقتضيه ] أي: لا يقتضي ما ذكر من المساواة في كل الصفات، بل يكفي لإطلاقه المساواة في بعضها!!
      (فلا أحد يسوي بين إيمان آحاد الناس وإيمان الملائكة والأنبياء) من كل وجه، (بل يتفاوت) إيمان آحاد الناس وإيمان الملائكة والأنبياء، (غير أن ذلك التفاوت) هل هو (بزيادة ونقص في نفس الذات) أي ذات التصديق والإذعان القائم بالقلب، ( أو ) هو تفاوت لا بزيادة ونقص في نفس الذات بل (بأمور زائدة عليها؟ فمنعوا) يعني: الحنفية وموافقيهم (الأول ) وهو التفاوت في نفس الذات.
      أقول: هنا أحس المؤلف بأن الاعتراض سيرد على كلامه عن مدى ضرورة هذا التفريق، ولم لا يعتبر من قبيل المشكك ويلغي موضوع النوع؟
      فقال: '' فنحن -معشر الحنفية ومن وافقنا- نمنع ثبوت ماهية المشكك، ونقول: إن الواقع على أشياء متفاوتة فيه يكون التفاوت عارضاً لها خارجاً عنها، لا ماهية لها ولا جزء ماهية؛ لامتناع اختلاف الماهية واختلاف جزئها!!
      و (لو سلمنا ثبوت ماهية المشكك) فلا يلزم كون التفاوت في أفراده بالشدة؛ فقد يكون بالأولوية وبالتقدم والتأخر!!
      (و) لو سلمنا (أن ما به التفاوت) في أفراد المشكك (شدة كشدة البياض الكائن في الثلج بالنسبة إلى) البياض (الكائن في العاج)...(مأخوذ في ماهية البياض بالنسبة إلى خصوص محل) كالثلج، (لا نسلم أن ماهية اليقين منه) أي من المشكك.
      (ولو سلمنا أن ماهية اليقين تتفاوت لا نسلم أنه) يتفاوت (بمقومات الماهية) أي: أجزائها (بل بغيرها) من الأمور الخارجة عنها العارضة لها كالإلف للتكرار ونحوه....''
      .
      ولا نريد الاسترسال في نقل مثل هذا التفلسف، ولا الرد عليه تفصيلاً من جنس كلامه، وحسبنا أننا عرفنا مأخذ القوم وأصل قولهم!! ثم نكتفي في الرد عليهم بما أجمله شَيْخ الإِسْلامِ في نقض أصولهم وشبهاتهم مما هو في الحقيقة تفصيل وشرح لما ألزم به الإمام أحمد أسلافهم من قبل، إلا أن في كلام شَيْخ الإِسْلامِ زيادة تتعلق بالقواعد المنطقية التي عرضناها هنا.
      يقول شَيْخ الإِسْلامِ في بيان أصول غلط المرجئة عامة: ''وهؤلاء غلطوا من وجوه:
      أحدها: ظنهم أن الإيمان فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص.
      وليس الأمر كذلك؛ فإن أتباع الأنبياء المتقدمين أوجب الله عليهم من الإيمان ما لم يوجبه على أمة محمد، وأوجب على أمة محمد من الإيمان ما لم يوجبه على غيرهم، والإيمان الذي كان يجب قبل نزول جميع القرآن ليس هو مثل الإيمان الذي يجب بعد نزول القرآن، والإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر الرسول مفصلاً ليس مثل الإيمان الذي يجب على من عرف ما أخبر به مجملاً.
      فإنه لا بد في الإيمان من تصديق الرسول في كل ما أخبر، لكن من صدق الرسول و مات عقب ذلك لم يجب عليه من الإيمان غير ذلك، وأما من بلغه القرآن والأحاديث وما فيها من الأخبار والأوامر المفصلة فيجب عليه من التصديق المفصل بخبرٍ خبرٍ وأمرٍ أمرٍ ما لا يجب على من لم يجب عليه إلا الإيمان المجمل- لموته قبل أن يبلغه شيء آخر.
      وأيضاً لو قدر أنه عاش فلا يجب على كل واحد من العامة أن يعرف كل ما أمر به الرسول وكل ما نهى عنه، وكل ما أخبر به، بل إنما عليه أن يعرف ما يجب عليه هو وما يحرم عليه، فمن لا مال له لا يجب عليه أن يعرف أمره المفصل في الزكاة، ومن لا استطاعة له على الحج ليس عليه أن يعرف أمره المفصل بالمناسك، ومن لم يتزوج ليس عليه أن يعرف ما وجب للزوجة، فصار يجب من الإيمان تصديقاً وعملاً على أشخاص ما لا يجب على آخرين '' .
      ويزيد ذلك إيضاحاً -في موضع آخر- ببيان أن معارف القلب تتفاضل، وأعماله أيضاً تتفاضل - فيقول: '' إيمان القلوب يتفاضل من جهة ما وجب على هذا ومن جهة ما وجب على هذا، فلا يستوون في الوجوب، وأمة محمد وإن وجب عليهم الإيمان بعد استقرار الشرع، فوجوب الإيمان بالشيء المعين موقوف على أن يبلغ العبد إن كان خبراً، وعلى أن يحتاج إلى العمل إن كان أمراً، وعلى العلم به إن كان علماً.
      وإلا فلا يجب على كل مسلم أن يعرف كل خبر وكل أمر في الكتاب والسنة، ويعرف معناه ويعلمه؛ فإن هذا لا يقدر عليه أحد.
      فالوجوب مما يتنوع الناس فيه، ثم قدرهم في أداء الواجب متفاوتة (يعني: قدراتهم) .
      ثم نفس المعرفة تختلف بالإجمال والتفصيل والقوة والضعف ودوام الحضور، ومع الغفلة فليست المفصلة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة كالمجملة التي غفل عنها، وإذا حصل له ما يريبه فيها ذكرها في قلبه، ثم رغب الله في كشف الريب.
      ثم أحوال القلوب وأعمالها مثل محبة الله ورسوله وخشية الله والتوكل عليه والصبر على حكمه والشكر له والإنابة إليه وإخلاص العمل له مما يتفاضل الناس فيها تفاضلاً لا يعرف قدره إلا الله عز وجل، ومن أنكر تفاضلهم في هذا فهو إما جاهل لم يتصوره وإما معاند '' .
      أقول: وفي هذا الكلام الواضح البرهان ما يرد على من زعم من المرجئة أن الإيمان لا يتفاوت مطلقاً، أو من زعم أنه يتفاوت بأمور خارجة عن الماهية -كما سبق- فإن هذا ينفي تلك الماهية الموهومة أصلاً، ويبطل قاعدة استواء الأفراد في الماهية بالمرة، ثم إنه يبين فساد أصل عظيم من أصول الإرجاء، وهو ما يشترطونه عادة عند تعريف الإيمان تعريفاً منطقياً كقولهم: (التصديق بما ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان معلوماً من الدين بالضرورة) أو (وثبت عنه قطعاً) وما أشبهها.
      فإنهم يشترطون فيما يؤمن به الثبوت القطعي أو العلم الضروري؛ لأنهم يريدون تحديد تمام ماهية الإيمان التي إذا نقصت ذهب الإيمان كله، ولا بد من تساوي أفرادها فيها كما سبق.
      ويعلمون أنهم لو أدخلوا الإيمان بالأعمال كلها في الإيمان للزمهم نفي الإيمان عمن لم يؤمن بالنوافل أو الواجبات التي لا يعرفها كل أحد، فينتقض عليهم التعريف من أساسه، فقيدوا ذلك بما ثبت قطعاً لا بما ثبت آحاداً -بزعمهم- أو بما علم بالضرورة لا بما لا يعلم إلا بالتعلم والتنقيب.
      وهذه القيود لا تعفيهم ولا تغنيهم؛ فإنهم يمثلون لما علم بالضرورة أو ثبت قطعياً بتحريم الخمر، فهل يلتزمون أن كل من لم يؤمن بتحريم الخمر كافر؟
      لا أحسبهم يؤمنون بذلك واقعاً -وإن سطروه نظرياً- فإنه من المعقول جداً أن يكون بعض المسلمين في أطراف الأرض -لا سيما العجم- لم يبلغه هذا التحريم قط، وهو مع ذلك مؤمن بما بلغه من الإيمان المجمل وأداء الفرائض، فهل يكفرون مثل هذا؟!!
      فإن لم يكفروه -وهو ظني بهم- فيلزمهم بطلان ما استحدثوه من تحديد للإيمان يشترطون تحققه في كل مؤمن، والرجوع عن كل ما تركه المنطق في مباحثهم من آثار وأصول.
      ولنتابع النقل عن شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- قال: ''وهؤلاء منتهى نظرهم أن يروا حقيقة مطلقة مجردة تقوم في أنفسهم، فيقولون: الإيمان من حيث هو هو، والسجود من حيث هو هو، لا يجوز أن يتفاضل ولا يجوز أن يختلف وأمثال ذلك، ولو اهتدوا لعلموا أن الأمور الموجودة في الخارج عن الذهن متميزة بخصائصها، وأن الحقيقة المجردة المطلقة لا تكون إلا في الذهن، وأن الناس إذا تكلموا في التفاضل والاختلاف فإنما تكلموا في تفاضل الأمور الموجودة واختلافها، لا في تفاضل أمر مطلق مجرد في الذهن لا وجود له في الخارج.
      ومعلوم أن السواد مختلف؛ فبعضه أشد من بعض، وكذلك البياض وغيره من الألوان، وأما إذا قدرنا السواد المجرد المطلق الذي يتصوره الذهن - فهذا لا يقبل الاختلاف والتفاضل، ولكن هذا هو في الأذهان لا في الأعيان '' .
      ويزيد ذلك إيضاحاً في الإيمان قائلاً: ''وهم لما توهموا أن الإيمان الواجب على جميع الناس نوع واحد، صار بعضهم يظن أن ذلك النوع من حيث هو لا يقبل التفاضل، فقال لي مرة بعضهم: الإيمان من حيث هو إيمان لا يقبل الزيادة والنقصان، فقلت له: قولك من حيث هو، كما يقال: الإنسان من حيث هو إنسان، والحيوان من حيث هو حيوان، والوجود من حيث هو وجود، والسواد من حيث هو سواد، وأمثال ذلك لا يقبل الزيادة والنقصان، فيثبت لهذه المسميات وجوداً مطلقاً مجرداً عن جميع القيود والصفات، وهذا لا حقيقة له في الخارج، وإنما هو شيء يقدره الإنسان في ذهنه، كما يقدر موجوداً لا قديماً ولا حادثاً، ولا قائماً بنفسه ولا بغيره، ويقدر إنساناً لا موجوداً ولا معدوماً، ويقول: الماهية من حيث هي هي لا توصف بوجود ولا عدم، والماهية من حيث هي هي شيء يقدره الذهن، وذلك موجود في الذهن لا في الخارج.
      وأما تقدير شيء لا يكون في الذهن ولا في الخارج فممتنع، وهذا التقدير لا يكون إلا في الذهن - كأثر تقدير الأمور الممتنعة، مثل تقدير صدور العالم عن صانعين، ونحو ذلك، فإن هذه المقدرات في الذهن.
      فهكذا تقدير إيمان لا يتصف به مؤمن، بل هو مجرد عن كل قيد، وتقدير إنسان لا يكون موجوداً ولا معدوماً، بل ما ثم إيمان إلا مع المؤمنين، ولا ثم إنسانية إلا ما اتصف بها الإنسان، فكل إنسان له إنسانية تخصه، وكل مؤمن له إيمان يخصه، فإنسانية زيد تشبه إنسانية عمرو، وليست هي هي، وإذا اشتركوا في نوع الإنسانية فمعنى ذلك أنهما يشتبهان فيما يوجد في الخارج، ويشتركان في أمر كلي مطلق يكون في الذهن.
      وكذلك إذا قيل: إيمان زيد مثل إيمان عمرو، فإيمان كل واحد يخصه، فلو قدر أن الإيمان يتماثل لكان لكل مؤمن إيمان يخصه، وذلك الإيمان مختص معين، ليس هو الإيمان من حيث هو هو، بل هو إيمان معين، وذلك الإيمان يقبل الزيادة.
      والذين ينفون التفاضل في هذه الأمور يتصورون في أنفسهم إيماناً مطلقاً، أو إنساناً مطلقاً، أو وجوداً مطلقاً، مجرداً عن جميع الصفات المعينة له، ثم يظنون أن هذا هو الإيمان الموجود في الناس، وذلك لا يقبل التفاضل ولا يقبل في نفسه التعدد؛ إذ هو تصور معين قائم في نفس متصوره.
      ولهذا يظن كثير من هؤلاء أن الأمور المشتركة في شيء واحد هي واحدة بالشخص المعين، حتى انتهى الأمر بطائفة من علمائهم علماً وعبادة إلى أن جعلوا الوجود كذلك، فتصوروا أن الموجودات مشتركة في مسمى الوجود، وتصوروا هذا في أنفسهم، فظنوه في الخارج كما هو في أنفسهم، ثم ظنوا أنه الله، فجعلوا الرب هو هذا الوجود الذي لا يوجد قط إلا في نفس متصوره، ولا يكون في الخارج.
      وهكذا كثير من الفلاسفة تصوروا أعداداً مجردة وحقائق متجردة، ويسمونها المثل الأفلاطونية، وزماناً مجرداً عن الحركة والمتحرك، وبعداً مجرداً عن الأجسام وصفاتها، ثم ظنوا وجود ذلك في الخارج.
      وهؤلاء كلهم اشتبه عليهم ما في الأذهان بما في الأعيان، وهؤلاء قد يجعلون الواحد اثنين، والاثنين واحداً، فتارة يجيئون إلى الأمور المتعددة المتفاضلة في الخارج فيجعلونها واحدة أو متماثلة، وتارة يجيئون إلى ما في الخارج من الحيوان والمكان والزمان فيجعلون الواحد اثنين.
      والمتفلسفة والجهمية وقعوا في هذا وهذا، فجاءوا إلى صفات الرب التي هي أنه عالم وقادر، فجعلوا هذه الصفة هي عين الأخرى، وجعلوا الصفة هي الموصوف.
      وهكذا القائلون بأن الإيمان شيء واحد وأنه متماثل في بني آدم، غلطوا في كونه واحداً، وفي كونه متماثلاً، كما غلطوا في أمثال ذلك من مسائل التوحيد والصفات والقرآن ونحو ذلك، فكان غلط جهم وأتباعه في الإيمان كغلطهم في صفات الرب الذي يؤمن به المؤمنون، وفي كلامه وصفاته، سبحانه عما يقول الظالمون علواً كبيراً '' .
      وهذا الكلام النفيس على درجة من العلمية لو تأملها الفلاسفة والمناطقة -شرقيين وغربيين، قدامى ومحدثين- وأصحاب وحدة الوجود، ومنكرو الصفات والمرجئة؛ لكانت كافية في إقامة الحجة على الجميع، فرحمه الله رحمة واسعة .
  16. النتيجة: حكم ترك العمل في الطور النهائي للظاهرة

    زيادة عما نقلناه عن المرجئة في الفصول السابقة على سبيل التمثيل نذكر هنا نقولاً عن أئمتهم ومتكلميهم تدل على ما استقر عليه مذهبهم في عصور متعاقبة من حكم ترك العمل وفصله عن الإيمان.
    ورغبة في الاختصار اقتصرت على ما يتعلق بدخول شهادة أن لا إله إلا الله في الإيمان -التي هي رأس كل عمل- فإن تصريحهم بنفي ذلك -أو مجرد اختلافهم في النطق- يغني عن ذكر شذوذهم في نفي العمل؛ لأن خروج العمل عن الماهية أولى بلا ريب، ولأن أخرج الركن الأول من أركان الإسلام أو أجاز خروجه فهو لما بعده أضيع.
    1. أقوال المخالفين لمنهج السلف في حكم ترك العمل

      1- يقول أبو منصور البغدادي:
      ''الطاعات عندنا أقسام: أعلاها يصير بها المطيع عند الله مؤمناً، ويكون عاقبته لأجلها الجنة إن مات عليه، وهي: معرفة أصول الدين في العدل والتوحيد والوعد والوعيد والنبوات والكرامات، ومعرفة أركان شريعة الإسلام، وبهذه المعرفة يخرج عن الكفر.
      والقسم الثاني: إظهار ما ذكرناه باللسان مرة واحدة، وبه يسلم من الجزية والقتال والسبي والاسترقاق، وبه تحل المناكحة، واستحلال الذبيحة، والموارثة، والدفن في مقابر المسلمين , والصلاة عليه وخلفه.
      والقسم الثالث: إقامة الفرائض واجتناب الكبائر، وبه يسلم من دخول النار ويصير مقبول الشهادة.
      والقسم الرابع منها: زيادة النوافل، وبها يكون له الزيادة في الكرامة والولاية '' .
      قال: '' والمعاصي أيضاً قسمان:
      قسم منها: كفر محض؛ كعقد القلب على ما يضاد القسم الأول من أقسام الطاعات، أو الشك فيها أو في بعضها، ومن مات على ذلك كان مخلداً في النار.
      والقسم الثاني منها: ركوب الكبائر، أو ترك الفرائض من غير عذر، وذلك فسق تسقط به الشهادة، وفيه ما يوجب الحد أو القتل أو التعزير، وهو مع ذلك مؤمن إن صح له القسم الأول من الطاعات '' .
      فالطاعات عنده على ثلاث مراتب:
      1- المعرفة.
      2- الإقرار.
      3- العمل.
      والمعاصي مرتبتان:
      1- ترك المعرفة.
      2- ترك العمل.
      ولم يذكر ترك الإقرار؛ لأنه مجرد علامة لإجراء الأحكام الدنيوية كما بين في كلامه، ولذلك كان إظهاره مرة واحدة كافياً.
      فحقيقة الإيمان عنده هي المعرفة بأصول الدين معرفة قلبية، وحقيقة الكفر هي اعتقاد ضد تلك المعرفة بالقلب أيضاً.
      وأما الإقرار وهو قول كلمة الشهادة، والعمل الذي هو فعل المأمورات وترك المنهيات، فليسا من الإيمان ولا يكون تاركهما كافراً؛ فإن كان تاركاً للإقرار كان مؤمناً عند الله فحسب، وإن كان تاركاً للعمل كان مؤمناً عند الله وفي أحكام الدنيا أيضاً، هذه خلاصة كلامه.
      وهذا ظاهر الموافقة لمذهب جهم وبشر مع شيء من التفصيل، لكن ليس هذا هو العجيب فإن اتباعهم لمذهب جهم مشهور معلوم، ولكن العجيب أن كلامه فيه موافقة لمذهب الخوارج -شعر أو لم يشعر- وذلك في قوله: ''إن من اعتقد ما يضاد القسم الأول من أقسام الطاعات عنده - وهو [ معرفة أصول الدين في العدل والتوحيد والوعد والوعيد والنبوات والكرامات ومعرفة أركان شريعة الإسلام] - كافر! ''
      والذي أوقعه في ذلك هو القسمة العقلية التي لا مستند لها من النصوص، فهل يعتقد البغدادي أن من خالف الأشعرية في شيء من هذه العقائد أو جهلها كافر؟ الواقع أن الخلاف عندهم في تكفير أهل البدع قائم، وهم مضطربون في ذلك بما لا متسع لتفصيله.
      والأكثر مخالفة لمذهب السلف هو اعتقاد تكفير من جهل شيئاً من أركان الشريعة بإطلاق؛ فإن الإنسان قد يجهل حكماً هو عند غيره معلوم قطعي ويكون مع ذلك معذوراً - على تفصيل ليس هذا موضعه.
      فـالبغدادي -لا ريب- قد جنح في مسألة المعرفة إلى الغلو، لكنه سرعان ما تناقض فجنح في مسألة العمل إلى التفريط.
      فمع حكمه بأن من فاتته معرفة أحكام الشريعة كافر -بلا تفصيل- تجده يحكم بأن من لم يعمل شيئاً منها من غير عذر مؤمن إن كان صحيح المعرفة -كما قال- ومن هنا نفهم أن تلك المعرفة المشروطة إنما هي إدراك مجرد، فلا تستلزم لذاتها امتثالاً ولا عملاً.
      والمهم أن هذه التوفيقية الواضحة التي انتهجها البغدادي بما فيها من تناقض وتذبذب ظلت هي منهج القوم المتبع ولا تزال -لا سيما في موضوع ترك العمل- والنصوص الآتية هنا توضح ذلك:
      2- يقول التفتازاني:
      ضمن كلام معقد طويل عن مسألة النطق بالشهادة وحكمها :
      '' إن هاهنا مطلبين:
      الأول: أن الإقرار ليس جزءاً من الإيمان.
      والثاني: أنه -أي: الإيمان- التصديق لا غير.
      أما الأول: فلدلالة النصوص على أن محل الإيمان هو القلب، فلا يكون الإقرار الذي هو فعل اللسان داخلاً فيه.
      أما الثاني: وهو أنه التصديق، لا سائر ما في القلب من المعرفة والقدرة والعفة والشجاعة...!! فلوجوه:
      الأول: اتفاق الفريقين على أنه ليس سوى التصديق.
      الثاني: أن الإيمان في اللغة التصديق ولم يعين في الشرع لمعنى آخر.
      الثالث: أن النقل خلاف الأصل؛ فلا يصار إليه بلا دليل '' .
      والتفتازاني يقول هذا ترجيحاً للقول بأن النطق إنما هو شرط لإجراء الأحكام الظاهرة الدنيوية، وليس جزءاً من الإيمان ولا شطراً له -كما كان عليه مذهب الحنفية - ويستدل لذلك بحديث: { يخرج من النار من كان في قلبه ذرة من الإيمان } وهو من النصوص التي أساءوا فهمها، واستدلوا بها في غير موضعها، وأخذوا ببعض مدلولاتها وتركوا البعض الآخر، على ما سيأتي تفصيله.
      وهو ينقل عن شرح المواقف ''أن السجود للصنم بالاختيار يدل بظاهره على أنه ليس بمصدق، ونحن نحكم بالظاهر؛ فلذلك حكمنا بعدم إيمانه، حتى لو علم أنه لم يسجد له على سبيل التعظيم واعتقاد الألوهية، بل سجد له وقلبه مطمئن بالإيمان، لم يحكم بكفره فيما بينه وبين الله تعالى إن أجري عليه حكم الكافر في الظاهر'' .
      3- وقال السنوسي:
      '' وأما الكافر فذكره لهذه الكلمة -أي: كلمة الشهادة- واجب شرط في صحة إيمانه القلبي مع القدرة، وإن عجز عنها بعد حصول إيمانه القلبي لمفاجأة الموت ونحو ذلك سقط عنه الوجوب، وكان مؤمناً.
      هذا هو المشهور من مذاهب علماء أهل السنة .
      وقيل: لا يصح الإيمان بدونها مطلقاً، ولا فرق في ذلك بين المختار والعاجز، وقيل: يصح الإيمان بدونها مطلقاً، وإن كان التارك لها اختياراً عاصياً، كما في حق المؤمن بالأصالة إذا نطق بها ولم ينو الوجوب!!
      ومنشأ هذه الأقوال الثلاثة: الخلاف في هذه الكلمة؛ هل هي شرط في صحة الإيمان، أو جزء منه، أو ليست بشرط فيه ولا جزء منه، والأول هو المختار ''.
      وهنا قال شارح كلامه الدسوقي : ''حاصل ما ذكره الشارح أن الأقوال فيه ثلاثة:
      فقيل: إن النطق بالشهادتين شرط في صحته خارج عن ماهيته.
      وقيل: إنه شطر -أي: جزء من حقيقة الإيمان- فالإيمان مجموع التصديق القلبي والنطق بالشهادتين.
      وقيل: ليس شرطاً في صحته ولا جزءاً من مفهومه، بل هو شرط لإجراء الأحكام الدنيوية، وهو المعتمد!
      وعليه فمن صدق بقلبه ولم ينطق بالشهادتين سواء كان قادراً على النطق أو عاجزاً عنه فهو مؤمن عند الله يدخل الجنة، وإن كانت لا تجري عليه الأحكام الدنيوية من غسل وصلاة عليه ودفن في مقابر المسلمين ولا ترثه ورثته المسلمون، فقول الشارح هذا هو المشهور -أي: وجوب النطق وأنه شرط- غير مسلم، بل هذا ضعيف'' .
      ''...قوله: وقيل: لا يصح الإيمان بدونها مطلقاً؛ أي: سواء كان قادراً على النطق أو كان عاجزاً.
      وهذا القول منكر!! وليس مبنياً على القول بأن النطق شطر من الإيمان؛ لأن من قال بذلك شرط القدرة.
      وأما العاجز عن النطق لخرس ونحوه فيكفيه في صحة إيمانه عند الله التصديق القلبي '' .
      4- ويقول صاحب المسايرة على المسامرة في ذكر الخلاف في الإيمان:
      '' وأقوال الناس:
      1- القول بأن مسمى الإيمان هو التصديق فقط، هو المختار عند جمهور الأشاعرة، وبه قال الماتريدي.
      2- أن مسمى الإيمان: تصديق القلب والإقرار باللسان وعمل سائر الجوارح، فماهيته على هذا مركبة من أمور ثلاثة: إقرار باللسان , وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان، فمن أخل بشيء منها فهو كافر، وهذا هو قول الخوارج، ولذا كفروا بالذنب لانتفاء جزء الماهية .
      3- أن الإيمان: التصديق باللسان فقط، أي: الإقرار بحقية ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يأتي بكلمتي الشهادة، وهذا هو قول الكرامية، قالوا: فإن طابق تصديق اللسان تصديق القلب فهو مؤمن ناج، وإلا فهو مؤمن مخلد في النار.
      4- أن الإيمان: تصديق بالقلب واللسان...، وهو منقول عن أبي حنيفة ومشهور عن أصحابه وعن بعض المحققين من الأشاعرة.
      وذكر أنهم فرقوا بين التصديق والإقرار بأن التصديق ركن لا يحتمل السقوط أصلاً، والإقرار قد يحتمل - وذلك في حق العاجز عن النطق والمكره '' .
      ثم ذكر لهم دليلين:
      ''أ- أن هذا: هو الاحتياط بالنسبة إلى جعله شرطاً خارجاً عن حقيقة الإيمان.
      ب- أن النصوص الدالة عليه من نحو قوله عليه الصلاة والسلام.
      {أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقها وحسابه على الله} ''أخرجه الشيخان.
      قال: ''ويجاب من طرف جمهور الأشاعرة عن الحديث بأن معناه أن قول: لا إله إلا الله شرط لإجراء أحكام الإسلام، حيث رتب فيه على القول الكف عن الدم والمال، لا النجاة في الآخرة الذي هو محل النزاع'' .
      قال: ''على أن مِن محققي الحنفية من وافق الأشاعرة كما نبه عليه المصنف بقوله: [ إلا أن قول صاحب العمدة ] هو كما مر أبو البركات عبد الله بن محمد بن محمود النسفي، [ منهم ] أي: من الحنفية: [ الإيمان: التصديق، فمن صدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما جاء به ] عن الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى، والإقرار شرط إجراء الأحكام، [ هو ] أي: قول صاحب العمدة: [ بعينه القول المختار عند الأشاعرة ] تبع فيه صاحب العمدة أبا منصور الماتريدي '' .
      أي: فالحنفية المرجئة الفقهاء فريقان:
      فريق وافق الأشاعرة؛ وهم الماتريدي الذي ينتسب إليه من جاء بعده منهم.
      فريق ظل على المذهب القديم -ولو شكلاً- حيث أوله بعضهم بما يوافق مذهب الأشاعرة.
      ومذهب الفريق الأول هو الذي ساد أخيراً.
      5- ويجمع الشعراني أقوال كثير منهم في موضع واحد:
      حيث ينقل في كتابه اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر '' أن السبكي أورد سؤالاً وهو: أنه هل التلفظ بالإيمان الذي هو الشهادة شرط للإيمان أو شطر منه؟ فيه تردد للعلماء '' .
      قال الشعراني: ''قال الجلال المحلي: وكلام الغزالي يقتضي أنه ليس بشرط ولا شطر، وإنما هو واجب من واجباته'' .
      قال الكمال في حاشية جمع الجوامع: "وإيضاح ذلك أن يقال في التلفظ: هل هو شرط لإجراء أحكام المؤمنين في الدنيا من التوارث والمناكحة وغيرهما، فيكون غير داخل في مسمى الإيمان، أو شطر منه أو جزء من مسماه؟
      قال: والذي عليه جمهور المحققين الأول، وعليه فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه مع تمكنه من الإقرار كان مؤمناً عند الله تعالى.
      قال: وهذا أوفق باللغة والعرف!!
      وذهب شمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام البزدوي من الحنفية، وكثير من الفقهاء إلى الثاني.
      وألزمهم القائلون بالأول بأن من صدّق بقلبه فاخترمته المنية قبل اتساع وقت الإقرار كان كافراً وهو خلاف الإجماع - على ما نقله الإمام الرازي وغيره" .
      6- وقال البيجوري في شرح الجوهرة شرحاً لقوله: '' وفسر الإيمـان بالتصـديقِ            والنطق فيه الخلف بالتحقيقِ
      فقيل شرط كالعمل وقيل بل            شطر والإسلام اشرحن بالعمل
      قوله: والنطق فيه الخلف: أي: والنطق بالشهادتين للمتمكن منه، وخرج بالمتمكن -الذي هو القادر- الأخرس، فلا يطالب بالنطق، كمن اخترمته المنية قبل النطق من غير تراخٍ، فهو مؤمن عند الله، حتى على القول بأن النطق شرط صحة أو شطر، بخلاف من تمكن وفرط.
      وموضوع هذا الخلاف كافر أصلي يريد الدخول في الإسلام، وأما أولاد المسلمين فمؤمنون قطعاً، وتجري عليهم الأحكام الدنيوية، ولو لم ينطقوا بالشهادتين طول عمرهم''.
      قال: ''وقوله: شرط: أي: خارج عن ماهيته، وهذا القول لمحققي الأشاعرة والماتريدية ولغيرهم.
      وقد فهم الجمهور أن مرادهم أنه شرط لإجراء أحكام المؤمنين عليهم من التوارث، والتناكح، والصلاة خلفه وعليه، والدفن في مقابر المسلمين، ومطالبته بالصلوات والزكوات وغير ذلك؛ لأن التصديق القلبي -وإن كان إيماناً- إلا أنه باطن خفي، فلا بد له من علامة ظاهرة تدل عليه لتناط- أي: تعلق- به تلك الأحكام، فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه لا لعذر منعه ولا لإباء، بل اتفق له ذلك، فهو مؤمن عند الله غير مؤمن في الأحكام الدنيوية''.
      ''ومحل كونه مؤمناً في الأحكام الدنيوية ما لم يطلع على كفره بعلامة كالسجود لصنم، وإلا جرت عليه أحكام الكفر'' .
      قال: ''وفهم الأقل أن مرادهم أنه شرط لصحة الإيمان، وهذا القول كالشطرية في الحكم، وإنما الخلاف بينهما في العبارة، والقول الأول هو الراجح، والنصوص بحسب المتبادر منها مقوية للقول بالشرطية دون الشطرية.... ''.
      قال: ''قوله: وقيل بل شطر: أي وقال قوم محققون كالإمام أبي حنيفة وجماعة من الأشاعرة: ليس الإقرار بالشهادتين شرطاً بل هو شطر، فيكون الإيمان عند هؤلاء اسماً لعملي القلب واللسان جميعاً؛ وهما التصديق والإقرار.
      واعترض على هذا القول بأن الإيمان يوجد في المعذور كالأخرس، والشيء لا يوجد بدون شطره.
      وأجيب عن ذلك: بأنه ركن يحتمل السقوط كما فيمن ذكر، وأما التصديق فإنه ركن لا يحتمل السقوط.
      وعلى هذا القول -كالقول بأنه شرط صحة- فمن صدق بقلبه ولم يتفق له الإقرار في عمره لا مرة ولا أكثر من مرة، مع القدرة على ذلك، لا يكون مؤمناً عندنا ولا عند الله تعالى '' .
      قال: ''وكل من القولين المذكورين ضعيف، والمعتمد أنه شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط، وإلا فهو مؤمن عند الله كما مر '' .
      ويقول ملا علي القاري الحنفي: ''الإقرار شرط إجراء الأحكام وهو مختار الأشاعرة'' .
      ثم قال: ''وذهب جمهور المحققين إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وإنما الإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا؛ لما أن تصديق القلب أمر باطني لا بد له من علامة، فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه فهو مؤمن عند الله تعالى - وإن لم يكن مؤمناً في أحكام الدنيا. ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه كالمنافق، فهو بالعكس، وهذا اختيار الشيخ أبي منصور الماتريدي رحمه الله'' .
      7- ويقول اللقاني الشارح: ''وفسر الإيمان -أي حده- جمهور الأشاعرة والماتريدية وغيرهم بالتصديق المعهود شرعاً، وهو تصديق نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل ما علم مجيئه به من الدين بالضرورة؛ أي فيما اشتهر بين أهل الإسلام وصار العلم به يشابه العلم الحاصل بالضرورة، بحيث يعلمه العامة من غير افتقار إلى نظر واستدلال .
      فلو لم يصدق بوجوب الصلاة ونحوها عند السؤال عنه يكون كافراً.
      والمراد من تصديقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبول ما جاء به مع الرضا، بترك التكبر والعناد وبناء الأعمال عليه، لا مجرد وقوع نسبة الصدق إليه في القلب من غير إذعان وقبول له، حتى يلزم الحكم بإيمان كثير من الكفار الذين كانوا عالمين بحقيقة نبوته -عليه الصلاة والسلام- وما جاء به، لأنهم لم يكونوا أذعنوا لذلك ولا قبلوه ولا بنوا الأعمال الصالحة عليه...''.
      قال: ''ولما اختلف العلماء في جهة مدخلية النطق بالشهادتين في حقيقة الإيمان أشار له بقوله:
      [ والنطق ] بالشهادتين للمتمكن منه القادر، بأن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله...وقولنا: للمتمكن منه القادر يخرج به الأخرس، فلا يطالب بالنطق، كمن اخترمته المنية قبل النطق به من غير تراخٍ'' .
      '' (فيه) أي: في جهة اعتبار مدخليته في الإيمان، (الخلف) أي: الاختلاف ملتبساً، (بالتحقيق) أي: بالأدلة القائمة على دعوى كل من الفريقين''.
      وفصل الخلاف بقوله: '' (فقيل) أي: فقال محققو الأشاعرة والماتريدية وغيرهم: النطق من القادر (شرط) في إجراء أحكام المؤمنين الدنيوية عليه؛ لأن التصديق القلبي، وإن كان إيماناً، إلا أنه باطن خفي، فلا بد من علامة ظاهرة تدل عليه لتناط به تلك الأحكام، هذا فهم الجمهور.
      وعليه فمن صدق بقلبه ولم يقر بلسانه لا لعذر منعه ولا لإباء بل اتفق له ذلك، فهو مؤمن عند الله غير مؤمن في أحكام الشرع الدنيوية.
      ومن أقر بلسانه ولم يصدق بقلبه -كالمنافق- فبالعكس حتى نطلع على باطنه فنحكم بكفره.
      أما الآبي فكافر في الدارين، والمعذور مؤمن فيهما.
      وقيل: إنه شرط في صحة الإيمان وهو فهم الأقل، والنصوص معاضدة لهذا المذهب، كقوله تعالى: (( أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَان ))[المجادلة:22]وقوله عليه الصلاة والسلام: {اللهم ثبت قلبي على دينك} ''.
      ثم استمر في الشرح قائلاً:
      ''وقوله: [ كالعمل ] تشبيه في مطلق الشرطية، يعني أن المختار عند أهل السنة . في الأعمال الصالحة أنها شرط كمال للإيمان، فالتارك لها أو لبعضها من غير استحلال ولا عناد ولا شك في مشروعيتها مؤمن فوت على نفسه الكمال، والآتي بها ممتثلاً محصل لأكمل الخصال ''.
      ثم استدل الشارح على ذلك بوجوه فقال:
      '' 1- لأن الإيمان هو التصديق فقط، ولا دليل على نقله.
      2- وللنصوص الدالة على الأوامر والنواهي بعد إثبات الإيمان؛ كقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ))[البقرة:183] وعلى أن الإيمان والأعمال يتفارقان؛ كقوله تعالى: (( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ))[البقرة:25] وعلى أن الإيمان والمعاصي قد يجتمعان؛ كقوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ))[الأنعام:82].
      3- وللإجماع على أن الإيمان شرط للعبادات، والشرط مغاير للمشروط '' .
      ثم شرع في شرح القول الثاني:
      '' (وقيل) أي: وقال قوم محققون كالإمام أبي حنيفة وجماعة من الأشاعرة: ليس الإقرار شرطاً خارجاً عن حقيقة الإيمان، [ بل ] هو [ شطر ] أي: جزء منها وركن داخل فيها دون سائر الأعمال الصالحة فالإيمان عندهم اسم لعملي القلب واللسان جميعاً؛ وهما الإقرار والتصديق الجازم الذي ليس معه احتمال نقيض بالفعل ''.
      ''وعلى هذا فمن صدق بقلبه ولم يتفق له الإقرار في عمره ولا مرة -مع القدرة على ذلك- لا يكون مؤمناً ...ولا عند الله تعالى، ولا يستحق دخول الجنة ولا النجاة من الخلود في النار، بخلافه على القول الأول ''.
      قال: '' فعلم من النظم قولان:
      أحدهما: أن الإيمان هو التصديق، والنطق شرط لإجراء الأحكام الدنيوية على صاحبه، أو لصحته.
      والثاني: أن الإيمان هو التصديق والنطق، فالنطق شطر.
      وعلى هذين القولين العمل غير النطق شرط كمال.
      ومقابله يجعل مجموع العمل الصالح والنطق هو الإيمان '' .
      وزاد ذلك إيضاحاً حين شرح قول الناظم: '' [ والإسلام اشرحن بالعمل ]، فقال: والإسلام اشرحن حقيقته بالعمل الصالح، أعني: امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، والمراد الإذعان لتلك الأحكام وعدم ردها، سواء عملها أو لم يعملها!! .
      وشرح قوله في أركان الإسلام:
      مثال هذا الحج والصـلاة            كذا الصيام فادر والزكـاة
      والمراد إذعان المذكورات وتسليمها، وعدم مقابلتها بالرد والاستكبار '' .
    2. أقوال المعاصرين في حكم ترك العمل

      وبهذا يظهر للقارئ في كلامه وجوه من التناقض يطول شرحها وتفصيلها.
      وإن مما يظهر هذا التناقض وينفي احتمال الخطأ في فهم كلامه ما شرحه به المحقق محمد محيي الدين عبد الحميد، وها هي ذي نصوص منه:
      قال في بداية كلامه، بعد أن ذكر المذاهب في الإيمان ومنها مذهب السلف:
      '' والذي تطمئن إليه النفس من هذه المذاهب: أن الإيمان هو التصديق وحده، كما ذهب إليه محققو الأشاعرة والماتريدية، ويؤيد هذا المذهب وجوه:
      أحدها: وقد أشار إليه الشارع - أن استعمال القرآن الكريم في عدة آيات واستعمال الحديث أيضاً، جرياً على أن محل الإيمان هو القلب.
      قال الله تعالى: ((أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ))[المجادلة:22].
      وقال سبحانه: (( وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ))[الحجرات:14].
      وقال جل ذكره: ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ))[النحل:106].
      وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اللهم ثبت قلبي على دينك} فدلت هذه النصوص ونظائرها على أن الإيمان فعل القلب، وليس فعل القلب إلا التصديق.
      ولا يجوز لقائل أن يقول: إن المراد في هذه النصوص بالإيمان هو الإيمان اللغوي، ويسلم أن الإيمان اللغوي هو التصديق وحده ومحله القلب، فلا ينافي أن الإيمان الشرعي يشتمل على الإقرار أو غيره على أنه جزء من حقيقته؛ لأنا نقول: إن الإيمان من الألفاظ التي نقلت في عرف الشرع إلى معنى، فيجب أن يحمل لفظه على هذا المعنى في خطاب الشرع.
      * الوجه الثاني: أنه سبحانه جعل الإيمان شرطاً لصحة الأعمال في نحو قوله جل ذكره: ((وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ))[طه:112].
      ونحن نقطع أن الشرط شيء غير المشروط، وهذا يصلح للرد على من جعل الإيمان هو الطاعات وحدها أو مع التصديق والإقرار.
      * الوجه الثالث: أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أثبت الإيمان لمن ترك بعض الأعمال، في نحو قوله سبحانه:
      ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا...))[الحجرات:9] الآية.
      ولو كانت الأعمال جزءاً من حقيقة الإيمان لانتفت الحقيقة بانتفاء جزء منها.
      * الوجه الرابع: أنه سبحانه قد عطف الأعمال على الإيمان في كثير من الآيات، منها قوله تعالى:
      ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً))[الكهف:107].
      ولا شك أن الأصل أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه، فلا يعطف أحد المتساويين على الآخر، ولا يعطف جزء الشيء على كله؟! ''
      قال: '' وقد أورد القائلون بأن الطاعات من الإيمان وجوهاً استدلوا بها، نرى أن نذكرها لك أيضاً ونبين ما في الاستدلال بها من خلل لتكون على بصيرة تامة في هذه المسألة.
      قالوا: لو كان الإيمان عبارة عن التصديق الذي هو الإذعان والقبول والاعتراف لما اختلف في بعض المكلفين عنه في بعضهم الآخر، مع أنا نعتقد أن إيمان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس مثله إيمان أحد من العامة، بل ولا من الخاصة.
      ويجاب عن هذا بأحد جوابين:
      * الأول: أن ندعي أنه لا اختلاف بين إيمان أحد وأحد، وليس لنا إلا إيمان أو كفر، فإن بلغ ما عند المكلف إلى حد الجزم الذي لا يعتريه شك ولا تردد فهو مؤمن، وإن نقص عن ذلك فهو كافر.
      * والثاني: أن نسلم الاختلاف بين إيمان بعض المكلفين وبعضهم الآخر، لكن لا نسلم أن هذا الاختلاف بسبب أن أعمال بعض المكلفين أكثر أو أشد إخلاصاً أو نحو ذلك، بل سبب الاختلاف راجع إلى التصديق لا باعتبار ذاته، بل باعتبار متعلقه؛ فقد يعلم بعض المكلفين تفصيل شيء مما يجب الإيمان به أكثر مما يعلمه آخر، أو سبب الاختلاف هو أن بعض المكلفين تعتريه الغفلة أحياناً وبعضهم لا تعتريه الغفلة أصلاً، أو غير ذلك من الأسباب '' .
      وقال في شرح الوجوه التي استدل بها الشارح وهي:
      1- أن الإيمان هو التصديق فقط، ولا دليل على نقله.
      2- وللنصوص الدالة على الأوامر والنواهي بعد إثبات.
      قال:
      '' 1- محصله -أي: الوجوه- أن الإيمان هو التصديق القلبي، بدليل أن نصوص القرآن والحديث قد جعلت محله القلب، وليس لنا أن ندعي أنه نقل من هذا المعنى إلى مجموع التصديق والعمل -كما يقول المحدثون وجمهور المعتزلة- فإنه لا دليل على هذا النقل، وأيضاً ليس لنا أن ندعي أن الإيمان في هذه النصوص لا يراد به الإيمان عند الشرع وإنما يراد به الإيمان اللغوي؛ لأن لفظ الإيمان قد نقلته الشريعة من مطلق التصديق إلى التصديق بكل ما علم مجيء الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به؛ إذ يجب في نصوص الشريعة أن تحمل الألفاظ على معانيها الشرعية التي نقلت إليها، ومتى علم كل هذا كان الإيمان الوارد في النصوص دالاً على معنى شرعي، وهذا المعنى هو التصديق المخصوص دون شيء زائد عليه ''
      ''2- محصل هذا الوجه من الاستدلال على أن العمل ليس جزءاً من الإيمان - أن الله تعالى جعلهم مؤمنين قبل أن يكتب عليهم الصيام، فلو كان العمل جزءاً من حقيقة الإيمان، والصيام بعض العمل، لما كانوا مؤمنين إلا بعد القيام بكل الأعمال التي منها الصوم.
      وقد قيل من طرف المخالفين: إنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سماهم مؤمنين بالنظر إلى الأعمال التي شرعت قبل الصوم، وهو كلام غير مقبول؛ لأن الأعمال المأخوذة في مفهوم الإيمان عندهم هي كل الأعمال التي شرعها الله تعالى، فإذا خرج واحد منها خرج كلها؛ إذ لا فرق بين عمل وعمل'' .
      هذا الكلام الذي قرره المعلق هنا والذي سيأتي نقضه جملة -بإذن الله- هو ما ظل يقرره ويدرسه لطلاب كلية أصول الدين بالأزهر سنوات طويلة!!
      وننتقل من محمد محيي الدين عبد الحميد إلى داعية ومؤلف معاصر، سار على الخط نفسه مع زيادة في الغموض والاضطراب.
      يقول بعنوان: مفهوم الإيمان والإسلام شرعاً:
      ''يهمنا أن ندرك معنى الإيمان والإسلام والارتباط بينهما، فالإيمان هو: التصديق الجازم بكل ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وثبت ثبوتاً قطعياً، وعُلم مجيئه من الدين بالضرورة؛ كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر خيره وشره.
      وكالإيمان بفرضية الصلاة والزكاة والصيام والحج، والإيمان بتحريم القتل ظلماً للنفس المعصومة، وتحريم الزنا والربا وغيرها.
      والإيمان بهذا المعنى محله القلب، والإسلام بالمعنى الآتي لازم له.
      أما الإسلام فمعناه الإذعان والخضوع النفسي والاطمئنان القلبي، والشعور بالرضا بالنسبة لكل ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من دين، وعلم مجيئه عنه بالضرورة؛ أي بدون احتياج إلى سؤال أو كشف وبحث لشهرته بين المسلمين، ويلاحظ أن الإسلام بالمعنى المذكور هو حالة نفسية وقلبية مثل الإيمان، والفرق بينهما أن الإيمان تصديق جازم بما سبق، وأن الإسلام رضاء قلبي، وعدم اعتراض على أي تشريع شرعه الله تعالى وعلم بالضرورة.
      وأنت قد تصدق بوجود شيء ولا ترضاه، وكم سمعنا من يقول: أنا أؤمن بأن الإسلام فرض الصلاة والزكاة، ولكني غير مقتنع بهما ولا بالحكم المترتبة عليهما.
      فهذا الاعتراض يجعله غير مسلم؛ لأن عنصر الخضوع والإذعان غير متوفر، وهذا يجعلنا نشك في إيمانه، لأنه لو صدق بالله وبحكمته وعلمه ورحمته لأسلم نفسه ورضي كل ما ارتضاه الله؛ لذلك قلنا: إن الإيمان الصادق يلزم منه الإسلام بالمعنى السابق ''.
      '' ...بقي العمل بالتشريعات الإسلامية، مثل: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وجميع الفرائض، والبعد عما حرم الله ونهى عنه.
      هل لا بد من تنفيذ الفرائض الإسلامية وترك المحرمات مع الإذعان السابق ليصير المرء مسلماً، أم يكفي الإذعان في إطلاق اسم الإسلام على الإنسان؟
      هما رأيان للعلماء: فالجمهور على أن تنفيذ أوامر الإسلام، والعمل بما جاء به ليس شرطاً ولا ركناً في جواز إطلاق اسم الإسلام على الإنسان، وبعض العلماء يرى: أن العمل وتنفيذ أوامر الإسلام وأركانه شرط في صحة الإسلام، أو ركن من أركانه، فمن أسلم وأذعن بقلبه ولم يعمل الأعمال الإسلامية مثل الصلاة وغيرها فليس بمسلم.
      وعلى الرأي القائل بأن من أذعن بقلبه ولم يعمل أعمال الإسلام فهو مسلم -وهو رأي الجمهور- فإن هذا الإنسان عند القائلين بهذا الرأي يعتبر فاسقاً وعاصياً، فيطلقون عليه اسم: المسلم الفاسق، والمسلم العاصي، والمسلم المذنب، وتقام عليه حدود الإسلام التي شرعها زجراً وتأديباً لمن ترك فرضاً أو فعل منكراً، فافهم ذلك جيداً.
      وهذا المسلم الفاسق أمره إلى الله في الآخرة؛ إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه بجريمته، ولكن مآله الجنة، إن كان قد مات على الإيمان والإسلام، وهذا هو رأي أهل السنة، قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))[النساء:48].
      والإسلام بهذا المعنى محله ظاهر الإنسان وباطنه؛ لأن الإذعان بالدين والرضا به أمر باطني، والخضوع لأحكامه أمر ظاهري، وعلى هذا فالإسلام أعم من الإيمان، والإيمان أخص من الإسلام، والإيمان باطني فقط، والإسلام ظاهري وباطني.
      ونحن نحكم على الناس بالإسلام حين يكونون مذعنين ظاهراً لأحكام الله، غير رافضين لها، بمعنى أن أعمالهم وأقوالهم وتصرفاتهم لا تدل على رفضها وعدم الإذعان لها، أما بواطنهم فلا يعلمها إلا الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، ولذلك فضح الله تعالى أناساً أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر في قوله تعالى: ((قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ))[الحجرات:14] '' .
      ثم قال ملخصاً:
      '' وحسبما فهمت من معنى الإيمان والإسلام ندرك أن بين الإيمان والإسلام -حسب الحقيقة الشرعية المنجية- تلازماً، مقتضاه: أن كل مؤمن مسلم، وكل مسلم مؤمن؛ لأن المصدق التصديق المذكور للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بد من أن يكون خاضعاً لما جاء به عليه السلام، والخاضع هذا الخضوع لا بد من أن يكون مصدقاً هذا التصديق ''
      '' ولذلك ذكر الإيمان والإسلام في القرآن بمعنى واحد في قوله تعالى:
      (( فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ))[الذاريات:35-36] . ''
      ثم قال المؤلف بعنوان:
      '' حكم النطق بالشهادتين:
      الشهادتان هما: [ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ]، والنطق بهما شرط لإجراء الأحكام الدنيوية على المسلم؛ مثل تزويجه المسلمة، والصلاة خلفه، والصلاة عليه إذا مات، ودفنه في مقابر المسلمين، فإذا لم ينطق لعذر كالخرس، أو لم يتمكن من النطق بهما بأن مات عقب إيمانه بقلبه - فهو ناج عند الله تعالى.
      أما إذا استطاع النطق ووجد وقتاً كافياً ولم ينطق بالشهادتين؛ فإن كان عدم النطق عناداً فهو كفر، ولا عبرة بالتصديق القلبي، أما إذا كان عدم النطق لخوفه من الهلاك فالإيمان صحيح، لقوله تعالى:
      ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ))[النحل:106].
      أما من لم ينطق بالشهادتين لغير سبب من الأسباب، ولكنه مصدق بقلبه ومطمئن إلى دين الله وأحكامه، فالقول الراجح أنه ناج عند الله، وإن كان لا يعامل معاملة المسلمين لعدم العلم بإيمانه، وعدم الدليل عليه، وهذا كله فيمن يريد الدخول في الإسلام، أما أولاد المؤمنين فهم مؤمنون، وإن لم يحصل منهم نطق بالشهادتين إلا إذا ظهر منهم ما يتنافى مع الإيمان '' .
      ويقول مؤلف معاصر آخر:
      '' فالإسلام إذن: استسلام بالكيان الظاهري للإنسان، يتوقف عليه جريان أحكام الإسلام في الدنيا؛ من إحراز للدم وحل للمناكحة وشرعية التوارث.
      أما الإيمان: فهو التصديق القلبي بكل ذلك، بحيث لا يبقى أي شك في النفس يتعلق بشيء مما ذكرناه من حقائق الإسلام، ويتوقف عليه النجاة يوم القيامة بين يدي الله عز وجل.
      ويتضح من ذلك أن الإنسان لا تجري عليه أحكام الإسلام في كل من الدنيا والآخرة معاً إلا إذا اتصف بكل من الإسلام والإيمان، وذلك بأن يذعن بقلبه ويعترف بلسانه.
      ومهما نطق الإنسان بالشهادتين فإن ذلك لا يغنيه في الحقيقة شيئاً ما لم يصدق ويذعن بذلك في قرارة قلبه، وإنما تجري أحكام الدنيا على الظاهر فقط لعدم إمكان اطلاعنا على الباطن، وحملاً للسان على محمل الصدق في الكلام.
      إلا أنه قد وقع الخلاف بين الأمة فيما إذا كان الرجل مؤمناً بقلبه فقط، هل ينجيه ذلك يوم القيامة أم لا يكتفى منه بذلك حتى يقر ويعترف بلسانه أيضاً؟
      نقل النووي عن جمع من العلماء أن اليقين القلبي وحده لا يكفي للنجاة يوم القيامة إذا كان بالإمكان الإقرار والتلفظ باللسان.
      ورجح ابن حجر في شرحه على الأربعين النووية ما ذهب إليه جمهور الأشاعرة وبعض محققي الحنفية من أن الإقرار باللسان إنما هو شرط لإجراء أحكام الدنيا فقط، أما يوم القيامة فيكفيه اليقين القلبي!! ''
      وهكذا يتفق قدماء القوم ومعاصروهم على هذا الأصل الخطير الذي سوف نوضح مخالفته التامة للحق في الباب الآتي.
  17. الباب الرابع علاقة الإيمان بالعمل والظاهر بالباطن

    الباب الرابع علاقة الإيمان بالعمل والظاهر بالباطن ويشتمل على: العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله أهمية عمل القلب إثبات عمل القلب نماذج من أعمال القلوب أثر الجوارح في أعمال القلب
  18. العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح

    إن العلاقة بين إيمان القلب وإيمان الجوارح لَمِن أهم قضايا الإيمان ومن عدم فهمها دخل الضلال على المرجئة بل على أكثر المسلمين؛ حيث ظنوا أنه يمكن أن يكون إنسان كامل الإيمان في القلب مع عَدمِ عمل الجوارح مطلقاً، كما ظنوا أن تماثل الناس في أعمال الجوارح يقتضي تماثل إيمانهم وأجورهم، ولم يدركوا أنه بحسب علاقة عمل الجارحة بعمل القلب يكون الحكم على العمل والثواب عليه؛ فقد يتفق العملان في المظهر والأداء وبينهما مثل ما بين السماء والأرض في الدرجة والأجر.
    1. حقيقة الترابط بين أجزاء الإيمان

      وأساس فهم هذه القضية أن نعلم حقيقة الترابط بين أجزاء الإيمان على ضوء مذهب السلف.
      فقد قررنا أن الإيمان قول وعمل، وأن ذلك يشمل القلب والجوارح معاً، وتفصيل ذلك يتضح بهذا الشكل المبسط:
      1- القول :
      أ- إقرار القلب وتصديقه :- الإيمان المجمل.
      ب- إقرار اللسان وتصديقه:- شهادة أن لا إله إلا الله.
      2- العمل :
      أ- انقياد القلب وإذعانه :- بتحقيق أعمال القلوب.
      ب- انقياد الجوارح وامتثالها :- بفعل الأوامر وترك النواهي.
      فهذان الركنان -القول والعمل- أو الأربعة الأجزاء -قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح- يتركب منهما هيئة مجتمعة أو حقيقة جامعة لأمور وهذه الهيئة والحقيقة هي: الإيمان الشرعي، كما أن حقيقة الإنسان مركبة من الجسد والروح أو العقل والوجدان، وكما أن الشجرة تتركب من الجذور الضاربة في الأرض والساق والأغصان الظاهرة.
      ومما يوضح ذلك تشبيه تركيب الإيمان بالتركيب الكيميائي؛ مثلما يتركب الملح مثلاً من الكلور والصوديوم، أو يتركب جزيء الماء من ذرتي هيدروجين وذرة أكسجين، بحيث لو انتفى التركيب لانتفت الحقيقة مطلقاً، وتحولت الأجزاء إلى أشياء مختلفة تماماً.
      ولكن لا يقف التركيب عند هذا الحد بل يجب أن نضيف إليه أن هذه الأجزاء أو الهيئة المركبة تتكون تفصيلاً من بضع وسبعين شعبة، وكل شعبة منها قابلة للتفاوت، بين أعلى درجات الكمال وأدنى درجات النقص، أو الاضمحلال والعدم.
      وبهذا نفهم اندراج كل الأعمال والطاعات فرضاً أو نفلاً في مسمى الإيمان المطلق ودخولها في حقيقته الجامعة، وكما يظهر تفاوت الناس في الإيمان ودرجاته، ومن أظهر الأدلة على هذا التركيب والامتزاج، أنه قد وردت النصوص بتسمية الإيمان عملاً وتسمية العمل إيماناً: فأما تسمية الأعمال إيماناً فنصوص كثيرة جداً، حتى إن البخاري رحمه الله عقد في كتاب الإيمان من الصحيح تراجم كثيرة لذلك؛ مثل '' باب الجهاد من الإيمان، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان، باب صوم رمضان من الإيمان، باب الصلاة من الإيمان، باب اتباع الجنائز من الإيمان...'' ونحو ذلك، وأورد في ذلك الأحاديث الصحيحة التي شاركه في إخراجها كتب السنة الأخرى.
      وأما تسمية الإيمان عملاً فقد عقد أيضاً له '' باب من قال: إن الإيمان هو العمل لقوله تعالى:
      ((وتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ))[الزخرف:72].
      وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى:
      ((فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ))[الحجر:92-93]. عن قول لا إله إلا الله.
      وقال: ((لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ))[الصافات:61] '' .
      ثم روى البخاري بسنده عن أبي هريرة {أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئل: أي العمل أفضل؟
      فقال: إيمان بالله ورسوله، وقيل: ثم ماذا؟
      قال: الجهاد في سبيل الله، وقيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور
      }
      وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن عبيد الله بن أسلم مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن عبد الله بن حبشي الخثعمي ورواه أبو داود الطيالسي عن أبي هريرة أيضاً، ورواه غيرهم عن أبي ذر
      ومن ذلك قوله تعالى: ((ومَا أَمْوَالُكُمْ ولا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ))[سبأ:37]
      فقوله: (بما عملوا) يشمل إيمانهم بقلوبهم وأعمالهم الصالحة بجوارحهم المذكورين قبل .
      وهذا ما فهمه السلف الصالح وأجمعوا على معناه -كما سبق في فصل حقيقة الإيمان الشرعية- وقال الوليد بن مسلم: ''سمعت الأوزاعي ومالك بن أنس وسعيد بن عبد العزيز ينكرون قول من يقول: إن الإيمان قول بلا عمل. ويقولون: لا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بإيمان'' .
      وقد سبق إيراد قول الإمام الأوزاعي رحمه الله: ''كان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان، والإيمان من العمل، وإنما الإيمان اسم يجمع كما يجمع هذه الأديان اسمها ويصدقه العمل'' وقول الشافعي رحمه الله: ''وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ أحد الثلاثة إلا بالآخر'' .
    2. أمثلة على أعمال الجوارح والقلوب

      ولنوضح ذلك بمثالين: أحدهما من أعمال الجوارح والآخر من أعمال القلوب؛ يظهر في كل منهما حقيقة العلاقة التلازمية وحقيقة التفاوت:
      1- الصلاة:
      وهي من أعمال الجوارح وقد ورد تسميتها إيماناً في القرآن، قال تعالى: ((ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ))[البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس وهي بلا ريب أعظم شعب الإيمان العملية الظاهرة بعد الشهادتين فلو تأملنا لوجدنا أنها تشمل أجزاء الإيمان الأربعة؛ وهي: قول القلب وهو: إقراره وتصديقه بوجوبها، وعمل القلب وهو: الانقياد والإذعان بالإرادة الجازمة، وتحريك الجوارح لفعلها والنية حال أدائها، وعمل اللسان وهو: القراءة والأذكار الواردة فيها، وعمل الجوارح وهو: القيام والركوع والسجود وغيرها.
      2- الحياء:
      وهو عمل قلبي، وقد صح تسميته إيماناً في حديث الشعب وغيره، ومع ذلك فلا يمكن تصور وجوده في القلب إلا بظهور أثره على اللسان والجوارح وبمقدار حياة الجوارح يقاس حياة القلب.
      وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة منها في الأفعال: قصة الثلاثة الذين دخلوا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في الحلقة، فدخل أحدهم فيها، وأعرض الثالث وأما الأوسط فتردد ثم جلس خلفهم، فقال عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وأما الآخر فاستحيا، فاستحيا الله منه} أي: إنما منعه من الذهاب حياؤه، فشهد له الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحياء بناءً على فعله، فلو أنه ذهب لقال فيه ما قال فيمن ذهب.
      وأما الحياء في القول، فمنه قول علي رضي الله عنه: { كنت رجلاً مذاء، فاستحييت أن أسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله ...} فما في قلب علي رضي الله عنه من الحياء منعه من السؤال بنفسه، وهذا مما يعلمه كل إنسان في نفسه؛ أي: متى يستحي وممن يستحي بحسب ما في قلبه.
      ثم يأتي بعد هذا مسألة التفاوت في الصلاة والتفاوت في الحياء؛ فصلاة يقترن بها الخشوع وحضور القلب وحسن الأداء، لا تكون كأخرى منقورة نقر الغراب، وكذلك حياء مقرون به زيادة التقوى وحسن السمت وورع اللسان لا يكون كحياء رجل ليس لديه إلا ما يمسكه عما يفعله أو يقوله من لا حياء له.
      ومثل هذا التفاوت هو الواقع في الإيمان كله، بحسب كمال الشعب جميعها أو كمال بعضها دون بعض، أو فقدان بعضها بالكلية.
      هذا في الأفعال والحال في التروك كذلك، فلنمثل لها أيضاً بمثالين:
      1- ترك الزنا:
      وهو عمل الجارحة، وهو من الإيمان بدليل نفي الشارع الإيمان عمن فعله، وهو يشمل قول القلب؛ أي: الإقرار بحرمته وتصديق الشارع في ذلك، وعمل القلب وهو: الانقياد والإذعان بالكره والنفور، والإرادة الجازمة لإمساك الجوارح عنه، وعمل الجوارح؛ وهو: الكف عن فعله ومقدماته.
      فمن ارتكب هذه الفاحشة بجوارحه فإن عمل قلبه مفقود بلا شك - خاصة حين الفعل لأن الإرادة الجازمة على الترك يستحيل معها وقوع الفعل، فمن هنا نفى الشارع عنه الإيمان تلك اللحظة: { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } لكن وجود قول القلب عنده منع من الحكم بخروجه من الإيمان كله خلافاً للخوارج، فلو أظهر ما يدل على انتفاء إيمان القلب واستحلاله له؛ لكان خارجاً من الملة عند أهل السنة والجماعة، أما مجرد الفعل فإنما يدل على انتفاء عمل القلب لا قوله.
      2- ترك الحسد:
      وهو من أعمال القلب وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا يجتمع والإيمان في قلب فلا يتصور خلو القلب من الحسد مع وجود آثاره ودلائله على الجوارح، كما لا يستطيع أحد أن يدعي أن فلاناً حسود مع عجزه عن الإتيان بدليل ظاهر من عمله.
      وقد أخبرنا الله تعالى عن إخوة يوسف وما صنعوا بأخيهم حسداً له على مكانته من أبيه، ومن المحال أن يصدر منهم هذا مع خلو قلوبهم من الحسد؛ إذ إن أعمال الجوارح إنما هي تنفيذ وتحقيق لإرادة القلب الجازمة، فوجودها في الحالة السوية -أي: حالة عدم الإكراه ونحوه- يقطع بوجود أصلها القلبي.
      وهذا بخلاف اتهام المنافقين للصحابة رضي الله عنهم الذي أخبر الله عنه بقوله:
      ((فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا))[الفتح:15].
      لأن المنافقين ادعوا أن مانع المؤمنين من استصحابهم إياهم إلى المغانم هو الحسد، وهي تهمة لم يأتوا عليها بدليل إلا المنع نفسه، والله تعالى أمر المؤمنين أن يقولوا لهم:
      ((لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ))[الفتح:15].
      فهذا سبب المنع، فإذا اتهمهم أولئك بعد هذا بالحسد لم يكن لهذا الاتهام موقع.
      والمقصود: أنه مع عدم حصول أي دليل أو إشارة للحسد في أعمال أي إنسان لا يصح ولا يقبل من أحد أن يدعي أن قلبه مملوء حسداً، وهذا يعرفه الناس جميعاً -المرجئة وغيرهم- في سائر أعمال القلوب، لكن المرجئة تناقض هذا فيما هو أعظم وأهم، فتزعم أنه يمكن أن يكون القلب مملوءاً بالإيمان ولا يظهر من ذلك على الجوارح شيء! بل تزعم وجوده في القلب مع أن أعمال الجوارح كلها بخلافه، في حين أنها لا تصدق أن إنساناً سليم القلب من الحسد إذا كانت أعماله كلها دالة عليه.
      نعم، أعمال القلوب هي الأصل، وإيمان القلب هو الأصل، وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { التقوى هاهنا } وقال: { إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب } ونحو ذلك مما سبق أو سيأتي من النصوص.
      ولهذا تحصل حالة شاذة خفية؛ وهي: أن يضعف إيمان القلب ضعفاً لا يبقى معه قدرة على تحريك الجوارح لعمل خير، مثله مثل المريض الفاقد الحركة والإحساس، إلا أن في قلبه نبضاً لا يستطيع الأطباء معه الحكم بوفاته -مع أنه ميئوس من شفائه- فهو ظاهراً في حكم الميت وباطناً لديه هذا القدر الضئيل من الحياة الذي لا حركة معه، وهذه هي حالة الجهنميين الذين يخرجهم الله من النار، مع أنهم لم يعملوا خيراً قط، وسيأتي تفصيل الحديث عن هذه الحالة وإنما أشرت إليها هنا ليسلم لنا تصور الأصل، حتى إذا تم إيضاحه عرجنا على الحالات الشاذة.
      ولقد وصل الشذوذ بـالمرجئة الغالية -كـالأشاعرة ومن حذا حذوهم- إلى حد القول بأن لا إله إلا الله باللسان ليس شرطاً في الإيمان عندهم، بل قالوا: يكفي حصول الإيمان في القلب لنجاة صاحبه عند الله، وأما أحكام الدنيا فإنما جعلت الشهادتان أمارة على ما في القلب لنحكم على قائلها بالإيمان، وهذا هو الغاية من الشهادتين عندهم، وليس لهم على هذا من شبهة إلا شبهة أن الإيمان محله كله القلب وأن ما يظهر على الجوارح مجرد أمارات وثمرات -على ما سبق تفصيله في بابه- وافترضوا تبعاً لذلك من المسائل التي تحيلها العقول الشيء الكثير.
      فالقوم لما خفيت عليهم حقيقة الإيمان الجامعة وترابط أجزائه المحكم، وقعوا في هذه الغلطة الكبرى، التي كان لانتشارها من الآثار المدمرة في الأمة الإسلامية ما تنوء بشرحه المجلدات، وحسبك ما وقعت فيه الأمة من شرك أكبر -قديماً وحديثاً- وهي تحسب أنها في ذروة الإيمان؛ لأن القلب مصدق للرسول واللسان ناطق بأن لا إله إلا الله!!
      ومن هنا كان لزاماً علينا إيضاح الدلائل القاطعة لـأهل السنة والجماعة على أن للقلب أعمالاً سوى التصديق ينخرم الإيمان بانخرامها، وقبل ذلك نبين أهمية قول: لا إله إلا الله، وعلاقة سائر الأقوال المتعبد بها بإيمان القلب؛ تلك العلاقة التي هي علاقة امتزاج وتركيب، ولهذا لم يوجد في مذهب أهل السنة أبداً استخدام عبارة (مؤمن باطناً، وكافر ظاهراً) ولا إمكان وجود ذلك.
  19. علاقة قول اللسان بقول القلب وعمله

    سبق تقرير القول أن الإيمان عند المرجئة مثله مثل أية نظرية فلسفية أو مقولة ذهنية، متى بلغت إنساناً فصدق بها حصل المطلوب،فإذا زاد على ذلك بأن أخبر بلسانه عما في قلبه فقال: صدقت أو أقررت؛ فقد تم المراد ظاهراً وباطناً.
    ومن ثَم اعتقدوا أن قول: لا إله إلا الله، إنما هو إخبار عما في القلب من تصديق -إذ لا يثبتون من أعمال القلب سوى التصديق- فمتى تلفظ بها عندهم فقد أصبح مؤمناً باطناً وظاهراً، بخلاف ما لو امتنع عن قولها فإنه عند من يكفره منهم كافر ظاهراً مع جواز كونه مؤمناً باطناً، وكذلك متى ارتكب فعلاً مكفراً قالوا: يكفر ظاهراً فقط وأما من ورد الوحي بنفي الإيمان عنه لارتكابه فعلاً مكفراً كإبليس، أو امتناعه عن الشهاديتن كاليهود فقالوا: هذا ليس في قلبه تصديق أصلاً.
    وفي هذا القول من المغالطات والمكابرة ما لا يخفى، والمراد هنا بيان غلطهم في اعتبار قول: لا إلا إله الله، إخبار مجرد.
    وذلك أنه إذا تقرر أن المطلوب من القلب ليس مجرد التصديق بل هو أعمال عظيمة -نذكر طرفاً منها عما قليل- فإن قول اللسان لا يبقى خبراً مجرداً، بل يصبح إنشاءً للالتزام وإعلاناً له ومن ثم كان لا بد أن يصدق العمل ذلك الالتزام أو يكذبه.
    وإنما حصل الإخبار المجرد من بعض أحبار اليهود ومن بعض كفار قريش، حيث ثبت إقرارهم برسالة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخباراً عما في نفوسهم من اعتقاد صدقه في كل ما يقول ولم يثبت لهم ذلك إسلاماً قط.
    ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال: إن حبرين من أحبار اليهود, قال أحدهما للآخر: تعال نذهب إلى هذا النبي ونسأله فقال له صاحبه: لا تقل إنه نبي فإنه إن بلغه ذلك يكن له أربعة أعين، فذهبا إليه وقالا: يا محمد أخبرنا عن التسع آيات التي أعطاها الله سبحانه وتعالى موسى وهارون, فقرأ عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)) [الأنعام:151] فلما قرأ ذلك, قالا: نشهد أنك نبي، وأرادا أن ينصرفا، فقال صلى الله عليه وسلم ما يمنعكما أن تتبعاني قالا: إن الله قد أخذ علينا العهد أن لا يزال من ذرية داود نبي وإنا نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود } .
    قال شَيْخ الإِسْلامِ في معرض رده على المرجئة: ''وأيضاً فقد جاء نفر من اليهود إلى النبي فقالوا: نشهد أنك رسول، ولم يكونوا مسلمين بذلك؛ لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم، أي نعلم ونجزم أنك رسول الله، قال: فلم لا تتبعوني؟
    قالوا: نخاف من اليهود، فعلم أن مجرد العلم والإخبار -أي: عن العلم- ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم '' . .
    وإنما ''اتفق المسلمون على أن من لم يأت بالشهادتين فهو كافر '' .
    وأن ''من صدق بقلبه ولم يتكلم بلسانه فإنه لا يعلق به شيء من أحكام الإيمان -لا في الدنيا ولا في الآخرة- ولا يدخل في خطاب الله لعباده بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) '' لأنه من حيث البديهة والعقل '' نعلم أن من آمن بقلبه إيماناً جازماً امتنع ألا يتكلم بالشهادتين مع القدرة، فعدم الشهادتين مع القدرة مستلزم انتفاء الإيمان القلبي التام '' .
    ويقول شَيْخ الإِسْلامِ في بيان هذه العلاقة: ''ونظير هذا لو قيل: إن رجلاً من أهل السنة قيل له: ترضّ عن أبي بكر وعمر، فامتنع عن ذلك حتى قتل، مع محبته لهما واعتقاد فضلهما ومع عدم الأعذار المانعة من الترضي عنهما فهذا لا يقع قط، وكذلك لو قيل: إن رجلاً يشهد أن محمداً رسول الله باطناً وظاهراً، وقد طلب منه ذلك وليس هناك رهبة ولا رغبة يمتنع لأجلها، فامتنع منها حتى قتل، فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهد أن محمداً رسول الله، ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف من الأولين والآخرين إلا الجهمية -جهماً ومن وافقه- ( وهم الأشاعرة كما ذكر قبل ذلك في أول الفصل ''.
    وقال: ''فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين، وهو كافر باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها، وذهبت طائفة من المرجئة -وهم جهمية المرجئة كـالجهم والصالحي وأتباعهما- ( وهم من ذكرنا ) إلى أنه إذا كان مصدقاً بقلبه كان كافراً في الظاهر دون الباطن، وقد تقدم التنبيه على أصل هذا القول وهو قول مبتدع في الإسلام لم يقله أحد من الائمة وقد تقدم أن الإيمان الباطن يستلزم الإقرار الظاهر بل وغيره، وأن وجود الإيمان الباطن تصديقاً وحباً بدون الإقرار الظاهر ممتنع'' .
    فإذا تبين أن قول: لا إله إلا الله إنشاء للالتزام بقول القلب وعمله وتحقيقهما، فلنوضح هذه القضية المهمة قائلين:
    إن قول القلب: هو متعلق التوحيد الخبري الاعتقادي.
    وعمل القلب: هو متعلق التوحيد الطلبي الإرادي.
    فإن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر يتضمن: توحيد الأسماء والصفات، وتصديق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل ما أخبر عن ربه من الكتب وما فيها والملائكة وأعمالهم وصفاتهم والنبيين ودعوتهم وأخبارهم، وأحوال البرزخ والآخرة والمقادير وسائر المغيبات.
    فالإقرار بهذا والتصديق به مجملاً أو مفصلاً هو قول القلب وهو التوحيد الخبري الاعتقادي.
    وعمل القلب -الذي سيأتي تفصيل طرف منه في البحث التالي- يتضمن: توحيد الله عز وجل بعبادته وحده حباً وخوفاً ورجاءً ورغبةً ورهبةً وإنابةً وتوكلاً وخشوعاً واستعانةً ودعاءً وإجلالاً وتعظيماً وانقياداً وتسليماً لأمره الكوني وأمره الشرعي ورضاً بحكمه القدري والشرعي وسائر أنواع العبادة التي صرفها لغير الله شرك.
    وهذان هما نوعا التوحيد الذي جاءت به الرسل وأنزل الله به الكتب وشهادة أن لا إله إلا الله، التي هي رأس الأعمال الظاهرة وأول واجب على العبد إنما هي إنشاء للالتزام بهذين النوعين ومن ثَم سميت كلمة التوحيد، ومن هنا كان أجهل الناس بالتوحيد من ظن أن المطلوب بقول: لا إله إلا الله، هو التلفظ بها باللسان فقط.
    وقد سبق في فصل حقيقة النفس الإنسانية ما يدل على أن كل عمل من أعمال الإنسان الظاهرة -على اللسان أو الجوارح- لا بد أن يكون تعبيراً عما في القلب وتحقيقاً له ومظهراً لإراداته، وإلا كان صاحبه منافقاً النفاق الشرعي أو العرفي، وأخص من ذلك العبادات، فكل عبادة قولية وفعلية لا بد أن يقترن بها من عمل القلب ما يفرق بينها وبين أفعال الجمادات أو الحركات اللاإرادية أو أفعال المنافقين.
    فما بالك برأس العبادات وأعظمها، بل أعظم شيء في الوجود، الذي يرجح بالسماوات والأرض وعامرهن غير الله تعالى؛ وهو شهادة أن لا إله إلا الله؟!
    ولهذا يتفاوت قائلو، هذه الكلمة تفاوتاً عظيماً بحسب تفاوت ما في قلوبهم من التوحيد.
    فلولا تفاوت أقوال القلوب وأعمالها -ولو أن المراد من كلمة الشهادة هو نطقها- لَمَا كان لِمُوَحدٍ فضل على مُوَحدٍ، ولما كان لصاحب البطاقة -الآتي حديثه- فضل على سواه من قائليها، ولما كان لقائلها باللسان فضل على قائلها بالقلب واللسان، ولما كان لمن قالها من خيار الصحابة السابقين فضل على من قالها يتعوذ بها من السيف في المعركة.
    وانظر إلى هذا الحوار بين العزيز الحكيم وبين عبده موسى الكليم؛ حيث: {قال موسى: يا رب علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال: كل عبادك يقولون هذا!! -زاد في رواية: إنما أريد أن تخصني به- قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع -وعامرهن غيري- والأرضون السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله
    فكل المسلمين يقولون: ( لا إله إلا الله ) ولكن ما قائل كقائل؛ لأن ما في القلوب يتفاوت مثل تفاوت السماوات والأرض والذرة لا تكاد ترى.
    يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: ''اعلم أن أشعة ( لا إله إلا الله ) تُبدّد من ضباب الذنوب وغيومها بقدر قوة ذلك الشعاع وضعفه، فلها نور وتفاوت أهلها في ذلك النور -قوةً وضعفاً- لا يحصيه إلا الله تعالى؛ فمن الناس: من نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم: من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم: من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر: كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف.
    ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بإيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار؛ بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة، علماً وعملاً ومعرفةً وحالاً.
    وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئاً، فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته، فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنقذه من سارقه، أو حصَّل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبداً مع لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته وولّى الباب ظهره '' .
    ''وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه، كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله والخضوع له والذل له وكمال الانقياد لطاعته وإخلاص العبادة له وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال والمنع والعطاء والحب والبغض، ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله } وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة وظنها بعضهم قيلت قبل ورود الأوامر والنواهي واستقرار الشرع، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود، وقال: المعنى لا يدخلها خالداً، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة''.
    ''والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلا بد من قول القلب وقول اللسان.
    وقول القلب: يتضمن معرفتها، والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره وقيام هذا المعنى بالقلب؛ علماً ومعرفةً ويقيناً وحالاً -ما يوجب تحريم قائلها على النار- وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب، فإنما هو القول التام - كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة، غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر}. وليس هذا مرتباً على مجرد اللسان.
    نعم من قالها بلسانه، غافلاً عن معناها، معرضاً عن تدبرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها، راجياً مع ذلك ثوابها حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحداً، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.
    وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب.
    ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذي ثَقَّل بطاقة ذلك الرجل وطاشت لأجله السجلات، لمّا لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والرزانة.
    وإذا أردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى فانظر إلى ذكر من قلبه ملئان بمحبتك وذكر من هو معرض عنك غافل ساه، مشغول بغيرك، قد انجذبت دواعي قلبه إلى محبة غيرك وإيثاره عليك، هل يكون ذكرهما واحداً؟
    أم هل يكون والداك اللذان هما بهذه المثابة، أو عبداك، أو زوجتاك، عندك سواء؟
    وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية وحملته -وهو في تلك الحال- على أن جعل ينوء بصدره ويعالج سكرات الموت، فهذا أمر آخر وإيمان آخر ولا جرم أن ألحق بالقرية الصالحة وجُعِلَ من أهلها.
    وقريب من هذا: ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب -وقد اشتد به العطش يأكل الثرى، فقام بقلبها ذلك الوقت- مع عدم الآلة وعدم المعين وعدم من تُرائيه بعملها ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر وملء الماء في خفها ولم تعبأ بتعرضها للتلف وحملها خفها بفيها وهو ملئان، حتى أمكنها الرّقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، من غير أن ترجو منه جزاءً ولا شكوراً، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء فغفر لها.
    فهكذا الأعمال والعمال عند الله والغافل في غفلةٍ من هذا الإكسير الكيماوي، الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قلبها ذهباً والله المستعان '' .
    وقد فصل شَيْخ الإِسْلامِ معنى الإقرار وبالشهادتين واستلزام ذلك للعمل والانقياد بكلام نفيس سنورده -أو بعضه- في مبحث التولي عن الطاعة -بإذن الله- من الباب الخامس.
  20. أهمية عمل القلب

    القلب هو موضع الإيمان الأصلي، وإيمانه أهم أجزاء الإيمان، ومن هنا كان قوله وعمله هو أصل الإيمان الذي لا يوجد بدونه، مهما عملت الجوارح من الإيمان، ولا خلاف بين عقلاء بني آدم في أن كل حركة بالجارحة لا تكون إلا بإرادة قلبية، وإلا فهي من تصرفات المجانين، أو حركات المضطرين -فاقدي الإرادة-.
    فالقلب -كما سبق في فصل حقيقة النفس الإنسانية- ليس ملك الأعضاء فحسب، بل هو أعظم من ذلك، إذ هو مصدر توجيهها، ومنبع عملها، وأساس خيرها أو شرها، فإذا كانت إرادته إيمانية، كانت الأفعال العضوية إيماناً، وإذا كانت إرادته إرادة كفر أو نفاق أو عصيان كانت تلك مثلها.
    والنصوص في ذلك كثيرة. منها:
    1- يقول الله تعالى في حق من حققوا الولاء والبراء:
    ((أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ))[المجادلة:22].
    2- ويقول: ((ولَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ))[الحجرات:7].
    3- ويقول في حق الأعراب: (( ولَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُم ))[الحجرات:14].
    4- ويقول: ((ولِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ ولِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ))[آل عمران:154].
    وغير ذلك كالآيات الدالة على الطبع والختم على قلوب الكافرين أو كونها في أكنة أو مغلفة - ونحوها.
    وكل آية ورد فيها قوله: (بِذَاتِ الصُّدُورِ)
    ومن السنة يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { التقوى هاهنا } وأشار إلى صدره - ثلاث مرات.
    ويقول: {ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب}.
    ويقول -كما روى الإمام أحمد في المسند-: {الإسلام علانية والإيمان في القلب وأشار إلى صدره ثلاث مرات قائلاً: التقوى هاهنا، التقوى هاهنا}(3/ 135) .
    ويقول: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك }
    فهذه النصوص تدل على أن القلب هو الأصل وأن إيمانه هو جزء الإيمان الأساس الذي يقوم عليه الجزء الظاهر ويتفرع منه ويرتبط به ارتباط العلة بالمعلول بل ارتباط أجزاء الحقيقة الواحدة الجامعة، ومن هنا لم يسم المنافق مؤمناً قط وإن كثر عمل جوارحه بالجهاد والصلاة.
    بل المؤمن المجاهد إذا نوى بجهاده طلب الدنيا أو الرياء حبط عمله، وتبدلت المثوبة في حقه عقوبة وعذاباً، وهذا مما يدل على أهمية عمل القلب، وقد سبق تفصيل لذلك في فصل حقيقة النفس الإنسانية.
    ومن العجيب أن المرجئة استدلت ببعض الأدلة السابقة على أن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي، وأن أعمال الجوارح -بل بقية أعمال القلب- ليست من الإيمان، فها هو ذا الإيجي في المواقف يذكر مذهب أصحابه الأشاعرة وهو أنه التصديق، ومذهب الماتريدية وهو أنه التصديق مع الكلمتين، ويذكر ''مذهب السلف وأصحاب الأثر أنه: مجموع هذه الثلاثة؛ فهو تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان''.
    ثم يقول في الانتصار لمذهبه: '' لنا وجوه:
    الأول: الآيات الدالة على محلية القلب للإيمان نحو: (( أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ ))[المجادلة:22].. (( ولَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُم ))[الحجرات:14].. (( وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ ))[النحل:106] ومنه الآيات الدالة على الختم على القلوب.
    ويؤيده دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اللهم ثبت قلبي على دينك}.
    وقوله لـأسامة -وقد قتل من قال: لا إله إلا الله-: {هلا شققت عن قلبه} ''
    والرد عليهم واضح، فإن النصوص الدالة على الجزء الباطن من الإيمان لا تنفي وجود الجزء الظاهر -لا سيما ولهذا الجزء نصوص مماثلة- وغاية ما فيها بيان أن إيمان القلب هو الأصل والأساس لإيمان الجوارح كما تقدم.
    ثانياً: ومن جهة ثانية: هذه النصوص لا تدل على التصديق، بل على أمر زائد عنه، فما كتبه الله في قلوب المعادين لأعدائه، وما زينه في قلوب المؤمنين، وما نفى دخوله في قلوب الأعراب... وهكذا، ليس هو التصديق المجرد كما يحسبون وإنما هو أعمال قلبية كالمحبة والرضا واليقين ونحوها.
    ثالثاً: ومن جهة ثالثة: يرد عليهم بأن من تأمل هذه النصوص التي أوردها صاحب المواقف يجد أنها تدل على إيمان الجوارح بنوع من أنواع الدلالة، وأن الإيمان المذكور في بعضها ليس هو الإيمان العام المقابل لكلمة (الكفر) والمرادف لكلمة (الدين) بل هو الإيمان الخاص المقابل لكلمة (الإسلام) إذا اجتمعا، أي: على النحو الذي دل عليه الحديث السابق: { الإسلام علانية والإيمان في القلب } ولا مجال للبسط أكثر من هذا.
    ومن أفسد الأصول التي بناها المرجئة على هذا الاعتقاد -أي: انحصار الإيمان في التصديق القلبي وحده- أنهم حصروا الكفر في التكذيب القلبي أيضاً، حتى إنهم لم يعتبروا الأعمال الصريحة كالسجود للصنم وإهانة المصحف وسب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا دلالات على انتفاء التصديق القلبي وليست مكفرة بذاتها.
    وكان لهذه العقيدة آثار عميقة المدى على الأمة، بل هي في عصرنا هذا أساس للضلال والتخبط الواقع في مسألة التكفير، ومنها نشأ التوسع في استخدام شرط الاستحلال، حتى اشترطوه في أعمال الكفر الصريحة؛ كإهانة المصحف وسب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلغاء شريعة الله، فقالوا: لا يكفر فاعلها إلا إذا كان مستحلاً بقلبه!! واشترط بعضهم مساءلة المرتد قبل الحكم عليه، فإن أقر أنه يعتقد أن فعله كُفْر كُفِّر وإن قال: إنه مصدق بقلبه ويعتقد أن الإسلام أفضل مما هو عليه من الردة لم يكفروه!!
    وهذا جزء من قضايا كبرى لا يسعنا تفصيل الحديث عنها هنا، والغرض هنا التنبيه على أن أصلها العميق هو: عدم إدراك العلاقة بين عمل القلب وعمل الجوارح.
  21. إثبات عمل القلب

    لما كان إيمان القلب من الأهمية بالدرجة التي عرضنا طرفاً منها، كان لا بد أن يكون حظ الحديث عنه من الذكر الحكيم الذي أنزله الله لإصلاح حياة العالمين وتزكيتها هو الحظ الأوفر، وهكذا جاء في القرآن آيات كثيرة تبين أعمال القلب وأهميتها في الإيمان -أصلاً أ وجوباً أو كمالاً- ولو ذهبنا في جمعها واستقصائها لطال المقام جداً.
    وحسبنا أن نورد ما يتجلى به صحة مذهب أهل السنة والجماعة وشذوذ المرجئة المنكرين لدخول أعمال القلب في الإيمان -عدا التصديق القلبي- ويتضح أن مصدر القوم في التلقي لم يكن الكتاب والسنة، وإلا فكيف يضربون صفحاً عن هذه الآيات المحكمات ويعتمدون -أكثر ما يعتمدون- على آية واحدة ليست في مورد الإيمان الشرعي، بل حكاها الله تعالى عن قوم قالوها في التصديق الخبري المجرد وهو قوله تعالى على لسان إخوة يوسف: (( ومَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ))[يوسف:17]!!
    وهذه بعض أعمال القلب مقرونة بما يدل عليها من الآيات، منها ما هو في حق المؤمنين ومنها ما هو في حق الكفار دالاً على أمور سوى التكذيب -الذي لم يقر المرجئة بغيره- ونظراً لكثرتها اكتفيت بما ورد فيها العمل مسنداً إلى القلب -أو الصدر- بالمنطوق الصريح:
    1- الوجل: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهُمْ))[الأنفال:2].
    2- الإخبات: ((ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ))[الحج:54].
    3- السلامة من الشرك دقيقه وجليله: ((يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ ولا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ))[الشعراء:88-89].
    وقال في إمام الموحدين: ((إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ))[الصافات:84].
    4- الإنابة: ((مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ))[ق:33].
    5- الطمأنينة: ((وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي))[البقرة:260] ((أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ))[الرعد:28] واشتراطها في المكره: ((إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ))[النحل:106] فكيف بغيره.
    6- التقوى: ((ذَلِكَ ومَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ))[الحج:32].. ((أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى))[الحجرات:3].
    7- الانشراح: (( فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ))[الأنعام:125].. ((أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ))[الزمر:22].
    8- السكينة: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ))[الفتح:4].
    9- اللين: ((ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ))[الزمر:23].
    وقد أسنده للقلب والجوارح هنا.
    10- الخشوع: ((أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ))[الحديد:16].
    11- الطهارة: ((ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وقُلُوبِهِنَّ))[الأحزاب:53].
    وهي في آية الحجاب، فدلت على التلازم بين عمل القلب وعمل الجوارح.
    12- الهداية: ((ومَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ))[التغابن:11].
    وهي مما يدل على تلازم أعمال القلب.
    13- العقل: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا))[الحج:46].
    14- التدبر: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا))[محمد:24].
    15- الفقه: ((لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا))[الأعراف:179].
    16- الإيمان: ((مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ ولَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ))[المائدة:41].
    وفي الإيمان الخاص: ((قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا ولَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ولَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ))[الحجرات:14] ولهذا كان فيهم الصنف الذي سماه الله: ((والْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ))[التوبة:60].
    17- السلامة من الغل للمؤمنين: ((ولا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا))[الحشر:10].
    18- الرضا والتسليم: ((فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً))[النساء:65].
    ويلاحظ أن الإسناد فيها للنفس لا للقلب أو الصدر؛ لحكمة دقيقة هي أن النفس مكمن الهوى والاعتراض.
    ومما ورد مسنداً إلى القلب غير المؤمن:
    1- الإنكار: ((فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ))[النحل:22].
    2- الكبر: ((إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ))[غافر:56].
    ((كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ))[غافر:35].
    3- الإعراض واللهو: ((مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وهُمْ يَلْعَبُونَ)) * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ))[الأنبياء:2-3].
    4- الاشمئزاز: ((وإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ))[الزمر:45].
    5- الزيغ: ((فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ))[الصف:5].. ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ))[آل عمران:7].
    6- العمى: ((فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ ولَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ))[الحج:46].
    7- القفل وعدم الفقه وعدم العقل: وقد تقدم ما يدل عليها.
    8- المرض: ((فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً))[البقرة:10].
    9- القسوة: ((ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً))[البقرة:74].
    10- الغمرة: ((بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا))[المؤمنون:63].
    11- الران: ((كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ))[المطففين:14].
    12- العداوة للحق وأهله: ((قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ))[آل عمران:118].
    والآيات في ذلك وعلاقته بأعمال الجوارح كثيرة أيضاً، وأكثر مما ذكرنا الآيات الواردة في أعمال القلوب، لكن لم يُذْكَر فيها لفظه؛ كآيات الخوف والرجاء والتوكل والاستعانة والرضا وغيرها.
    وإنما المقصود إثبات هذا الجزء العظيم من الإيمان الذي أهمله أكثر المسلمين وليس المرجئة خاصة وقد حصل المقصود إن شاء الله، وسنخص بالتفصيل بعض هذه الأعمال في المبحث التالي.
  22. نماذج من أعمال القلوب

    ونبدأ ذلك ببيان موجز لما تعرض له عمل القلب من إعراض أو إسقاط أو خفاء لدى الأمة الإسلامية في عصور الانحراف، فنقول:
    1. أعمال القلوب عند بعض الطوائف

      1- المتكلمون:
      وهؤلاء أهملوا أعمال القلب بالكلية جاعلين الإيمان قضية عقلية بحتة ولم يثبتوا من أعمال القلب سوى التصديق الخبري الذي هو في الحقيقة أشبه بالعمل الذهني الخالص -وإن نسبوه للقلب-.
      وأصل هذا المذهب هو ذلك المبتدع الضال الجهم بن صفوان والمؤسف جداً أن أكثرية متكلمي الأمة -وهم الأشاعرة والماتريدية- اعتنقوا هذا المذهب مع إطباق أئمة السلف المعاصرين لنشأته على تكفير جهم وأصحابه واعتبار الجهمية فرقة خارجة عن فرق أهل القبلة الثلاث والسبعين.
      ومن أغرب التناقضات عند هؤلاء أن يكون ما نقله أبو الحسن الأشعري نفسه في المقالات عن جهم والصالحي وبشر المريسي اليهودي هو ذات عقيدتهم التي صرح بها الباقلاني والجويني وسائر أئمتهم إلى الإيجي ومن جاء بعده.
      وليس هذا موضع المقارنة بين الجهمية والأشاعرة وحسبنا أن ننقل مذهب جهم كما سطره الأشعري نفسه، ثم نقارنه بكلام أكبر أئمة الأشاعرة المتقدمين وناشر مذهبهم القاضي الباقلاني
      يقول الأشعري في أول حديثه عن فرق المرجئة واختلافهم: ''فالفرقة الأولى منهم يزعمون أن الإيمان بالله هو المعرفة بالله وبرسله، وبجميع ما جاء من عند الله فقط، وأن ما سوى المعرفة من الإقرار باللسان والخضوع بالقلب والمحبة لله ولرسوله والتعظيم لهما والخوف منهما (كذا) والعمل بالجوارح فليس بإيمان...قال: وهذا قول يحكى عن الجهم بن صفوان ''
      ويقول الباقلاني -في بيان ما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به-: ''وأن يعلم أن الإيمان بالله عز وجل هو التصديق بالقلب...والدليل على أن الإيمان هو الإقرار بالقلب والتصديق قوله عز وجل: ((ومَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا ولَوْ كُنَّا صَادِقِينَ))[يوسف:17]... وقد اتفق أهل اللغة قبل نزول القرآن وبعث الرسول عليه السلام على أن الإيمان في اللغة هو التصديق دون سائر أفعال الجوارح والقلوب'' .
      فهذا اتفاق بينهما على أن أعمال القلب والجوارح غير داخلة في الإيمان.
      صحيح أن الجهمية تقول: إن الإيمان المعرفة والأشاعرة يقولون: الإيمان التصديق، ولكن ما تمحله الأشاعرة وتكلفوه من التفريق بين المعرفة وبين التصديق المجرد أمر لا يقبله العقلاء، ولهذا رد عليهم شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية قائلاً: ''إن الفرق بين معرفة القلب وبين مجرد تصديق القلب الخالي عن الانقياد -الذي يُجعل قول القلب- أمر دقيق وأكثر العقلاء ينكرونه، وبتقدير صحته لا يجب على كل أحد أن يوجب شيئين لا يتصور الفرق بينهما، وأكثر الناس لا يتصورون الفرق بين معرفة القلب وتصديقه ويقولون: إن ما قاله ابن كلاب والأشعري من الفرق كلام باطل لا حقيقة له وكثير من أصحابه اعترف بعدم الفرق...''.
      إلى أن يقول: ''والمقصود هنا أن الإنسان إذا رجع إلى نفسه عسر عليه التفريق بين علمه بأن الرسول صادق وبين تصديق قلبه تصديقاً مجرداً عن الانقياد وغيره من أعمال القلب بأنه صادق'' .
      وأيضاً فلو أضاف المتكلمون إلى التصديق شيئاً آخر -من أعمال القلب- لا نَجْزم أصلهم وفسدت قاعدتهم التي هي: أن الإيمان شيء واحد لا يتركب ولا يزيد ولا ينقص، ولهذا ألزمهم الإمام أحمد رحمه الله إلزاماً لا محيص لهم عنه حين قال في رسالته إلى الجوزجاني: ''وأما من زعم أن الإيمان: الإقرار، فما يقول في المعرفة هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار؟
      وهل يحتاج إلى أن يكون مصدقاً بما أقر؟
      قال محمد بن حاتم: وهل يحتاج أن يكون مصدقاً بما عرف؟
      فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أن يكون مقراً ومصدقاً بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، فإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق، فقد قال قولاً عظيماً ولا أحسب أحداً يدفع المعرفة.
      قال المروزي: ولا أحسب أحداً يدفع المعرفة والتصديق'' .
      ففي هذه الأسطر الموجزة ألزم الإمام أحمد إلزاماً مفحماً كل طوائف المرجئة -المتكلمين منهم والفقهاء- الذين يشتركون جميعاً في أصل واحد هو: عدم إدخال أعمال القلب في الإيمان، واعتباره عملاً واحداً فقط؛ إما الإقرار ( الفقهاء ) وإما التصديق والمعرفة ( المتكلمون: الجهمية والأشاعرة والماتريدية ) وهو أَلزم شيءٍ للمتكلمين الأشاعرة والماتريدية الذين يفرقون بين مذهبهم ومذهب جهم بالتفريق بين المعرفة -التي هي قول جهم- وبين التصديق الذي هو مذهبهم.
      فهذا التفريق نفسه يوقعهم في هذا الإلزام ولا مناص، فإما أن يلتزموا القول بأن الإيمان هو التصديق المجرد عن المعرفة -وهو ما لا يتصور أن أحداً يقوله- وإما أن يقولوا: إنه المعرفة مع التصديق، فيبطل أصلهم الثابت، وهو: أنه شيء واحد لا يتركب ولا يتعدد، وحينئذٍ يلزمهم إدخال سائر أعمال القلب كما أدخلوا المعرفة.
      والحاصل أن هؤلاء لو تجردوا من لوثة التقيدات المنطقية والتكلفات النظرية التي نقلوها عن الفلاسفة ونظروا لآيات الوحي المبين -التي عرضنا بعضها- لأثبتوا أعمال القلب جميعها أجزاء من الإيمان القلبي الذي هو أهم شَطْري الإيمان.
      2- المتصوفة:
      كان ضَلال المتصوفة في أعمال القلب من نوع آخر، فالقوم مع اهتمامهم الشديد بها وتسميتها أحوالاً ومقامات وتفصيل دقائقها، أوقعهم الهوى والابتداع ومتابعة أسلافهم من صوفية الوثنيين الهنود واليونان في تناقضات وتخبطات أخرجت طائفة منهم عن الدين كله.
      فمن ذلك ضلالهم في الرضا -الجامع للانقياد والقبول- فقد خرجوا فيه عما كان عليه السلف إلى معنى فلسفي وثني هو: الرضا المطلق بكل ما في الوجود لأنه من إرادة الله وقدره، حتى اعتقدوا وجوب الرضا بالكفر والفسوق والعصيان ووقعوا في الجبر المحض تحت ستار ما أسموه شهود الحقيقة الكونية!! والاستبصار بسر الله في القدر!!
      وضلوا في الرجاء والمحبة؛ حيث افتعلوا بينهما تناقضاً؛ فاحتقروا الرجاء واعتبروه أضعف مقامات المريدين، وغلوا في المحبة حتى أسقطوا ما يقابلها من الخوف، وجعلوا همهم -بزعمهم- عبادة الله لذاته لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره وجعلوا ذورة المحبة: الفناء في المحبوب، ولهذا قال فيهم السلف: ''من عَبَد الله بالحب وحده فهو زنديق'' وأفضى بهم هذا إلى احتقار الجنة والنار، واحتقار مقام الأنبياء، بل اعتقاد الحلول والوحدة عياذاً بالله!!
      ومن الناحية العلمية وضعوا قاعدة: (المحبة نار في القلب تحرق ما سوى المحبوب) واتخذوها ذريعة للتنصل من التعبدات التي تشغلهم عن المحبوب -بزعمهم- كالاشتغال بجهاد أعدائه وتعلم دينه وتعليمه، ونشر دعوته بين العالمين.
      وضلوا في التوكل؛ فجعلوه سلبية مطلقة، وتواكلاً رخيصاً، وتسولاً للمعطين، وتعمداً لإلحاق الضرر بالنفس، وتركاً للأسباب المشروعة، بل تركاً لأعظم التعبدات -كالدعاء مثلاً- فأسقطوا به وبالمحبة من أعمال القلوب الشيء الكثير، فضلاً عن أنهم غفلوا عن أعظم درجات التوكل وهو: التوكل على الله في إقامة دينه والجهاد في سبيله ومقاومة الكفر والفساد، كما هو توكل الأنبياء.
      وضلوا في الزهد؛ فأخرجوه من عمل قلبي إيجابي إلى مظهر سلبي، حتى إنهم حَرَّموا به طلب العلم؛ لأن ذلك كما قالوا: يؤدي إلى تقدير الناس للعالم، وهذا -بزعمهم- ينافي الزهد، وعبّدوا الأمة للفقر، حتى سمُّوا أنفسهم الفقراء وسموا الله تعالى الفقر!!
      وبالجملة فلا تكاد تجد شرطاً من شروط لا إله إلا الله، ولا عملاً من أعمال القلب، إلا ولهم فيه ضلال وانحراف، مما كان له أثره العميق في انتشار الظاهرة واقعياً، ولولا أن غرضنا هنا تتبع الظاهرة في الفكر وآراء الفرق لتوسعنا في تفصيل ذلك الذي هو أليق بالواقع والحياة.
      3- المرجئة الفقهاء: .
      وهؤلاء يثبتون أعمال القلب في ذاتها ولا ينكرون أهميتها، لكنهم يجعلونها شيئاً آخر سوى الإيمان، كما يخرجون منه أعمال الجوارح، فإذا سئلوا عن علاقتها بالإيمان قالوا: هي من لوازمه أو ثمراته.
      وتأتي خطورة مذهبهم -لا سيما في العصور الأخيرة- من جهة أن الإخلال بشيء من أعمال القلوب -التي يعد الإخلال بها كفراً أو معصية في نظر الشارع- لا يكون -على مذهبهم- إخلالاً بالإيمان -الذي هو الإقرار والتصديق- إلا باللازم والتبع وحسبك بهذا ذريعة إلى التساهل في ذلك - ولو بمرور الزمن وتطور الظاهرة، ولهذا ألزمهم أهل السنة إلزاماً لا محيص لهم عنه كما سبق في كلام الإمام أحمد.
      وكذلك يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: ''والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، والأعمال ليست منه، وكان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم، فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمناً إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه، وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم -أي: بخلاف قول الأشاعرة في هاتين القضيتين- ، لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً'' .
      وهنا ينبغي التنبيه على أمر مهم وهو: أن ما ورد عن كثير من التابعين وتلامذتهم في ذم الإرجاء وأهله والتحذير من بدعتهم، إنما المقصود به هؤلاء المرجئة الفقهاء؛ فإن جهماً لم يكن قد ظهر بعد، وحتى بعد ظهوره كان بـخراسان ولم يعلم عن عقيدته بعض من ذم الإرجاء من علماء العراق وغيره، الذين كانوا لا يعرفون إلا إرجاء فقهاء الكوفة ومن اتبعهم، حتى إن بعض علماء المغرب كـابن عبد البر لم يذكر إرجاء الجهمية بالمرة.
      ثم حصل في القرن الرابع فصاعداً ما يشبه الاندماج بينهم وبين الأشاعرة ولم يبق لهم اليوم من وجود إلا بعض الحنفية ومن هؤلاء من يرى الخلاف بينهم وبين السلف لفظياً فقط، اعتماداً على كلام شارح الطحاوية وبعض مواضع من كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية وقد تقدم بيان الحق في ذلك.
      4- طائفة رابعة ليست كأحد من هذه الفرق البدعية:
      ولكن خفي عليها مأخذ السلف، فظهرت بمظهر العجز عن إثبات عقيدتها، ونسبت للتقليد المحض، وأعني بذلك كثيراً من متأخري أهل السنة الذين لم يقوموا بعمل كافٍ لصد تيار الإرجاء العصري؛ بسبب عدم إدراكهم لبعض أسس العقيدة ومنطلقاتها، ومن ذلك موضوع أعمال القلوب، فقد أعياهم الجواب أمام مطالبة المرجئة بدليل على شروط لا إله إلا الله من انقياد وقبول ويقين وصدق وإخلاص...إلخ وزعمهم أن هذا من ابتداع ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب الذي لا أصل له في كلام السلف وهذا ما يعيدنا إلى قضية أهمية أعمال القلوب وضرورة بعث الحديث عنها وبيان منزلتها من الإيمان، فلقد ترتب على إهمالها وإغفالها من الآثار المدمرة في حياة الأمة الشيء الكثير، ومن أعظم ذلك انحسار مفهوم العبادة وتضييقه وانتقاص توحيد الألوهية ووقوع الأمة في الشرك الأكبر، حتى أصبحت المرجئة في القرون الأخيرة تجاهر بإنكار دخول هذه الأعمال في العبادة والتأله، فقالوا: إن الرجاء والخوف والمحبة والتعظيم والرضا والتسليم والانقياد والطاعة ونحوها من تعبدات القلب -بل الدعاء والاستغاثة بالمخلوقين- لا علاقة لها بالشرك ولا يسمى فاعلها لغير الله مشركاً ما دام يقول: لا إله إلا الله ويعتقد بقلبه صدق الرسول فيما جاء به!!
      وإنما الشرك بزعمهم اعتقاد القلب أن هذا المخلوق إله أو رب معبود، والكفر أن يعتقد بقلبه أن ما يفعله من الأعمال كفر، أما إذا عمل أعمال الكفر مع اعتقاده أن ذلك لا يخرجه من الملة فليس بكافر!!
      وقد اصطدمت هذه الفكرة بالعقيدة السلفية بطبيعة الحال، وجرى بين المنهجين جولات ومعارك، أبرزها المعركة التي دارت أيام شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، ثم الجولة التي دارت بظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما تزال المعركة قائمة على أشدها وما يزال مذهب المرجئة هو الطاغي على أكثر بقاع العالم الإسلامي.
      وهكذا ظلت هذه القضية هي جوهر كل الدعاوى التي أشهرها المؤلفون الإرجائيون على عقيدة أهل السنة والجماعة باسم الرد على ما أسموه الوهابية، كما أنها ظلت كذلك بعد استفحال شرك التشريع، وظهور الدعاة الذين أعلنوا أن تحكيم غير شرع الله كفر أكبر ينافي شهادة أن لا إله إلا الله.
    2. تفصيل الكلام عن بعض أعمال القلوب

      ومن هنا اقتضى الأمر تفصيل الحديث عن بعض أعمال القلوب وهو ما سنشرع فيه بإذن الله.
      1- الرضا:
      كلمة الرضا تجمع بين شرطين من الشروط التي ذكرها بعض العلماء لشهادة أن لا إله إلا الله وهما القبول والانقياد بل الرضا أعلى منهما وأشمل، وقد آثرته لذلك، ولكونه لفظاً شرعياً ورد في الكتاب والسنة.
      وحسبك في تعظيمه قوله تعالى:
      ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً))[المائدة:3]
      فما رضيه الله لنا وهو الغني الحميد؛ فنحن أولى أن نرضى به وأحق.
      فالرضا بالدين هو ''أساس الإسلام وقاعدة الإيمان، فيجب على العبد أن يكون راضياً به بلا حرج ولا منازعة ولا معارضة ولا اعتراض، قال الله تعالى: ((فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً))[النساء:65].
      فأقسم أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله وحتى يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليماً، وهذا حقيقة الرضا بحكمه'' .
      وليس هذا الرضا على درجة واحدة، بل هو -كما في الآية- على ثلاث مراتب ''فالتحكيم في مقام الإسلام، وانتفاء الحرج في مقام الإيمان، والتسليم في مقام الإحسان '' .
      فمن لم يرض بتحكيم ما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أصول الدين وفروع الشريعة ويتحاكم إليه، فهو معترض بنوع من أنواع الاعتراض الآتي تفصيلها، فلهذا لا يكون مسلماً -وإن زعم ذلك- كما قال تعالى في الآيات التي قبلها:
      ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ومَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ))[النساء:60].
      وكيف لا وأول كفر وقع في هذا العالم إنما نشأ ''من عدم الرضا؛ فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كوناً -من تفضيل آدم وتكريمه- ولا بحكمه الديني من أمره بالسجود لآدم '' مع تصديقه بالله واليوم الآخر، وأن الله هو الإله دون ما سواه.
      ومن رضي بأصل التحكيم لكن لم ينتف الحرج عن نفسه، بل ربما زعزعته شبهة أو لحقه شك، فهذا كالأعراب الذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.
      ومن انتفى عنه الحرج لكن لم يرق إلى درجة التسليم المطلق للوحي أمراً ونهياً وخبراً، فهو ناقص عن مرتبة الإحسان التي كان عليها الصحابة رضي الله عنهم والتي كان التصديق في ذروتها حتى في أشق المواقف؛ كموقف الحديبية .
      وهذا هو الرضا الذي قال عنه ابن القيم: ''إن الرضا من أعمال القلوب نظير الجهاد من أعمال الجوارح؛ فإن كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان، قال أبو الدرداء: ذروة سنام الإيمان الصبر للحكم والرضا بالقدر'' .
      والرضا يشمل التوحيد كله، ربوبية وألوهية، طاعة وتقرباً، ومن هنا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً} وقال: {من قال حين يسمع النداء: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً؛ غفرت له ذنوبه}.
      '' وهذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين وإليهما ينتهي، وقد تضمنا الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته والرضا برسوله والانقياد له والرضا بدينه والتسليم له.
      فالرضا بإلاهيته يتضمن الرضا بمحبته وحده وخوفه ورجائه والإنابة إليه والتبتل إليه وانجذاب قوى الإرادة والحب كلها إليها وذلك يتضمن عبادته والإخلاص له.
      والرضا بربوبيته: يتضمن الرضا بتدبيره لعبده، ويتضمن إفراده بالتوكل عليه والاستعانة به والثقة به والاعتماد عليه وأن يكون راضياً بكل ما يفعل به.
      فالأول: -أي: رضا الألوهية- يتضمن رضاه بما أمر به.
      والثاني: يتضمن رضاه بما يقدر عليه.
      وأما الرضا بنبيه رسولاً: فيتضمن كمال الانقياد له، والتسليم المطلق إليه بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره ألبتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهرة وباطنة.
      لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاء المضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم، وأحسن أحواله أن يكون من باب التراب الذي إنما يتيمم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور.
      وأما الرضا بدينه: فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى رضي كل الرضا ولم يبق في قلبه حرج من حكمه وسلم له تسليماً، ولو كان مخالفاً لمراد نفسه أو هواها أو قول مقلده أو شيخه وطائفته '' .
      ولهذا جاء هذا الرضا بأنواعه مبيناً في سورة الأنعام التي هي سورة التوحيد العظمى؛ فقد اشتملت على ثلاثة أنواع من الرضا هي جماع التوحيد كله:
      1- الرضا بالله رباً لا شريك له في التقرب والتأله والتعبد:
      (( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْء ))[الأنعام:164].
      2- الرضا بالله حكماً لا شريك له في التشريع والطاعة:
      ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً))[الأنعام:114].
      3- الرضا بالله ولياً لا شريك له في محبته وموالاته:
      ((قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ ولِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ))[الأنعام:14].
      وقد شرح ذلك الإمام ابن القيم فقال: ''الرضا بالله رباً: ألا يتخذ رباً -غير الله تعالى- يسكن إلى تدبيره وينزل به حوائجه، قال تعالى:
      ((قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ))[الأنعام:164].
      قال ابن عباس رضي الله عنهما: سيداً وإلهاً، يعني فكيف أطلب رباً غيره وهو رب كل شيء؟ وقال في أول السورة:
      ((قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ ولِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ))[الأنعام:14].
      يعني: معبوداً وناصراً ومعيناً وملجأ وهو من الموالاة التي تتضمن الحب والطاعة.
      وقال في وسطها:
      ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً))[الأنعام:114].
      أي: أفغير الله أبتغي من يحكم بيني وبينكم فنتحاكم إليه فيما اختلفنا فيه؟ وهذا كتابه سيد الحكام، فكيف نتحاكم إلى غير كتابه؟ وقد أنزله مفصلاً مبيناً كافياً شافياً؟!
      وأنت إذا تأملت هذه الآيات حق التأمل، رأيتها هي نفس الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً ورأيت الحديث يترجم عنها ومشتقاً منها، فكثير من الناس يرضى بالله رباً ولا يبغي رباً سواه، لكنه لا يرضى به وحده ولياً وناصراً، بل يوالي من دونه أولياء ظناً منه أنهم يقربونه إلى الله، وأن موالاتهم كموالاة خواص الملك وهذا عين الشرك، بل التوحيد: ألا يتخذ من دونه أولياء والقرآن مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء.
      وهذا غير موالاة أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين فيه، فإن هذا من تمام الإيمان ومن تمام موالاته؛ فموالاة أوليائه واتخاذ الولي من دونه لون، ومن لم يفهم الفرقان بينهما فليطلب التوحيد من أساسه، فإن هذه المسألة أصل التوحيد وأساسه.
      وكثير من الناس يبتغي غيره حَكماً يتحاكم إليه ويخاصم إليه ويرضى بحكمه، وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد: ألا يتخذ سواه رباً ولا إلهاً ولا غيره حكماً.
      وتفسير الرضا بالله رباً: أن يسخط عبادة ما دونه، هذا هو الرضا بالله إلهاً، وهو من تمام الرضا بالله رباً، فمن أعطى الرضا به رباً حقه سخط عبادة ما دونه قطعاً؛ لأن الرضا بتجريد ربوبيته يستلزم تجريد عبادته، كما أن العلم بتوحيد الربوبية يستلزم العلم بتوحيد الإلهية...
      فالحاصل: أن يكون الله وحده المحبوب المعظم المطاع، فمن لم يحبه ولم يطعه ولم يعظمه فهو متكبر عليه، ومتى أحب معه سواه وعظم معه سواه وأطاع معه سواه فهو مشرك، ومتى أفرده وحده بالحب والتعظيم والطاعة فهو عبد موحد والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم '' .
      ومنافي الرضا ومقابله هو الاعتراض والكراهية لما أنزل الله -بعضه أو كله- وإذا فسرناه بالقبول والانقياد، فضدهما الرد والاعتراض والإباء.
      وكل هذا مما وقعت فيه الأمة كلياً أو جزئياً، فوقع فيها الاعتراض على توحيد المعرفة والإثبات، والاعتراض على الأمر الشرعي بالتحليل والتحريم والاعتراض على الأمر الكوني، فاعترض كثير منهم على صفاته وشريعته وقضائه وقدره.
      وأصل هذه الاعتراضات التلقي عن غير الله ورسوله، والاستمداد من غير الوحي وتحكيم غيره، فمنهم من حكم العقل -بزعمه- فنقل فلسفات الوثنيين وحثالة فكر التائهين، وهؤلاء هم أصحاب الكلام.
      ومنهم من حكم الذوق والوجد والكشف وانتكس بالعقل المسلم إلى حضيض الخرافة والوهم وهؤلاء هم الصوفية.
      ومنهم من حكم الأقيسة العقلية والأعراف السياسية بحجة تحقيق المصلحة الشرعية ومراعاة الأصول العقلية -بزعمهم- فأحلوا -من الدماء والأموال والفروج- ما ورد النص الصريح بتحريمه، وكان ذلك مع وقوعه في دائرة الاجتهاد الخطأ أو التطبيق المتعسف ممهداً لما وقعت فيه الأمة في العصر الحديث من الشرك الأكبر والاعتراض الأطم بتحكيم القوانين الوضعية وإحلالها محل الشريعة، بل الكراهية الصريحة لكثير مما أنزل الله، وبخاصة في الجهاد والحجاب والموالاة والسياسة، ولندع الإمام ابن القيم يفصل لنا صورة الاعتراض التي وصلت إليها الأمة في عصره وحسبك أن تقول بعدها: كيف لو رأى زماننا هذا؟!
      يقول رحمه الله: ''الاعتراض ثلاثة أنواع سارية في الناس والمعصوم من عصمه الله منها.
      * النوع الأول: الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشبهة الباطلة:
      التي يسميها أربابها قواطع عقلية وهي في الحقيقة خيالات جهلية ومحالات ذهنية، اعترضوا بها على أسمائه وصفاته عز وجل، وحكموا بها عليه، ونفوا لأجلها ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأثبتوا ما نفاه، ووالوا بها أعداءه وعادوا بها أولياءه وحرفوا بها الكلم عن مواضعه ونسوا بها نصيباً كثيراً مما ذكروا به، وتقطعوا لها أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون.
      والعاصم من هذا الاعتراض: التسليم المحض للوحي، فإذا سلم القلب له رأى صحة ما جاء به، وأنه الحق بصريح العقل والفطرة، فاجتمع له السمع والعقل والفطرة وهذا أكمل الإيمان، ليس كمن الحرب قائمة بين سمعه وعقله وفطرته.
      * النوع الثاني: الاعتراض على شرعه وأمره:
      وأهل هذا الاعتراض ثلاثة أنواع:
      الأول: المعترضون عليه بآرائهم وأقيستهم المتضمنة تحليل ما حرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتحريم ما أباحه، وإسقاط ما أوجبه، وإيجاب ما أسقطه وإبطال ما صححه، وتصحيح ما أبطله، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وتقييد ما أطلقه، وإطلاق ما قيده.
      وهذه هي الآراء والأقيسة التي اتفق السلف قاطبة على ذمها، وصاحوا على أصحابها من أقطار الأرض وحذروا منهم ونفروا عنهم.
      الثاني: الاعتراض على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله وإبطال دينه الذي شرعه على لسان رسوله، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفوس الجاهلة.
      والعجب أن أربابها ينكرون على أهل الحظوظ وكل ما هم فيه فحظ، ولكن حظهم متضمن مخالفة مراد الله، والإعراض عن دين الله واعتقاد أنه قربة إلى الله، فأين هذا من حظوظ أصحاب الشهوات المعترفين بذمها، المستغفرين منها، المقرين بنقصهم وعيبهم وأنها منافية للدين؟!
      وهؤلاء في حظوظ اتخذوها ديناً وقدموها على شرع الله ودينه واغتالوا بها القلوب واقتطعوها عن طريق الله، فتولد من معقول أولئك وآراء الآخرين وأقيستهم الباطلة وأذواق هؤلاء خراب العالم وفساد الوجود وهدم قواعد الدين وتفاقم الأمر وكاد، لولا أن الله ضمن أنه لا يزال يقوم به من يحفظه ويبين معالمه ويحميه من كيد من يكيد.
      الثالث: الاعتراض على ذلك بالسياسات الجائرة التي لأرباب الولايات التي قدموها على حكم الله ورسوله، وحكموا بها بين عباده وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده.
      فقال الأولون: إذا تعارض العقل والنقل، قدمنا العقل.
      وقال الآخرون: إذا تعارض الأثر والقياس، قدمنا القياس.
      وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد: إذا تعارض الذوق والوجد والكشف وظاهر الشرع، قدمنا الذوق والوجد والكشف.
      وقال أصحاب السياسة: إذا تعارضت السياسة والشرع، قدمنا السياسة.
      فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتاً يتحاكمون إليه.
      فهؤلاء يقولون: لكم النقل ولنا العقل والآخرون: أنتم أصحاب آثار وأخبار ونحن أصحاب أقيسة وآراء وأفكار، وأولئك يقولون: أنتم أرباب الظاهر ونحن أهل الحقائق، والآخرون يقولون: لكم الشرع ولنا السياسة.
      * النوع الثالث: الاعتراض على أفعاله وقضائه وقدره:
      وهذا اعتراض الجهال وهو ما بين جلي وخفي وهو أنواع لا تحصى.
      وهو سار في النفوس سريان الحمى في بدن المحموم، ولو تأمل العبد كلامه وأمنيته وإرادته وأحواله، لرأى ذلك في قلبه عياناً، فكل نفس معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله إلا نفساً قد اطمأنت إليه وعرفته حق المعرفة التي يمكن وصول البشر إليها، فتلك حظها التسليم والانقياد والرضا كل الرضا'' .
      2- المحبة:
      المحبة أساس كل عمل من أعمال الدين والإيمان، كما أن التصديق أساس كل قول من الأقوال؛ وذلك أن كل عمل يعمله الإنسان لا بد أن يكون عن إرادة قلبية -كما أوضحنا سلفاً- وهذه الإرادة إما أن تكون حباً أو كرهاً، فدافع العمل لا يخرج عن أن يكون رغبة وطواعية أو رهبة وإجباراً.
      '' وأعمال الدين قسمان:
      * أولاً: التعبدي المحض كالصلاة والصيام والحج.
      * والآخر: ما كان تابعاً للنية؛ كالأكل والنوم بنية الاستعانة على الطاعة، والإنفاق على الأهل بنية القربة ونحوه .
      فالأول لا يصلح إلا بالنية، والآخر لا يكون مأجوراً عليه ومتقرباً به إلا بها، فاتضح أن النية أساس في الأعمال كلها.
      وهذه النية هي بمعنى الإرادة والغاية، وهي التي لا تخلو من أن تكون حباً أو كرهاً، أما النية الخاصة التي يذكرها الفقهاء في الأحكام فشيء آخر.
      وقد أخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن اختلاف حالي المؤمن والمنافق وعاقبتيهما بحسب اختلاف نية كل منهما - مع اتفاق عملهما في الصورة والمظهر؛ كالإنفاق مثلاً، فقال تعالى:
      ((وسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * ومَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * ولَسَوْفَ يَرْضَى))[الليل:17-21].
      وقال: ((ومَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وبِرَسُولِهِ ولا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وهُمْ كُسَالَى ولا يُنْفِقُونَ إِلَّا وهُمْ كَارِهُونَ))[التوبة:54].
      فالمؤمن يعمل الطاعة محباً لها راضياً بها، فكان جزاؤه القبول والرضا، والمنافق يعملها كارهاً كسلان، فكان جزاؤه الرد والإحباط.
      والمؤمنون أنفسهم تتفاوت درجات إيمانهم بحسب المحبة والرضا؛ فكم بين إسلام أبي ذر الذي تحمل المشاق حتى بلغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أسلم أعلن إسلامه بين ظهراني الكفار مستعذباً ضربهم وأذاهم يوماً بعد يوم، وبين إسلام الأعرابي الذي { جاءَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: أسلم، فقال: أجدني كارهاً، فقال: أسلم وإن كنت كارهاً } .
      بل كم بين إسلام سلمان الذي قضى السنين الطوال بحثاً عن الدين الحق وانتقل من خدمة راهب إلى آخر حتى وقع في الرق وبلغه خبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على النخلة، فكاد يسقط فرحاً وشوقاً ، وبين إسلام المؤلفة قلوبهم من جفاة الأعراب الذين دخلوا في الإسلام بذل ذليل.
      ومن هنا كانت المحبة أصل أعمال القلوب، وشرطاً من شروط لا إله إلا الله؛ فإن الإسلام هو الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله؛ فمن لا محبة له لا إسلام له ألبتة، بل هي حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، فإن (الإله) هو: الذي يألهه العباد حباً وذلاً وخوفاً ورجاءً وتعظيماً وطاعة له، بمعنى (مألوه) وهو: الذي تألهه القلوب، أي: تحبه وتذل له.
      وأصل (التأله) التعبد، والتعبد آخر مراتب الحب، يقال: عَبده الحب وتيمه إذا ملكه وذللـه لمحبوبه.
      فالمحبة حقيقة العبودية وهل تُمكن الإنابة بدون المحبة والرضا والحمد والشكر والخوف والرجاء؟ وهل الصبر في الحقيقة إلا صبر المحبين؟ (وهل التوكل إلا توكل المحبين) فإنه إنما يتوكل على المحبوب في حصول محابه ومراضيه .
      وكذلك الزهد في الحقيقة هو زهد المحبين، فإنهم يزهدون فيما سوى محبوبهم لمحبته وكذلك الحياء في الحقيقة إنما هو حياء المحبين، فإنه يتولد من بين الحب والتعظيم وأما ما لا يكون عن محبة فهو خوف محض'' .
      وهكذا في سائر أعمال القلب التي لا يكون العبد شاهداً أن لا إله إلا الله بدونها.
      وقد جعل الله تعالى إخلاص المحبة فرقاناً بين المؤمنين والكافرين، فمن أشرك مع الله غيره في المحبة وسواه به فهو المشرك المتخذ من دون الله نداً معبوداً، فضلاً عمن خلا قلبه من محبة الله ورسوله ودينه بالمرة وكره ذلك، فهذا كافر كفر إبليس وفرعون، مهما كان في قلبه من تصديق مجرد.
      يقول الله تعالى: ((ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ))[البقرة:165].
      فأخبر أن من أحب من دون الله شيئاً -كما يحب الله تعالى- فهو ممن اتخذ من دون الله أنداداً، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية، فإن أحداً من أهل الأرض لم يثبت هذا الند في الربوبية، بخلاف ند المحبة، فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أنداداً في الحب والتعظيم.
      ''وهذه هي التسوية المذكورة في قوله تعالى حكاية عنهم وهم في النار، يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب: ((تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ))[الشعراء:97-98] ومعلوم أنهم لم يسووهم برب العالمين في الخلق والربوبية وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم والطاعة والتشريع.
      وهذا أيضاً هو العدل المذكور في قوله تعالى: ((ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ))[الأنعام:1]. أي يعدلون به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم....'' .
      وإذا كان تجريد المحبة وإخلاصها هو متعلق الشطر الأول من شطري الشهادة وهو شهادة (أن لا إله إلا الله) فإن تجريد المتابعة والتحكيم للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو تحقيق المحبة المتعلق بالشطر الآخر (شهادة أن محمداً رسول الله) يقول الله تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ))[آل عمران:31-32].
      فهذه هي آية المحبة وهي آية المحنة، قال بعض السلف: ''ادعى قوم محبة الله، فأنزل آية المحنة: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ )) ".
      يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: ''هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأعماله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.
      (( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا )) أي: تخالفوا عن أمره: (( فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ )) فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر والله لا يحب من اتصف بذلك -وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله '' ويقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} .
      ونواصل مع ابن القيم رحمه الله حيث يقول: ''فانتفاء محبتهم لله لازم لانتفاء المتابعة لرسوله وانتفاء المتابعة ملزوم لانتفاء محبة الله لهم، فيستحيل إذاً ثبوت محبتهم لله وثبوت محبة الله لهم بدون المتابعة لرسوله.
      ودل على أن متابعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي حب الله ورسوله وطاعة أمره، ولا يكفي ذلك في العبودية حتى يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما، فلا يكون عنده شيء أحب إليه من الله ورسوله ومتى كان عنده شيء أحب إليه منهما فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله لصاحبه ألبتة ولا يهديه الله، قال الله تعالى:
      ((قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإِخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ))[التوبة:24].
      فكل من قدم طاعة أحد من هؤلاء على طاعة الله ورسوله، أو قول أحد منهم على قول الله ورسوله، أو مرضاة أحد منهم على مرضاة الله ورسوله، أو خوف أحد منهم ورجاءه والتوكل عليه على خوف الله ورجائه والتوكل عليه، أو معاملة أحدهم على معاملة الله؛ فهو ممن ليس الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإن قال بلسانه فهو كذب منه وإخبار بخلاف ما هو عليه.
      وكذلك من قدَّم حكم أحد على حكم الله ورسوله؛ فذلك المقدم عنده أحب إليه من الله ورسوله، لكن قد يشتبه الأمر على من يقدم قول أحد، أو حكمه، أو طاعته، أو مرضاته، ظناً منه أنه لا يأمر ولا يحكم ولا يقول إلا ما قاله الرسول، فيطيعه ويحاكم إليه ويتلقى أقواله كذلك، فهذا معذور إذا لم يقدر على غير ذلك.
      وأما إذا قدر على الوصول إلى الرسول وعرف أن غير من اتبعه هو أولى به مطلقاً، أو في بعض الأمور ولم يلتفت إلى الرسول ولا إلى من هو أولى به، فهذا الذي يخاف عليه وهو داخل تحت الوعيد، فإن استحل عقوبة من خالفه وأذله ولم يوافقه على اتباع شيخه، فهو من الظلمة المعتدين وقد جعل الله لكل شيء قدراً'' .
      ويقول -رحمه الله- في بيان بعض لوازم محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الأدب معه: ''رأس الأدب معه: كمال التسليم والانقياد لأمره وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة خيال باطل يسميه معقولاً، أو يحمله شبهة أو شكاً، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم.
      فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل.
      فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فإن أذنوا له نَفَذَ وقِبَل خبره، وإلا فإن طَلب السلامة أعرض عن أمره وخبره وفوضه إليهم، وإلا حرفه عن مواضعه وسمى تحريفه: تأويلاً وحملاً، فقال: نؤوله ونحمله، فلئن يلقى العبد ربه بكل ذنب على الإطلاق -ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يلقاه بهذه الحال.
      ولقد خاطبت يوماً بعض أكابر هؤلاء، فقلت له: سألتك بالله لو قدر أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي بين أظهرنا وقد واجهنا بكلامه وبخطابه، أكان فرضاً علينا أن نتبعه من غير أن نعرضه على رأي غيره وكلامه ومذهبه، أم لا نتبعه حتى نعرض ما سمعناه منه على آراء الناس وعقولهم؟!
      فقال: بل كان الفرض المبادرة إلى الامتثال من غير التفات إلى سواه، فقلت: فما الذي نسخ هذا الفرض عنا وبأي شيء نسخ؟! فوضع إصبعه على فيه وبقي باهتاً متحيراً وما نطق بكلمة.
      هذا أدب الخواص معه، لا مخالفة أمره والشرك به ورفع الأصوات وإزعاج الأعضاء بالصلاة عليه والتسليم ، وعزل كلامه عن اليقين وأن يستفاد منه معرفة الله أو يتلقى منه أحكامه '' .
      ويقول: '' {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار}
      وليست محبة الله ورسوله دعوى يمكن أن تلوكها ألسنة الزنادقة أو المبتدعين، أو شعاراً يرفعه المنافقون، بل هي تحقيق توحيد الله وطاعته باتباع ما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمحبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي لا يكون العبد شاهداً أن محمداً رسول الله إلا بها لا تتحقق إلا باتباعه وتعزيره وتوقيره وتعظيم سنته والتخلي عن التقديم بين يدي أمره ونهيه - كما جاء في حديث: {لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به } '' .
      يقول الإمام ابن القيم في بيان هذا الأصل العظيم ''أصل العبادة: محبة الله، بل إفراده بالمحبة وأن يكون الحب كله لله، لا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه، فمحبتهم من تمام محبته وليست محبة معه، كمحبة من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبه.
      وإذا كانت المحبة له هي حقيقة عبوديته وسرها، فهي إنما تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه، فعند اتباع الأمر واجتناب النهي تتبين حقيقة العبودية والمحبة ولهذا جعل تعالى اتباع رسوله علماً عليها وشاهداً لمن ادعاها، فقال تعالى: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ))[آل عمران:31].
      فجعل اتباع رسوله مشروطاً بمحبتهم لله، وشرطاً لمحبة الله لهم، ووجود المشروط ممتنع بدون وجود شرطه وتحققه بتحققه، فعلم انتفاء المحبة عند انتفاء المتابعة.
      بل المعول في باب معرفة الله، على العقول المتهوكة المتحيرة المتناقضة وفي الأحكام: على تقليد الرجال وآرائها والقرآن والسنة إنما نقرؤهما تبركاً لا أنا نتلقى منهما أصول الدين ولا فروعه ومن طلب ذلك ورامه عاديناه وسعينا في قطع دابره واستئصال شأفته...'' .
      انظر إلى كلام هذا الإمام وهو يتحدث عن واقع عصره حين كان الانحراف في توحيد الله بالعبادة وتوحيد الرسول بالمتابعة -مع دعوى المحبة لله ورسوله- محصوراً في الضلالات الكلامية والبدع السلوكية، كقول الأشاعرة: إن الظواهر النقلية لا بد من عرضها على القواطع العقلية؛ لأنها يقين وظواهر النقل ظنون بزعمهم.
      وكقول المتصوفة بعرض النصوص الشرعية على الكشف والذوق والحال، وكقول المتفقهة بعرض الأحاديث الصحيحة على كلام إمام المذهب ونحو ذلك من الانحرافات المغلفة بالتأويلات الفاسدة.
      أقول: ذلك الانحراف على خطورته أين منه ما وقع في العصور الأخيرة؛ من تحكيم صريح لقوانين الكفار ومناهجهم وطرق حياتهم وتقديم ذلك على الكتاب والسنة ومحاربة الداعين إلى التمسك بالدين وتحكيم الشريعة واستئصال شأفتهم؟! ومع هذا يدعي أصحاب هذا الكفر المبين ورجال دينهم محبة الله ورسوله ويعبرون عن هذا الحب المزعوم بالمظاهر والاحتفالات البدعية وأعمال -الضرار- الأخرى ويستدرجون بها عقول بعض العلماء الناصحين، فيتورعون عن الحكم عليهم بما حكم الله عليهم به متذرعين بأنهم غير مستحلين!!
      إن الصورة العصرية المناقضة لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -أي: لتوحيد العبادة وتوحيد المتابعة- تتجرد عن التأويلات والأقيسة وتتعرى عن قصد المصلحة والإخلاص وتتجلى في صورة افتئات صارخ على مقام الألوهية وتحكم مقنن في حكم الله ورسوله.
      هذه الصورة التي من مظاهرها المتكررة الدائمة عرض حكم الله ورسوله وتوقف إقراره على موافقة السلطة التي منحها القانون حق التشريع المطلق.
      مثال ذلك: تحريم الخمر، هو حكم قطعي ضروري في الشريعة الإسلامية، يتوسل الدعاة والعلماء الطيبون إلى السلطة الحاكمة أن تقره لكي يصبح تشريعاً رسمياً ملزماً، فإن تكرمت السلطة وقبلت الطلب عرضته على المجلس التشريعي -الذي أعطي بحكم الدستور حق التشريع المطلق- ليبدي رأيه بالموافقة أو عدمها!
      ثم في المجلس تدور معركة الأصوات بين المؤيدين والمعارضين الذين يعترضون بكل ثقة وبكل جرأة؛ لأنهم يمارسون عملهم الطبيعي وسلطتهم المشروعة.
      وفي أحسن الحالات -بل على أحسن الافتراضات- يحصل القرار على الأغلبية وهنا -فقط- يصبح حكماً ملزماً ويدرج ضمن مواد التشريع الوضعي على أنه فقرة من فقراته.
      ومع ذلك يظل حق السلطة التشريعية الثابت في إلغاء هذه المادة -متى شاءت- محفوظاً بحكم الدستور.
      أي إنه لو فرضنا أن دولةً ما طبقت بعض أحكام الشريعة؛ كجلد شارب الخمر -مثلاً- فهذا الحكم لم يكتسب صفة القانون والإلزام والتنفيذ لصدوره عن الله عز وجل، بل لصدوره عن السلطة التشريعية الرسمية التي أقرته بعد عرضه عليها!!
      فالله جل جلاله -عندهم- ليس من حقه التشريع لذاته، ولا هو أهل لأن يطاع، وليس لحكمه صفة الإلزام لذاته، وإنما ينتقى ويختار من أحكامه بناءً على موافقة مصدر السلطات ومالك حق التشريع؛ وهم البشر!!
      ونحن نسأل هؤلاء المدعين للإسلام السؤال نفسه الذي سأله الإمام ابن القيم أسلافهم، فنقول: لو قدر أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي بين أظهرنا وواجهنا بكلامه وبخطابه وتلا علينا حكم الله في أي أمر، أكان فرضاً علينا أن نتبعه ونطيعه رأساً، أم نعرض ما يأتينا به على تلك المجالس؟
      فسيقولون: بل لا بد من الامتثال والطاعة تواً، فنقول: أغياب شخص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع بقاء دينه غضاً طرياً كما نزل هو السبب إذن في إعراضكم عن شرع الله وتطاولكم على مقام الألوهية وجلوسكم على عرش الربوبية؟!
      ورحم الله الشيخ محمد بن إبراهيم حين قال في بيان النوع الخامس من أنواع الحكم بغير ما أنزل الله التي تخرج صاحبها من الملة وتناقض الشهادتين:
      ''الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية؛ إعداداً وإمداداً وإرصاداً وتأصيلاً وتفريعاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً وإلزاماً ومراجع مستمدات.
      فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات؛ مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي والقانون الأمريكي والقانون البريطاني ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين للشريعة وغير ذلك.
      فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حاكمها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به وتقرهم عليه وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا الكفر وأي مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة؟!!'' .
      وإذا كانت حقيقة المحبة هي بهذه المنزلة بالنسبة لأصل التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإنها أيضاً من أعظم أعمال القلوب المتعلقة بتحقيق توحيد الألوهية والعبادة ومن هنا كان الانحراف الكبير الذي وقع فيه المتصوفة والكلاميون ونحوهم، ممن غفل عن حقيقة المحبة ومعناها ولوازمها ومقتضياتها، فأنكر شيئاً من ذلك، أو صرفه في غير موضعه المشروع.
      وتفصيل هذه القضايا مما لا يتسع له المجال هنا ولكن لم أر بداً من التعرض لشيء من ذلك، لا سيما وقد وجدت كلاماً عظيماً لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في رسالته: التحفة العراقية في الأعمال القلبية، هذه مقتطفات منها:
      يقول رحمه الله: محبة الله، بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما أن التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين، فإن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة، إما عن محبة محمودة أو عن محبة مذمومة...
      فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة، وأصل المحبة المحمودة هي محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة عند الله لا يكون عملاً صالحاً، بل جميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن محبة الله، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، كما ثبت في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: يقول الله تعالى: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله للذي أشرك }
      وثبت في الصحيح حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار القارئ المرائي والمجاهد المرائي والمتصدق المرائي.
      بل إخلاص الدين لله هو الذي لا يقبل الله سواه وهو الذي بعث به الأولين والآخرين من الرسل وأنزل به جميع الكتب واتفق عليه أئمة أهل الإيمان وهذا هو خلاصة الدعوة النبوية وهو قطب القرآن الذي تدور عليه رحاه...إلى أن يقول:
      فإذا كان أصل العمل الديني هو إخلاص الدين لله وهو إرادة الله وحده، فالشيء المراد لنفسه هو المحبوب لذاته وهذا كمال المحبة، لكن أكثر ما جاء به المطلوب مسمى باسم العبادة، كقوله: (( ومَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ))[الذاريات:56] وقوله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ))[البقرة:21] وأمثال هذا.
      والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبوداً والمعظم الذي لا يحب لا يكون معبوداً ولهذا قال تعالى: ((ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ))[البقرة:165].
      فبين سبحانه أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الله أنداداً وإن كانوا يحبونهم كما يحبون الله، فالذين آمنوا أشد حباً لله منهم؛ لأن المؤمنين أعلم بالله والحب يتبع العلم؛ ولأن المؤمنين جعلوا جميع حبهم لله وحده وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره وأشركوا ببينه وبين الأنداد في الحب ومعلوم أن ذلك أكمل قال تعالى: ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ورَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ))[الزمر:29].
      واسم المحبة فيه إطلاق وعموم، فإن المؤمن يحب الله ويحب رسله وأنبياءه وعباده المؤمنين وإن كان ذلك من محبة الله وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره ولهذا جاءت محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مذكورة بما يختص به سبحانه من العبادة والإنابة إليه والتبتل له ونحو ذلك، فكل هذه الأسماء تتضمن محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      ثم إنه كما بين أن محبته أصل الدين، فقد بين أن كمال الدين بكمالها ونقصه بنقصها؛ فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، فأخبر أن الجهاد ذروة سنام العمل وهو أعلاه وأشرفه وقد قال تعالى: (( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ وجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ )) إلى قوله: (( أَجْرٌ عَظِيمٌ )) [التوبة:19-22] والنصوص في فضائل الجهاد وأهله كثيرة.
      وقد ثبت أنه أفضل ما تطوع به العبد والجهاد دليل المحبة الكاملة، قال تعالى: (( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإِخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وعَشِيرَتُكُمْ )) الآية[التوبة:24].
      وقال تعالى في صفة المحبين والمحبوبين: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ))[المائدة:54].
      فوصف المحبوبين المحبين بأنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، فإن المحبة مستلزمة للجهاد لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق له في ذلك وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم ويغضب لغضبهم، إذ هم إنما يرضون لرضاه ويغضبون لما يغضب له'' .
      أقول: شَيْخ الإِسْلامِ هنا يلتفت للرد على مزاعم الصوفية المدعية للحب الكامل والولاية لله مع تركهم الجهاد والعمل والله تعالى أخبر أنه إنما يكره ذلك المنافقون فقال: ((فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ))[التوبة:81].
      فالكارهون للجهاد لا يمكن أبداً أن يكونوا محبين لله ورسوله، ولا أولياء له ولرسوله.
      ثم يقول الشيخ: ''ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح فيما يرويه عن ربه: {ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا بد له منه...} ''
      قال: ''والمحب التام لا يؤثر فيه لوم اللائم وعذل العاذل، بل ذلك يغريه بملازمة المحبة كما قد قال أكثر الشعراء في ذلك .
      وهؤلاء هم أهل الملام المحمود وهم الذين لا يخافون من يلومهم على ما يحب الله ويرضاه من جهاد أعدائه؛ فإن الملام على ذلك كثير، وأما الملام على فعل يكرهه الله أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق وليس من المحمود الصبر على هذا الملام، بل الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
      وبهذا يحصل الفرق بين الملامية الذين يفعلون ما يحبه الله ورسوله ولا يخافون لومة لائم في ذلك وبين الملامية الذين يفعلون ما يبغضه الله ورسوله ويصبرون على الملام في ذلك''.
      أقول: يطول الحديث في التفصيل في هذا العمل القلبي العظيم , وبيان درجات وأدلة كل درجة، وأثر ذلك في أعمال الإيمان من صلاة وزكاة ونحوها ولكن ضيق المجال والرغبة في الاختصار لا تسمح بتجاوز ما قد سطر، ولعل في الحديث عن الأعمال القلبية الأخرى ما يكمل الفائدة مجتمعة والله المستعان.
      3- اليقين:
      لليقين معنيان وإن شئت فقل: هو معنى واحد منظور له من جهتين:
      1- اليقين من حيث هو أصل للإيمان، إذ لا إيمان مع الشك.
      2- اليقين من حيث هو درجة عليا من درجات الإيمان.
      فبالنظر للمعنى الأول يكون كل مؤمن موقناً وإلا لم يستحق اسم الإيمان وبالنظر للمعنى الآخر - ليس كل مؤمن موقناً، بل الموقنون طائفة خاصة من المؤمنين.
      فأما اليقين بالمعنى الأول فهو شرط من شروط شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أي أن الإيمان المجمل -قول القلب واعتقاده- لا يتحقق إلا به، فمن شك في الله أو في رسوله وما جاء به عن الله، فهو كافر لا شهادة له ولا إيمان.
      بذلك أخبر الله تعالى عن الكفار حين قالوا لرسلهم: ((إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ))[إبراهيم:9-10].
      وأخبر أنهم إذا طلب منهم الإيمان بالبعث قالوا: ((مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً ومَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ))[الجاثية:32].
      لكن إذا كان يوم القيامة يقولون:
      ((رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ))[السجدة:12].
      ولهذا جاء في وصف القرآن أكثر من مرة بأنه (لا رَيْبَ فِيهِ).
      وفي حديث جابر رضي الله عنه يقول: أنا من شهد معاذاً حين حضرته الوفاة، يقول: اكشفوا عني سجف القبة، أحدثكم حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يمنعني أن أحدثكموه إلا أن تتكلوا، سمعته يقول: {من شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه -أو: يقيناً من قلبه- لم يدخل النار، أو دخل الجنة -وقال مرة- دخل الجنة ولم تمسه النار} .
      وروى الإمام مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه -في قصة تبوك- أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة -وفي رواية- فيحجب عن الجنة}.
      وعنه في حديث آخر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: {اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة}
      وهذا اليقين -بهذا المعنى- هو حقيقة العلم بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن ثَم ذكر بعض العلماء العلم شرطاً مستقلاً من شروط الشهادتين مستدلين بقوله تعالى: ((فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ))[محمد:19] .
      وقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة }
      وعقد الإمام البخاري باباً بعنوان: باب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا أعلمكم بالله وأن المعرفة فعل القلب، لقوله تعالى: ((ولَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ))[البقرة:225] ثم روى حديثاً آخره: {إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا} .
      لكن لم أر أن أفرده هنا -أي: العلم- لأن الحديث عن اليقين يشمله ويتضمنه ولأن الحديث عن ضده؛ وهو الجهل بالتوحيد -كلياً أو جزئياً- يحتاج لتطويل يخرج عن دائرة موضوعنا هنا.
      وأما اليقين بالمعنى الآخر -أي: اليقين الدرجة- فهو لب الإيمان وخلاصته وزبدته، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "اليقين الإيمان كله" وفي المسند: { أفضل الأعمال عند الله إيمان لا شك فيه وغزو لا غلول فيه وحج مبرور .
      وهو يقابل الإيمان الكامل المفصل، كما أن ذاك يقابل الإيمان المجمل ولهذا جاء في القرآن شرطاً للإمامة في الدين، فقال تعالى: ((وجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ))[السجدة:24].
      ومن ارتباطه بالصبر قوله تعالى: ((فَاصْبِرْ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ولا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ))[الروم:60].
      وأخبر الله تعالى عن إمام الموحدين، فقال: ((وكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ))[الأنعام:75].
      فقد كان الإيمان متحققاً عنده، كما أخبر الله عنه في الآية التي قبلها: ((وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ))[الأنعام:74] فرقاه الله إلى درجة القين، مثلما كان مؤمناً بأن الله يحيي الموتى لكن طلب الرؤية لتحصيل الطمأنينة التي هي برد اليقين.
      وهذا اليقين هو الذي عبر عنه بعض السلف بقوله: ''لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً'' .
      وقال الآخر: ''رأيت الجنة والنار حقيقة، قيل له: كيف؟ قال: رأيتهما بعيني رسول الله ورؤيتي لهما بعينيه آثر عندي من رؤيتي لهما بعيني، فإن بصري قد يطغى ويزيغ، بخلاف بصره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'' .
      واليقين بهذا المعنى نظير الإحسان الوارد في حديث جبريل، لكن الإحسان في عمل الجوارح واليقين في عمل القلب والله أعلم.
      فاليقين في الجملة متعلقه الاعتقاد، وذلك أن مجمل الإيمان القلبي هو الإيمان بالغيب فإذا رسخ هذا الإيمان وارتقى عن الشكوك حتى يصبح كالمعاينة فهو اليقين.
      ولهذا جاء أعظم الغيبيات -بعد الإيمان بالله- وهو الإيمان بالآخرة مقروناً باليقين أكثر مما سواه، فقال تعالى: (( وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ )) في أول البقرة والنمل ولقمان.
      فإن الإيمان بالآخرة -مع دلالة الفطرة السوية والعقل السليم عليه- ليس في قوة الإيمان الفطري بالله، كما أن تفصيلاته مصدرها الوحي وحده.
      واليقين نوعان:
      1- يقين في خبر الله.
      2- يقين في أمر الله الشرعي والكوني.
      فاليقين بخبر الله هو الإيمان بصدقه وتحققه ووقوعه -إن كان مما له الوقوع- إيماناً لا شك فيه وهذا هو الإيمان بالغيب يقيناً ومن الأدلة عليه قوله تعالى: ((وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي))[البقرة:260] فطلب الخليل من ربه مثالاً للبعث يزيد إيمانه حتى يصبح يقيناً خالصاً، وقريب منه طلب الحواريين المائدة، فمع إيمانهم بقدرة الله طلبوا ما تطمئن به قلوبهم كذلك.
      وهذا اليقين قد بلغ ذروته النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس فيما أخبر الله به من أمور الدين والإيمان فحسب، بل في كل خبر ووعد حتى إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان موقناً بأن الله سينصره ويظهره على العالمين، وهو ما يزال في أقسى مواقف الاضطهاد والتشريد والأذى، ولم يستبطئ النصر كما استبطأه رسل من قبله فقالوا: ((مَتَى نَصْرُ اللَّهِ))[البقرة:214] ولم يستيئس كما استيأس بعضهم.
      وأما اليقين بأمر الله، فهو امتثاله برضا وطمأنينة وتسليم إن كان شرعياً، والرضا به والتسليم إن كان كونياً.
      وذروته ما فعله إمام الموحدين من الامتثال لذبح ابنه الوحيد، وما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواقف من أعظمها يوم الحديبية حين قال: {إني عبد الله، لن أخالف أمره ولن يضيعني} أو نحوها.
      وهذا في حقيقته هو الاستسلام لحكمه استسلاماً يرتقي لدرجة الإحسان، كما في قوله تعالى: ((فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً))[النساء:65].
      وهو تحقيق دين الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله التي هي العروة الوثقى، كما قال تعالى: ((ومَنْ يُسْلِمْ وجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى))[لقمان:22]و مع قوله: ((فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ ويُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى))[البقرة:256].
      ولهذا جاءت الآيات المحكمات الدالة على اتباع شريعة الله والتحاكم إليها وحدها مذيلة بوصف اليقين لمن امتثل، فدل على شك من خالف وارتيابه، قال تعالى: ((وأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ ومُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهَاجاً ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ولَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ واحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))[المائدة:48-50].
      وقال جل ذكره: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ واللَّهُ ولِيُّ الْمُتَّقِينَ * هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وهُدىً ورَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))[الجاثية:18-20].
      فكما سبق بيانه من أن تحكيم شرع الله هو الإسلام، فإذا بلغ من العبد إلى حد انتفاء الحرج والمعارضة بالرضا الكامل فهو الإحسان، فكذلك اعتقاد بطلان ما عداه وأنه وحده الحق الذي لا أحسن منه ولا أهدى هو درجة الإسلام، فإذا رسخ هذا حتى لا تزعزعه شبهة ولا يعتريه شك فهو اليقين.
      وقد ضرب الصحابة -رضي الله عنهم- من اليقين في أمر الله أعظم الأمثال، مما لا يتسع المقام للتطويل به، وحسبك أن ينزل الله تحريم الخمر والقوم مدمنون على شربها، مدخرون لها، مغالون في أثمانها، فما يكاد الأمر ينزل حتى تسيل بها أزقة المدينة أنهاراً!!
      وأن ينزل الله الأمر بالحجاب والقوم مختلطون متعارفون، فما يكاد ذلك يبلغهم حتى تغدو نساؤهم كأنهن الغربان.
      فهاتان عادتان إحداهما نفسية والأخرى اجتماعية وهما من أشد العادات وطئاً وأشقها تغييراً، تذهبان دفعة واحدة وتستأصلان من أعماق النفوس في لحظة واحدة، وما ذلك إلا باليقين الذي ليس وراءه في الأمم يقين.
      4- الصدق والإخلاص:
      هذان عملان قلبيان من أعظم أعمال القلوب وأهم أصول الإيمان.
      فأما الصدق فهو الفرقان بين الإيمان والنفاق، وأما الإخلاص فهو الفرقان بين التوحيد والشرك، في قول القلب واعتقاده، أو في إرادته ونيته.
      والأعمال -التي رأسها وأعظمها شهادة أن لا إله إلا الله- لا تقبل إلا بتحقيق الصدق والإخلاص.
      ومن هنا كانا شرطين من شروطها وأكذبَ الله المنافقين في دعوى الإيمان وقول الشهادة؛ لانتفاء الصدق، فقال:
      ((إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ))[المنافقون:1].
      وقال: ((ولَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ))[العنكبوت:3].
      ثم قال بعد آيات: ((ولَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ولَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ))[العنكبوت:11].
      وقال: ((لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ ويُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ))[الأحزاب:24].
      كما أبطل سبحانه زعم أهل الكتاب والمشركين أن دينهم هو الحق بانتفاء الإخلاص، فقال: ((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ والْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ))[البينة:1]
      إلى أن يقول: ((ومَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكَاةَ وذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5].
      وقال: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ومَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً واحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ))[التوبة:31].
      وكرر منافاة الشرك للإخلاص في مواضع كثيرة، منها ما في سورة الإخلاص الكبرى الزمر: ((تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ والَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى...))[الزمر:1-3].
      ثم قال: ((قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ))[الزمر:11-15].
      ثم قال: ((قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * ولَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ))[الزمر:64-66].
      فعلى محك الصدق والإخلاص بطلت أكثر دعاوى العابدين وهلك أكثر الثقلين، فالصدق يخرج كل من ادعى الإيمان -أو شيئاً من أعماله- وأظهره وهو يبطن خلافه والإخلاص يخرج كل من عبد مع الله غيره أو أراد غيره معه في عمل من أعمال العبادة كما في الحديث الصحيح: {قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك؛ من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه}
      ومن هنا كانت شهادة أن لا إله إلا الله هي كلمة الصدق، وكلمة الإخلاص واقترن الصدق والإخلاص وحل كل منهما محل الآخر في الأحاديث، كأحاديث الشفاعة التي وردت بها روايات كثيرة، منها:
      {أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصة من قبل نفسه}.
      وفي رواية {شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه}.
      وفي رواية: {رب من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله مصدقاً لسانه قلبه أدخله الجنة}.
      وفي رواية: {ثم يشفع الأنبياء في كل من كان يشهد أن لا إله إلا الله مخلصاً فيخرجونهم، ثم يتحنن الله برحمته على من فيها، فما يترك فيها عبداً في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا أخرجه منها}.
      وكحديث مالك بن الدخُشم الذي كان متهماً بالنفاق، فأخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يخالف ذلك في روايات، منها: {أَمَا شهد أن لا إله إلا الله بها مخلصاً؟ فإن الله حرم على النار من شهد بها}.
      وفي رواية البخاري: {يبتغي بذلك وجه الله} مكان -مخلصاً- وفي رواية: {والذي بعثني بالحق لئن قالها صادقاً من قلبه لا تأكله النار أبداً} وهي تقيد الإطلاق الوارد في رواية مسلم: {أليس يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟}
      والصدق والإخلاص -مع تقاربهما ومع ترادفهما أحياناً- يعرف التمييز بينهما بضد كل منهما؛ فالصدق ضده انتفاء إرادة الله بالعمل أصلاً كمن آمن أو صلّى كاذباً، لم يرد الإيمان والصلاة وإنما فعل ذلك لسبب آخر، كما فعله المنافقون حفظاً لأنفسهم وأموالهم من السيف وجبناً عن تحمل أعباء المواجهة الصريحة للإيمان.
      والإخلاص ضده انتفاء إفراد الله بالإرادة والتوجه، كمن آمن أو صلّى صارفاً ذلك لأحد من دون الله، وهذا هو الشرك الذي وقع فيه أكثر العالمين ومنهم أهل الكتاب والمشركون الذين اتخذوا من دون الله أولياء؛ من الأنبياء أو غيرهم وعبدوهم زاعمين أنهم يقربونهم إلى الله زلفى.
      ومما يميز بينهما أن الصدق لا يختص بالاعتقاد، بل يكون في الأعمال أيضاً، بخلاف الإخلاص فإنه عمل قلبي محض، لكن تظهر آثاره على الجوارح، كما سبق فيما أوضحنا في العلاقة بين عمل القلب وعمل الجوارح، وهذا يشبه ما سبق من القول في اليقين والإحسان والله أعلم.
      وعلى قدر تحقيق العبد لشعب الإيمان وأعماله يكون حظه من الصدق، حتى يصل إلى درجة الصديقين، يقول الله تعالى: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ والْمَغْرِبِ ولَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ والْمَلائِكَةِ والْكِتَابِ والنَّبِيِّينَ وآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى والْيَتَامَى والْمَسَاكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ والسَّائِلِينَ وفِي الرِّقَابِ وأَقَامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكَاةَ والْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا والصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ))[البقرة:177].
      ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))[الحجرات:15].
      وقال: ((والَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ))[الحديد:19].
      كما أن الإخلاص بالنسبة للأعمال كالروح للجسد، فالفرق بين عمل بإخلاص وعمل لا إخلاص فيه، كالفرق بين البشر السوي والتمثال الشاخص.
      وعلى قدر ما يحقق العبد في الإخلاص لربه يكون ترقيه في (الْمُخْلَصِينَ)، الذين صرف الله عنهم غواية الشيطان وأثنى عليهم في كل أمة وبين نجاتهم حين هلاك أممهم.
      قال تعالى حكاية عن إبليس: ((إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ))[ص:83] وقال في سورة الصافات تعقيباً على إهلاك الأمم عامة: ((فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ))[الصافات:73-74] وعن قوم إلياس خاصة، قال فيها: ((فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ))[الصافات:127-128].
      وكرر ذلك في مواضع من هذه السورة وغيرها، كقوله عن يوسف لما عصمه من الفاحشة: ((كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ))[يوسف:24].
      ولهذا كثر الحديث عن الصدق والإخلاص في كتاب الله، وجاء الحديث عن الصدق في السور التي تعرضت للنفاق وأهله؛ كسورة براءة والأحزاب والمنافقون والقتال ( محمد ) والحجرات والحشر.
      وجاء الحديث عن الإخلاص في السور التي تحدثت عن الشرك والمشركين؛ كسورة الأعراف والزمر وغافر والبينة والكافرون، بل في سورة الأنعام وإن لم يذكر فيها صريحاً.
      وارتباط عمل الجوارح بالصدق والإخلاص -كارتباطه بالرضا والمحبة واليقين- أمر محسوس ظاهر، يدل على ارتباط أجزاء الحقيقة الإيمانية الواحدة كما أسلفنا.
      هذا ما يسر الله به واتسع له المجال من الحديث عن أعمال القلوب ولقد تركت أعمالاً أخرى قد لا تقل أهمية عن هذه؛ كالتوكل والصبر والتوبة والإنابة والخوف والرجاء، على أن ما ذكرنا يتضمنها أو يدل عليها ويشير إليها، بل كثير مما نذكر مما يسميه بعضهم مقامات هو كالوسائل لهذه الغايات والفروع لهذه الأصول؛ إذ كانت هذه المذكورة جميعها متعلقة بشطر (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وأما التوكل والصبر ونحوها فمتعلقة بشطر (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ومعلوم أن الاستعانة وسيلة للعبادة وفرع منها.
      ولا يفوتني أن أختم الحديث عن أعمال القلب بذكر فائدتين من فوائد كثيرة منّ الله تعالى بها عليّ وأنا أطيل التأمل والتفكر في هذا الجزء العظيم من أجزاء الإيمان:
    3. فوائد تتعلق بأعمال القلوب

      إحداهما: تتعلق بتلك الأعمال عامة.
      والأخرى: تختص بموضوع المرض الأكبر الذي يعتري القلوب وهو مرض النفاق.
      فالأولى: هي أن من تأمل ما سبق شرحه من أعمال القلوب المعدودة شروطاً للشهادتين -أعني الرضا واليقين والمحبة والصدق والإخلاص- كما وردت في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطابق ذلك بأحوال المخلوقين وطرائق العابدين يجد أن كل شرط من هذه الشروط يخرج طائفة من طوائف الضلال بخصوصها عن الصراط المستقيم وإن كان قد يعم سائرها؛ إذ التلازم بينها لا يخفى وهذا يشمل أمم الكفر والشرك والطوائف الملحقة بها من هذه الأمة.
      * فالرضا: يخرج المستكبرين عن أمر الله وشرعه ودينه، إما بسبب الحسد والمنافسة، كحسد أبي جهل أن تكون النبوة في بني عبد مناف، وكحسد اليهود أن تكون النبوة في ذرية إسماعيل، وما حصل لـعبد الله بن أبي بن سلول حين أضاع قدوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة أحلامه في الملك ونحو ذلك، وأصل ذلك كله حسد إبليس لآدم عليه السلام.
      وإما بسبب التمسك بما كان عليه الآباء والأجداد وما ورثوه من الشأن والأمجاد واستكبار النفوس أن تتركه لأجل أناس من البشر لا سلطان لهم ولا أبهة: ((إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * ويَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ))[الصافات:35-36].
      وإما الاعتداد بما هم عليه من الحضارة والرقي والعلم، الذي يحملهم على احتقار دين الله واستصغاره: ((فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ))[غافر:83].
      وغير ذلك من الأسباب المانعة من الانقياد والاستسلام والقبول، الذي عبرنا عنه بالرضا كما عبر الشارع .
      ومن أعظم مظاهر ذلك في المنتسبين للإسلام اتباع المناهج الفلسفية - والتحاكم إلى القوانين الوضعية والتماس الهدى والعدل من غير كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ونحوها مما يعلن عن عدم الرضا بما أنزل الله والاكتفاء به.
      * والمحبة: تخرج الكارهين لأمر الله وشرعه ودينه كله أو بعضه والمشركين في محبته المعظمين لغير الله وغير شرعه الذين اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله واتخذوا من غير الإسلام مناهج يعظمونها كتعظيمه - كما كان الفلاسفة كـابن سينا وابن رشد يعتقدون أنه ما طرق العالم ناموس أعظم من ناموس الإسلام، لكن ما عند الحكماء والفلاسفة القدماء من الناموس فيه خير عظيم وهدى مبين وأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أعظم الحكماء والمصلحين كـأرسطو وأفلاطون وكما قال طاغوت التتار زمن شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: رجلان عظيمان محمد وجنكيزخان!!
      وكما يعتقد كثير من المعاصرين ويرددونه -المنتسبين للإسلام وغيرهم- من أن الإسلام من أعظم العوامل في بناء الحضارة الإنسانية في القرون الوسطى وما يزال فيه كثير من الإيجابيات التي يمكن أن تسهم في الحضارة المعاصرة، أو أنه ميزة ما يسمونه العالم الثالث، الذي يمكن أن يصل بشعوبه إلى ما وصل إليه المعسكران الكبيران والالتحاق بركب الحضارة والتقدم.
      والمتحذلقون منهم يقولون: إن ما في الإسلام من نظم ومبادئ تغني المسلمين عن الاقتباس من الشرق أو الغرب، لكن لا يغضون من قيمة ما عند الشرق والغرب من النظم والمبادئ ولا يرونهم في حاجة إلى الإسلام.
      وأمثال ذلك كثير وخصوصاً على أفواه رجال الضرار ومنابره، ومن المظاهر العادية للتسوية في التعظيم -إن لم يكن تعظيم الكفر أعظم- أن هؤلاء الناس يتحرجون من تسمية الأمم المتحضرة كفاراً، وبل ربما نفروا ممن يطلق عليهم ذلك - حتى لقد قام بعض كتاب المدرسة العصرية بالسخرية العلنية ممن يزعمون أن المسلمين وحدهم سيدخلون الجنة وأن أديسون، وباستور وفلان وفلان من رواد الحضارة والعلم سيدخلون النار!!
      * واليقين: يخرج الفلاسفة والملاحدة والمتعمقين في الكلام وأصحاب النظريات عن الكون ونشأته والإنسان ومهمته ومن يلحق بهم من علماء ما يسمى علم الاجتماع أو علم النفس السائرة على غير هدى الله، فهؤلاء لا يصلون إلى اليقين ولا يستقر لهم قدم بحال في كل ما يبحثون فيه مما ليس داخلاً في نطاق العقل البشري، وحسبك أن الله تعالى قال فيهم: ((مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ ولا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ومَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً))[الكهف:51].
      ولولا خشية التطويل لذهبنا في سرد اعترافاتٍ من اعترافات هؤلاء بالعجز والجهل والشك والحيرة، سواء الكفار منهم أو المشتغلون بذلك من المسلمين؛ كـالرازي والجويني والشهرستاني.
      ويلحق بهؤلاء جهال الأرض وهم أكثر العالم الذين لا دين لديهم ولا هدى.
      * والصدق: يخرج الكاذبين في دعوى الإيمان؛ وهم المنافقون وهم كثير في هذه الأمة ومرضهم وبيل، ولذا سنخصه بالحديث في الفقرة التالية.
      * والإخلاص: يخرج المشركين العرب وأهل الكتاب وكل من يزعم أن دينه خير الأديان وهو لا يخلص التوحيد لله تعالى -إلا في حال الشدة والكرب- ويلحق بهم من المنتسبين للإسلام كل من تعلق بالأموات من الأنبياء والصالحين ودعاهم ورجاهم ونذر لهم معتقداً أنهم يقربونه إلى الله زلفى -كما كان المشركون يعتقدون في آلهتهم ومن يعتقد من الشيعة والصوفية أن أئمتهم وأولياءهم يتصرفون في الكون ويعلمون الغيب ويسبغ عليهم ما هو من خصائص الألوهية.
      كما يخرج به المشركون في الطاعة والاتباع، الخارجون على مقتضى قوله تعالى: ((اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُو وأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ))[الأنعام:106] من المتبعين للمناهج البشرية والقوانين الوضعية، فكل هؤلاء لم يخلصوا لله ولم يحققوا شهادة أن لا إله إلا الله.
      كما يلحق بهم -من وجه- المشركون في الإرادة كأصحاب الأهواء والحظوظ العاجلة وهو الشرك الخفي الذي قل من ينجو منه.
      فلا عجب إذن أن يكثر الحديث في الكتاب والسنة عن هذه الأعمال، منبهاً أصحاب الصراط المستقيم على أهميتها ومبيناً هلاك من ضل فيها أو أعرض عنها، ولا عجب أن يكون من أعظم عوامل انتشار الإرجاء بل عوامل تقهقر الأمة وانحطاطها وإخفاق الدعوات الإسلامية وفشلها، إهمالها في تحقيق هذه الأعمال وتفريطها فيها.
      الفائدة الأخرى: وهي تنبيه ضروري يتعلق بأعظم مرض من أمراض القلوب وهو النفاق، فكما أخطأ كثير من الناس في مفهوم الكفر ومعناه وحصروه في صورة واحدة هي إنكار وجود الله، أو إنكار أنه الخالق الرازق المدبر ونحو ذلك -أخطأ كثير من الناس أيضاً- في مفهوم النفاق الأكبر وحصروه في صورة واحدة كذلك؛ هي أن يظهر الإسلام وهو يبطن اعتقاد كذب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل ما جاء به وعدم الإيمان بدين الإسلام كله وعدم الرضا بشيء منه.
      وهذه -وإن كانت أجلى صورة وأكبرها- ليست الصورة الوحيدة، بل النفاق الأكبر كالكفر الأكبر له صور كثيرة جداً، فكما أن الإنسان قد يكون مؤمناً ويخرج من الإسلام بكلمة أو فعل، فكذلك قد يكون منافقاً النفاق الأكبر بسبب قول أو فعل من أقوال القلب وأعماله مع اعتقاده بقية الدين وإظهاره للشرائع والشعائر.
      والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر في كتابه للمنافقين أحوالاً متفاوتة في النفاق الأكبر؛ فمنها الصورة الكاملة - كحال المذكورين أول البقرة: ((ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ومَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ والَّذِينَ آمَنُوا ومَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ومَا يَشْعُرُونَ))[البقرة:8-9].
      أو أول المنافقون: ((إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ))[المنافقون:1].
      ومنها صور دون ذلك، كحال المذكورين في سورة القتال (محمد): ((إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ))[محمد:25-26].
      أو حال المستهزئين بقراء الصحابة يوم تبوك، الذين أنزل الله فيهم: ((ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وآيَاتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ))[التوبة:65-66].
      فلا شك أن بين من يبطن الكفر بالله واليوم الآخر جملة واحدة -المتضمن تكذيب الرسول وبطلان القرآن- وبين من يقول للكفار سنطيعكم في بعض الأمر أو يستهزئ بشيء مما عظمه الله فرقاً وإن اتحد الحكم عليهما بالردة والكفر، فإن بعض الكفر أغلظ من بعض، كما قال الله تعالى: ((إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ))[التوبة:37].
      وقال: ((الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً ونِفَاقاً))[التوبة:97].
      فجعل بعض الكفر والنفاق أشد من بعض.
      والمقصود أن نعلم أن الرجل قد يكون في باطنه مؤمناً بالدين في الأصل والجملة ولكنه يكره شيئاً مما أنزل الله، أو لا يقر به في قلبه ولا يعتقد الالتزام به، فيكون حكمه حكم الكافر بالدين كله، وذلك كمن يكره بقلبه تحريم الربا ويرى ذلك مخالفاً للمصلحة وغير مستقيم مع العقل إذا كان الطرفان متراضيين عليه ونحو ذلك.
      ومن يكره ما أنزل الله بشأن الحجاب وستر النساء عن الاختلاط بالرجال ويراه نوعاً من الظلم والامتهان للمرأة، أو يراه عائقاً عن التنمية مخالفاً لمصلحة المجتمع.
      أو من يعتقد أن أحكام الجهاد ومقاتلة الكفار وسبي نسائهم وغنم أموالهم لا يليق بكرامة الإنسان وحريته ولا يتناسب مع المساواة الإنسانية.
      ومن يكره أن يقول أو يعتقد أن هؤلاء الكفار العصريين، أو أصحاب الحضارات المنقرضة -ومنهم الحكماء والأدباء والمخترعون- يحاسبهم الله يوم القيامة ويعذبهم بالنار ولا يقبل منهم أي عمل أو إحسان.
      ومن يعتقد أن من حق أتباع أي دين أن يدعوا إلى دينهم وأن ينشروه في كل مكان بتفاهم مع دعاة الإسلام ووئام بين جميع الأديان.
      ومن يكره ما أنزل الله بشأن معاملة الكفار وأحكام العلاقة بهم ويعتقد أن الأوفق والأصلح هو مداهنتهم ومجاملتهم - بمقتضى الاتفاقيات الدبلوماسية والأعراف الدولية التي ارتضاها العالم المتحضر والأمم المتحدة.
      ومن يكره ما شرعه الله من أحكام أهل الذمة ويرى أنه آن الأوان لإلغاء الجزية وتحقيق الأخوة الوطنية.
      ومن يكره ما جاء في القرآن والسنة من أخبار الأمم الكافرة وذمها وهلاكها بسبب معاصيها، أو يرى أن تاريخ الحضارات يجب أن يدرس وفق المنهج الذي يسير عليه المنهج الغربي تحليلاً واستنتاجاً.
      وصور كثيرة مشابهة كلها تفصح عما في قلب صاحبها من نفاق أكبر، وإن كان لا يكره بقية الأحكام ومظهراً لشعائر الإسلام.
  23. أثر عمل الجوارج في أعمال القلب

    إن الحديث عن عمل القلب وأهميته وتفصيل ذلك وبيان ارتباط أجزاء الإيمان بعضها ببعض من خلال ارتباط أعمال الجوارح به وكونها فرعاً له وصورة لما فيه ومقتضى لازماً له لا يعني أن أعمال الجوارح من الطاعات أو المعاصي لا تؤثر -هي الأخرى- على عمل القلب.
    وحذراً من أن تشعر المباحث السابقة بذلك رأيت أن أذكر ما يدل على أثر عمل الجارحة في عمل القلب، فبه تكتمل صورة التأثير المتبادل، مما يدل دلالة أوضح على أن كلاً منهما جزء من الحقيقة الواحدة الجامعة.
    ولنبدأ ببيان أثر المعاصي على القلب، ثم نعقب ببيان أثر الطاعة عليه.
    فأما آثار المعاصي في القلب فهي كثيرة جداً وقد فصل الإمام الرباني ابن القيم كثيراً منها في كتاب: الجواب الكافي وهأنذا أقتبس بعضها موجزاً وموضحاً:
    1- حرمان العلم النافع: فإن هذا العلم نور يقذفه الله في القلب والمعصية تطفئه، ولهذا كان السلف يرشدون تلاميذهم إلى ترك المعاصي؛ لكي يورثهم الله حقيقة العلم.
    2- الوحشة بين العبد وربه: وهي وحشة لو اجتمعت لصاحبها ملذات الدنيا كلها لم تذهبها، ومن علاماتها وفروعها: الوحشة بينه وبين أهل التقوى والإيمان.
    3- الظلمة التي يجدها العاصي في قلبه: فإن الطاعة نور والمعصية ظلمة، وكلما قويت الظلمة ازدادت حيرته حتى يقع في البدع والضلالات.
    قال ابن عباس: [[ إن للحسنة ضياءً في الوجه ونوراً في القلب وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القبر والقلب ووهناً في البدن ونقصاً في الرزق وبغضة في قلوب الخلق ]]
    4- وهن القلب: فلا تزال المعاصي توهنه حتى تزيل حياته بالكلية، وهذا الوهن يظهر أثره على البدن، فتأمل قوة أبدان فارس والروم كيف خانتهم عند أحوج ما كانوا إليها وقهرهم أهل الإيمان بقوة أبدانهم وقلوبهم.
    5- تقصير العمر ومحق بركته: بمقدار ما تمرض القلب وتذهب حياته، فإن حقيقة الحياة هي حياة القلب وعمر الإنسان هو مدة حياته، فكلما كثرت الطاعة زادت حياته فزاد عمره الحقيقي، وكلما كثرت المعاصي أضاعت حياته وعمره.
    6- أن العبد كلما عصى خفّت عليه المعصية حتى يعتادها ويموت إنكار قلبه لها، فيفقد عمل القلب بالكلية، حتى يصبح من المجاهرين بها المفاخرين بارتكابها، وأقل ذلك أن يستصغرها في قلبه ويهون عليه إتيانها، حتى لا يبالي بذلك وهو باب الخطر.
    روى البخاري في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: [[ إن المؤمن يرى ذنوبه كأنها في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار ]] .
    7- الذل: فالمعصية تورث الذل ولا بد، فالعز كل العز في طاعة الله تعالى، قال تعالى: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً))[فاطر:10] أي: فيطلبها بطاعة الله، فإنه لا يجدها إلا في طاعته.
    وكان من دعاء بعض السلف: اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك.
    وقال الحسن البصري: [[إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه]].
    وقال عبد الله بن المبارك:
    رأيت الذنوب تميت القلوب            وقد يورث الذل إدمانها
    وترك الذنوب حياة القلوب            وخير لنفسك عصيانها
    وهل أفسد الدين إلا الملوك            وأحبـار سوء ورهبـانها
    8- الصدى والران والطبع والقفل والختم: وذلك أن القلب يصدأ من المعصية، فإذا زادت غلب عليه الصدأ حتى يصير راناً، كما قال تعالى: ((كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ))[المطففين:14] ثم يغلب حتى يصير طبعاً وقفلاً وختماً، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس، فصار أعلاه أسفله؛ فحينئذٍ يتولاه عدوه ويسوقه حيث أراد، وبمثل هذا اتخذ الشيطان من البشر دعاة وجنوداً.
    9- إطفاء الغيرة من القلب: وهي الغيرة على محارم الله أن تنتهك، وعلى حدوده أو تقتحم، وعلى دينه أن يضعف أن يضيع، وعلى إخوانه المسلمين أن يهانوا أو يبادوا، بل على أهله ونفسه أن يقعوا في المعصية والهلاك، ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أغير الناس، كما ثبت في الصحيح: {أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه والله أغير مني}
    فالمعاصي تضعف هذه الغيرة حتى تذهبها وتزيلها، ولهذا تجد المدمنين على المعاصي لا يبالون بما حل بالإسلام وأهله من كوارث ومحن ولا يهمهم ذلك في شيء، وإنما همهم اتباع الشهوات وإضاعة الأوقات، ويرى الواحد منهم المنكر أمامه فلا تهتز له شعرة، بل يفقدون الغيرة الخاصة؛ وهي الغيرة على العرض، حتى تصير الدياثة فيهم طبعاً وسجية.
    10- إذهاب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب وهو أصل كل خير، وذهابه ذهاب كل خير بأجمعه.
    والذنوب تضعف الحياء من العبد حتى ربما انسلخ منه بالكلية، فلا يستحيي لا من الله ولا من العباد، والتلازم بين ارتكاب المحرمات وقلة الحياء لا يخفى على أحد.
    11- إذهاب تعظيم الله ووقاره من القلب: فكما أن تعظيم الله وتوقيره يحجز عن المعصية، فإن ارتكاب المعصية يضعف التعظيم والتوقير - حتى يستخف العبد بربه ويستهين بأمره ولا يقدره حق قدره.
    12- مرض القلب وإعاقته عن الترقي في مراتب الكمال ودرجاته -وقد سبق بيان تفاضل الناس في أعمال القلوب- فالذنوب تخرج صاحبها من دائرة اليقين وتنزله من درجة الإحسان، بل تخرجه من دائرة الإيمان، كما في الحديث الصحيح: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن} فلا يبقى له إلا اسم الإسلام وربما أخرجته منه؛ فإن المعاصي بريد الكفر.
    13- إضعاف همة القلب وإرادته وتثبيطه عن الطاعة وتكسيله عنها، حتى يئول به الأمر من الاستثقال إلى الكراهية والنفور، فلا ينشرح صدره لطاعة ولا يتحرج ويضيق من معصية ويصير جسوراً مقداماً على الخطايا جباناً رعديداً على الحسنات.
    14- الخسف بالقلب كما يخسف بالمكان وما فيه، فيخسف به -بسبب ارتكاب الرذائل- إلى أسفل سافلين وصاحبه لا يشعر، وعلامة ذلك الخسف أن يكون القلب جوالاً حول السفليات والقاذورات، متعلقاً بالمحقرات والأمور التافهات، عكس القلب الذي تزكى بالطاعات، فصار جوالاً في معالي الأمور ومكارم الأخلاق، كما قال بعض السلف: [[ إن هذه القلوب جوَّالة، فمنها ما يجول حول العرش ومنها ما يجول حول الحش ]] .
    15- مسخ القلب: فإن المعاصي والقبائح ما تزال تتكاثر عليه حتى تمسخه كما تمسخ الصورة، فيصير القلب على قلب الحيوان الذي شابهه في أخلاقه وأعماله وطبيعته، فمن القلوب ما يمسخ على قلب خنزير، كقلب الديوث.
    ومنها ما يمسخ على قلب كلب أو حمار أو حية أو عقرب...بحسب عمله، وقد شبه الله تعالى أهل الجهل والغي بالحمر تارة وبالكلب تارة وبالأنعام تارة وربما وصل الأمر إلى المسخ التام؛ وهو مسخ الصورة مع القلب، كما حصل لبني إسرائيل حين جعل الله منهم القردة والخنازير.
    16- نكد القلب وقلقه وضنكه: وهذا ملازم للمعصية ملازمة الظل لأصله، كما قال تعالى: ((ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ونَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى))[طه:124] فالمعرض عن ذكر الله متعرض لذلك، لكن قد يتوارى داؤه بسكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك الخمر، كالمشاهد في عصرنا الحاضر من إدمان المسكرات والمخدرات، تخلصاً من ضيق الحياة ونكد العيش.
    فهذه بعض آثار معاصي الجوارح على القلب وعمله، فهي تذهب رضاه ويقينه وصدقه وإخلاصه وتوكله ومحبته، بل تذهب قوته وحياته وصحته وراحته وتجمع له بين ذهاب حقائق الإيمان وبين عقوبات آجلةٍ وعاجلة كما رأينا في هذه الآثار.
    وأما أثر أعمال الطاعات بالجوارح في أعمال القلب، فهو ما ينوء بالمجلدات الكبار، وذلك أن هذه هي مادة حياته وقوته وعزيمته، والجوارح هي منافذه وثغوره، وهل في الإمكان استيعاب ما تورثه الصلاة من رضا وطمأنينة وخشوع وإنابة، أو ما يورثه الصوم من يقين وتوكل وإخلاص، أو ما يورثه الجهاد من محبة واستسلام وثبات...هكذا سائر الطاعات، ولذا رأيت أن أختار طاعة واحدة قد لا يحسب لها حساب إلا عند الخاصة من الناس وهي غض النظر عن المحرمات.
    وللإمام ابن القيم -أيضاً- تفصيل لهذا في الكتاب نفسه، أنقل منه ما يتعلق بالقلب خاصة، مع اختصار وإيضاح:
    1- أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذي لعل فيه هلاكه إلى قلبه؛ لأن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس.
    2- أنه يورث القلب أنساً بالله وقرباً منه؛ فإن إطلاق البصر يصرف القلب ويشتته ويبعده عن الله، ويوقع الوحشة بين العبد وربه .
    3- أنه يكسب القلب نوراً كما كان إطلاقه يكسبه ظلمة، ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر، فقال: ((قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ))[النور:30] ثم قال إثر ذلك: ((اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ))[النور:35] أي: مَثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه.
    وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان، فما شئت من بدعة وضلالة، واتباع هوى، واجتناب هدى، وإعراض عن أسباب السعادة، واشتغال بأسباب الشقاوة، فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب، فإذا فقد ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام.
    4- أنه يقوي القلب ويفرحه، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه، لكن قد لا يحس بذلك إلا ذو البصيرة.
    5- أنه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل، والصادق والكاذب، فإن الله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، فإذا غض بصره عن محارم الله؛ عوضه الله بأن يطلق نور بصيرته عوضاً عن حبسه بصره لله، ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة، التي إنما تنال ببصيرة القلب.
    وضد هذا ما وصف الله به اللوطية من العمه، الذي هو ضد البصيرة، فقال تعالى: ((لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ))[الحجر:72] فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل، والعمه الذي هو فساد البصيرة، ثم عقب الله تعالى على قصتهم بقوله: (( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ )) [الحجر:75] وفي ذلك إشارة لما تقدم.
    6- أنه يورث القلب ثباتاً وشجاعة وقوة، يجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة، وسلطان القدرة والقوة، وضد هذا تجده في المتبع هواه، من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها، كما تقدم في كلام الحسن البصري.
    7- أنه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب، فإنه يدخل مع النظر، وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي، فيمثل له صورة المنظور إليه ويزينها ويجعلها صنماً يعكف عليه القلب، ثم يعده ويمنيه ويوقد على القلب نار الشهوة ويلقي عليه حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة، فيصير القلب في اللهب، فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار وتلك الزفرات والحرقات، فإن القلب قد أحاطت به النيران من كل جانب، فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور، ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات بالصور المحرمة أن جُعل لهم في البرزخ تنور من نار وأودعت أرواحهم فيه إلى حشر أجسادهم، كما أراها الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام في الحديث المتفق على صحته.
    8- أنه يفرغ القلب للفكر في مصالحه والاشتغال بها، وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك ويحول بينه وبينها، فتنفرط عليه أموره، ويقع في اتباع هواه، وفي الغفلة عن ذكر ربه، قال تعالى: ((ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً))[الكهف:28] وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه.
    9- أن بين العين والقلب منفذاً أو طريقاً يوجب اشتغال أحدهما عن الآخر، وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده، فإذا فسد القلب فسد النظر، وإذا فسد النظر فسد القلب .
    وكذلك في جانب الصلاح؛ فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد، وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأُنس به والسرور بقربه وإنما يسكن فيه أضداد ذلك.
    فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر تطلعك على ما وراءها.
  24. الباب الخامس الإيمان حقيقة مركبة وترك جنس العمل كفر

    ويشتمل على: بيان أن الإيمان حقيقة مركبة الشبهات النقلية والاجتهادية.
  25. توطـئة

    قبل الشروع في عرض حقيقة الإيمان المركبة، ننبه إلى أن لازم ذلك وهو انتفاء الإيمان عن تارك جنس العمل المعين ليس هو المقصود منه بالذات، فهذه المسألة على أهميتها ليست من صلب موضوعنا، وإنما يهمنا بيان الحقيقة المركبة للإيمان، ولوازمها، ومعرفتها كما هي في مذهب أهل السنة والجماعة، أي: أن يعلم الحق في ذلك ويعتقده، مثل سائر الأمور الاعتقادية العلمية التي يجب معرفة الحق فيها واعتقاده، بغض النظر عما ينبني على ذلك من أحكام وآثار تتعلق بأعيان العباد، وعما يشذ عن ذلك من خصوصيات أو حالات عارضة؛ إذ كثير من هذه الأمور هي مجال للاجتهاد ومحل للنظر، ونحن غرضنا إثبات الحكم الشرعي لا تحقيق مناطه.
    * نقول ذلك احترازاً من أمرين:
    1- الحكم على المعين الذي لا بد فيه من تحقق شروط وانتفاء موانع -كما هو من أصول مذهب أهل السنة والجماعة الذين هم أعدل الناس وأرحم الناس، واستيفاء ذلك خارج عن موضوعنا هنا، لكن غير مؤثر في معرفة الحكم النظري المجرد.
    فالواقع أن إجراء الأحكام الظاهرة من أهم أسباب توقف بعض المنتسبين للعلم والدعوة قديماً كما بين شَيْخ الإِسْلامِ، وحديثاً كما نرى عند القول بكفر تارك العمل كله، مع ثبوت الإجماع على كفر تارك الصلاة عن الصحابة رضوان الله عليهم، وسبب ذلك ظنهم أن هذا القول واعتقاده يوجب إجراء أحكام الردة على كل من علموه أو ظنوه كذلك، والحال أن في الأمر تفصيلاً هذا موجزه:
    تارك جنس العمل قبل أن يستتاب وتقام عليه الحجة هو في حقيقة الأمر موضع دعوة، وموضوع بحث ونظر، ولا إشكال في إجراء أحكام الإسلام الظاهرة عليه، ولمن عرف حقيقة حاله أن يدع الصلاة عليه، وأن يمنعه حقوق المسلم المعروفة، لكن ليس عليه إعلام كل أحد بذلك وإلزامه به إلا لمصلحة شرعية، مع الالتزام بالمنهج الصحيح في الدعوة والهجر وقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحقيق أعلى المصلحتين ودفع أكبر المفسدتين، وفي معاملة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرءوس النفاق أعظم القدوة وخير الأسوة.
    فإذا أقيمت عليه الحجة، وعرضت عليه التوبة، فلا يخلو أمره حينئذٍ من حالين:
    * الأول: أن يلتزم بأداء ما فرض الله عليه من العمل -لا سيما الصلاة- ويعمل حالاً ما يتعين عليه عمله منها في الحال.
    فهذا يحكم له بالإسلام ظاهراً، ونكل أمره إلى الله، فإن كان صادقاً في الباطن، وإلا فليس بأعظم من رءوس المنافقين الذين كانت تجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة مع كونهم كفاراً، في الدرك الأسفل من النار، فهو ممن يصلي أحياناً ويدع أحياناً -كما هو حال كثير من المنتسبين للإسلام- فهؤلاء تجري عليهم الأحكام الظاهرة، حتى تقوم البينة على المعين منهم أنه مصر على الترك، وسيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله.
    * الثاني: أن يأبى التزام ذلك، ويعرض على السيف حتى يقتل وهو مصر، يرضى أن تزهق روحه ولا يؤدي من فرائض الله شيئاً، فهذا كافر ظاهراً وباطناً على القول الصحيح الذي ليس في مذهب أهل السنة والجماعة غيره، وإن كان في المنتسبين إليهم من دخلت عليهم شبهة المرجئة في ذلك، فقال: هو عاص ويقتل حداً.
    2- الحالات العارضة أو الخاصة التي لا تناقض الأصول الكلية والقواعد القطعية في الشرع ولا تعارضها، بل غايتها؛ أن تعلق الحكم وتخصصه بوجه من وجوه التخصيص، وذلك خلاف ما فعلته المرجئة، حين عارضت ذلك بمثل قولهم: إن الأخرس لا يجب عليه الإقرار باللسان، فلا يكون القول ركناً في الإيمان ولا جزءاً من ماهيته.
    وإن الذي أسلم ثم مات عقب ذلك قبل أن يعمل يسمى مؤمناً، ومثله من مات من المسلمين قبل نزول بعض الفرائض، وإن الله يخرج من النار أقواماً لم يعملوا خيراً قط، ونحو ذلك.
    وخلاف ما قاله الخوارج والمعتزلة حين ردوا النصوص الصحيحة في مثل هذه الأمور لمعارضتها الأصول عندهم.
    فإذا وضعنا هذا في الاعتبار وتذكرنا ما سبق إيراده من أصول المرجئة، وأهمها أن الإيمان شيء واحد؛ لا يزيد ولا ينقص ولا يتجزأ ولا يتبعض ولا يتفاضل أهله فيه، وأنهم تبعاً لهذا الأصل أخرجوا أعمال الجوارح وأعمال القلوب منه.
    1. أهم شبهات المرجئة في حكم تارك العمل

      بقي أن نعرف أهم شبهاتهم في حكم تارك العمل، ونرد عليها بالتفصيل، مع بيان حكمه عند أهل السنة والجماعة وأدلتهم بالتفصيل أيضاً.
      وقد رأيت أن أجمل هذه الشبهات بالذكر، ثم أرد عليها مبثوثة ضمن بيان الحق من معتقد أهل السنة والجماعة في ذلك، فيكون همنا ومرادنا الأساس في هذا الباب هو إيراد الحق وتفصيله، ثم مناقشة الشبهات وإبطالها؛ وذلك لأن الشبهات والأجوبة متداخلة والتيسير والإيضاح مطلوب حسب الإمكان، والله المستعان.
      فنقول: إن أهم هذه الشبهات هي:
      1- اعتقادهم أن الكفر هو التكذيب المجرد، إذ هو ضد الإيمان الذي هو عندهم التصديق المجرد -كما رأيت من كلامهم- مع أن الكفر في الشرع منه كفر تكذيب، وكفر استهزاء، وكفر إباء وامتناع وإعراض، وكفر شك، ويتفرع عن هذا كلامهم في " الاستحلال " كما سنبين إن شاء الله.
      2- عدم فهمهم لعلاقة الظاهر بالباطن وارتباطه به، ومن هنا كانت ضرورة بيان حقيقة الإيمان المركبة، كما سنبين تفصيلاً بإذن الله.
      3- أنهم جعلوا كفر القلب شرطاً في كفر الجوارح -على مفهومهم للكفر- والحال أن الكفر يكون باللسان وبالجوارح وبالقلب، أي: يدخل في الأعمال كما يدخل في الاعتقادات، وذلك كالسجود للصنم وإهانة المصحف عمداً ونحوها.
      4- خطؤهم في فهم معنى الجحود الوارد في الشرع، أو إطلاقه على غير ما وضع له شرعاً واستعمله فيه السلف، أو حصره في معنى واحد من معانيه.
      فالجحود في اللغة وعُرف السلف يطلق على الامتناع عن أداء الحق الواجب، وأوضح مثال: تسمية المرتدين جاحدين للزكاة، ومعلوم أنهم لم ينكروا أن الله فرض الزكاة، ويقولون إنها ليست من الدين، ولو قالوا ذلك لسموا جاحدين للدين والقرآن، ولما اختلف الصحابة في شأنهم قط، ولما احتيج في الاستدلال على كفرهم إلى قياس ولا غيره، إنما جحدوا الالتزام بها، أي: أصروا على ألا يدفعوها- مع الإقرار بأنها من الدين- ولهذا عرضت الشبهة لـعمر وغيره في قتالهم، حتى استدل الصديق بما هو مجمع عليه بينهم من تكفير تارك الصلاة (لا جاحد وجوب الصلاة).
      فمناط الاختلاف في أمرهم أولاً، ثم مناط الاتفاق على قتالهم وتسميتهم مرتدين أخيراً كان المنع والإباء، وقد بلغ الأمر بالصحابة من زوال الشبهة إلى أن قالوا: [[لو أطاعنا أبو بكر كفرنا]] .
      كما أن أصل الخلاف بين السلف والمرجئة القدماء إنما كان في ترك الطاعات لا في إنكار وجوبها، لكن مع تطور الظاهرة وتداخل الشبهة، ودخول شبهة الإرجاء على بعض الأئمة من الفقهاء أو أتباعهم حصل ما حصل مما سيأتي بيانه وتفصيل الأجوبة عليه بإذن الله.
      ومثل " الترك " غيره من الألفاظ، كما سيأتي بيانه.
      5- شبهات نقلية أفردنا لها مبحثاً خاصاً كما سترى.
  26. الإيمان حقيقة مركبة

    سبق إيضاح أن حقيقة الإيمان هي أنه: (قول وعمل) وأن ذلك مجمع عليه بين السلف، متواترة على تأييده النصوص، متضافرة عليه الأدلة، لم يخالف فيه إلا مبتدع متنكب طريق الحق، معرض عن دلالات نصوص الوحي وشواهد العقل والفطرة إلى ما نضحت به أذهان الفلاسفة والمناطقة، وتعمقت فيه أوهام المتكلمين والمجادلين.
    كما سبقت الإشارة -أو الإشارات- إلى أن هذين الركنين -أوالشطرين- " القول والعمل " تتكون منهما حقيقة واحدة جامعة لأمور متعددة، مثلما تتركب حقيقة الإنسان من الجسد والروح، بحيث يكون فقدان أحدهما بالكلية نفياً للحقيقة ذاتها.
    ومن هنا كان القول والعمل -بالمعنى الذي سبق شرحه في موضعه- شطرين متمازجين متساويين في ضرورة الوجود وقوة الاشتراط، فكما أنه لا يصح وجود عمل لا قول معه قط، لا يصح كذلك وجود قول لا عمل معه قط.
    وهذا ما تضمنته الفصول التي عقدت لبيان علاقة عمل القلب بقول اللسان، وعلاقة عمل الجوارح بأعمال القلب، وأثر كل منهما على الآخر، وهو ما نريد إيضاحه هنا منفرداً، فنقول:
    إن أصل الخلاف بين أهل السنة والمرجئة في موضوع العمل هو أن المرجئة لا يقرون بهذه العلاقة التركيبية، بل يعتقدون أن الإيمان شيء واحد؛ هو تصديق القلب دون سائر أعمال القلب والجوارح -كما سبق مراراً- وهم يوافقون على أن من أتى بجميع أعمال الجوارح الواجبة والمستحبة ظاهراً، لكن قلبه مع ذلك خال من الإيمان أنه لا يكون مؤمنا، وذلك باستثناء الخلاف اللفظي الذي شذت به الكرامية، حيث تطلق عليه اسم الإيمان مع إقرارها أنه كافر مخلد في النار، فخالفوا في الاسم لا في الحكم ولكنهم يخالفون في عكس هذه القضية وهي أن أحداً لم يعمل عملاً من الأعمال الواجبة الظاهرة قط، حتى إنه لم ينطق بكلمة الشهادة؛ هو مع ذلك مؤمن كامل الإيمان.
    وهي القضية التي ينفي أهل السنة وجودها في الواقع أصلاً -كما سنرى- والفرق بينها وبين القضية الأولى التي يقر بها المرجئة من حيث الوجود والعدم يرجع إلى الفرق بين مفهوم الإيمان المفترض وجوده عند الطائفتين، فلما كان الإيمان عند المرجئة هو التصديق على النحو الذي فسروه به، لم يصعب عليهم تصور وجوده مع فقد كل الأعمال الواجبة، لكنه لما كان عند أهل السنة له معنى آخر مركب، لم يتصوروا أن يوجد باطن الإيمان ولا يوجد شيء من ظاهره؛ لأن ذلك من قبيل افتراض وجود الأصل اللازم والعلة التامة، مع انتفاء الملزوم والمعلول، فهو نفي لتلك العلاقة التركيبية المزجية.
    وهذا ما قرره السلف كثيراً؛ كقول أبي ثور في إلزام المرجئة : '' أرأيتم لو أن رجلاً قال: أعمل ما أمر الله به ولا أقر به، أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: لا. قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به ولا أعمل منه شيئاً أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: نعم، قيل لهم: ما الفرق وقد زعمتم أن الله عز وجل أراد الأمرين جميعاً، فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمناً إذا ترك الآخر جاز أن يكون بالآخر مؤمناً -إذا عمل ولم يقر- لا فرق بين ذلك ''.
    وسيأتي ما يؤيده من نصوص وآثار، والمقصود هو بيان أصل النزاع في المسألة، ويمكن تحرير ذلك باستخدام السبر والتقسيم فيقال:

    إن تعلق العمل بالإيمان منحصر في أربع حالات لا خامس لها:
    1- أن يجتمعا معاً، أي: إيمان القلب وعمل الجوارح.
    2- أن ينتفياً معاً.
    3- أن توجد أعمال الجوارح مع انتفاء إيمان القلب.
    4- أن يوجد إيمان القلب مع انتفاء عمل الجوارح.
    فأما القضية الأولى فمتفق عليها (مؤمن).
    وأما القضية الثانية فمتفق عليها (كافر).
    وأما القضية الثالثة فمتفق عليها (منافق).
    وأما القضية الرابعة فهي المختلف فيها.
    فـالمرجئة يلحقون حكمها بحكم الأولى، بل يقولون: إن إيمان من تنطبق عليه القضية الأولى كإيمان من تنطبق عليه الرابعة سواء بسواء؛ إذ الأعمال عندهم خارجة عن الإيمان، والإيمان شيء واحد، لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاضل الناس فيه -كما سبق بيانه- فهو لدى الاثنين سواء، بل قالوا ما هو أسوأ من ذلك؛ وهو أن ارتكاب جميع المحرمات، وترك جميع الطاعات لا يذهب شيئاً من الإيمان؛ إذ لو ذهب منه شيء لم يبق منه شيء.
    وهذا القدر المشترك بينهم كاف في الرد عليهم جميعاً رداً واحداً، أي: من يعتبر النطق ومن لا يعتبره .
    وأما أهل السنة والجماعة فينفون وجود الحالة الرابعة في الواقع أصلاً؛ بناء على مفهومهم الخاص للإيمان.
    فتبين أن فساد تصور المرجئة للإيمان أدى بهم إلى تصور هذه الحالة، وعليه: فبيان خطأ قولهم هذا يستلزم فساد تصورهم للإيمان بلا ريب، وأن الإيمان الذي يتكلمون عنه ويصفونه ليس هو الإيمان الشرعي بحال.
    كما أنه يدل على تناقض من وافقهم من الفقهاء المنتسبين إلى السنة والأئمة في بعض الأحكام الظاهرة، كالقول بأن تارك الصلاة المصر على تركها حتى ضربت عنقه بالسيف إنما قتل حداً؛ إذ إن مذهب المرجئة في حكم تارك الصلاة يتفق ومفهوم الإيمان عندهم، لكن من يعتقد أن الإيمان قول وعمل -ويكون ذلك مذهب إمامه- كيف يوافقهم على أن تارك جميع العمل لا يكفر، إلا إذا انتفى منه تصديق القلب -أي: كان مستحلاً أو غير مقر بالوجوب- ويوافقهم على أن شاتم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومهين المصحف عمداً وقاتل النبي كافر ظاهراً، ويجوز أن يكون مؤمناً في الباطن؟!
    و أهل السنة حين يقرون أن ترك العمل ترك لركن الإيمان الذي لا يكون إلا به، لا يعتمدون على تفلسف أو نظريات ذهنية، وإنما ينطلقون من منطلق واقعي وعلمي في غاية الوضوح؛ وهو أن هذه الحالة الرابعة لا وجود لها في واقع الجيل الأول، ولا في تصوره، وكذا لا وجود لها في الواقع النفسي المحسوس، كما لا يمكن أن تتفق مع حقيقة الإيمان الشرعية التي تشهد النصوص بأنها مركبة من القول والعمل معاً، كما لا تتفق مع النصوص الأخرى الكثيرة في حكم التولي عن طاعة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وترك الامتثال لأوامره، والتخاذل عن القيام بفرائضه.
    وهو كذلك مناقض لما ورد عن السلف الأخيار، والأئمة الأعلام في هذا الأمر.
    ومع تقدم إيضاح بعض هذه الاستدلالات نزيد هنا بإيضاح البعض الآخر -مع التذكير بما سبق- فنقول:
    1. أولاً: ترك العمل في ضوء واقع الجيل الأول، وحقيقة النفس الإنسانية

      إنه مع غض النظر مطلقاً عن جدل الفرق في النصوص، وتعارضها -في نظرهم- وخلافات الفقهاء المتأخرين في فهمها، يظل المعيار الحقيقي للحكم على أي حالة هو معيار الصدر الأول، وواقع السلف الصالح قبل اختلاف الأمة، بل في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      وهذا المعيار -على وضوحه- هو أيسر المعايير وأصدقها، والفطرة الإيمانية تعرفه أكثر مما يعرف الذهن الجدل الكلامي والخلافات المتشعبة.
      وذلك أن ينظر المؤمن إلى الحالة المراد معرفة حكمها، متصوراً أنها وقعت في الصدر الأول، ويفكر ويتدبر ماذا يمكن أن يحكم به عليها ذلك الجيل القدوة، أو ماذا يمكن أن يكون وضعها لو وجدت فيه وعاشت معه؟
      وسيجد الجواب بإذن الله أيسر وأقرب مما يجده في عويص الخلافات ودقائق الترجيحات التي لا يستطيع أن يخوض غمارها كل أحد.
      فما حكم ترك العمل في ضوء ذلك؟
      أي: ما حكم رجل عاش في ذلك الجيل الحي العامل المجاهد منتسباً إليه بالاسم، مقراً بصدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باللسان ولكنه مع ذلك لا يؤدي فريضة من فرائض الله، ولا يجتنب معصية من معاصيه، ولا يحكم بما أنزل الله، ولا يتبع ما أنزل الله فيما يأتي ويدع من أعمال، فلا يصلي، ولا يصوم، ولا يزكي، ولا يحج، ولا يوالي المؤمنين ولا يجاهد معهم، ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر، ولا يشارك بأي مشاركة إيمانية في ذلك المجتمع الأول، إلا أنه رأى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآيات صدق نبوته الباهرة، فأقر في قلبه، وزاد على ذلك بالتلفظ بالشهادتين بلسانه؟
      الحق أنه لا يصح أن يُسأل عن موقع هذا الرجل في صفوف المؤمنين، بل الصحيح أن يُسأل أيمكن أن يوجد في صفوف المنافقين؟!
      فالمنافقون -كما أشرنا سلفاً، وكما هو صريح القرآن- كانوا يجاهدون وينفقون ويصلون، ويشهدون مواقف الرعب والهول التي تكتنف الجماعة المسلمة الناشئة، فهل عاش أو يتصور أن يعيش بينهم هذا الذي لا صلاة له، ولا جهاد، ولا نفقة، ولا مشاركة للمؤمنين في عمل قط، ولو في الظاهر؟
      بل نقول: إنه وجدت حالة أفضل من حالة هذا الرجل بكثير، وهي حالة رجل دافع عن الدعوة وحمى صاحبها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشاركه في مواقف الصبر والاضطهاد، معترفاً في قرارة نفسه بصدق نبوته وصحة ما جاء به في شعره، ومع ذلك مات كافراً، وهو من أهل النار بنص الخبر الصحيح -أعني: أبا طالب عمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
      فإن قالت المرجئة : إنما كفر أبو طالب لامتناعه عن قول الشهادة عند الموت، وقوله: هو على ملة عبد المطلب.
      قلنا: ما تزال الحجة قائمة عليكم، وذلك أنه لو كان مؤمناً من قبل، ناجياً عند الله في الآخرة -كما تقولون في حكم من لم ينطق الشهادة- لما احتاج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعرض عليه ذلك قائلاً: {يا عم قل: لا إله إلا الله. كلمة أشهد لك بها عند الله}
      فلما عرض عليه ذلك وألح عليه علمنا أنه لم يكن قبل ذلك مؤمناً ولا موعوداً بالنجاة قط، ولو كان كذلك لكان امتناعه عن الشهادة معصية فقط، كما قد صرح بعضكم في حق الممتنع عنها!!
      فإذا كان هذا حاله، فكيف حال من لم يعمل شيئاً قط إلا التصديق القلبي بصدق الرسول، أو أضاف إلى ذلك كلمة الشهادة مجردة عن أعمال القلب والجوارح؟!
      وإن في أقسام الناس على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يدل على ما قررناه بجلاء؛ وذلك أنهم لم يكونوا سوى ثلاثة أقسام:
      1- عامل بجوارحه مؤمن بقلبه وهم المؤمنون.
      2- عامل بجوارحه كافر بقلبه وهم المنافقون.
      3- كافر بجوارحه وبقلبه وهم الكافرون.
      روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في كتاب الإيمان بسند صحيح إلى أبي قلابة التابعي أنه قال: [[ حدثني الرسول الذي سأل عبد الله بن مسعود فقال: أنشدك بالله أتعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ثلاثة أصناف:
      مؤمن السريرة مؤمن العلانية.
      وكافر السريرة كافر العلانية.
      ومؤمن العلانية كافر السريرة.
      فقال عبد الله: اللهم نعم
      ]]
      فلم يكن في واقع الجيل الأول ولا في تصوره وجود لمؤمن السريرة كافر العلانية، أي التارك للإيمان بجوارحه المؤمن بقلبه -كما تزعم المرجئة
      وانطلاقاً من هذا يقول الخطابي: ''قد يكون المرء مستسلماً في الظاهر غير منقاد في الباطن، ولا يكون صادق الباطن غير منقاد في الظاهر'' .
      ولهذا ينقد شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية بقوة العبارة التي يستخدمها بعض الفقهاء في حق من صدرت منهم أعمال كفرية صريحة، وهي قولهم: " كافر ظاهراً مؤمن باطناً " مبيناً أنها لوثة من لوثات الإرجاء .
      وأما حقيقة النفس الإنسانية، فغني عن البيان والإعادة أن نقول: إن الإنسان لا يمكن أن ينفصل عمله عن همه وإرادته بحال؛ إذ الأعمال ما هي إلا الأثر الظاهر للهم والإرادة، ولا يتصور منافاتها لذلك مطلقاً.
      غير أن من المهم هنا أن نعرج على الحالة المعاكسة - أي: حالة المنافق الذي يستسلم ظاهراً وهو غير منقاد باطناً؛ لنبين أن ذلك لا يتعارض مع هذه الحقيقة؛ وذلك أن أعمال المنافق هي بلا ريب أثر ما في قلبه؛ فقد يقال: لِمَ لَم يتلازم الظاهر والباطن في حقه، إذ نراه على ظاهر يخالف باطنه؟
      والجواب: إن القاعدة صحيحة، وإن التلازم ثابت؛ فإن الالتواء أو التذبذب الخارجي هو أثر الالتواء والتذبذب الباطني المطابق له، والمنافق في الواقع ونفس الأمر ليس منقاداً لا ظاهراً ولا باطناً، فهذا هو حكمه عند الله الذي يعلم الأمور على حقائقها.
      ومخالفة ظاهره لباطنه إنما هي في عملنا البشري القاصر، حيث يمكن أن يحجبنا بتصنعه وتكلفه أعمال الإيمان الظاهرة عما في قلبه من الكفر، ومع ذلك فليس الأمر على إطلاقه، فبصيرة المؤمن لها أثر في معرفة المنافق، ولحن القول لا ينفك ينبئ عن المنافقين بين الحين والحين، كما أن اعوجاج المظهر من لوازمهم المعلِمة عن حقيقة المخبر، ولولا وجود ضعاف الإيمان من غير المنافقين لكان أمرهم أجلى حداً، فأعمال المنافقين لا تشتبه وأعمال السابقين، وإنما تشتبه بأعمال هؤلاء.
    2. ثانياً: بعض النصوص الشرعية في حكم ترك العمل

      وردت آيات وأحاديث كثيرة في أن العمل لا ينفك عن الإيمان الباطن، وأن العمل الصالح هو مناط النجاة في الدنيا والآخرة، فهو الذي ينجي في الدنيا من سيف أهل الإيمان، وينجي يوم القيامة من عذاب النيران، ولم يعلق ذلك بأحد ركني الإيمان دون الآخر، إلا أن المنافق ينجو من السيف ما دام نفاقه سراً، فإذا أظهره فهو الزنديق الذي تكلم العلماء في أحكامه بما لا يسعه المقام، وهذا دليل على التلازم والتركيب.
      وأنا أذكر بعض ما استدل به السلف في ذلك -فهم أعلم الناس بدلالات النصوص- فمن ذلك قوله تعالى: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5] وبهذه الآية استدل عليهم التابعي المشهور عطاء بن أبي رباح، وتبعه الشافعي والحميدي والإمام أحمد.
      ففي قصة سالم الأفطس المرجئ، التي نقلناها سابقاً ''يقول الراوي: فدخلت على عطاء بن أبي رباح في نفر من أصحابي، قلت: إن لنا حاجة فأدخِلْنا، ففعل، فأخبرته أن قوماً قبلنا قد أحدثوا، وتكلموا وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين.
      فقال: أوليس الله يقول:
      ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)).
      فالصلاة والزكاة من الدين.
      وتبعه الشافعي، فقال للحميدي: ما يحتج عليهم -يعني: أهل الإرجاء- بآية أحج من قوله تعالى: (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ... )) الآية '' .
      وتبعه الحميدي والإمام أحمد، فقد روى الخلال عن عبد الله بن حنبل عن ابن إسحاق بن حنبل قال: قال الحميدي : '' وأخبرت أن أقواماً يقولون: إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج، ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت، ويظل مسنداً ظهره مستدبر القبلة حتى يموت، فهو مؤمن -ما لم يكن جاحداً- إذا علم أن ترك ذلك فيه إيمانه، إذا كان مقراً بالفرض واستقبال القبلة.
      فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفعل المسلمين، قال الله عز وجل: (( حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ))[البينة:5].
      قال حنبل: قال أبو عبد الله ( يعني: الإمام ): من قال هذا فقد كفر بالله، ورد على الله أمره، وعلى الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما جاء به '' .
      فانظر إلى هذا الحزم والوضوح، مع تصريحهم بأنه مقر غير جاحد، ومع أن الكلام ليس فيمن عرض على السيف فأصر على الترك!!
      وقال الإمام الآجري رحمه الله: ''فالأعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمله؛ مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه، ورضي لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل لم يكون مؤمناً، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيباً منه لإيمانه، وكان العمل بما ذكرنا تصديقاً منه لإيمانه، فاعلم ذلك.
      هذا مذهب علماء المسلمين قديماً وحديثاً، فمن قال غير هذا فهو مرجئ خبيث، احذره على دينك، والدليل على هذا قول الله عز وجل: ((وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ))[البينة:5] '' .
      2- ومما استدل به السلف عليهم قوله تعالى: ((لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ))[البقرة:177].
      كما سبق في الاستدلال بها، وقد جعلها البخاري عنواناً لباب أمور الإيمان وقوله تعالى: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ )) وذكر الآية.
      3- ومما استدلوا به آيات سورة التوبة، ومعلوم أنها من آخر ما نزل، وهي قوله تعالى: ((فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ))[التوبة:5].
      ثم قال بعدها: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ))[التوبة:11-12].
      فجعل إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع الإيمان بالله وترك الشرك شرطاً في تخلية السبيل، وعصمة الدم، واستحقاق الأخوة من المؤمنين، وجعل نقض ذلك موجباً للقتال على الكفر.
      ولهذا قال أنس -رضي الله عنه- وهو ممن أدرك ظهور المرجئة: [[ هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم، قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء؛ وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل الله، قال الله: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ))...إلى أن قال: توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ))[التوبة:11] ]]
      قال الحافظ ابن كثير في تفسيرها: '' ولهذا اعتمد الصديق -رضي الله عنه- في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها؛ حيث حَرَّمت قتالهم بشرط هذه الأفعال، وهي الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته، ونبه بأعلاها على أدناها، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة التي هي حق لله عز وجل، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء أو المحاويج، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين، ولهذا كثيراً ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة.
      وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة...} الحديث.
      وقال أبو إسحاق: عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: [[ أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يُزكِّ فلا صلاة له ]] .
      وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: [[ أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه...]] .
      إلى آخر ما ذكر -رحمه الله- من أحاديث وآثار؛ هي مستند الإجماع الذي انعقد بين الصحابة بعد المناظرة الوجيزة بين الفاروق والصديق، ثم ظل من أعظم آحاد الإجماع ثبوتاً، حتى لقد قال الصحابة: [[ لو أطاعنا أبو بكر كفرنا ]]
      لقد كان الصحابة رضي الله عنهم أجلّ وأفقه من أن يقولوا: نسألهم، فإن كانوا مقرين بوجوبها مع الامتناع عن أدائها بالكلية فهم مسلمون، وإن كانوا جاحدين لوجوبها فهم مرتدون، ولكل حالة أحكامها!!
      فقد انعقد إجماعهم على أن الامتناع عن أدائها بالكلية -وهو الواقع من المرتدين- وليس عن دفعها للإمام هو ردة صريحة، تتضمن إسقاط حق الله في المال، والتفريق بين الصلاة والزكاة، وهم لم يخالف أحد منهم قط في تكفير تارك الصلاة- ولذا ألزمهم الصديق رضي الله عنه وعنهم، حتى انعقد إجماعهم على هذه، كما انعقد على تلك، وبناءً على ذلك سمو الممتنعين عن أداء الزكاة مرتدين في كل النصوص الواردة عنهم، وقاتلوهم قتال سائر المرتدين - أي: كمن ادعى نبوة مسيلمة وسجاح والأسود، دون تفريق بينهم في شيء من أحكام القتال، وشهد لهذا فقهاء السلف، كما قال الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلامّ رحمه الله:
      '' والمصدق لهذا: جهاد أبي بكر الصديق -رحمه الله تعالى- بالمهاجرين والأنصار على منع الزكاة، كجهاد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الشرك سواء، لا فرق بينهما في سفك الدماء وسبي النساء واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها '' .
      قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله: '' والصحابة لم يقولوا: أأنت مقر لوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة، بل قد قال الصديق لـعمر رضي الله عنه: والله لو منعوني عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتلتهم على منعها. فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب، وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعاً سيرة واحدة، وهي قتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار، وسموهم جميعاً أهل الردة '' .
      وهذه المعاملة في القتال هي أشد أنواع معاملة المنتسبين للإسلام ممن يجب قتاله أو يجوز؛ لأنه قتال ردة، وكل قتال دونه فهو دون ذلك في المعاملة، حتى إن الخوارج الذين تواترت النصوص في قتالهم بأعيانهم وصفاتهم الجلية - كان حكم الصحابة فيهم ومعاملتهم لهم ألا يتبع من أدبر منهم، ولا يجهز على جريح، ولا تسبى نساؤهم، أو تخمس أموالهم.
      قال شَيْخ الإِسْلامِ: ''وأما قتال مانعي -إذا كانوا مانعين عن أدائها بالكلية أو عن الإقرار بها- فهو أعظم من قتال الخوارج '' .
      ومن الأدلة على فساد مذهب المرجئة في أن تارك العمل لا يكفر: أن من دخلت عليه شبهة الإرجاء من الفقهاء وشراح كتب السنة لما لم يجعلوا قتال الصديق والصحابة لهم قتال ردة وكفر، جعلوه من باب قتال البغاة، ومنهم من يسمي قتال أهل القبلة بكل أنواعه قتال بغاة، فكأن الصديق إنما قاتلهم لامتناعهم عن دفع الزكاة إليه، وهو إمام المسلمين وبيده بيت المال، والرد على هؤلاء واضح من وجوه:
      1- أنه لم يثبت أن امتناعهم مخصوص بأدائها إلى الإمام، بل الثابت بالنصوص الصحيحة امتناعهم عن أدائها مطلقاً، أما ما ذكر من امتناع بعضهم هذا الامتناع المخصوص، فغايته إن ثبت أن تكون فئة منهم كذلك وليس عامتهم، والحكم إنما هو للأغلب والأعم.
      2- أن وصفهم بالردة والكفر بإطلاق -كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة- يدل على الامتناع المطلق لا على ما ذكروا.
      3- أن هذه المعاملة الشديدة لهم ومساواتهم بأصحاب مسيلمة والأسود ونحوهما لا تناسب إلا الامتناع المطلق.
      4- أن هؤلاء الفقهاء والشراح لا يلتزمون الحكم على من لم يدفع الزكاة للإمام بالكفر والردة ووجوب قتاله ومساواته بمدعي النبوة إلى آخر ما فعل الصحابة، بل غاية حكمه عند بعضهم جواز مقاتلته قتال بغي لا قتال ردة، فهم إما أن يقروا بأن المناط مختلف -وهو الصحيح- وإما أن يلتزموا مخالفة إجماع الصحابة، وهو تناقض!!
      قال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله: '' فإن الصديق إنما قاتلهم على طاعة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا على طاعته، فإن الزكاة فرض عليهم، فقاتلهم على الإقرار بها وعلى أدائها، بخلاف من قاتل ليطاع هو، ولهذا قال الإمام أحمد وأبو حنيفة وغيرهما: من قال: أنا أؤدي الزكاة ولا أعطيها للإمام، لم يكن للإمام أن يقاتله، وهذا فيه نزاع بين الفقهاء؛ فمن يجوز القتال على ترك طاعة ولي الأمر جوز قتال هؤلاء، وهو قول طائفة من الفقهاء ويحكى هذا عن الشافعي -رحمه الله- ومن لم يجوز القتال إلا على ترك طاعة الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا على ترك طاعة شخص معين؛ لم يجوّز قتال هؤلاء.
      وفي الجملة، فالذين قاتلهم الصديق رضي الله عنه كانوا ممتنعين عن طاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والإقرار بما جاء به، فلهذا كانوا مرتدين، بخلاف من أقر بذلك ولكن امتنع عن طاعة شخص معين'' أ هـ.
      أقول: فإذا انعقد الإجماع على عدم التفريق بين الصلاة والزكاة، وهما عملان ظاهران يمكن انفكاك أحدهما عن الآخر من وجوه عدة، وقال الصديق : [[ والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ]]، وأقره عليه الصحابة كلهم قولاً وعملاً، فما بالك بمن يفرق بين ركني الإيمان الظاهر والباطن، وجزئي الحقيقة الواحدة المركبة؛ فيفرق بين الإيمان القلبي والعمل الظاهر؟!
      وسيأتي في شرح حديث جبريل -عليه السلام- ما يتعلق ببقية الأركان، ويزيد الأمر وضوحاً.
      وبهذا يتبين لطالب الحق أن ترك الأركان الأربعة وسائر أعمال الجوارح كفر ظاهراً وباطناً؛ لأنه ترك لجنس العمل الذي هو ركن الحقيقة المركبة للإيمان، التي لا وجود لها إلا به، وهذا مما لا يجوز الخلاف فيه، ومن خالف فيه فقد دخلت عليه شبهة المرجئة شعر أو لم يشعر.
      وتتميز الأركان الأربعة عن سائر الواجبات، بأن من لم يلتزم فعلها بقلبه ولم يعزم على ذلك لا يكون مؤمناً أبداً -أي: في الباطن- ؛ لأنه تارك لعمل القلب الذي هو ركن الإيمان، وعنه ينشأ العمل الظاهر، وأما من يضعف عزمه وينخرم التزامه، فهو على حرف الكفر وحافة النفاق.
      وما ورد عن فقهاء الأمة من اختلاف بشأن تارك الصلاة -أو غيرها من الأركان- لا يؤثر على ما سبق، وذلك لأمور:
      * الأول: أن ترك جنس العمل شيء وترك بعض آحاده شيء آخر، ولا سيما عند من لا يرى كفر تارك الصلاة؛ إذ هي عنده من جملة الواجبات، فيصح لديه أن يأتي العبد ببعض الواجبات وتنفعه عند الله مع تركه للصلاة، فلا يلزم من قولهم: إن تاركها لا يكفر أنه لا عمل صالحاً له، وهذا هو ما يهمنا هنا، وإن كان ثبوت كفره واستلزامه لإحباط سائر عمله هو الحق كما سنبين .
      * الثاني: أنه من خالف في تكفير تارك أحد المباني الأربعة -ولا سيما الصلاة- لا ينبغي الاعتداد بخلافه بعد ثبوت الإجماع من الصحابة رضي الله عنهم في تكفير تارك الصلاة والزكاة، وما أشرنا إليه بالنسبة للصيام والحج، فمع كثرة المخالفين من المتأخرين لم يستطع أحد منهم الإتيان بنقل ثابت صريح عن صحابي أو تابعي يخالف ذلك؛ وذلك أن أول من قال به هم المرجئة، ثم تبعهم من تبعهم، ومتى عرف المرء ذلك تبين له أن هذا القول خارج عن أقوال أهل الاجتهاد إلى أهل البدع، وإن لم يكن كل من قال به من أهل البدع، وإيضاح ذلك في الفقرة التالية.
      * الثالث: أن ما تنقله كتب الفقهاء المتأخرين عن بعض الأئمة من خلاف في هذا، لا يخلو من أحوال:
      1- إما أن النقل عنه غير ثابت، وإن ثبت فهو إحدى الروايات عنه، والموافقة للإجماع هي الأولى بالأخذ.
      2- وإما أن يكون كلامه في مسألة فرعية، كمن ترك فريضة واحدة وليس في التارك المطلق، وسنوضح أهمية التفريق بينهما في البند الرابع.
      3- وإما أن يكون كلامه ليس صريحاً في الترك، بل في التساهل والتضييع وترك المحافظة، كما سنبين أيضاً.
      4- وإما أن يكون كلامه في حالات مخصوصة، كقول حذيفة رضي الله عنه: [[ تنجيهم من النار ]] أي عند دروس الإسلام واضمحلاله، فجعله الناقل قولاً عاماً مطلقاً .
      5- وإما أن يكون المخالف لم يبلغه الإجماع، أو قال بخلافه قبل أن يبلغه، أو لم يره إجماعاً ونظر إلى النصوص المطلقة؛ كحديث: {من قال لا إله إلا الله دخل الجنة} ونحو ذلك، وهذا لا يؤثر في ثبوت الإجماع وقوته.
      6- وإما أن يكون المنسوب للإمام المتبوع - هو قول مجتهدي المذهب كلهم أو بعضهم لا قول الإمام نفسه، ولا سيما إذا اعتقد التابع أن القول بالتكفير هو مذهب الخوارج والمعتزلة، فينفي عن إمامه القول به، وهذا ما وقع فيه كثير من فقهاء المذهب، بل وقع فيه من يحارب المذهبية كالشيخ الألباني
      7- وإما أن يكون الناظر في قول الإمام من الأتباع لم يره التزم لازم القول، فظن أن ذلك رجوع عنه أو تناقض ينبغي تبرئته منه، وربما استدل بعضهم بترك لازم اللازم وذلك مثل استدلال بعضهم بكون الصحابة وسائر المسلمين بعدهم لم يخصصوا مقبرة لتاركي الصلاة، وفاته أن تخصيص مقبرة لازم لإجراء الحكم الظاهر في الدنيا، وإجراء الحكم لازم للقول بالتكفير.
      ولا يشترط التزام اللازم فضلاً عن لازمه؛ فإن العالم قد يقول بالتكفير لكن لا يجري الحكم الظاهر - حتى لو كان قاضياً أو إماماً لمانع من الموانع، وقد يجري الحكم الظاهر ولا يرى لازمه؛ كتخصيص مقبرة، فما أبعده من استدلال!!
      * الرابع: أن الخلاف في ذلك ليس على إطلاقه وإجماله كما تنقل كتب الخلاف ونحوها، بل تحرير القول وتفصيله في مناط النزاع يظهر حقائق لا يجوز إغفالها، ومن ذلك:
      1- أن المخالف ربما كان كلامه في الحكم الظاهر وكلام غيره في الحكم الباطن، وأكثر كلام السلف إنما هو في الحكم الباطن، بعكس كلام الفقهاء المتأخرين -كما سنبين- ولهذا كان الإجماع على تكفير تارك الصلاة أشهر وأظهر، والتمثيل بذلك في كتب العقيدة أكثر؛ لأن المسألة إذا كانت حكمية، فالصلاة هي الركن الوحيد الذي يمكن الحكم على تاركه بيقين؛ بما تختص به من الظهور والتكرار، وعموم وجوبها في سائر الأحوال والأوقات.
      ولهذا يقولون: (تارك الصلاة) ولا يقولون (تارك الزكاة) غالباً، بل (الممتنع عن أدائها) لأنه لا يمكن معرفة ذلك إلا بالامتناع، والصيام أخفى من الزكاة، والحج إنما يجب في العمر مرة.
      2- أن لفظ (الترك) وشبهه هو من الألفاظ التي وقع فيها الإجمال والالتباس. وكثير من الخلاف سببه إجمال الألفاظ وإطلاق الأحكام، كما بين شَيْخ الإِسْلامِ وغيره تبعاً للإمام أحمد، ومتى وجد التفصيل والتقييد ارتفع الخلاف، ومن ذلك أن كتب العقيدة التي صنفها أهل السنة تعني بالتارك تارك الالتزام بالأمر، أي: تارك عمل القلب التارك تبعاً لذلك عمل الجارحة، لأنها كلها تقرر أن الإيمان قول وعمل بالقلب والجوارح -كما أسلفنا- وعليه فالتارك عندهم هو من يستحق الاسم بإطلاق، ولذلك لم تختلف هذه الكتب في حكم تارك الصلاة مثل كتب الفروع، وذلك لأن مقصود مصنفيها بيان الحقائق الشرعية في ذاتها، وبيان ما يضادها من البدع، ودفع اللبس بينهما.
      أما كتب الفروع فلكونها تبحث في أحكام أعيان المكلفين وتفصيل أحوالهم، ومقصودها غالباً إجراء الحكم الظاهر - كان التارك عند مصنفيها اسماً عاماً يتناول آحاداً كثيرة، فيتكلمون عن التارك الجاحد للوجوب، والتارك المتكاسل، والترك لفريضة واحدة فيشمل كلامهم من جهة الباطن تارك عمل القلب، وضعيفه، والمتردد بين ضعف الإيمان والنفاق المحض.
      والآيات الواردة في ترك الصلاة إنما هي في الكفار، كقوله تعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ))[المرسلات:48].
      وقوله: ((فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى))[القيامة:31-32].
      وقوله: ((مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ))[المدثر:42-44].
      وفي هذا دليل على أن من تركها كافر لا حظ له في الإسلام وإن ادعاه، وأيضاً أن التارك هو من لا يصلي بإطلاق؛ لأن الكافر كذلك، فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { من تركها فقد كفر } وغيره من الأحاديث؛ يفسر هذا.
      فمن ترك الصلاة بالكلية فهو من جنس هؤلاء الكفار، ومن تركها في أكثر أحيانه فهو إليهم أقرب، وحاله بهم أشبه، ومن كان يصلي أحياناً ويدع أحياناً فهو متردد متذبذب بين الكفر والإيمان، والعبرة بالخاتمة.
      وقد يلتبس على بعضهم ما جاء في ذلك من ألفاظ النصوص، مثل: ( الإضاعة ) و( ترك المحافظة ) بالترك الكلي، فالإضاعة كما في قوله تعالى: ((فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ))[مريم:59]، ولذلك نص ابن مسعود وغيره على أن الإضاعة هي التأخير، ولو تركوها لكانوا كفاراً.
      وترك المحافظة - كما في حديث عبادة بن الصامت { من لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة}
      وهو غير الترك الكلي الذي هو الكفر.
      ومن ذلك لفظة ( الجحد )، فهي لا تعني أحياناً عند السلف إلا الترك - كما تقدم، فيخطئ بعض المتأخرين فيجعلها مقابل التارك ويفترض الخلاف، والواقع أن لا خلاف، وكل تفريق لم يرد في النصوص لا يصح اعتباره، والنصوص المطلقة لا يجوز حملها على أحد المعنيين دون الآخر، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله:
      ''وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها، فليس لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عند الجاحد كان جواباً لهم عن التارك، مع أن النصوص علقت الكفر بالتولي '' يعني: الآيات، والأحاديث أكثرها جاء بلفظ الترك، ولفظ الجحد لم يأتِ غالباً إلا في كلام السلف، ويقصدون به الترك والتولي لا عدم الإقرار بالوجوب.
      وكذلك الكسل والتهاون والسهو عنها لا يعني الترك المطلق، ولهذا تعجب لمن يقول: " إذا تركها كسلاً وتهاوناً حتى يقتل " ونحوه، إذ يستحيل عقلاً وواقعاً أن يفضل السيف على الصلاة لمجرد الكسل ونحوه، فأي كسل يبقى والسيف على رأسه؟!
      فإن هذا تارك للإقرار والالتزام بها، وليس متكاسلاً عن الأداء، والمتكاسل هو المتخاذل المهمل في العمل، الذي متى توفر الداعي للأداء عمل، وإذا ضعف الداعي فتر أو انقطع، كما قال تعالى: ((وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى))[النساء:142]، وقال: ((وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى))[التوبة:54] وهذا من ضعف الهمة في العمل، فإذا اشتد به ضعفها ترك العمل نفسه أو أخره عن وقته ونقرها نقر الغراب، والمقصود: أن هذا شيء وترك الالتزام بالأداء شيء آخر.
      ومن ذلك لفظة (الامتناع) فإنها تطلق على من يعتذر أو يتخلف أو يتلكأ، بخلاف ما يقوله العلماء في الطائفة الممتنعة، وهي التي تجتمع على ترك واجب أو فعل محرم، فهذا الاجتماع والمقاتلة دليل على عدم الالتزام بالأمر، ومن هنا كان قتالها قتال ردة كما سبق.
      * الخامس: أن حقيقة الخلاف هي بين من يرى قتل تارك الصلاة كفراً وبين من يرى قتله حداً؛ لأن القول بأنه يحبس ويضرب مهما أصر على الترك قول شاذ، وصلته بالإرجاء جلية؛ سواء من جهة القائلين به أو من جهة مضمونة.
      وعليه إذا تأمل الفقيه وجد أن كل ما استدل به من يرى قتله حداً يصلح دليلاً لمن يرى قتله كفراً ولا عكس، فاجتمع للقائل بقتله كفراً أدلته وأدلة غيره، وإن شئت فقل: إن الأدلة في قتله والأدلة في تكفيره تجتمع بلا تعارض، فثبت أن قتله كفراً هو وحده الصحيح، لا سيما مع ما سبق من بيان استحالة أن يرضى مؤمن بأن يقتل ولا يصلي، فهذا لا يفعله إلا كافر معاند.
      وعلى هذا يقاس غيرها من الأركان.
      ومثل ما جاء من الوعيد في ترك المحافظة على الصلوات -كحديث عبادة- أو إضاعتها أو السهو عنها ما جاء من الوعيد في ترك الزكاة؛ كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه، تنطحه بقرنها وتطؤه بأظلافها، كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها، حتى يقضى بين الناس }.
      وقد جاء في بعض الروايات: {حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار} فقد يستدل به مستدل على أن تارك الزكاة بإطلاق داخل تحت المشيئة، فلا يكون كافراً، أو على التفريق بين تارك الصلاة والزكاة، وليس الأمر كذلك لوجوه:
      أولاً: أنه لا يدل على ترك الزكاة أو ترك حق المال بالكلية، ولا بد من جمع الأحاديث والروايات في هذه المسألة، وبمجموعها يتضح أن المقصود منه ليس تارك الالتزام، بل المفرط المتهاون أو المضيع كما في الصلاة.
      ثانياً: أن هذه الرواية أشبه بالمختصر، ولفظ الرواية التامة: {ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها...ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم ورودها، ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها...}.
      وقال في الخيل: {ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها} وفي هذه الرواية التامة قال: {حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار} وفي الرواية الأخرى قال في الإبل والبقر والغنم: {لا يفعل فيها حقا} ثم قال: {ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه} ولم يذكر: {حتى يقضى} إلى آخره.
      وفي رواية أخرى في الصحيح: {من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاع أقرع...} الخ، وليس فيها {حتى يقضى} الخ، فهذا لا يعني أنه لا يدخل النار ولا يخلد فيها، بل هي على إطلاقها، فدل مجموع هذا على أن الوعيد وارد في ترك حق الله عامة لا في الزكاة المفروضة خاصة، وقوله: {ومن حقها حلبها يوم ورودها} وقوله في الخيل ما سبق- صريح في ذلك .
      والمسلمون جميعاً متفقون على أن في المال حقاً سوى الزكاة لا يجوز تركه، كنفقة من تجب عليه نفقته، وإطعام الملهوف، وعابر السبيل، والضيف إذا تعين ذلك عليه، هذا هو المراد .
      ويبين ذلك أن الوعيد ورد في حق المكتنـز المدخر، الذي يؤدي فعله إلى حبس المال وتعطيل منافعه - وإن لم يكن مما تجب فيه الزكاة، كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الرجل الذي اكتنز ديناراً أو دينارين: " كية أو كيتان "، وكقوله للمرأة ذات المسكتين {أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار} وما أشبهه، ومعلوم أن هذا دون النصاب المقدر للزكاة، فلا بد أن تكون العلة أمراً آخر سوى ترك الزكاة المفروضة.
      وبهذا تجتمع الأحاديث التي كثر فيها الاختلاف منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم، ويوضح ذلك حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكثير من أصحابه، فإنه لم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكنز المال وينتظر حتى يحول الحول فيؤدي القدر المعلوم من النصاب المعلوم؛ بل ثبت عنه أنه قال: {ما أحب أن لي مثل أحد ذهباً إلا أنفقته كله} فكان هو وكثير من أصحابه ينفقون بالليل والنهار سراً وعلانية في نوائب الحق، ويسارعون فيما لا يتعين عليهم، ويتنافسون فيه مثلما كانوا يبادرون إلى صلاة التطوع ويحرصون عليها سواء.
      فمن تأمل حالهم ومجموع النصوص في الباب لم يرد منها حديثاً أو يصعب عليه توجيهه وفهمه، وأما من التزم طريقة أكثر الفقهاء المتأخرين، فلا بد أن يرد البعض، أو يخطئ في توجيهه، أو يتعسف في تخريجه، كقولهم: إن هذا مخالف للأصول، أو إنه منسوخ نزل قبل تحديد الأنصبة، ونحو ذلك مما هو إلى الظن أقرب، والله أعلم.
      ولنعد إلى أصل موضوعنا عن الحقيقة المركبة، فنقول: في كتاب الإيمان الأوسط، الذي هو في الحقيقة شرح مستفيض لحديث جبريل عليه السلام فصل شَيْخ الإِسْلامِ القول في هذا، وأظهر -بما لا يدع ريبة ولا شكاً- حقيقة الإيمان المركبة، وكفر من ترك العمل الظاهر، بل كفر من ترك الالتزام بأحد الأركان الأربعة؛ الصلاة والزكاة والصوم والحج، وعزم على ألا يفعلها.
      فإنه رحمه الله قال:
      ''وأما الفرائض الأربع -يعني: ما عدا الشهادتين- فإذا جحد وجوب شيء منها بعد بلوغ الحجة فهو كافر، وكذلك من جحد تحريم شيء من المحرمات الظاهرة المتواترة تحريمها...''
      قال: ''وأما مع الإقرار بالوجوب، إذا ترك شيئاً من هذه الأركان الأربعة ففي التكفير أقوال للعلماء '' .
      ثم قال: ''وهذه المسألة لها طرفان:
      أحدهما: في إثبات الكفر الظاهر.
      والثاني: في إثبات الكفر الباطن.
      فأما الطرف الثاني فهو مبني على مسألة كون الإيمان قولاً وعملاً كما تقدم، ومن الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش وهو لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي لله زكاة، ولا يحج إلى بيته، فهذا ممتنع، ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح '' .
      ثم ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على أن الامتناع عن الطاعة إنما هو من صفات الكفار لا المسلمين، وألزم المفرقين بين جاحد الوجوب والتارك بإلزام قوي وحجة برهانية؛ فقال: '' وأما الذين لم يكفروا بترك الصلاة ونحوها، فليست لهم حجة إلا وهي متناولة للجاحد كتناولها للتارك، فما كان جوابهم عن الجاحد كان جواباً لهم عن التارك '' .
      وذلك أن النصوص لم تفرق، والصحابة رضي الله عنهم لم يفرقوا كما فصلنا ذلك من قبل، وسنزيده وضوحاً إن شاء الله في الصفحات التالية.
      والمقصود هنا: أن شَيْخ الإِسْلامِ -رحمه الله- نصر القول بكفره باطناً، وفند شبهات القائلين بخلافه في بقية كلامه.
      وأوضح أن من '' عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب '' .
      وأن إجراء الأحكام الظاهرة عليه أمر آخر- كما هو الشأن في المنافقين، وكذلك في المتأولين الذين يعتقدون عقيدة هي كفر، ولكن إجراء الحكم الظاهر عليهم له شروط -إقامة الحجة والاستتابة- وقال:
      '' وبهذا تزول الشبهة في هذا الباب، فإن كثيراً من الناس، بل أكثرهم في كثير من الأمصار لا يكونون محافظين على الصلوات الخمس، ولا هم تاركيها بالجملة، بل يصلون أحياناً ويدعون أحياناً، فهؤلاء فيهم إيمان ونفاق، وتجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة في المواريث ونحوها من الأحكام، فإن هذه الأحكام إذا جرت على المنافق المحض كـابن أُبيّ وأمثاله من المنافقين، فلأن تجري على هؤلاء أولى وأحرى '' .
      وختم كلامه بقوله: '' وبالجملة، فأصل هذه المسائل أن تعلم أن الكفر نوعان:
      كفر ظاهر وكفر نفاق، فإذا تكلم في أحكام الآخرة كان حكم المنافق حكم الكفار، وأما في أحكام الدنيا فقد تجري على المنافقين أحكام المسلمين.
      وقد تبين أن الدين لا بد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله بقلبه ولسانه ولم يؤدِ واجباً ظاهراً، ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً، ولا غير ذلك من الواجبات...''.
      كما فصل القول في أن عمل القلب هو إرادة جازمة، والإرادة الجازمة يستحيل تخلف الفعل عنها.
      فثبت أن تارك عمل القلب بالنسبة للأركان الأربعة أو أحدها، وهو تارك الالتزام بها والعقد الجازم على فعلها كافر على الحقيقة؛ لأنه إما أنه ليس لديه عمل القلب -الذي هو الإرادة الجازمة المستلزمة للفعل- ولا قوله -الذي هو الإقرار بالوجوب- فهذا لا شك في كفره.
      وإما أن يكون لديه قول القلب، ولكنه إذ لم يستلزم فعل القلب لا يكفي في ثبوت الإيمان، فهو معرفة مجردة أو علم مجرد -كما تقدم إيضاحه- وهو من جنس إقرار أهل الكتاب بأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول واجب الاتباع ولكن لم يتبعوه، بل إقرار إبليس بأن الله أمره بالسجود ولكن لم يطعه.
      وهكذا فإطلاق القول بتكفير تارك الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج صحيح موافق لقاعدة أهل السنة في الإيمان كل الموافقة، وهو ليس من جنس تسمية بعض العصاة كفاراً وتسمية بعض المعاصي كفراً، والقول بأن المسألة خلافية هكذا بإطلاق غير صحيح، إلا أن يراد عموم الأمة لا خصوص السلف ومن اتبعهم، وسيأتي في شرح حديث جبريل عليه السلام وشرح حديث وفد عبد القيس- ما يزيد ذلك إيضاحاً .
    3. ثالثاً: ما ورد من الآيات في حكم التولي عن الطاعة

      ولا شك أن تارك جنس العمل متولٍ عن الطاعة معرض عن الامتثال؛ فالآيات الدالة على أن تارك الركن تارك للإيمان هي دليل على تركب حقيقة الإيمان من هذين الركنين معاً، ومنها:
      1- قوله تعالى: ((قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ))[آل عمران:32].
      2- قوله تعالى: ((وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ))[النور:47].
      3- قوله تعالى في حق الكافر: ((فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى))[القيامة:31-32].
      4- قوله تعالى: ((لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى))[الليل:15-16].
      5- قوله تعالى على لسان موسى وهارون: ((إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى))[طه:48].
      يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: ''فعلم أن التولي ليس هو التكذيب، بل هو التولي عن الطاعة؛ فإن الناس عليهم أن يصدقوا الرسول فيما أخبر ويطيعوه فيما أمر، وضد التصديق التكذيب، وضد الطاعة التولي، فلهذا قال: ((فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى))[القيامة:31-32] وقد قال تعالى: ((وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ))[النور:47] فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل وإن كان قد أتى بالقول...''
      إلى أن يقول: "ففي القرآن والسنة من نفي الإيمان عمن لم يأتِ بالعمل مواضع، كما نفى فيها الإيمان عن المنافق، وأما العالم بقلبه مع المعاداة أو المخالفة الظاهرة، فهذا لم يُسمَّ قط مؤمناً، وعند الجهمية إذا كان العلم في قلبه مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان النبيين، ولو قال أو عمل ماذا عسى أن يقول ويعمل، ولا يتصور عندهم أن ينتفي الإيمان إلا إذا زال ذلك العلم من قلبه''.
      ويستمر رحمه الله في مناقشة الأشعرية في ذلك، ناقلاً عن كبار أئمتهم، ناقداً مذهبهم في صفحات طويلة.
    4. رابعاً: الآيات في اقتران العمل بالإيمان

      وهذا ما استدل به السلف قديماً، وإن كان للمرجئة عليه اعتراض سنورده إن شاء الله ونرده، وممن استدل بذلك الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجري الشافعي، قال:
      '' اعلموا -رحمنا الله تعالى وإياكم- يا أهل القرآن ويا أهل العلم، يا أهل السنن والآثار، ويا معشر من فقههم الله عز وجل في الدين بعلم الحلال والحرام، أنكم إن تدبرتم القرآن كما أمركم الله عز وجل علمتم أن الله عز وجل أوجب على المؤمنين بعد إيمانهم به وبرسوله العمل.
      وأنه عز وجل لم يُثن على المؤمنين بأنه قد رضي عنهم وقد رضوا عنه، وأثابهم على ذلك الدخول إلى الجنة والنجاة من النار إلا بالإيمان والعمل الصالح، وقرن مع الإيمان العمل الصالح، لم يدخلهم الجنة بالإيمان وحده حتى ضم إليه العمل الصالح الذي قد وفقهم إليه، فصار الإيمان لا يتم لأحد حتى يكون مصدقاً بقلبه وناطقاً بلسانه، وعاملاً بجوارحه.
      لا يخفى أن من تدبر القرآن وتصفحه وجده كما ذكرت.
      واعلموا -رحمنا الله تعالى وإياكم- أني قد تصفحت القرآن، فوجدت فيه ما ذكرته في تسعة وخمسين موضعاً من كتاب الله عز وجل، وأن الله تبارك وتعالى لم يدخل المؤمنين الجنة بالإيمان وحده، بل أدخلهم الجنة برحمته إياهم، وبما وفقهم له من الإيمان به والعمل الصالح.
      وهذا رد على من قال: الإيمان المعرفة، ورد على من قال: " المعرفة والقول، وإن لم يعمل "، نعوذ بالله من قائل هذا...''.
      ثم شرع رحمه الله في سرد هذه المواضع من قوله تعالى في سورة البقرة:
      ((وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ))[البقرة:25]. إلى قوله ((وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ))[العصر:1-3]
      أقول: إنه رحمه الله لم يستكمل كل الآيات في اقتران العمل بالإيمان، بل اقتصر على ما كان فيه تقديم ذكر الإيمان على العمل، أما ما تقدم فيه العمل على الإيمان فلم يذكره، ومعلوم أن ذكر النوعين أدل على التلازم.
      ومن ذلك قوله تعالى في سورة طه: ((وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى))[طه:75] وقد ذكرها، فإذا ضممنا إليها آية أخرى في السورة نفسها لم يذكرها، وهي: ((وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً))[طه:112] كان أدلَّ في أنه لا عمل بلا إيمان ولا إيمان بلا عمل.
      وإنما كثر تقديم الإيمان؛ لأن المراد به قول القلب وعمله، وهو الأصل، فالباطن أصل للظاهر -كما سبق- لكن ورود بعض مواضع يتقدم فيها ذكر العمل عليه، يدل على التلازم، وعلى أهمية المقدم من بين أعمال الإيمان في ذلك السياق.
      ومن ذلك قوله تعالى: ((وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ))[الإسراء:19].
      وقد استدل بها عطاء في مناظرته لـسالم الأفطس المرجئ التي سبق إيرادها نقلاً عن ابن بطة - قال: " فألزم الاسم العمل والعمل الاسم ".
      وفي هذا تنبيه على مواضع أخرى تماثلها، مع قصد أهمية المقدم -كما سبق- ومنها:
      ((كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ))[آل عمران:110].
      فلا يقال: إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ليسا من الإيمان، أو يصحان بدونه؛ لأنه عطف الإيمان عليهما، والعطف يقتضي المغايرة.
      بل المقصود التنبيه على أهمية هذه الميزة الإسلامية، بإفرادها عن سائر أعمال الإيمان، وتقديمها عليه، وإلا فمعلوم قطعاً أن الإيمان لا يتقدم عليه شيء، إذ لا يقبل شيء بدونه.
      وقد ورد تقديم التوبة والتقوى والشكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على الإيمان في آيات أخرى.
      أما التوبة، ففي أربعة مواضع، منها: ((وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى))[طه:82].
      مع ورود التوبة بمعنى الإيمان نفسه في الآية السالفة: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ))[التوبة:5].
      وأما الشكر، ففي قوله تعالى: ((مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ))[النساء:147].
      وأما التقوى، ففي قوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ))[الحديد:28].
      وأما الصلاة والزكاة، ففي قوله تعالى: ((لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ))[المائدة:12].
      وورد عكس ذلك، وهو ذكر الإيمان ثم العطف عليه بذكر شيء من أعماله، تنبيهاً على أهميته أيضاً، مثل قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))[البقرة:218].
      والمهاجرون هم من المؤمنين، وكل المؤمنين يرجون رحمة الله، ومواضع هذا كثيرة.
      وبالجملة، فالإيمان في هذه النصوص، إما أنه الإيمان كله باطنه وظاهره، لكن يعطف عليه بعضه، ويقدم عليه بعضه، وهذا واضح الدلالة.
      وإما أن يكون المقصود باطن الإيمان، أي: الإيمان المذكور في حديث جبريل.
      ويكون عطف الأعمال عليه، أو عطفه على أعمال هي أجزاء ظاهرة من الإيمان، ولا تصح بدون الإيمان الباطن، ودلالته لا خفاء فيها أيضاً.
      وأقل المواضع دلالة على التركيب، هي التي يذكر فيها الإيمان مطلقاً، ومع ذلك فإن الإيمان المطلق هو بمعنى " الدين "، والدين يشمل أعمال الإيمان جميعها، وهذا لا يقتصر على لفظ الإيمان، بل له ألفاظ أخرى، كلفظ " البر " المذكور في آية البقرة السابقة: (( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ ))[البقرة:177].
      ولفظ (الدين) ولفظ (التقوى) ولفظ (العبادة) ولفظ (الهدى) ولفظ (الطاعة) ولفظ (المعروف) ولفظ (الخير) ونحوها من الألفاظ العامة التي تدخل فيها شعب الإيمان جميعاً.
      ونختم هذا المبحث بذكر موضع مهم من المواضع التي قرن فيها العمل بالإيمان، للدلالة على التركيب والتلازم، وهو قوله تعالى:
      ((وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً))[النساء:124].
      ووجه الأهمية أن الله تعالى ذكر ذلك ضمن الرد على دعوى الإيمان بالتسمي والقول، دون إصلاح العمل، ورد على من يزعم هذه الدعوى سواء أكان كتابياً أم حنيفياً، فقال قبلها:
      ((لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً))[النساء:123].
      وقال بعدها: ((وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً))[النساء:125].
      فبين أن الإيمان ليس بالتحلي ولا بالتمني، بل ما وقر في القلب وصدقه العمل، وأنه لا أحد أحسن ديناً ممن أسلم؛ أي انقاد وأطاع بلا حرج ولا منازعة، وهذه هي ملة إبراهيم، التي لا يقبل الله ديناً غيرها مهما كثرت الأماني والدعاوى.
    5. خامساً: الأحاديث الدالة على حقيقة الإيمان المركبة

      وردت أحاديث صحيحة كثيرة تدل على حقيقة الإيمان المركبة، وقد سبق أن أوردنا منها ما يدل على أن العمل إيمان، والإيمان عمل، وهذه أهمها:
      1- حديث جبريل عليه السلام المشهور:
      وهو حديث صحيح رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر عن أبيه، وعن أبي هريرة، والأول أتم، وهذه رواية مسلم:
      قال عبد الله بن عمر - بعد مقدمة عن القدرية التي هي سبب الحديث -:
      حدثني أبي -عمر بن الخطاب- قال: {بينما نحن عند الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه.
      وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟
      فقال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً.
      قال: صدقت.
      قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه.
      قال: فأخبرني عن الإيمان؟
      قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.
      قال: صدقت.
      قال: فأخبرني عن الإحسان؟
      قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
      قال: فأخبرني عن الساعة؟
      قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل.
      قال: أخبرني عن أمارتها؟
      قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان.
      قال: ثم انطلق فلبثت ملياً، ثم قال لي: يا عمر: أتدري من السائل؟
      قلت: الله ورسوله أعلم.
      قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم
      } .
      وعند ابن مندة من رواية على شرط مسلم، أنه سأله بعد ذكر أركان الإسلام: { فإن فعلت هذا فأنا مسلم؟
      قال: نعم.
      ...وبعد ذكر أركان الإيمان: فإن فعلت هذا فأنا مؤمن؟
      قال: نعم
      }.
      وفي طريق آخر عنده:
      ( لقد حدثني عمر أن رجلاً في آخر عُمْر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...الحديث ) .
      قال الحافظ: ''آخر عمره، يحتمل أن يكون بعد حجة الوداع؛ فإنها آخر سفراته، ثم بعد قدومه بقليل دون ثلاثة أشهر مات، وكأنه -يعني: جبريل عليه السلام- إنما جاء بعد إنزال جميع الأحكام؛ لتقرير أمور الدين التي بلغها متفرقة في مجلس واحد لتنضبط'' .
      وقال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية:
      ''إن جبريل لما سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإسلام والإيمان والإحسان، كان في آخر الأمر بعد فرض الحج، والحج إنما فرض سنة تسع أو عشر... '' .
      فهذا نص الحديث وزمانه الذي بمعرفته نعرف أموراً تأتي في الشرح.
      2- والحديث الثاني: هو حديث شعب الإيمان:
      عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الإيمان بضع وسبعون -أو: بضع وستون شعبة- فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق} وفي رواية: { والحياء شعبة من الإيمان} .
      عن ابن عباس رضي الله عنهما، { أن وفد عبد القيس أتوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: من الوفد؟ أو من القوم؟
      قالوا: ربيعة.
      فقال: مرحباً بالقوم -أو: بالوفد- غير خزايا ولا ندامى.
      قالوا:إنا نأتيك من شقة بعيدة، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضَر، ولا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر نخبر به من وراءنا ندخل به الجنة.
      فأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده
      قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟
      قالوا: الله ورسوله أعلم.
      قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وتعطوا الخمس من المغنم.
      ونهاهم عن الدُّباء، والحنتم، والمزفت.
      قال: شعبة: ربما قال: النقير، وربما قال: المقيّر. .
      قال: احفظوه وأخبروه من وراءكم
      }
      وهذه الأحاديث من أعظم الأحاديث في الإيمان، وقد اكتفيت بها؛ لأنها تشير إلى ما سواها، وأهمها وأشرفها وآخرها هو حديث جبريل وتقدم القول في وقته.
      أما حديث الشعب، فيحتمل أنه بعد نزول الفرائض واكتمال الشعب، ويحتمل أن يكون الله تعالى أطلعه على عددها، قبل أن ينزلها عليه كلها، والأول أقرب، والله أعلم.
      وأما حديث وفد عبد القيس فمتقدم؛ ولذلك لم يذكر فيه الحج، وما ذكر فيه من كون مضر ما تزال على الكفر، يدل على ذلك.
      ولكن أهميته ظاهرة في أنه فسر الإيمان بالأركان الأربعة، فدل على أن الإيمان إذا انفرد عن الإسلام يشمل باطن الدين وظاهره؛ أي: مجموع ما ذكر في حديث جبريل من أركان الإسلام وأركان الإيمان.
      وكذلك حديث الشعب؛ فإن أركان الإسلام الخمسة داخلة في الشعب، بدليل أنه جعل كلمة الشهادة أفضل الشعب وأعلاها.
      فالإيمان بهذا المفهوم العام -لا بمفهومه الخاص- الذي هو مرتبة من مراتب الدين، كما في حديث جبريل- مرادف لكلمة الدين كما بينها آخر حديث جبريل.
      وهذا الإيمان يشمل الظاهر والباطن معاً، كما دلت هذه الأحاديث الثلاثة، فمضمونها يدل على أن الإيمان حقيقة مركبة من الأعمال الظاهرة، والأعمال الباطنة معاً، لا يصح تصور أحدهما بدون الآخر في تحقيق الإيمان.
      ومن ترك العمل الظاهر فقد ترك ركن الإيمان، ومن زعم أن الإيمان يتحقق لأحد بدون العمل الظاهر، وأنه ينجو بمجرد ما يسمونه التصديق القلبي، فضلاله بيِّن.
      وعلى هذا نص علماء الإسلام وشراح السنة، لا سيما في شرحهم لحديث جبريل، الذي سنورد طرفاً من كلامهم فيه، ودلالة ذلك على التركيب:
      " قال إسماعيل بن سعيد: '' وسألت أحمد عمن قال في الذي قال جبريل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ سأله عن الإسلام: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ فقال: نعم، فقال قائل: وإن لم يفعل الذي قال جبريل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو مسلم أيضاً؟ فقال -أي الإمام-: هذا معاند للحديث '' .
      والإمام أحمد هو في أكثر الروايات عنه أوفقها لأصوله ممن يرى أن تارك أحد الأركان الأربعة عدا الشهادتين متعمداً كافر.
      فتكفيره لمن لم يأتِ بشيء من العمل الظاهر متيقن، وكذا تارك الأربعة جميعاً.
      ووجه استدلاله بهذه الرواية، أن حديث جبريل اشتمل على أركان العمل الظاهر ( الإسلام ) وأركان الاعتقاد الباطن ( الإيمان )، وهو لتأخره قاضٍ على كل ما سبق من أحاديث فيها إطلاق دخول الجنة بمجرد الشهادة، أو نقص في عدد الأركان، ونحو ذلك.
      وقد صرح فيه بأنه إذا فعل الأركان الظاهرة فهو مسلم، وإذا فعل الأركان الباطنة فهو مؤمن، ومن هذين يتركب الدين وتتكون حقيقته.
      ومعلوم أنه لو ترك أركان الإيمان كان كافراً اتفاقاً، فكذا إذا ترك أركان الإسلام لا يكون مسلماً، فمن قال: إنه مسلم مع من ترك الأركان الأربعة، التي هي رأس العمل الظاهر، فقد عاند الحديث في قوله: { فإن فعلت هذا فأنا مسلم؟ قال: نعم }.
      وهذه الأعمال الظاهرة التي سماها إسلاماً في حديث جبريل، سماها إيماناً في حديث الشعب، وحديث وفد عبد القيس، فدل هذا على ما هو معلوم بالضرورة، من أن ما ذكره في حديث جبريل من الأعمال الظاهرة، ليس المقصود به عمله بلا إيمان باطن، وإلا فهذا حال المنافق، وكذا ما ذكره من الأعمال الباطنة، التي سماها إيماناً، ليس المقصود منه أن لا عمل ظاهراً معها، بل هي درجة ومرتبة من الدين فوق مرتبة الإسلام، كما بين ذلك شراح الحديث قاطبة.
      يقول الإمام الخطابي في قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الإيمان بضع وسبعون شعبة} ''في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء، له أدنى وأعلى، والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبه، وتستوفي جملة أجزائه؛ كالصلاة الشرعية، لها شعب وأجزاء، والاسم يتعلق ببعضها، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها'' .
      وقال الإمام البغوي في شرح حديث جبريل:
      ''جعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة، هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين؛ ولذلك قال: { ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم }، والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعاً، ويدل عليه قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ))[آل عمران:19] و((وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً))[المائدة:3]، و((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ))[آل عمران:85] فأخبر أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولن يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل'' .
      ويقول أبو طالب المكي في كلام نفيس له -على طوله- وننقل بعضه:
      ''مثل الإسلام من الإيمان؛ كمثل الشهادتين؛ إحداهما من الأخرى في المعنى والحكم؛ فشهادة الرسول غير شهادة الوحدانية، وهما شيئان في الأعيان، وأحدهما مرتبط بالآخر، فهما كشيء واحد لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له؛ إذ لا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه، من حيث اشتراط الله للأعمال الصالحة الإيمان، واشتراط الإيمان للأعمال الصالحة، فقال في تحقيق ذلك: ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ))[الأنبياء:94].
      ((وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى))[طه:75].
      فمن كان ظاهره أعمال الإسلام، ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب، فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملة، ومن عنده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام، فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد...''.
      قال: ''ومثل الإيمان في الأعمال كمثل القلب في الجسم، لا ينفك أحدهما؛ شيئان منفردان وهما في الحكم والمعنى منفصلان''.
      '' ومثلهما أيضاً مثل حبة لها ظاهر وباطن، وهي واحدة، ولا يقال حبتان لتفاوت صفتهما، فكذلك أعمال الإسلام من الإسلام هو ظاهر الإيمان وهو من أعمال الجوارح، والإيمان باطن الإسلام، وهو من أعمال القلوب.
      روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {الإسلام علانية، والإيمان في القلب}.
      وفي لفظ: {الإيمان سر} فالإسلام أعمال الإيمان، والإيمان عقود الإسلام، فلا إيمان إلا بعمل، ولا عمل إلا بعقد.
      ومثل ذلك العمل الظاهر والباطن؛ أحدهما مرتبط بصاحبه من أعمال القلوب وعمل الجوارح، ومثله قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنما الأعمال بالنيات} أي: لا عمل إلا بعقد وقصد؛ لأن " إنما " تحقيق للشيء ونفي لما سواه فأثبت بذلك عمل الجوارح من المعاملات وعمل القلوب من النيات.
      فمثل العمل من الإيمان كمثل الشفتين من اللسان، لا يصح الكلام إلا بهما؛ لأن الشفتين تجمع الحروف، واللسان يظهر الكلام، وفي سقوط أحدهما بطلان الكلام، وكذلك في سقوط العمل ذهاب الإيمان، ولذلك حين عدد الله نعمه على الإنسان بالكلام، ذكر الشفتين مع اللسان في قوله: ((أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ))[البلد:8-9] بمعنى: ألم نجعله ناظراً متكلماً، فعبر عن الكلام باللسان والشفتين؛ لأنهما مكان له، وذكر الشفتين؛ لأن الكلام الذي جرت به النعمة لا يتم إلا بهما.
      ومثل الإيمان والإسلام أيضاً، كفسطاط قائم على الأرض، له ظاهر وأطناب، وله عمود في باطنه، فالفسطاط الإسلام له أركان من أعمال العلانية والجوارح، وهي الأطناب التي تمسك أرجاء الفسطاط، والعمود الذي في وسط الفسطاط مثله كالإيمان؛ لا قوام للفسطاط إلا به، فقد احتاج الفسطاط إليها؛ إذ لا قوام له ولا قوة إلا بها، كذلك الإسلام في أعمال الجوارح، لا قوام لها إلا بالإيمان، والإيمان من أعمال القلوب، ولا نفع له إلا بالإسلام وهو صالح الأعمال '' .
      وقال: ''وعلى مثل هذا أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإيمان والإسلام من صنف واحد فقال في حديث ابن عمر: {بني الإسلام على خمس } وقال في حديث ابن عباس عن وفد عبد القيس: إنهم سألوا عن الإيمان، فذكر هذه الأوصاف، فدل بذلك على أنه لا إيمان باطن إلا بإسلام ظاهر، ولا إسلام ظاهر علانية إلا بإيمان سر، وأن الإيمان والعمل قرينان، لا ينفع أحدهما بدون صاحبه '' .
      قال: ''فأما تفرقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث جبريل بين الإيمان والإسلام؛ فإن ذلك تفصيل أعمال القلوب وعقودها على ما توجب هذه المعاني التي وصفناها أن تكون لاعقوداً، من تفصيل أعمال الجوارح، مما يوجب الأفعال الظاهرة التي وصفها علانية، لا أن ذلك يفرق بين الإسلام والإيمان في المعنى باختلاف وتضاد؛ إذ ليس فيه دليل أنهما مختلفان في الحكم '' .
      قال: ''ويجتمعان في عبد واحد مسلم مؤمن فيكون ما ذكره من عقود القلب وصف قلبه، وما ذكره من العلانية وصف جسمه '' .
      قال: ''وأيضاً، فإن الأمة مجمعة أن العبد لو آمن بجميع ما ذكره من عقود القلب في حديث جبريل، من وصف الإيمان، ولم يعمل بما ذكره من وصف الإسلام، أنه لا يُسمى مؤمناً، وأنه إن عمل بجميع ما وصف به الإسلام، ثم لم يعتقد ما وصفه من الإيمان، أنه لا يكون مسلماً، وقد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الأمة لا تجتمع على ضلالة '' .
      ويقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في شرح حديث جبريل أيضاً - بعد أن ذكر اشتماله على مراتب الدين الثلاث:
      '' والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسر الإسلام والإيمان بما أجاب به، كما يجيب عن المحدود بالحد إذا قيل: ما كذا؟ قال: كذا وكذا، كما في الحديث الصحيح لما قيل: {ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره}، وفي الحديث الآخر: {الكبر: بطر الحق وغمط الناس...}.
      ثم بين أن أجوبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلها حق وإن تنوعت، وقال: " ولكن المقصود أن قوله: { بني الإسلام على خمس كقوله: الإسلام هو الخمس كما ذكر في حديث جبريل؛ فإن الأمر مركب من أجزاء تكون الهيئة الاجتماعية فيه مبنية على تلك الأجزاء، مركبة منها؛ فالإسلام مبني على هذه الأركان.
      وسنبين إن شاء الله اختصاص هذه الخمس بكونها هي الإسلام، وعليها بني الإسلام، ولم خصت بذلك دون غيرها من الواجبات.
      وقد فسر الإيمان في حديث وفد عبد القيس بما فسر به الإسلام هنا ولكنه لم يذكر فيه الحج '' .
      وإذا تلمسنا الحكمة من مجيء جبريل -عليه السلام- وتعليمه للمسلمين مراتب دينهم في مجلس واحد في آخر عمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإننا نجد أن هذا التعليم لم يكن إعلاماً بأمر مبتدأ جديد ولا بسبب خفاء معنى الإسلام والإيمان عندهم، بل ليتبينوا حقيقة المراتب الكاملة بعد نزول الأحكام واكتمال الدين، ومن ثم بنى السلف على ذلك نفي الإسلام والإيمان عمن لم يأتِ بهذه الأركان أو بعضها.
      وهذا ما فصله -رحمه الله- قائلاً: ''وإنما سأل جبريل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك وهم يسمعون وقال: { هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم } ليبين لهم كمال هذه الأسماء وحقائقها التي ينبغي أن تقصد لئلا يقتصروا على أدنى مسمياتها.
      وهذا كما في الحديث الصحيح أنه قال: {ليس المسكين هذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس إلحافاً}؛ فهم كانوا يعرفون المسكين وأنه المحتاج، وكان ذلك مشهوراً عندهم فيمن يظهر حاجته بالسؤال، فبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الذي يظهر حاجته بالسؤال والناس يعطونه تزول مسكنته بعطاء الناس له والسؤال له بمنزلة كفايته؛ لم يبق مسكيناً، وإنما المسكين المحتاج الذي لا يسأل ولا يُعرف فيعطى، فهذا هو الذي يجب أن يقدم في العطاء فإنه مسكين قطعاً، وذاك مسكنته تندفع بعطاء من يسأله '' وكذلك قوله: ''الإسلام هو الخمس يريد أن هذه كلها واجب داخل في الإسلام؛ فليس للإنسان أن يكتفي بالإقرار بالشهادتين، وكذلك الإيمان يجب أن يكون على هذا الوجه المفصل لا يكتفى فيه بالإيمان المجمل؛ ولهذا وصف الإسلام بهذا.
      وقد اتفق المسلمون على أنه من لم يأتِ بالشهادتين فهو كافر، وأما الأعمال الأربعة فاختلفوا في تكفير تاركها، ونحن إذا قلنا: أهل السنة متفقون على أنه لا يكفَّر بالذنب فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب، وأما هذه المباني ففي تكفير تاركها نزاع مشهور '' .
      ثم ذكر الروايات عن أحمد في ذلك وقال: ''قال الحكم بن عتيبة : من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر، ومن ترك الزكاة متعمداً فقد كفر، ومن ترك الحج متعمداً فقد كفر، ومن ترك صوم رمضان متعمداً فقد كفر''.
      وقال سعيد بن جبير : [[من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر بالله، ومن ترك الزكاة متعمداً فقد كفر بالله، ومن ترك صوم رمضان متعمداً فقد كفر بالله، لا ترفع الصلاة إلا بالزكاة]].
      وقال عبد الله بن مسعود : [[من أقام الصلاة ولم يأت بالزكاة فلا صلاة له]].
      رواها أسد بن موسى
      وقال عبد الله بن عمرو: [[من شرب الخمر ممسياً أصبح مشركاً، ومن شربها مصبحاً أمسى مشركا. فقيل لـإبراهيم النخعي: كيف ذلك؟ قال: لأنه يترك الصلاة]].
      قال أبو عبد الله الأخنس في كتابه: ''من شرب المسكر فقد تعرض لترك الصلاة، ومن ترك الصلاة فقد خرج من الإيمان'' .
      وبهذا يتبين من الأحاديث وما شرحها به الأئمة أن الإيمان الذي هو قول وعمل هيئة جامعة لأمور، أو حقيقة مركبة من أمور هي الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة معاً، ولكل منهما أركان ترجع إلى أصل واحد.
      فالأعمال الباطنة هي (الإيمان) -الذي يشمل قول القلب وعمله- وقد سميت أصول الأجزاء الباطنة من الدين أركاناً، وهذه الأركان ترجع إلى أصل واحد هو الإيمان بالله، فما جاء في القرآن والسنة من ذكر الإيمان بالله فهو هذا الأصل الذي يشمل الأركان الأخرى كالإيمان بالملائكة والكتب والرسل، والأركان تتفرع عنها سائر تفصيلات الاعتقاد.
      والأعمال الظاهرة هي الإسلام الذي يشمل قول اللسان وعمل الجوارح، وأصول الأجزاء الظاهرة من الإيمان هي أركان الإسلام الخمسة، وهذه الأركان ترجع في الأصل إلى ركن واحد هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والباقي حقوق لها وفروع منها.
      فكل ما ورد من نصوص في أحكام المسلمين أو أصحاب التوحيد أو أهل القبلة، وما أطلق من تعليق النجاة في الدنيا والآخرة على الإقرار بالشهادتين فالمقصود به هو هذا، أي: من شهد بها قائماً بحقوقها فهو المسلم الموحد الذي يعد من أهل القبلة وتجري عليه أحكامهم وحقوقهم في الدنيا والآخرة؛ فحديث جبريل قاضٍ على ما سبقه بما فيه من زيادة أركان أو تفصيل إجمال.
      ومن تبين نصوص الشرع وواقع النفوس تبين له: '' أن كل قول وعمل لا بد له من ظاهر وباطن، فظاهر القول لفظ اللسان، وباطنه ما يقوم من حقائق الإيمان بالجنان، وظاهر العمل حركات الأبدان، وباطنه ما يقوم بالقلب من حقائقه ومقاصد الإنسان '' .
      وقد سبق تفصيل ذلك في حقيقة النفس الإنسانية، ومنه نعلم أن '' الظاهر لا بد له من باطن يحققه ويصدقه ويوافقه، فمن قام بظاهر الدين من غير تصديق بالباطن فهو منافق، ومن ادعى باطناً يخالف ظاهراً فهو كافر منافق، بل باطن الدين يحقق ظاهره ويصدقه ويوافقه، وظاهره يوافق باطنه ويصدقه ويحققه، فكما أن الإنسان لا بد له من روح وبدن وهما متفقان فلا بد لدين الإنسان من ظاهر وباطن يتفقان، فالباطن للباطن من الإنسان، والظاهر للظاهر منه'' .
      فشهادة أن لا إله إلا الله كلمة ظاهرة باللسان وباطنها الإيمان بالله، والإيمان بالله اعتقاداً باطن بالقلب، وظاهره شهادة أن لا إله إلا الله، فلا انفكاك لأحدهما عن الآخر في تحقيق الإيمان أبداً، ثم عنهما تتفرع الأركان ومنها تتشعب الشعب كما سبق.
      فأبعد الناس عن معرفة دين الإسلام وحقائقه من قال: إن الإيمان يتم والنجاة تحصل بدون شهادة أن لا إله إلا الله، فضلاً عن ترك سائر الأركان، وإن هذه الشهادة ما هي إلا علامة على الإيمان، وإن تركها مجرد علامة ظاهرة على عدم الإيمان من جهة إجراء الأحكام الدنيوية، وإلا فقد يكون الإيمان حاصلاً في القلب في الواقع ونفس الأمر.
      فجعلوا أعظم أركان الإسلام -التي هي الجزء الظاهر من الإيمان بالله- بمنزلة شهادة الشهود أو القرائن الظاهرة التي قد يكون الواقع مخالفاً لها، حتى إنهم قالوا: إن مَنْ سب الله أو قتل الرسول يجوز أن يكون مؤمناً في الباطن، ولا يكون كافراً قط إلا إذا انتفى العلم الباطني من قلبه.
      فإذا قيل لهم: قد جاء الكتاب والسنة بتكفير من كان لديه علم وتصديق باطن بدون انقياد بالقلب وإقرار باللسان، قالوا: من ورد فيه النص علمنا انتفاء الإيمان عنه بالنص لا بالنظر والفهم، وما سوى ذلك لا نجزم بكفره وإن أقمنا عليه أحكامه الظاهرة.
      وهذا الخطأ العظيم كان سبباً لما أحدثه المرجئة المعاصرون من أصول أكثر ضلالاً وخطأً في بعض الوجوه من متقدميهم، ولا سيما في مسألة التكفير التي ضل فيها أكثر الدعاة بين طرفي الإفراط والتفريط، وكان خوارج عصرنا رد فعل لمرجئتهم؛ فقد تولد التكفير الغالي في أحضان المرجئة الغالية، عكس ما حصل في القرن مِنَ تولد الإرجاء في أحضان الخروج.
      ولو أن علاقة الظاهر بالباطن وحقيقة كل منهما بالآخر كانت واضحة لدى هؤلاء؛ لسلموا من هذا التخبط الشديد.
      فكما أن المرجئة القدامى تصوروا وجود الإيمان في قلب من عاش دهره كله لم يسجد لله سجدة، ولا صام له يوماً، ولا أدى من زكاة ماله درهماً، ولا عقد النية على حج بيته، بل ربما كان معلناً بسب الله ورسوله مهيناً للمصحف عمداً، حتى لو قتلناه على شيء من ذلك قالوا: إن كان مقراً في نفسه فإنه يموت مسلماً عاصياً، وإذا امتنع عن التوبة يقتل حداً لا كفراً!!
      كما تصوروا ذلك جاء المرجئة المعاصرون فقالوا: إن من كان لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يقيم من شريعة الله إلا جزءاً قد يقل أو يكثر، لا يقيمه لأنه من أمر الله وامتثالاً له وإيماناً بدينه، بل لأنه موافق للهوى والمصلحة الذاتية، ومقر ممن يملك حق الإقرار والتشريع سواء كان شخص الزعيم أو الحزب أو المجلس التشريعي؛ فإنه لا يكفر إلا إذا علمنا أنه في قلبه يفضل شرائع البشر على شريعة أحكم الحاكمين، وما لم نطلع على ذلك فكل أعماله هي على سبيل المعصية، حتى وهو يصدر القوانين تلو القوانين ويترصد للمطالبين بتطبيق الشريعة ويلاحقهم بصنوف الأذى، ويظهر الموالاة الصريحة للكفار، ويلغي ما شرعه الله من الفروق الجلية بين المؤمنين والكفار من الرعية، ويرخص بإقامة أحزاب لا دينية، كل ذلك معاصٍ لا تخرجه من الإسلام ما لم نطلع على ما في قلبه فنعلم أنه يفضل شرعاً وحكماً غير شرع الله وحكمه على شرع الله وحكمه، أو يصرح بلسانه أنه يقصد الكفر ويعتقده، وأنه مستحل للحكم بغير ما أنزل الله!!
      فـمرجئة عصرنا أكثر غلواً من جهة أنهم لم يحكموا له بشيء من أحكام الكفر لا ظاهراً ولا باطناً، وأولئك لم يخالفوا في إجراء الأحكام الظاهرة عليه، لكن جوزوا إيمانه باطناً، فقالوا: لو قتلناه لأنه سب الله ورسوله فهذا السب دليل على كفره، وهو يوجب علينا تكفيره وقتله في أحكام الدنيا، لكن إن كان في قلبه مقراً بصدق الرسول فهو مؤمن ناج عند الله، أما هؤلاء فيحكمون بإيمان من ذكرنا مثاله ظاهراً وباطناً ولا يرونه مستوجباً لحد فضلاً عن تكفيره، بل يصرحون له بالموالاة والتأييد!!
      وهذا من أعظم المصائب التي ابتليت بها الدعوة الإسلامية في عصرنا، ومن أشدها مدعاة لإيضاح عقيدة أهل السنة والجماعة وبيانها للعامة والشباب لا سيما معرفة حقيقة الإيمان المركبة من الاعتقاد والامتثال، وتطبيق لوازم ذلك ومقتضياته على الواقع، وهي الحقيقة التي نرجو أن نكون قد أوضحنا الأدلة عليها فيما سبق.
      وقد أوجزها العلامة ابن القيم في كلمات ميسرة فقال: ''الإيمان حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علماً، والتصديق به عقداً، والإقرار به نطقاً، والانقياد له محبة وخضوعاً، والعمل به باطناً وظاهراً، وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان، وكماله في الحب لله والعطاء لله والمنع لله'' .
      وإذ قد بينا حقيقة الإيمان المركبة من جهة دلالة النصوص، فقد بقي أن نكمل ذلك فنبين صحة ذلك وصوابه من جهة البراهين النظرية الواضحة مناقشين لشبه المخالفين فيها، وهذا على قسمين:
      الأول: بيان فساد مذهب المعتزلة والخوارج والمرجئة بالتفريق بين الحقيقة الواحدة المشتركة التي ادعوها، وبين الحقيقة المركبة التي أوضحناها، وحكم المعصية عند كلٍ بحسب ذلك.
      الثاني: بيان مأخذ السلف البرهاني في قولهم بأن تارك العمل مطلقاً لا إيمان له.
      وبيان الأول أن نقول: إن حقيقة الإيمان المركبة بالتقريب والتمثيل النظري كبناء أساسه شهادة أن لا إله إلا الله، ثم له أركان هي: المباني الأربعة، ثم تتفرع منه أجزاء أقلها إماطة الأذى عن الطريق، هذا من جهة الشمول.
      وهو من جهة قوة التركيب مثل الملح المركب من الكلور والصوديوم بحيث لو انتفى أحدهما انتفت حقيقته.
      وأفضل من ذلك أن نشبهه بالشجرة التي لها جذور وجذع وأغصان وورق أخذاً من قوله تعالى:
      ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ))[إبراهيم:24].
      وهو من جهة عدد أجزائه بضع وسبعون كما في الحديث. هذا عند أهل السنة والجماعة.
      وأما المعتزلة والخوارج من جهة والمرجئة من جهة أخرى؛ فقد اتفق جميعهم على أن الإيمان حقيقة واحدة مشتركة بين جميع المؤمنين في جميع الأعصار والأحوال، أي: هو ماهية معينة إما أن توجد وإما أن تفقد فلا أبعاض له بحيث يذهب بعضه ويبقى بعضه.
      وهذا ما سبق إيضاحه فيما مضى من مباحث.
      وعلى هذا قالوا: إن الإيمان لا يكون حقيقة مركبة من أمور أو هيئة جامعة لأمور؛ لأن زوال جزء من أجزاء الحقيقة المركبة أو الهيئة الجامعة يلزم منه زوال الاسم وانتفاء الماهية، وضربوا لذلك مثالاً بالعدد عشرة فقالوا: إن العشرة تتركب من آحاد يكون مجموعها عشرة، فإذا نقص منها واحد انتفى اسم العشرة. وهاهنا تظهر ثمرة الخلاف -أي: في صاحب الكبيرة وتارك الواجب أو النفل- بين هاتين وبين أهل السنة.
      فقالت الخوارج والمعتزلة: يلزمكم على هذا أن تنفوا الإيمان عمن ترك واجباً بل نفلاً؛ لأن الإيمان عندكم يشمل هذا كله ويلزمكم أن تحكموا بكفره -كما تقول الخوارج- أو تجعلوه في منزلة بين المنزلتين كما تقول المعتزلة .
      وقالت المرجئة: بل العكس هو الصواب؛ فلما كنتم لا تنفون الإيمان عن صاحب الكبيرة لزمكم ألاّ تقولوا: إن الإيمان حقيقة مركبة؛ لأن الحقيقة المركبة يلزم من زوال بعض أجزائها زوال الاسم، ونحن وأنتم متفقون على إثبات اسم الإيمان لصاحب الكبيرة؛ فلا يكون العمل من الإيمان إذن، ولا وجود للحقيقة المركبة، بل الإيمان هو القدر المشترك، أي: التصديق القلبي فقط.
      والجواب عن ذلك:
      أن قولنا: إن الإيمان حقيقة مركبة من القول والعمل الظاهر والباطن يتفق -ولله الحمد- مع النصوص، ومع الأمثلة العقلية كذلك في حكم العاصي وسائر الأحكام، وهذه الشبهة نقلبها عليكم؛ فنقول للمعتزلة والخوارج: أنتم جعلتم مرتكب الكبيرة خارجاً عن اسم الإيمان مطلقاً، فعلى مثالكم يكون من أنقص من العشرة واحداً مثل من لم يأتِ بشيء منها مطلقاً؛ فجعلتم التسعة والصفر سواء، وهذا ما تأباه البدائه والعقول!
      ونحن نقول: إن الإيمان أبعاض فمن أتى بتسعة أو ثمانية أو أقل فهو ناقص الإيمان، ولا نزيل عنه اسم الإيمان مطلقاً بسبب ذلك، ولكننا نزيل عنه -كما ورد في النصوص- اسم الإيمان المطلق - أي: غير المقيد بقيد، فنقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، كما نقول في هذا المثال: هو لديه عشرة إلا واحداً. وهذا الاستثناء صحيح لغة وشرعاً؛ قال الله تعالى: ((أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً))[العنكبوت:14]. أي: تسعمائة وخمسون.
      ونقول للمرجئة: أنتم قد جعلتم من جاء بواحد كمن جاء بالعشرة؛ حيث قلتم: إن العاصي كامل الإيمان.
      على أن التشبيه بالعشرة ليس من كل وجه إذ يفرقه أمران:
      أ- أن الرقم عشرة مجرداً تتساوى فيه أفراد العشرة، أما الإيمان فالأول من أفراده وهو شهادة أن لا إله إلا الله، يختلف جداً عن الأخير منها وهو إماطة الأذى عن الطريق؛ فبزوال الأول يزول اسم الإيمان ولا يزول بالأخير، فتبين أن المثال تقريـبـي فقط.
      ب- أن المركبات تختلف؛ فمنها ما يكون التركيب شرطاً في إطلاق الاسم كالملح، وكالإيمان بالنسبة لتركبه من القول والعمل معاً، ومنها ما لا يكون شرطاً وهو أكثر المركبات والهيئات المجتمعة سواء الشرعي منها واللغوي، فالأول كالطاعة والعبادة والخير والصدقة والإحسان والقرآن والحديث ونحو ذلك؛ فإن هذه الأسماء تطلق على القليل، وعند وجود البعض وزوال البعض، فالقرآن كله قرآن والسورة منه قرآن، وكذلك مجموع الطاعات إيمان، وكل طاعة منه إيمان، ولا يلزم من انتفاء بعض الأجزاء زوال الاسم.
      واللغوي: مثل البحر والكلام والتراب والجبل والقرية ونحو هذا؛ فإن الاسم يطلق على البحر كله وعلى الطرف منه والجزء من مائه، ولا يلزم من ذهاب بعضه ألا يطلق الاسم على الباقي.
      فالإيمان بالنسبة لتركبه من مجموع الطاعات هو كهذا، والمثال الأوضح -كما سبق- هو مثال الشجرة:
      فعلى مذهب المعتزلة والخوارج يكون قطع غصن من الشجرة إزالة لها ولاسمها بالكلية، وهذا واضح البطلان بالعقل والبديهة.
      وعلى مذهب المرجئة يكون استئصال الجزء الظاهر من الشجرة كله حتى لا يرى منه شيء لا يذهب اسم الشجرة وحقيقتها، لاحتمال أن يكون الجذر موجوداً، والاسم عندهم إنما يطلق على الجذر وحده - أعني قولهم: إن اسم الإيمان إنما يطلق على التصديق القلبي وحده.
      وأما أهل السنة والجماعة فهداهم الله للحق في المنقول والمعقول معاً؛ فإن الشجرة يبقى اسمها شجرة لكن يختلف الإطلاق، فالشجرة يعتريها النقص والقطع، فإذا أريد الشجرة الكاملة الممدوحة - قيل: هذه ليست كذلك بل هي ناقصة مع عدم زوال اسم الشجرة عنها، وإن أريد مطلق شجرة فهي شجرة فعلاً، ونعني بذلك: أن الإيمان المطلق لا يقال للعاصي، وأما مطلق الإيمان فيقال له ولا ينفى عنه.
      وقول المرجئة: إن من أتى بالمكفرات الظاهرة يمكن أن يكون مؤمناً في الباطن، هو كما لو رأى إنسان صخرة ثابتة في الأرض فقيل له: يمكن أن يكون أصلها الذي في الأرض جذر شجرة، وهذا ما لا يصدقه عاقل قط!!
      وبهذا يظهر فساد شبهة المرجئة وأنهم يعارضون النقل الصحيح والعقل الصريح بما لا حجة فيه، حتى إن إمام الأشعرية في عصره وأحد كبارهم بإطلاق الفخر الرازي صعب عليه التوفيق بين ما نقله واعتقده إمامه الشافعي من إجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل، وبين شبهتهم هذه عن الحقيقة المركبة، فقال وهو يتحدث في مناقب الإمام الشافعي: '' قد نقلنا عن الشافعي -رضي الله عنه- أن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وقال المتكلمون: الإيمان ليس إلا التصديق بالقلب واحتجوا عليه بوجوه '' .
      وذكر كلامهم المعروف بالاستدلال باللغة وشبهة العطف، ثم قال: ''واعلم أن قول الشافعي رضي الله عنه: لا يمكن جعله من المعايب؛ فإن الذي ذهب إليه مذهب قوي في الاستدلال والاحتجاج، إلا أن الذي اختاره علماء الأصول من أصحابنا هو هذا القول الثاني.
      واعلم أن القوم قد يقررون العيب من وجه آخر فيقولون: قد تقرر في بدايه العقول أن مسمى الشيء إذا كان مجموع أشياء فعند فوات تلك الأشياء لا بد أن يفوت المسمى، فلو كان العمل جزء مسمى الإيمان لكان عند فوات العمل وجب ألا يبقى الإيمان، لكن الشافعي رضي الله عنه يقول: العمل داخل في مسمى الإيمان، ثم يقول: الإيمان باق مع فوات العمل؛ فكان هذا مناقضة... '' .
      إلى أن يقول: '' وللشافعي أن يجيب فيقول: أصل الإيمان هو الإقرار والاعتقاد، فأما الأعمال فإنها من ثمرات الإيمان وتوابعه، وتوابع الشيء قد يطلق عليها اسم الأصل على سبيل المجاز، وإن كان يبقى الاسم مع فوات تلك التوابع، كما أن أغصان الشجرة قد يقال: إنها من الشجرة، مع أن اسم الشجرة باق بعد فناء الأغصان فكذلك هاهنا.
      واعلم أن على هذا التقدير يكون اسم الإيمان حقيقة في الإقرار والاعتقاد، ويكون إطلاق اسم الإيمان على الأعمال ليس إلا على سبيل المجاز، ولكن فيه ترك لذلك المذهب '' .
      فانظر كيف استشكل القضية، ثم أورد الشبهة، ثم أجاب بما يراه الصواب، ثم أقر بأن الجواب يلزم منه ترك مذهب إمامه الذي هو مذهب السلف قاطبة، ولو أنه تأمل مثاله الذي ذكره " الشجرة "؛ لذهب عنه الاضطراب.
      فإن قوله: '' إن أغصان الشجرة قد يقال: إنها من الشجرة '' ظاهر الخطأ من جهة الاحتمال؛ إذ لا احتمال فيه، بل هي منها على الحقيقة في اللغة والعقل وكلام الشارع كما في الآية السابقة.
      ويقال له: كيف يصح أن يكون إطلاق الشجرة على الجذع هو الحقيقة، وإطلاقه على الأغصان مجازاً، والاسم يطلق على الكل بلا تفريق؟!
      فهذا التكلف سببه انقداح الشبهة وعزل الأدلة اليقينية من النقل والعقل، وبذلك يظهر صدق مذهب أهل السنة وصحته، وسقوط شبهات المخالفين في مفهوم الحقيقة المركبة.
      وبعدها نبين الأمر الثاني وهو:
      مأخذ السلف في نفي الإيمان عن تارك جنس العمل من جهة النظر والواقع:
      ذكرنا فيما مضى نقولاً كثيرة عن السلف في أن ترك العمل مناف للإيمان، ونكمل هنا بذكر نقلين مهمين عن إمامين عظيمين من أئمة أهل السنة والجماعة: هما الإمام أحمد، وشيخه سفيان بن عيينة رضي الله عنهما:
      1- أما سفيان بن عيينة فقد روى عنه الإمام عبد الله بن الإمام أحمد قال: ''حدثنا سويد بن سعيد الهروي قال: سألنا سفيان بن عيينة عن الإرجاء فقال: يقولون: الإيمان قول وعمل. والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصراً بقلبه على ترك الفرائض ( وجعلوه ) ذنباً بمنزلة ركوب المحارم وليسا سواء؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر '' .
      وبيان ذلك في أمر آدم وإبليس وعلماء اليهود.
      أما آدم فنهاه عن أكل الشجرة وحرمها عليه، فأكل منها متعمداً ليكون ملكاً أو يكون من الخالدين؛ فسمي عاصياً من غير كفر.
      وأما إبليس فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمداً؛ فسمي كافراً.
      وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه نبي رسول، كما يعرفون أبناءهم، وأقروا به باللسان ولم يتبعوا شرائعه؛ فسماهم كفاراً.
      فركوب المحارم مثل ذنب آدم وغيره من الأنبياء، وتركها على معرفة من غير جحود فهو مثل كفر علماء اليهود.
      فهذا الكلام الموجز الواضح هو تفصيل لأنواع من الكفر، وبيان لمناط تكفير تارك الفرائض.
      2- وأما الإمام أحمد فقد روى عنه الخلال رسالته إلى أبي عبد الرحيم الجوزجاني جواباً لسؤاله عن المرجئة، وفي آخرها يرد عليهم قائلاً: ''إن من يقول: إن الإيمان هو مجرد الإقرار يلزمه أن يقول: هو مؤمن بإقراره، وإن أقر بالزكاة في الجملة ولم يجد ( أو يَحُد ) في كل مائتين خمسة - أنه مؤمن.
      ويلزمه أن يقول: إذا أقر ثم شد الزنار في وسطه، وصلَّى للصليب، وأتى الكنائس والبيع، وعَمِل عَمَل أهل الكتاب كله، إلا أنه في ذلك يقر بالله؛ فيلزمه أن يكون عنده مؤمناً. وهذه الأشياء من أشنع ما يلزمهم '' .
      فهذا إلزام قوي يعرف به حكم تارك الالتزام بالطاعات، وهو إبطال لمذهب من يقول: إن انتفاء الإيمان الظاهر لا يكون معه عدم الإيمان إلا بانتفاء الإيمان الباطن؛ فجعلوا ترك جزء الحقيقة الباطن شرطاً في انتفاء الحقيقة بترك الجزء الظاهر، مع أن التركيب ينتفي -وتنتفي الحقيقة بانتفائه- إذا ذهب أحد الركنين سواء أكان هذا أم ذاك.
      وقد بين شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية المأخذ الواقعي والنظري لأئمة السلف في تكفير تارك الالتزام المصر بقلبه على ألاّ يعمل الفرائض، وإن كان مقراً بصدق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قرارة نفسه أو مدعياً الإقرار بها بلسانه، وأن من خالف ذلك من الفقهاء فقد دخلت عليه شبهة الإرجاء شعر أم لم يشعر؛ فقال -مكرراً ذلك بمعناه في مواضع أخرى كثيرة:
      '' إنه لا يتصور في العادة أن رجلاً يكون مؤمناً بقلبه مقراً بأن الله أوجب عليه الصلاة، ملتزماً لشريعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به؛ يأمره ولي الأمر بالصلاة فيمتنع حتى يقتل، ويكون مع ذلك مؤمناً في الباطن قط، لا يكون إلا كافراً، ولو قال: أنا مقر بوجوبها غير أني لا أفعلها؛ كان هذا القول مع هذه الحالة كذباً منه كما لو أخذ يلقي المصحف في الحش، ويقول: أشهد أن ما فيه كلام الله...أو جعل يقتل نبياً من الأنبياء ويقول: أشهد أنه رسول الله، أو نحو ذلك من الأفعال التي تنافي إيمان القلب. فإذا قال: أنا مؤمن بقلبي مع هذه الحال كان كاذباً فيما أظهره من القول.
      فهذا الموضع ينبغي تدبره، فمن عرف ارتباط الظاهر بالباطن زالت عنه الشبهة في هذا الباب، وعلم أن من قال من الفقهاء: إنه إذا أقر بالوجوب وامتنع عن الفعل لا يقتل أو يقتل مع إسلامه؛ فإنه دخلت عليه الشبهة التي دخلت على المرجئة والجهمية ... ''.
      وقال في أول كلامه: ''من الممتنع أن يكون الرجل مؤمناً إيماناً ثابتاً في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج، ويعيش وهو لا يسجد لله سجدة ولا يصوم من رمضان ولا يؤدي زكاة ولا يحج إلى بيته، فهو ممتنع ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة'' .
      واحترز في آخر كلامه ممن قد يعمل أعمال الإيمان لكن بغير قصد التعبد والإيمان فقال: '' قد تبين أن الدين لا بد فيه من قول وعمل، وأنه يمتنع أن يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقلبه ولسانه ولم يؤد واجباً ظاهراً ولا صلاة ولا زكاة ولا صياماً ولا غير ذلك من الواجبات، (إلا أن يؤديها) لا لأجل أن الله أوجبها، مثل: أن يؤدي الأمانة أو يصدق الحديث، أو يعدل في قسمه وحكمه، من غير إيمان بالله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يخرج بذلك من الكفر؛ فإن المشركين وأهل الكتاب يرون وجوب هذه الأمور، فلا يكون الرجل مؤمناً بالله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع عدم شيء من الواجبات التي يختص بإيجابها أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ...'' .
      وقد فصّل هذا القول في الإيمان كما فصله ابن القيم " في الصلاة " ونحن ننقل كلامه في الإيمان الذي قاله تعقيباً على ما قاله علماء السلف كـعطاء ونافع والحميدي والشافعي وأحمد من تكفير تارك جنس العمل - قال: '' وإنما قال الأئمة بكفر هذا؛ لأن هذا فرض ما لا يقع؛ فيمتنع أن يكون الرجل لا يفعل شيئاً مما أمر به من الصلاة والزكاة والصيام والحج ويفعل ما يقدر عليه من المحرمات، مثل الصلاة بلا وضوء وإلى غير القبلة ونكاح الأمهات، وهو مع ذلك مؤمن في الباطن، بل لا يفعل ذلك إلا لعدم الإيمان الذي في قلبه... ولهذا فرض متأخروا الفقهاء مسألة يمتنع وقوعها، وهو أن الرجل إذا كان مقراً بوجوب الصلاة فدعي إليها وامتنع واستتيب ثلاثاً مع تهديده بالقتل، فلم يصل حتى قتل هل يموت كافراً أو فاسقاً؟ على قولين.
      وهذا الفرض باطل فإنه يمتنع في الفطرة أن يكون الرجل يعتقد أن الله فرضها عليه، وأنه يعاقبه على تركها، ويصبر على القتل ولا يسجد لله سجدة من غير عذر له في ذلك؛ هذا لا يفعله بشر قط، بل ولا يُضرب أحد ممن يقر بوجوب الصلاة إلا صلّى، لا ينتهي الأمر به إلى القتل، وسبب ذلك أن القتل ضرر عظيم لا يصبر عليه الإنسان إلا لأمر عظيم، مثل لزومه لدين يعتقد أنه إن فارقه هلك فيصبر عليه حتى يقتل، وسواء كان الدين حقاً أو باطلاً، أما مع اعتقاده أن الفعل يجب عليه باطناً وظاهراً، فلا يكون فعل الصلاة أصعب عليه من احتمال القتل قط.
      ونظير هذا: لو قيل: إن رجلاً من أهل السنة قيل له: ترض عن أبي بكر وعمر فامتنع عن ذلك حتى قتل مع محبته لهما واعتقاده فضلهما، ومع عدم الأعذار المانعة من الترضي عنهما؛ فهذا لا يقع قط.
      وكذلك لو قيل: إن رجلاً يشهد أن محمداً رسول الله باطناً وظاهراً، وقد طلب منه ذلك، وليس هناك رهبة ولا رغبة يمتنع لأجلها، فامتنع منها حتى قتل؛ فهذا يمتنع أن يكون في الباطن يشهد أن محمداً رسول الله.
      ولهذا كان القول الظاهر من الإيمان الذي لا نجاة للعبد إلا به عند عامة السلف والخلف الأولين والآخرين، إلا الجهمية -جهماً ومن وافقه- فإنه إذا قُدِّر أنه معذور لكونه أخرس، أو لكونه خائفاً من قوم إن أظهر الإسلام آذوه، ونحو ذلك، فهذا يمكن ألا يتكلم مع إيمان في قلبه كالمكره على كلمة الكفر. قال الله تعالى: (( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ))[النحل:106].
      وهذه الآية مما يدل على فساد قول جهم، فإنه جعل من تكلم بالكفر من أهل وعيد الكفار، إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان '' .
      ولما رأى المرجئة أن النصوص الشرعية، والآثار السلفية الواردة في تكفير من ترك العمل، أو عمل الكفر غير متسقة فيما ذهبوا إليه من الحكم بإيمان تارك العمل، ونفي وقوع الكفر بالعمل الظاهر مطلقاً، وليس لديهم حيلة أو جواب عنها قالوا: إنها واردة فيمن يستحل ذلك، أو كان جاحداً للوجوب، وهذا تأويل منقوض بفهم السلف الصالح للنصوص كما سبق عن الإمام أحمد والأوزاعي -رحمهم الله تعالى- وغيرهم، وحصر الكفر في الاستحلال فهم ناقص، ومجانب للصواب، ومخالف لأصول أهل السنة والجماعة من عدة أمور:
      أولاً: إن الكفر يكون:
      أ- بالاعتقاد في القلب كمن اعتقد أن لله نداً أو شريكاً أو مثيلاً، أو أنه لا يعلم كل شيء، أو لا يقدر على كل شيء، أو أن الساعة غير آتية وأن الله لا يبعث من في القبور، أو اعتقد أن القرآن اشتمل على باطل أو أن شيئاً مما جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير حق، أو أن شريعة الإسلام لا تصلح لهذا العصر، أو أن الأولياء يتصرفون في الكون، أو يستجيبون لمن دعاهم واستغاث بهم.
      ومن ذلك النفاق الأكبر بكل ألوانه وصوره، وهو باب واسع.
      ب- ويكون بالقول باللسان كمن سب الله ورسوله ومدح الأصنام وهجا الأنبياء واستهزأ بالدين ودعا إلى الكفر والردة وسخر من بعض أحكام الشرع وصنف في ذلك أو قاله بأي وسيلة.
      جـ- ويكون بالعمل الظاهر كمن يقاتل الأنبياء ويعذب أتباعهم ويهدم المساجد ويحرق المصاحف ويذبح لغير الله ويسجد للأصنام، ويتعلم السحر أو يعلمه، ويقاتل المؤمنين مع الكافرين أو ينصرهم بالمال والسلاح على المؤمنين، ويكرم المرتدين ويعظمهم ويهين المؤمنين ويحتقرهم ويتحاكم إلى الطاغوت ويذهب إلى الكاهن ويصدقه ونحو ذلك، وعلى هذا تدل نصوص قطعية من الكتاب والسنة وعليه إجماع المسلمين قبل ظهور البدع وتبعهم كبار فقهاء الملة في أبواب حكم المرتدين من كتبهم - مما يطول نقله إلا من دخلت عليه شبهة الإرجاء أو تناقض فاتبع كلام إمامه في تصانيفه الفقهية وتبع المتكلمين في تصانيفه أو آرائه العقدية.
      فَحصر الكفر في قول القلب وحده ضلال عظيم، وخطأ بيِّن إن لم يكن كفراً صريحاً كما هو حال من صرح به أو التزم لوازمه، ولهذا ونحوه كفّر بعض السلف الجهمية ولم يعدوهم من فرق أهل القبلة، ونص شَيْخ الإِسْلامِ على أن من جوَّز أن يكون من تكلم بالتكذيب والجحد وسائر أنواع الكفر من غير إكراه - مؤمناً في الباطن " فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ".
      ثانياً: أن الاستحلال كفر برأسه: سواء فعل صاحبه ما أحل من المحرمات أو لم يفعل، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ في من سب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن اعتقاد حل السب كفر سواء اقترن به السب أو لم يقترن" .
      ولذلك فمن شرَّع الزنا أو الربا أو شرب الخمر وأصدر لها المراسيم والقوانين التي ترخص بها، وتحدد لها الأنظمة في عملها وعين المحاكم التي تختص بفض النزاع فيها ورتب حراستها وألزم بمقتضى ذلك فقد كفر، وإن لم يزن مرة واحدة أو يشرب من الخمر قطرة أو يأكل من الربا درهماً.
      ثالثاً: أن الكفر أعظم المعاصي بإطلاق: والاستحلال ينقل المعصية التي دون الكفر إلى مرتبة الكفر بإجماع أهل السنة والمرجئة سواء، فإذا ثبت ذلك فإلى أي مرتبة ينقل الاستحلال الكفر وليس وراءه مرتبة أخرى بل هو بذاته كفر، فدل ذلك على أن موضوعه المعاصي التي هي دون الكفر لا الكفر.
      فإن اقترن بالكفر كان زيادة فيه كمن يكفر بالبعث ثم يكفر بالله.
      رابعاً: أنه لا يجوز أن يقال: لا بد أن يكون المستحل مكذباً بالدين حتى يكفر كما لا يجوز أن يقال في المكذب بالدين: أن يكون مستحلاً للتكذيب فكذلك المعاند المستكبر والشاك وغيره فتبين أنه لا يصح جعل أحد أنواع الكفر شرطاً في الأنواع الأخرى أو قيداً فيها.
      خامساً: أن الاستحلال نفسه يكون بالاعتقاد والقول والعمل:
      فالاعتقاد واضح، والقول كمن يقول: إن الزنا أو الربا أو شرب الخمر حلال، ومن ذلك قصة قدامة بن مظعون ومن معه في شرب الخمر، والعمل كقصة الرجل الذي تزوج امرأة أبيه فأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقتله وتخميس ماله، ولم يأمر بسؤاله أأنت مستحل أو مقر؟
      قال ابن القيم رحمه الله: '' روى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن البراء رضي الله عنه قال: لقيت خالي أبا بُردة ومعه الراية فقال: أرسلني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله.
      وذكر ابن أبي خيثمة في تاريخه من حديث معاوية بن قرة عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى رجل عرس بامرأة أبيه فضرب عنقه وخمَّس ماله.
      قال يحيى بن معين: هذا حديث صحيح.
      وفي سنن ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من وقع على ذات محرم فاقتلوه}.
      وذكر الجوزجاني: أنه رفع إلى الحجاج رجل اغتصب أخته على نفسها، فقال: احبسوه وسلوا من هاهنا من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوا عبد الله بن مطرف -رضي الله عنه- فقال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {من تخطى حرم المؤمنين فخطو وسطه بالسيف}.
      وقد نص أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد في رجل تزوج امرأة أبيه أو بذات محرم، فقال: يقتل ويدخل ماله في بيت المال.
      وهذا القول هو الصحيح وهو مقتضى حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ '' أهـ.
      وقال ابن كثير في تفسير الآية: ((وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ...))[النساء:22]:
      ''فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال، كما رواها الإمام أحمد وأهل السنن من طريق البراء بن عازب...'' وذكر الحديث!! اهـ.
      وهذا لا علة له إلا الاستحلال بالفعل.
      سادساً: أن حصر الكفر في الاستحلال يقتضي أن لا يكفر أحد، يقول: أنا غير مستحل، وأنا أعتقد أن هذا حرام مهما عمل من المكفرات حتى من سب الله ورسوله، وأهان المصحف، ونجَّس المسجد، ونصر الكفار على المؤمنين، وشرع الكفر بكل أنواعه، ما دام لم يصرح بالاستحلال أو صرح باعتقاد أن ذلك حرام في الشرع.
      بل على هذا لا يكاد يكفر من الناس إلا القليل فإن أبا طالب مات على دينه وهو يعتقد أنه باطل وأن دين محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الحق، وهرقل أقام على دينه مع اعتقاده أن ذلك حرام عليه ولكن شهوة الملك غلبت داعي الحق، وكذلك أحبار أهل الكتاب الذين اعتقدوا بقلوبهم وجوب اتباعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن لم يتبعوه بل كثير من كفار قريش لم يكونوا يعتقدون صحة عبادة الأصنام وأنها خير من التوحيد وأن الله لم يحرم عبادتها!!
      وهكذا فأكثر كفر الخلق هو من جهة الإباء والاستكبار وترك الانقياد والاتباع لا من جهة اعتقاد أن الكفر حلال، فإن أكثر المتدينين في العالم يرتكبون المحرمات في دينهم، ولا يقولون: نعتقد أنها حلال فكيف إذا ارتكبوا الكفر؟ ولا سيما أهل الإسلام الذين يعلمون أن الخروج من الإسلام أكبر الذنوب بإطلاق فيندر أن تجد مسلماً لا يعتقد أن الكفر حرام وأن عاقبته النار.
      ولنضرب لذلك مثالاً لكفر العمل وآخر لكفر القول:
      أ- مثال كفر العمل: السحر:
      فإن الله تعالى قد بين حال أهله فقال: ((وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ))[البقرة:102].
      فإن الله تعالى حكم عليهم بالكفر وبين أن كفرهم هو تعليم السحر وبين أنهم يعلمون أن ذلك كفر، ويقولون للمتعلم: إنما نحن فتنة فلا تكفر، ويعتقدون أن عاقبة عملهم هذا هي الخسارة الكبرى في الآخرة، فلم يجعل علمهم بأنه كفر وتحذيرهم المتعلم منه واعتقادهم سوء عاقبته مانعاً من تكفيرهم.
      فهؤلاء لم يكفروا لأنهم كذَّبوا بالله ورسوله واليوم الآخر، ولا لأنهم كذَّبوا الرسل في قولهم: إن الله حرم السحر، ولا لأنهم اعتقدوا حل السحر أو فضلوه على كتاب الله، ولكنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كما في الآية التي قبلها، أي: تركوا العمل به واختاروا ما يعلمون ويعتقدون قطعاً أنه مفضول بل كفر وخيم العاقبة على ما يعلمون قطعاً أنه فاضل بل حق محض، وبهذا حكم الله عليهم بالكفر ونفى عنهم الإيمان والتقوى.
      قال شَيْخ الإِسْلامِ: '' فهؤلاء الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون أنه لا خلاق لهم في الآخرة ومع هذا فيكفرون '' .
      فلو قدّرنا أن من يحكمون بالقوانين الوضعية لم يزيدوا على هؤلاء شيئاً، بل غاية فعلهم أنهم تركوا العمل بكتاب الله واتبعوا ما تقرره شياطين التشريع في الشرق والغرب وحذروا الناس من التحاكم إلى هذه القوانين وبينوا لهم أنها كفر، واعتقدوا أن مصيرهم إلى النار إن فعلوا ذلك لكنهم ظلوا يشرعونها ويحكمون بها؟ فهل يكون حكمهم شيئاً سوى الكفر!!
      فكيف وهؤلاء كما يعلم الناس بالتواتر لا يحذِّرون من قوانينهم، بل ولا يقولون: إن أصحابها من أهل النار ولا أن الشريعة أفضل منها -مجرد قول مع أنه غير نافع- بل يفخرون بإصدارها ويجعلون ذلك عيداً أو شبه عيد ويحاربون من دعاهم إلى تحكيم الشرع أيما محاربة، ويقولون بأنفسهم أو بأبواقهم: إن الشريعة قاصرة عن ملائمة الحياة، وإن أحكامها لا تصلح لهذا العصر، ويقولون: إن تحكيم هذه القوانين يحقق المصلحة الوطنية والخير والتقدم وحسن العاقبة... إلخ ما يتردد على ألسنة الزعماء وأعضاء المجالس التشريعية والصحفيين وسائر وسائل الإعلام!!
      فكيف يقال مع هذا: إن هؤلاء لا يكفرون إلا إذا كذَّبوا أو جحدوا الوجوب أو استحلوا، أو فضلوا أو ساووا...ونحو ذلك من العبارات التي تدل على شيء واحد، وهو أن يضموا إلى هذا النوع من الكفر نوعاً آخر منه.
      ورحم الله الشيخ محمد بن إبراهيم حيث فصل هذه الأنواع وجعل كلا منها كفراً بذاته، كما هو في كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومذهب السلف الصالح أجمعين، ثم أفرد القسم غير المكفر عنها جميعاً.
      وقال -أجزل الله مثوبته-: '' لو قال من حكَّم القانون: أنا أعتقد أنه باطل، فهذا لا أثر له بل هو عزل للشرع كما لو قال أحد: أنا أعبد الأوثان وأعتقد أنها باطل '' .
      ب- ومثال كفر القول: النطق بالكفر من غير إكراه، ودليل ذلك قوله تعالى: ((مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ))[النحل:106-107]. وذلك من جهتين:
      إحداهما: أن الله تعالى بين سبب استحقاقهم الوعيد بقوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ)) [النحل:107] الآية، فهم لم يستحبوا الكفر على الإيمان ولم يكذبوا الرسل في ذلك ولم يعتقدوا أن الكفر حلال لكنهم تكلموا بذلك مستحبين الحياة الدنيا على الآخرة.
      والأخرى: أنه استثنى المكره دالاً على أن من تكلم بالكفر من غير إكراه فإن صدره منشرح به، بدون اشتراط أو تقييد.
      يقول شَيْخ الإِسْلامِ بعد ذكر الآيات: ''فقد ذكر الله -تعالى- من كفر بالله من بعد إيمانه وذكر وعيده في الآخرة، ثم قال: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ))[النحل:107]، وبين تعالى أن الوعيد استحقوه بهذا، ومعلوم أن باب التصديق والتكذيب والعلم والجهل ليس هو من باب الحب والبغض، وهؤلاء -يعني المرجئة- يقولون: إنما استحقوا الوعيد لزوال التصديق والإيمان من قلوبهم...، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل استحباب الدنيا على الآخرة هو الموجب للخسران، واستحباب الدنيا على الآخرة قد يكون مع العلم والتصديق بأن الكفر يضر في الآخرة وبأنه ما له في الآخرة من خلاق، وأيضاً فإنه سبحانه استثنى المكره من الكفار ولو كان الكفر لا يكون إلا بتكذيب القلب وجهله لم يستثنِ منهم المكره لأن الإكراه على ذلك ممتنع، فعلم أن التكلم بالكفر كفر إلا في حال الإكراه'' .
      وختم بقوله: ''فمن تكلم بدون الإكراه لم يتكلم إلا وصدره منشرح به'' .
      وقال في الصارم المسلول عن الآية نفسها: ''ومعلوم أنه لم يرد بالكفر هنا اعتقاد القلب فقط لأن ذلك لا يكره الرجل عليه، وهو قد استثنى من أكره ولم يرد من قال واعتقد لأنه استثنى المكره وهو لا يكره على العقد والقول وإنما يكره على القول فقط، فعلم أنه أراد من تكلم بكلمة الكفر فعليه غضب من الله وله عذاب عظيم وأنه كافر بذلك إلا من أكره وهو مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدراً من المكرهين فإنه كافر أيضاً، فصار من تكلم بالكفر كافراً إلا من أكره فقال بلسانه كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان.
      وقال في المستهزئين: ((لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ))[التوبة:66]، فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته''.
      سابعاً: أن حصر الكفر في " الاستحلال " قد لا يلزم حتى على مذهبهم وذلك لأن كلمة " الاستحلال " لا تدل على اعتقاد حل محرم، إلا بحسب الاصطلاح، أما في اللغة بل وفي كلام الشرع فإن المستحل هو المستمرئ للحرام الذي لا يعبأ بالتحريم ولا يبالي به كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { يستحلون الحر والحرير } فإذا احتاج المصطلح إلى قيد ليدل على المراد فكذلك يحتاج إلى النصوص الأخرى، فهذا اللفظ الذي لا يدل على الكفر بذاته كيف يجعلونه هو وحده مناط الكفر المناقض للإيمان دون ما سواه ويعدلون عما ورد صريحاً في الشك والنفاق والاستكبار والإعراض والتولي ونحوها مما في الكتاب والسنة؟!
      إذا تبين هذا بقي أن نعلم أن المرجئة -ومن اتبعهم وهو لا يشعر- لمّا أن حكموا بإيمان تارك العمل ونفوا وقوع الكفر بالعمل الظاهر مطلقاً لم يبق لهم غالباً من جواب أو حيلة يدفعون بها احتجاج أهل السنة عليهم بالنصوص الواردة في تكفير من ترك العمل أو عمل الكفر إلا القول بأن هذا في المستحل أو الجاحد للوجوب.
      فجعلوا جنس ترك العمل وارتكاب المكفرات من جنس ترك سائر الفرائض وارتكاب سائر المحرمات، وجعلوا الفاعل داخلاً تحت المشيئة موعوداً بالشفاعة، واستدلوا بما ورد من النصوص عاماً مطلقاً مثل: {من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة} وحديث الشفاعة -الجهنميين- الآتي بيانه، وضموا إلى ذلك الاستدلال بقول أهل السنة: " ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله " على إطلاقها فاستنتجوا من ذلك كله أن من كفّر أحداً -بترك ما تركه كفر أو فعل ما فعله كفر وهو غير مستحل لذلك- خرج عن قاعدة أهل السنة هذه ووقع في مذهب الخوارج أو بعضه!!
      وهذا خطأ بيِّن لا يخفى على من اطلع على ما سبق ونزيد هنا فيما يتعلق بهذه العبارة فنقول:
      1- الاستحلال عند أهل السنة والجماعة إنما متعلقه الذنوب التي دون الشرك أو الكفر -كما سبق- ولذلك يذكرون هذه العبارة في باب الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يكفرون بالكبائر العملية التي هي من جنس المعاصي كالزنا وشرب الخمر كما هو معلوم - ولو كان جنس ارتكاب المكفر من جنس فعل المعصية وكان لا بد لكل من ورد فيه أنه كافر أن يقيد بالمستحل أو الجاحد مطلقاً كما يقولون لجاز أن نقول: (الزاني كافر) و(شارب الخمر كافر) بإطلاق، فإذا اعترضوا علينا قلنا: إنما نعني به المستحل أو الجاحد، كما تقولون: تارك الصلاة كافر، والحاكم بغير ما أنزل الله كافر، وتعنون المستحل أو الجاحد.
      والحق أن الإطلاق في الكل باطل كما وأن التقييد في الكل باطل، وأن الحق في اتباع النصوص كما في الفقرة (4) الآتية:
      يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: '' ونحن إذا قلنا أهل السنة متفقون على أنه لا يكفر بالذنوب، فإنما نريد به المعاصي كالزنا والشرب، وأما هذه المباني ( يعني: الأركان ) ففي تكفير تاركها نزاع مشهور '' .
      وقد سبق إيراد كلام الإمام سفيان بن عيينة في هذا التفريق.
      2- أن العبارة نفسها لا تدل على مرادهم بإطلاق، فإن فيها التقييد بكلمة " أهل القبلة " ومعلوم أن من ترك الصلاة التي هي رأس العمل الظاهر، بل من كفر بأي مكفر كان لا يسمّى عندهم من أهل القبلة.
      3- أن العبارة فيها إطلاق تنبه أهل السنة له وإن اشتبه الأمر على بعضهم، ولهذا تكلموا في تقييدها بما يدفع اللبس، ويزيل الإشكال، مثل أن تصبح " ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب ما لم يستحله " وفي نظري أن قولنا: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بعمل دون الكفر ما لم يستحله " أوضح في المراد -وإن كانت تلك أجود في العبارة- كما أن هذه تزيل الإشكال الناشئ من كون الذنوب الاعتقادية قد تدخل في الصيغة الأولى، وهي لا يقال: يكفر صاحبها بالاستحلال، بل يقال: يكفر بالرد والإنكار، فتأمل.
      4- أن أهل السنة والجماعة متبعون لنصوص الشرع في كل شيء فما جعله الشرع كفراً بإطلاق فهو عندهم كفر بإطلاق -كمن ترك الصلاة أو تعاطى السحر أو حكم بشرع غير ما أنزل الله- وسموا فاعله كافراً بإطلاق، وما جعله من جنس المعصية لكن سماه كفراً سموه كفراً كذلك، ولم يكفروا فاعله بل جعلوه مرتكباً لعمل من أعمال الكفر وشعبة من شعبه، كقتال المسلم الوارد في الحديث: {...وقتاله كفر}، وحديث: {لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض} وما جاء في حديث: {اثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت} وبين هذا وما قبله فوارق من القرائن اللفظية والمعنوية يعلمها علماؤهم.
      ومن نفى -عنه الإيمان بفعل- ما هو من جنس المعصية ينفون عنه الإيمان لكن لا يخرجونه من الإسلام، وهذا هو معنى قولهم: " نثبت له مطلق الإيمان لا الإيمان المطلق "، وذلك كما ورد في حديث: { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن...} الخ.
      ومن ارتكب ذنباً لم يجعله الشرع كفراً بإطلاق فهو مرتكب الكبيرة الذي وقع الخلاف فيه قديماً بينهم وبين الخوارج وحكمه عندهم -في الآخرة- أنه إن لم يقم به مانع من موانع إنفاذ الوعيد كالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية . ونحوها فهو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، ولهذا فهم يجزمون بأن بعض أهل الكبائر سيدخلون النار، وأن بعضهم لن يدخلها - كما هو مقتضى الجمع بين الأدلة في هذه المسألة.
      كل ذلك باتباع مطرد للنصوص وجمع متسق بينها، وفق منهج منضبط لا خلل فيه ولا اضطراب.
      فلو قال قائل من أهل السنة: " ولا نكفر أحداً بذنب ما لم يستحله " وجب حمله على هذه الأصول وفهمه وفق ذلك المنهج.
      أما الخوارج والمعتزلة فيجزمون بأنه لن يدخل أحد من مرتكبي الكبائر الجنة وينكرون حديث الشفاعة وشبهه.
      أما المرجئة فيجوزون أنه لا يدخل أحد منهم النار، ولما كان الخوارج والمعتزلة ينبزون أهل السنة والجماعة بالإرجاء، وكان المرجئة ينبزونهم بالخروج بينوا الفوارق بينهم وبين كل من الطائفتين، ومن ذلك: أنهم يكفرون من ارتكب ما هو من جنس المكفرات، ولو كانت أعمالاً أو تركاً للعمل فليسوا إذن مرجئة.
      ولا يكفرون من ارتكب ما هو من جنس المعاصي ما لم يستحل ذلك فليسوا إذن خوارج.
      فمن هنا جاءت هذه العبارة؛ فتوسيع مفهومها أو وضعها في غير موضعها غير مقبول.
      على أن لهذه العبارة قرينة وضميمة ما كنت لأوردها هنا لولا أن محدث العصر الشيخ الألباني -رحمه الله- استشهد بكلام لقائلها متضمناً الخطأ نفسه في فهم العبارة السابقة، وأقره عليه بل أثنى على كلامه، وإلا فموضعها مبحث الشبهات النقلية؛ لأن بعضهم جعلها حديثاً.
      وهذه العبارة هي: '' لا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه '' .
      قال الإمام الطحاوي -رحمه الله- في استدلاله على أن تارك الصلاة لا يكفر: '' والدليل على ذلك أنَّا نأمره أن يصلي ولا نأمر كافراً أن يصلي، ولو كان بما كان منه كافراً لأمرناه بالإسلام فإذا أسلم أمرناه بالصلاة.
      وفي تركنا لذلك وأمرنا إياه بالصلاة ما قد دل على أنه من أهل الصلاة، ومن ذلك أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أفطر في رمضان متعمداً بالكفارة التي أمره بها، وفيها الصيام ولا يكون الصيام إلا من المسلمين.
      ولما كان الرجل يكون مسلماً إذا أقر بالإسلام قبل أن يأتي بما يوجبه الإسلام من الصلوات الخمس ومن صيام رمضان كان كذلك، ويكون كافراً بجحوده لذلك ولا يكون كافراً إلا من حيث كان مسلماً، وإسلامه كان بإقراره بالإسلام فكذلك ردته لا تكون إلا بجحوده الإسلام!! ''.
      وهذا الكلام يستحق ما قاله شَيْخ الإِسْلامِ في كلام القاضي أبي يعلى المشابه له '' زلة منكرة وهفوة عظيمة '' .
      وإنما قاله تبعاً لمذهب المرجئة الحنفية الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق، والإقرار والكفر هو ضد ذلك وهو التكذيب والجحود، أي: جحود الإقرار كما سبق تفصيل مذهبهم.
      ولو وقفنا على ما في هذا الكلام تفصيلاً لطال المقام لكننا نكتفي ببيان الخطأ الأكبر فيه، وهو أنه لا يخرج أحد من الإسلام إلا بترك الإقرار؛ لأنه يدخل في الإسلام بالإقرار فكيف يخرج منه بغير ما دخل به فيه!!
      ومعنى ذلك أن من لم يجحد الشهادتين لا يكفر مطلقاً لا باعتقاد ولا بعمل، بل هو من أهل ذلك الركن الذي جحد أو ترك، ألا تراه يقول في تارك الصلاة: '' وفي تركنا لذلك وأمرنا إياه بالصلاة ما قد دل على أنه من أهل الصلاة !! ''
      ولازم ذلك وطرده أن يقال: من كفر بالقرآن مع إقراره بالشهادتين فإن دعوتنا إياه للإيمان بالقرآن وتركنا دعوته للشهادتين دليل على أنه من أهل القرآن!!
      وقل مثل ذلك فيمن كفر بالملائكة أو الجنة أو النار..، وغيرها من أمور الاعتقاد.
      وفي العمل: يلزم منه أن الصحابة قد أخطأوا أو ضلوا حين سموا تاركي الزكاة كفاراً ومرتدين وقاتلوهم على ذلك، لأنهم حسب كلامه مسلمون من أهل الزكاة!! وهكذا.
      وهذا لا يشك في خطئه بل بطلانه لمن قرأه فضلاً عمن تأمله، وذلك أن القول بأن من تكلم بالشهادتين لا يكفر إلا بترك الإقرار بهما هو نوع من الإرجاء الغالي المذموم جدّاً عند السلف، والذي لا يفوقه غلواً إلا إرجاء الجهمية -أي: اشتراط ترك الإقرار القلبي الذي هو التصديق عندهم- وكلاهما معلوم الفساد والبطلان بالاضطرار من الدين وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ: أن كل من تأمل كلام هؤلاء المرجئة يعلم بالاضطرار '' أنه لو قدر أن قوماً قالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نحن نؤمن بما جئتنا به بقلوبنا من غير شك -أي: لم يجحدوا الوجوب- ونقر بألسنتنا بالشهادتين -أي: لم يجحدوا الإقرار- إلا أنا لا نطيعك في شيء مما أمرت به ونهيت عنه؛ فلا نصلي، ولا نصوم، ولا نحج، ولا نَصدُق الحديث، ولا نؤدي الأمانة، ولا نفي بالعهد، ولا نصل الرحم، ولا نفعل شيئاً من الخير الذي أمرت به -أي: نترك جنس العمل- ونشرب الخمر، وننكح ذوات المحارم، بالزنا الظاهر، ونقتل من قدرنا عليه من أصحابك وأمتك ونأخذ أموالهم بل نقتلك أيضاً. ونقاتل مع أعدائك -أي: يفعلون جنس المحرم مطلقاً- هل كان يتوهم عاقل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لهم: أنتم مؤمنون كاملوا الإيمان، وأنتم من أهل شفاعتي يوم القيامة، ويرجى لكم أن لا يدخل أحد منكم النار؟
      بل كل مسلم يعلم بالاضطرار أنه يقول لهم: أنتم أكفر الناس بما جئت به، ويضرب رقابهم إن لم يتوبوا من ذلك '' .
      فالعجب أن يقول الشيخ الألباني بعد أن نقل كلام الطحاوي هذا: '' قلت: وهذا فقه جيد، وكلام متين، لا مرد له ''.
  27. الشبهات النقلية والاجتهادية

    يستدل المرجئة -قدماؤهم ومعاصروهم- على أن العمل ليس من الإيمان، وأن تركه بالكلية لا ينفي الإيمان بالكلية، بشبهات نقلية وآراء اجتهادية استنباطية، سبق إيراد بعضها ضمن ما نقلنا من كلامهم.
    وبالرغم من الرد العام المؤصل على مذهبهم، من خلال بيان علاقة العمل بالإيمان؛ فإن مناقشة هذه الشبهات -تفصيلاً- ضرورية لأسباب منها:
    1- بيان أن مذهب السلف محكم لا مطعن فيه، ولا ثغرة لناقد، فهو يجمع الأدلة كلها ولا يعارض نصاً صحيحاً قط.
    2- بيان أن مذهب المرجئة من جهة كونه توفيقياً -كما سبق- يجتزئ من نصوص الإيمان ما يراه موافقاً لأصوله، التي يكون أكثرها مقرراً من غير اعتماد على النصوص في الأصل، ويلبس بذلك على المناظر مدعياً أنه مذهب أهل الحق والسنة.
    فإذا ما ناقشنا هذه الأدلة، وأخرجنا منها الباطل المكذوب، ورددنا الصحيح إلى موضعه، من بناء مذهب السلف المحكم المتسق، زالت كل شبهة، وقامت الحجة بإذن الله تعالى.
    1. أصل الشبهات النقلية عند المرجئة

      وأصل الشبهات النقلية عند المرجئة: هو وقوع الجهل والخطأ في الاستدلال بالنصوص من جهتين:
      * أولاً: من جهة الثبوت:
      افترى وضاعو المرجئة أحاديث وضعوها على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تؤيد مذهبهم، وقد كشف ذلك علماء الحديث والرجال المتخصصون، وبالجملة فكل حديث ينفي ما سبق نقل الإجماع عليه، من أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فهو موضوع ولا حاجة للبحث في سنده، وهذه أمثلة يقاس عليها ما وراءها:
      1- الحديث المروي عن أبي سعيد الخدري قال: { سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من زعم أن الإيمان يزيد وينقص، فزيادته نفاق ونقصانه كفر، فإن تابوا وإلا فاضربوا أعناقهم بالسيف، أولئك أعداء الرحمن، فارقوا دين الله، وانتحلوا الكفر، وخاضوا في الله، طهر الله الأرض منهم، ألا ولا صلاة لهم، ألا ولا صوم لهم، ألا ولا زكاة لهم، ألا ولا حج لهم، ألا ولا بر لهم، هم براء من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسول الله براء منهم } .
      فهذا الحديث وضعه أحد المرجئة من أصحاب الرأي، يدعى " محمد بن القاسم الطايكاني " قال عنه ابن حبان: ''يأتي من الأخبار ما تشهد الأمة على بطلانها وعدم الصحة في ثبوتها'' وأورد هذا الحديث مثالاً لذلك.
      2- الحديث المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه { أن وفد ثقيف جاءوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوه عن الإيمان: هل يزيد وينقص؟ فقال: لا، زيادته كفر، ونقصانه شرك } .
      فهذا الحديث وضعه الحكم بن عبد الله أبو مطيع البلخي قال عنه ابن حبان: ''كان من رؤساء المرجئة ممن يبغض السنن ومنتحليها'' وهو من كبار أصحاب الرأي أيضاً، والعجيب أن أحد أصحاب الرأي سرقه من أبي مطيع وادعاه لنفسه وهو المدعو: عثمان بن عبد الله المغربي الأموي .
      فقد روى عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة قال: { قدم وفد ثقيف على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: " يا رسول الله جئناك نسألك عن الإيمان، أيزيد أو ينقص؟ قال: الإيمان مثبت في القلوب كالجبال الرواسي، وزيادته ونقصانه كفر } .
      قال ابن حبان: ''وهذا شيء وضعه أبو مطيع البلخي على حماد بن سلمة، فسرقه هذا الشيخ وحدث عنه'' .
      ومما يدل على أمانة شارح الطحاوية، العلامة علي بن علي بن محمد بن أبي العز رحمه الله، وتجرده عن الهوى والتعصب، أنه مع كونه حنفياً قد بين بطلان هذا الحديث نقلاً عن شيخه المحدث الحافظ ابن كثير، وبين فيه علة أخرى غير أبي المطيع، وهو أبو المهزم الذي قال عنه شعبة: " لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثاً ".
      3- الحديث المروي عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: { الإيمان قول، والعمل شرائعه، لا يزيد ولا ينقص } .
      فهذا الكلام وضعه أحمد بن عبد الله المعروف بـالجويباري، قال عنه ابن حبان: " دجال من الدجاجلة، وكذاب..." وقال: " شهرته عند أصحاب الحديث قاطبة بالوضع على الثقات ما لم يحدثوا ".
      وقال الذهبي: '' يضرب المثل بكذبه " .
      وقال: ''قال ابن عدي: كان يضع الحديث لـابن كرام على ما يريد، فكان ابن كرام يخرجها في كتبه عنه '' .
      وبهذا يتبين اشتراك المنتسبين إلى المرجئة الفقهاء، والمنتسبين إلى الكرامية في هذه الصفة الشنيعة.
      * ثانياً: من جهة الفهم والاستنباط:
      بغض النظر عن سوء القصد، واتباع الهوى، اللذين لا يخلو منهما مبتدع، نقول: إن الخطأ يمكن أن يقع في فهم نصوص الإيمان من المرجئ وغير المرجئ، وذلك لسبب واقع في مدلولات النصوص نفسها وفي مواردها.
      وإيضاح ذلك؛ أن الإيمان من حيث هو لفظ شرعي، ورد استعماله في نصوص الشارع كثيراً جداً، ولا غرابة في ذلك .
      ومع هذه الكثرة تأتي النصوص في الإيمان مرة مطلقة، ومرة مقيدة، وتطلق مرة على الإيمان الباطن، ومرة على الإيمان الظاهر، ومرة عليهما معاً.
      وتأتي في بيان الأحكام الدنيوية المترتبة على الإيمان من الحقوق والحدود، دون تعرض لحقيقته وعاقبته عند الله تعالى.
      وتأتي أحياناً في خطاب الوعيد والذم للدلالة على وجوب ترك المذموم، دون أن يكون المراد منها الأحكام التطبيقية...، وهكذا مما هو ظاهر لمن جمع النصوص في الإيمان من مصادرها الصحيحة.
      فالإيمان له مبدأ وكمال، وله ظاهر وباطن، وله أحكام دنيوية تترتب عليه، وله أحكام أخرى أخروية، وكثيراً ما خلط الناس بين هذه الأمور، فجعلوا النصوص الدالة على أصل الإيمان ومبدئه -كالآيات والأحاديث الدالة على أن القلب محل الإيمان؛ نحو حديث {التقوى هاهنا}- في موضع الإيمان الكامل المطلق، فقالوا: إن عمل الجوارح ليس من الإيمان، كله في القلب فقط.
      أو جعلوا النصوص الدالة على بعض أحكام الإيمان الدنيوية في موضع الإيمان من حيث حقيقته الشرعية، كالنصوص الواردة في كف اليد عمن أقر بالإسلام، أو أظهر بعض شعائره، وعصمة ماله ودمه بذلك، أو الحكم له بالإسلام المقتضي ترتب حكم شرعي عليه، كحديث الجارية التي قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمولاها: {اعتقها فإنها مؤمنة} .
      أو جعلوا النصوص الواردة في خطاب الذم والوعيد -كالأحاديث الواردة في نفي الإيمان عن الزاني والسارق، ومن لا يأمن جاره بوائقه، ومن لا يحب لأخيه مثلما يحب لنفسه وأمثالها- في خطاب الأحكام التنفيذية كما فعلت الخوارج.
      أو يقعون في عكس ذلك؛ فيجعلون النصوص الواردة في الأحكام في موضع الذم والوعيد؛ كالنصوص الثابتة الصريحة في تكفير تارك الصلاة التي انعقد عليها إجماع الصحابة، لكن المرجئة جعلوها من قبيل الوعيد والتغليظ، فقالوا: إن التارك المصر الذي يعرض على السيف، ويستتاب ثلاثة أيام، ثم يقتل ممتنعاً عن أدائها، إنه مسلم يقتل حداً.
      وهكذا مما سبق إيراد كثير منه، في نصوص المرجئة المنقولة سابقاً.
      فهذا الأصل العظيم، من فطن له واطلع على مذهب السلف، علم يقيناً أنه المذهب الحق الذي لا تناقض فيه، ولا تعارض بين نص وآخر، وعلم كثيراً من أسباب وقوع الخلاف بين الناس في الإيمان، وأنه لا مخلص له ولا لهم من الخطأ والتناقض، إلا باقتفاء أثر السلف الصالح في كل ذلك .
    2. أمثلة من النصوص أو الاستنباطات التي استدل بها المرجئة

      وهذه أمثلة من النصوص أو الاستنباطات، التي استدل بها المرجئة على أن ترك العمل مطلقاً لا ينافي الإيمان، وجواب أهل السنة والجماعة عنها:
      1- حديث جارية معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه الذي فيه: {كانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة. .
      فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعظّم ذلك عليّ.
      قلت: يا رسول الله أفلا أعتقها؟
      قال: ائتني بها، فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟
      قالت: في السماء.
      قال: من أنا؟
      قالت: أنت رسول الله.
      قال: اعتقها فإنها مؤمنة
      }
      ووجه الاستدلال أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهد لها بالإيمان دون أن يشترط العمل، فالإيمان يثبت بمجرد الإقرار، فهو قول فقط وليس قولاً وعملاً.
      * والجواب عن ذلك:
      أن مورد الحديث وموضعه، هو بيان الحكم الدنيوي المترتب على الإيمان، وليس بيان حقيقة الإيمان الشرعية، المبينة في نحو قول الله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))[الحجرات:15]
      وفرق كبير بين أن يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أحد: إنه مؤمن؛ بمعنى: أنه داخل في أحكام المؤمنين الظاهرة؛ من المناكحة، والتوارث، وحل الذبيحة، والصلاة على الجنازة، والإجزاء في العتق، ونحو ذلك، وبين أن يقول عن أحد: إنه مؤمن، في موضع الشهادة له بتحقيق الإيمان، واستكمال صفات المؤمنين، ولهذا رادَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سعد بن أبي وقاص حين قال له: { يا رسول الله! مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمناً، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مسلماً. ثلاث مرات } .
      ومن المعلوم أن هذه الجارية ليست معدودة في السابقين، ولا من أفاضل الصحابة المشهود لهم بالإيمان، بل غاية ما دل عليه الحديث أنها مسلمة لا أكثر، وهو الحكم الظاهر الذي يستحقه كل من أظهر الإيمان.
      وقد دلت على هذا المعنى الروايات والأحاديث الأخرى في هذه الجارية، أو جارية مثلها، فقد جاء الحديث عن أبي هريرة، والشريد بن سويد الثقفي، ورجل من الأنصار مبهم، وفي كل منها يسأله السائل قائلاً إن علي -أو على أمي- عتق رقبة مؤمنة، ويستفتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهذه الجارية مؤمنة فيعتقها، أم أنها لا تجزئ؟ فيستجوبها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يقول: اعتقها فإنها مؤمنة، أو اعتقها فقط، أي: أنها تجزئ في العتق.
      ولهذا قال الإمام أحمد-رضي الله عنه- في جواب هذا الحديث: ''ليس كل أحد يقول فيه: فإنها مؤمنة، يقولون: اعتقها '' .
      قال: ''ومالك سمع من هذا الشيخ هلال بن علي لا يقول: فإنها مؤمنة.
      وقد قال بعضهم: فإنها مؤمنة، فهي حين تقر بذلك فحكمها حكم المؤمنة. هذا معناه '' .
      وقد علق الشيخ المحدث الألباني على كلام الإمام أحمد هذا، بأن الزيادة صحيحة فلا وجه للتردد فيها. وهذا صحيح، لكن مراد الإمام أحمد ليس تضعيف الرواية، وإنما هو إثبات خطأ المرجئة في الاستدلال بالحديث من جهتين:
      أ- أن بعض الروايات ليس فيها القول بأنها مؤمنة، وهي رواية مالك -وهو من هو في الحفظ والإتقان- وقد حصل بها الجواب كاملاً، فالسائل سأل: أتجزئ هذه الجارية في العتق المشروط فيه أن تكون الرقبة مؤمنة فأجابه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد استجوابها بقوله: اعتقها -أي: هي مجزئة- فالموضوع لا علاقة له ببيان حقيقة الإيمان الشرعي أصلاً .
      ب- أن بعض الروايات ورد فيها القول بأنها مؤمنة:
      ومعنى ذلك أنها لما كانت مقرة بما سألها عنه فهي تأخذ حكم المؤمنين وهو العتق؛ لأن شرط الحكم يتحقق فيها وهو هذا الإيمان الذي يكفي لإجراء الأحكام الظاهرة على من جاء به، دون أن يعني ذلك أنه محقق للإيمان الشرعي ظاهراً وباطناً.
      وقال شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية: ''وهذا لا حجة فيه؛ لأن الإيمان الظاهر الذي تجري عليه الأحكام في الدنيا، لا يستلزم الإيمان في الباطن الذي يكون صاحبه من أهل السعادة في الآخرة؛ فإن المنافقين الذين قالوا: آمنا بالله وباليوم الآخر، وما هم بمؤمنين، هم في الظاهر مؤمنون؛ يصلون مع الناس ويصومون ويحجون ويغزون، والمسلمون يناكحونهم ويوارثونهم، كما كان المنافقون على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ'' .
      وقال: ''والله تعالى لما أمر في الكفارة بعتق رقبة مؤمنة، لم يكن على الناس ألاّ يعتقوا إلا من يعلمون أن الإيمان في قلبه؛ فإن هذا كما لو قيل لهم: اقتلوا إلا من علمتم أن الإيمان في قلبه، وهم لم يؤمروا أن ينقبوا عن قلوب الناس ولا يشقوا بطونهم، فإذا رأوا رجلاً يظهر الإيمان جاز لهم عتقه.
      وصاحب الجارية لما سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل هي مؤمنة؟ إنما أراد الإيمان الظاهر، الذي يفرق به بين المسلم والكافر.
      وكذلك من عليه نذر، لم يلزمه أن يعتق إلا من علم أن الإيمان في قلبه؛ فإنه لا يعلم ذلك مطلقاً، بل ولا أحد من الخلق يعلم ذلك مطلقاً، وهذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم الخلق، والله يقول له:
      ((وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ))[التوبة:101].
      فأولئك إنما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكم فيهم كحكمه في سائر المؤمنين، ولو حضرت جنازة أحدهم صلّى عليها، ولم يكن منهياً عن الصلاة إلا على من علم نفاقه، وإلا لزم أن ينقب عن قلوب الناس ويعلم سرائرهم، وهذا لا يقدر عليه بشر '' .
      ثم قال: ''والمقصود أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما أخبر عن تلك الأمة بالإيمان الظاهر الذي علقت به الأحكام الظاهرة، وإلا فقد ثبت عنه أن سعداً لما شهد لرجل أنه مؤمن قال: {أو مسلم؟ "}.
      وكان يظهر من الإيمان ما تظهره الأمة وزيادة.
      فيجب أن يفرق بين أحكام المؤمنين الظاهرة، التي يحكم فيها الناس في الدنيا، وبين حكمهم في الآخرة بالثواب والعقاب، فالمؤمن المستحق للجنة لا بد أن يكون مؤمناً في الباطن باتفاق جميع أهل القبلة، حتى الكرامية الذين يسمون المنافق مؤمناً...، ولهذا أكثر ما اشترط الفقهاء في الرقبة التي تجزئ في الكفارة العمل الظاهر، فتنازعوا هل يجزئ الصغير؟ على قولين معروفين للسلف، هما روايتان عن أحمد: لا يجزئ عتقه؛ لأن الإيمان قول وعمل، والصغير لم يؤمن بنفسه، إنما إيمانه تبع لأبويه في أحكام الدنيا، ولم يشترط أحد أن يعلم أنه مؤمن في الباطن.
      وقيل: بل يجزئ عتقه؛ لأن العتق من الأحكام الظاهرة، وهو تبع لأبويه، فكما أنه يرث منهما، ويصلى عليه، ولا يصلى إلا على مؤمن؛ فإنه يعتق '' .
      هذا وقد ذكر الخلال عن الإمام أحمد رواية أخرى في الجواب عن هذا الحديث هي أنه ''قال يوماً، وذكر عنده هذا الحديث -يعني: حديث الجارية التي أتى بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: يحتجون به -يعني المرجئة- وهو حجة عليهم، يقولون: الإيمان قول، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرض منها حتى قال: تؤمنين بكذا، تؤمنين بكذا'' .
      ولعل هذا الجواب ذكره الإمام عند ذكر الحديث الذي رواه في المسند عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء، وقال: { يا رسول الله! إن علي رقبة مؤمنة، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها؟
      فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم. قال: أتشهدين أني رسول الله؟ قالت: نعم. قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم. قال: اعتقها
      }.
      ومعنى قول الإمام: إنه حجة عليهم، أن المرجئة كما هو معلوم تقول: إن الإيمان شيء واحد، لا يزيد ولا ينقص، وفي الحديث سألها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أمور متعددة، فدلَّ على أن الإقرار نفسه يتنوع ويتعدد، فهو متبعض، وكذلك الإيمان كله.
      وعلى كلام المرجئة، كان يكفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسألها: هل أنت مؤمنة؟ فإذا قالت: نعم، قال: اعتقها، أو نحو ذلك من الأمثلة، التي تدل على حصول مجرد الإقرار الذي هو شطر الإيمان عند بعض المرجئة، وشرط عند آخرين، ومجرد علامة عند أكثر المتأخرين، كما سبق تفصيله .
      لكن لما كان الإيمان له أصل وكمال، وظهر منها ما يدل على أن عندها أصل الإيمان، الذي يكفي مثله للدخول في الإسلام، ويتحقق به الحكم المسئول عنه، حكم لها به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      فإذا كان هذا القدر من الإيمان يتنوع ويتعدد، فكيف باستكمال حقيقة الإيمان، الذي لم يقع عنه هنا سؤال ولا له جواب في الحديث، ومعرفته تقتضي أن تمتحن في جميع شعب الإيمان الواجبة، وأن يكون معلوماً أن باطنها في ذلك كظاهرها، وهذا هو المحال، كما سبق في كلام شَيْخ الإِسْلامِ.
      فظهر بذلك أن استدلال المرجئة به على أن حقيقة الإيمان هي مجرد التصديق والإقرار باطل، وأن الحديث حجة عليهم لا لهم.
      وهذا الحديث وسائر الأحاديث المماثلة دليل على استجواب مجهول الحال؛ ليعلم أهو داخل في أحكام الإسلام ويشمله اسم الإيمان أم هو كافر.
      ومعلوم لدى الفقهاء جميعاً -السني منهم والمرجئ- أن من أتى بمبدأ الإسلام، وهو الإقرار بالشهادتين، فقد أعلن دخوله في الإسلام والتزامه بأحكامه، وهذا القدر الذي جاء به إنما هو ببعض الواجب عليه؛ ولهذا لا بد له من الإتيان بالإيمان الواجب، أي: عمل سائر شعب الإيمان الواجبة، وأهمها الأركان الأربعة، ويجبر على ذلك عند الجميع، حتى إنه لو امتنع عن الصلاة مثلاً، وأصر فإنه يقتل، إما كفراً على مذهب السلف، وإما حداً على مذهب المرجئة، ومن وافقهم من المتأخرين.
      والسؤال: لو قدرنا أن تلك الجارية لم تلتزم بلوازم ذلك الإقرار، وأصرت على ترك الصلاة مثلاً، فهل كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعها على ذلك الإقرار الأول ويسميها مؤمنة؟
      إن هذا هو موضع النزاع في قضية إثبات الإيمان لتارك العمل، وليس هو الكلام في الحكم بإسلام من ظهر منه ما يدل على إسلامه.
      نعم، هذا الحديث ونحوه، يصلح حجة على الخوارج القدماء والمعاصرين، الذين يشترطون للحكم لأحد بالإسلام شروطاً خاصة، هي في حقيقتها شروط لقبول توبة المرتد وإسلامه، لا للحكم بإسلام الكافر الأصلي، فضلاً عن الحكم لمن يظهر الإسلام في دار الإسلام، ولم يظهر منه ناقض لإسلامه، وذلك مبني على نظرتهم في أن الأصل في الناس ابتداءً هو الكفر، إلا من علموا هم إسلامه بيقين!!
      بقي أن يقال:
      إنه إن كان في الحديث شبهة للمرجئة الفقهاء، فلا شبهة فيه قط للمرجئة الغلاة من الجهمية والأشعرية والماتريدية، الذين يقولون: إن الإيمان هو مجرد تصديق القلب، وإن المصدق بقلبه ناج عند الله!!
      بل هو حجة عليهم؛ فإن مجرد ذلك لا يترتب عليه أي حكم من أحكام الإيمان، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولو أن الكرامية استدلت به على مذهبها في أن الإيمان هو النطق، لكان أقرب منهم، فكيف ونحن وهم متفقون على بطلان مذهب الكرامية، فظهر أن مذهبهم أشد بطلاناً منه، لا سيما وأن التصديق في لغة العرب، إنما يطلق على من قال بلسانه: صدقت، أما مجرد انعقاد القلب على صحة أمر ما دون إظهار ذلك باللسان، فلا يسمى في لغة العرب تصديقاً.
      2- حديث الجهنميين (أو حديث الشفاعة):
      وهو الحديث الوارد في شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته، وتحنن الله تعالى عليهم بإخراج من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، وأصرح لفظ استدلت به المرجئة في إحدى روايات أبي سعيد الخدري وهي {...فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً ، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبَّة في حميل السيل...
      قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله، الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه
      }.
      وهذه إحدى روايات مسلم للحديث، ولم ترد هذه اللفظة عند البخاري على كثرة رواياته له عن أبي سعيد وأنس وأبي هريرة، إلا أن الجملة الأخيرة وهي قول أهل الجنة: { أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه...} الخ، وردت في إحدى رواياته عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد أيضاً .
      أما الإمام أحمد فقد رواه مختصراً ومطولاً، عن أبي هريرة وأنس وأبي سعيد وجابر وحذيفة، ولم ترد هذه اللفظة عنده إلا في رواية عطاء بن يسار عن أبي سعيد أيضاً.
      ووجه الاستدلال منه:
      أنه أخرج من النار قوماً جاءوا بتصديق مجرد، لا عمل معه؛ فدل ذلك على أن العمل ليس ركناً في الإيمان كما يقول أهل السنة والجماعة؛ إذ الركن لا يحتمل السقوط إلا بانتفاء الحقيقة، وهؤلاء حقيقة الإيمان ثابتة لهم. بل قال قائل منهم: إن قلبه طافح بالإيمان.
      والجواب على هذا الاستدلال يمكن من أوجه كثيرة نوجزها بالآتي فنقول:
      أ- إن هذا الحديث من الأدلة على المرجئة في زيادة الإيمان ونقصانه، وهم يؤولونه ولا يأخذون به في ذلك، فمن التحكم أن يردوا أول الحديث ويستدلوا بآخره، مع أن هذا الذي في آخره ليس إلا في رواية واحدة من رواياته.
      فـالمرجئة -كما سبق بيانه- تقول: إن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وإن الإنسان يكون كامل الإيمان، وإن لم يعمل خيراً قط، والحديث يرد عليهم في ذلك أصرح رد:
      قال الإمام البخاري رحمه الله: ''باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال'' .
      وذكر سنده إلى أبي سعيد -رضي الله عنه- عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: {يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون في نهر الحيا - أو الحياة - شك مالك - فينبتون كما تنبت الحبَّة في جانب السيل}
      وقال أيضاً: ''باب زيادة الإيمان ونقصانه... إلخ ''.
      ...عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير}.
      ثم ذكر أن في رواية أخرى: {من إيمان} بدل {من خير}
      وبهذا - أيضاً - استدل الإمام أبو بكر بن خزيمة على من يزعمون '' أن الناس إنما يتفاضلون في إيمان الجوارح، الذي هو كسب الأبدان، فإنهم زعموا أنهم متساوون في إيمان القلب، الذي هو التصديق، وإيمان اللسان الذي هو الإقرار''.
      ب- إن أكثر روايات هذا الحديث ليس فيها هذه الزيادة، بل هي مصرحة بأن الجهنميين هم من أهل الصلاة ومن العاملين، فإذا ضممنا هذه الروايات إلى النصوص الصريحة في تكفير تارك الصلاة، لم تنهض تلك الزيادة على معارضتها، فوجب أن تفهم كما تفهم الألفاظ المعارضة للأدلة الصحيحة الصريحة، مما هو معلوم في أبواب التعارض والترجيح والجمع.
      أولاً: من جهة الترجيح:
      أن يقال: إن الروايات التي لم تذكر فيها هذه الزيادة، أرجح من تلك؛ من حيث كثرتها وموافقتها للأصول القطعية في أنه لن يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن الإيمان قول وعمل.
      فمثلاً رواية أبي هريرة عند البخاري هذا نصها:
      {حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً، ممن أراد الله أن يرحمه ممن يشهد أن لا إله إلا الله، فيعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود؛ حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون تحته كما تنتب الحبَّفي حميل السيل}
      فهذه رواية متفق عليها بين الشيخين، وفي رواية البخاري في الأذان، يشترك سعيد بن المسيب سيد التابعين في روايتها مع عطاء بن يزيد، ومن الاتفاق الحسن أن التابعي الراوي عن أبي هريرة، وهو عطاء بن يزيد، قال بعد تمام الحديث:
      {وأبو سعيد الخدري جالس مع أبي هريرة لا يغير عليه شيئاً من حديثه -ورواية مسلم لا يرد عليه من حديثه شيئاً- حتى انتهى إلى قوله -آخر الحديث- هذا لك ومثله معه. قال أبو سعيد: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: هذا لك وعشرة أمثاله. قال أبو هريرة: حفظت:مثله معه.}
      وفي رواية مسلم والبخاري في التوحيد: {حتى إذا حدث أبو هريرة أن الله قال لذلك الرجل: ومثله معه، قال أبو سعيد: وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة، قال أبو هريرة: ما حفظت إلا قوله: لك ذلك ومثله معه، قال أبو سعيد: أشهد أني حفظت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: ذلك لك وعشرة أمثاله}.
      فهذا مما يرجح هذه الرواية؛ لاتفاق كلا الصحابيين عليها، وتصريح التابعي بأن أبا سعيد لم يغير، أو لم يرد على أبي هريرة إلا ما ذكر، فلديه زيادة علم ترجح روايته على رواية عطاء بن يسار عن أبي سعيد منفرداً، لا سيما وقد شاركه فيها سعيد بن المسيب، كما في رواية البخاري في كتاب الأذان.
      ومما يقويه أن رواية عطاء بن يسار نفسه عند البخاري، لم يرد فيها قوله: " لم يعملوا خيراً قط "، وهذا لفظها:
      {...فما أنتم بأشهد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم، من المؤمن يومئذٍ للجبار، إذا رأوا أنهم قد نجوا، في إخوانهم يقولون: ربنا إخواننا الذين كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من عرفوا، قال أبو سعيد: فإن لم تصدقوني فاقرءوا: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا))[النساء:40]. فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار فيخرج أقواماً قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنة، يقال له: ماء الحياة، فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبَّة في حميل السيل...}.
      ثم يذكر ما سبق من قول أهل الجنة: {هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير قدموه...}.
      فلم يرد فيه ما يدل على عدم العمل إلا قول أهل الجنة، وهم إنما يقولون حسب ظاهر ما يعملون كما جاء فيه: {فيخرجون من عرفوا} فإن كانت المعرفة بحسب علمهم بهم في الدنيا، فلا يخفى أن من الناس من لا يعرف المؤمنون أن فيه خيراً، وإن كانت بحسب أثر السجود -كما في الرواية الأخرى- فلا يبعد أن يكون في بعض المصلين من إساءة الصلاة، والإهمال الشديد في أدائها، ما لا يحصل له معه علامة ظاهرة للمؤمنين. والله أعلم.
      أما سائر روايات الحديث عن الصحابة الآخرين، وعن أبي سعيد في غير تلك الرواية، فلا ذكر فيها لنفي العمل، بل هي كما رأينا مصرحة بأنهم من أهل الصلاة.
      وعليه فإن لم نقل: إن تلك الرواية غير محفوظة، نقول: لا بد من توجيهها وتخريجها بما يتفق والأصول والنصوص الأخرى.
      ومن ذلك: ما قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله:
      قال: ''هذه اللفظة: {لم يعملوا خيراً قط} من الجنس الذي تقول العرب بنفي الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتمام، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل لم يعملوا خيراً قط على التمام والكمال، لا على ما أوجب عليه وأمر به '' .
      قال: '' وقد بينت هذا المعنى في مواضع من كتبي '' .
      أقول: وهذا التوجيه يشهد له حديث المسيء صلاته، حين قال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { ارجع فصل فإنك لم تصل }، فنفى صلاته مع وقوعها، والمراد نفي صحة أدائها، وبه استدل أبو عبيد -رحمه الله- في مثل هذا.
      وكذلك حديث قاتل المائة نفس الذي جاء فيه: { أنه لم يعمل خيراً قط} لأنه توجه تلقاء الأرض الصالحة، فمات قبل أن يصلها، فرأت ملائكة العذاب أنه لم يعمل خيراً قط بعد؛ إذ لم يزد على أن شرع في سبيل التوبة؛ ولهذا حكم الله تعالى بينها وبين ملائكة الرحمة، بقياس الأرض وإلحاقه بأقرب الدارين، ثم قبض هذه وباعد تلك؛ رحمة منه وإلا كان يهلك .
      وفي حديث الرجل الذي أوصى أهله أن يحرقوه بعد وفاته خوفاً من الله: { قال رجل لم يعمل خيراً قط: إذا مات فحرقوه... } .
      ومسلم: {قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مات فأحرقوه...}
      وقد فسرتها الرواية التي بعدها: { أسرف رجل على نفسه -أو- أسرف عبد على نفسه } .
      ومما يؤيد ذلك أنه قد ورد في بعض روايات حديث الجهنميين هذا، أن هذا الرجل منهم؛ حيث ذكرت أنه {آخر أهل النار خروجاً منها}.
      ثانياً: من جهة الجمع:
      وقبل بيان ذلك نقول: إن الجمع مقتضاه صحة الاستدلال. فهل هذا الحديث يصلح لما استدلت به المرجئة بإطلاق؛ أي دعوى أن الإيمان تصديق مجرد؟
      الجواب:
      أما المرجئة الغلاة؛ أي: القائلون بأن الإيمان محله كله القلب، وهو التصديق القلبي دون سائر أعمال القلب والجوارح، كما هو مذهب الأشعرية والماتريدية والظاهرة عموماً، والقائلين إن من صدق بقلبه نجا عند الله، وإن لم يشهد بلسانه -كما نقلناه عن بعضهم- فلا حجة لهم فيه بحال، إذ روايات الحديث -فضلاً عن الأصل القطعي الثابت- دالة على أن الجهنميين هم من أهل شهادة أن لا إله إلا الله، فالإجماع قائم على أنه لا يدخل الجنة كافر قط ولا شفاعة له بحال، وعلى أن من امتنع عن شهادة أن لا إله إلا الله ليس بمؤمن؛ لا في أحكام الدنيا ولا في أحكام الآخرة، كما قد سبق نقله.
      فمن الخطأ البين استدلال أبي حامد الغزالي بقوله في الحديث: { من كان في قلبه مثقال ذرة } على أن من قدر على الشهادة فأخرها فمات، فيحتمل أن يكون امتناعه عن النطق بمنزلة امتناعه عن الصلاة؛ فيكون غير مخلد في النار.
      فإن مثل هذا الاحتمال لا يعارض الإجماع، وقياسه على الممتنع عن الصلاة فاسد من وجوه كثيرة؛ منها: أن الشهادة أعظم من الصلاة؛ إذ لا تصح الصلاة ولا غيرها بدونها، ومنها أن الإجماع على تكفير الممتنع عن الصلاة ثابت عن الصحابة.
      وقد أوردنا رواية أنس التي فيها: { يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن شعيرة من خير...الحديث }. فقول: لا إله إلا الله قيد لا بد منه، ولا يصح أن يقال: إن عموم من لم يعملوا خيراً قط يشمل هذا.
      وأما قول بعضهم: إن ''المراد بالقول هنا القول النفسي '' .
      فمن التأويل الفاسد؛ إذ لا يصح حمل القول على القول النفسي، إلا إذا قيد ذلك، أما إذا أطلق فهو ممتنع عند جميع العقلاء.
      إذا تبين هذا لم يبق في هذه الرواية حجة، إلا للمرجئة الفقهاء القائلين: إن الإيمان ركنان -القول والإقرار فقط- ولبعض العلماء الذين يرون أن تارك الصلاة لا يخلد في النار؛ فهو إذن ليس بكافر الكفر المخرج من الملة.
      وعليه ينحصر النزاع في المسألة مع هؤلاء، ويتحرر موضع الخلاف، بأنه رجل شهد شهادة الحق، ولم يعمل خيراً قط، فهل يكون من المؤمنين ويدخل الجنة؟
      إن أصول أهل السنة والجماعة تنفي هذا -وإن تردد فيه بعض علمائهم المتأخرين- فإن لم نرد تلك الرواية بإطلاق، ونستدل بالإجماع الثابت على تكفير تارك الصلاة، فالجمع بين هذه الرواية وتلك الأصول ممكن، بأن يقال:
      إن هذه الروايات تدل على حالة غيبية مخصوصة، لا تعارض الأصل الثابت، بل غاية ما في الدليل الصحيح المعارض لأصل كلي، أن يكون مخصصاً لعمومه.
      وهذه الرواية نفسها تدل على ذلك؛ ألا تراه يقول في لفظ مسلم: { يقولون: ربنا، كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا } فيأذن الله لهم أن يخرجوهم حتى إذا انتهوا، وقالوا له تعالى: { ربنا لم نذر فيها خيراً } أي: صاحب خير، يأتي علام الغيوب سبحانه، فيخرج أقواماً من أهل الإيمان لم يكن أحد يعلم عنهم إيماناً، ولا يحكم لهم به، أو لم تكن فيهم علامة السجود التي يعرفهم بها إخوانهم أهل الجنة المؤمنون.
      ويقول تعالى كما في رواية جابر في المسند: {أنا الآن أخرج بعلمي ورحمتي. قال: فيخرج أضعاف ما أخرجه...}.
      فإذا كانت هذه حالة غيبية مخصوصة لا ندركها لا في الدنيا ولا في الآخرة، فنحن نكلها إلى علاّم الغيوب، ولا نعارض بها ما ندركه ونعلمه من الأدلة البينة على قتل الممتنع عن الصلاة كفراً، وإجراء أحكام المرتد عليه؛ فإن هذا مما قام دليله، وأمرنا بتنفيذه، ولم نؤمر بشق قلوب الناس ومعرفة ما إذا كان يحتمل أن يكون من الجهنميين أم لا؟
      ولو أننا تركنا إقامة الأحكام الظاهرة واعتقاد مدلول الأدلة القطعية؛ لأجل احتمالات أو حالات خاصة، لما ثبت لنا أصل، ولا أقمنا من شرعنا شيئاً.
      وهذه الحالة المخصوصة التي دلت عليها هذه الرواية، لا يصعب علينا تكييفها وتعليلها، دون إخلال بالقاعدة والأصل في تركب الإيمان من القول والعمل معاً؛ وذلك بأن نقول: إن هذا الإيمان المركب أصله في القلب وجزؤه الظاهر على الجوارح، وبحسب قوة الباطن تكون قوة الظاهر؛ فقد يقع أن يضعف ذلك الأصل، حتى ينزل عن أدنى مثقال ذرة، وهو الحد الأدنى للإيمان الذي نصت عليه الأحاديث، أعني: الإيمان الذي يعلمه أهل الجنة ويعرفونه.
      لكن ذلك لا يقتضي نفي ما هو أقل منه بأضعاف كثيرة مما يعلمه الله، وهذا الإيمان الذي يكون على تلك الدرجة من الضعف، لا يحرك صاحبه على عمل خير قط، وهذا لا يعارض الأصل الكلي الذي سبق تقريره، وهو أن إيمان القلب مستلزم لإيمان الجوارح، ويتركب منهما معاً حقيقة الإيمان الشرعية؛ لأن هذه حالة عارضة خفية تشبه -حسب المثال السابق- الذي شبهنا فيه تركيب حقيقة الإيمان من القول والعمل، بتركيب الإنسان من الجسد والروح حالة صاحب الغيبوبة العميقة الذي هو ميت حكماً، وإن كان فيه ذلك القدر الضئيل جداً من الحياة، الذي لا يشعر به الناس.
      فلا أحد يقول بإخضاع أحكام الأحياء الأصحاء لحكم مثل هذه الحالة الشاذة، أو يعارض بها السنن الثابتة المعلومة في الحياة والأحياء.
      ونخلص من هذا إلى أنه مع حفظ عموم دلالة الأصول الكلية، توجد حالات خاصة يكون فيها تارك جنس العمل أو تارك الصلاة غير مخلد في النار، وقد لا يدخلها أصلاً.
      وإذا نظرنا إلى أحوال المنتسبين للإسلام لوجدنا أمثلة لمن يمكن أن تنطبق عليهم هذه الحالات الخاصة مثل:
      أ- سكان الأطراف البعيدة والجزر النائية، ممن لم يصلهم من الإسلام إلا اسمه، وينتشر فيهم الشرك والجهل بالدين، فهم غافلون عنه أو معرضون عمن تعلمه، ولا يعرفون من أحكامه شيئاً، فهؤلاء لا شك أن فيهم المعذور، وفيهم المؤاخذ.
      والمؤاخذون درجات، فقد يخرج بعضهم عن حكم الإسلام بمرة، وقد يكون ممن لا يخلد في النار...وهكذا مما لا يعلم حقيقته إلا علام الغيوب.
      ب- بعض شرار الناس آخر الزمان، حين يفشوا الجهل، ويندرس الدين، وعلى هذا جاء حديث حذيفة مرفوعاً: {يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب، حتى لا يدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك، ويسري على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: لا إله إلا الله، فنحن نقولها.
      قال صِلة بن زُفر لـحذيفة: فما تغني عنهم لا إله إلا الله، وهم لا يدرون ما صيام ولا صدقة ولا نسك؟ فأعرض عنه حذيفة، فرددها عليه ثلاثاً، كل ذلك يعرض عنه حذيفة، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال: يا صلة تنجيهم من النار
      }
      فهؤلاء الذين يكونون حينئذٍ -نسأل الله العافية- نقول كما قال حذيفة: {إن لا إله إلا الله تنجيهم من النار } إذ لا يعلمون غيرها في ذلك الزمان الذي هو أسوأ زمان.
      لكن ليس في مقدور أحد أن يجزم بأنهم لن يدخلوا النار بمرة، أو أنهم من الجهنميين الذين لا يعرفهم المؤمنون، وإنما يعلمهم الله ويرحمهم فينجيهم من النار بعد دخولها، أو هم بين ذلك؛ إذ المرجع في هذا التوقيف، وإن كان غالب الظن أنهم -أو جلهم- إلى الجهنميين أقرب؛ من جهة أن أهل ذلك الزمان هم من شرار الخلق، ومن جهة أنهم ليسوا من أهل الصلاة؛ فلا علامة لسجودهم، ومن هنا لا يعرفهم المؤمنون في النار، ومن جهة أنهم عتقاء الله يدخلهم الجنة بغير عمل ولا خير...والله أعلم.
      وهذا الحديث بقدر ما يدل على نجاة مخصوصة، هو يدل على الأصل والقاعدة، ألا ترى أن التابعي عجب وألح في سؤال الصحابي، وما ذاك إلا لما علمه التابعون، من إجماع الصحابة -رضوان الله عليهم- على أن تارك العمل ليس بمؤمن، ولا ينجو في الدنيا من سيف المؤمنين، ولا في الآخرة من عذاب رب العالمين. والله أعلم.
      3- العطف:
      في أكثر كتبهم يستدل المرجئة على أن العمل ليس من الإيمان بأنه قد جاء في القرآن، في مواضع كثيرة عطف على الإيمان قالوا:
      والمعطوف غير المعطوف عليه، فهذا التغاير والتفريق دليل على ذلك.
      وجوابه عند أهل السنة والجماعة بإيجاز هو:
      أن الإيمان يأتي في نصوص الشارع مطلقاً، ويأتي مقروناً بالأعمال؛ فإذا جاء مطلقاً، فإن الأعمال تدخل فيه؛ لأنه حينئذٍ بمعنى الدين، والدين يشمل القول والعمل.
      وإذا جاء مقروناً بالأعمال فله عندهم جوابان:
      1- أن هذا من قبيل عطف الخاص على العام، مثل قوله تعالى:
      ((مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ))[البقرة:98].
      وقوله: ((وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ))[الأحزاب:7].
      وقوله: ((حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى))[البقرة:238].
      فإن جبريل وميكال من الملائكة، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسائر أولي العزم من الرسل، والصلاة الوسطى من الصلوات.
      وأمثال هذا كثير في لغة العرب، فيعطف الخاص على العام للاهتمام به، وتنبيه المخاطب إلى شرفه أو عدم إغفاله.
      2- أن أعمال الجوارح في الأصل ليست من الإيمان، بل الإيمان أصله ما في القلب، والأعمال هي من لوازمه التي لا تنفك عنه بحال، لكن جاء الشارع فأدخلها فيه، وأصبح اسم الإيمان شاملاً لها على الحقيقة شرعاً، فكثر في كلامه عطفها عليه توكيداً لذلك لكيلا يظن ظان أن الإيمان المطلوب هو ما في القلب فقط، بل يعلم أن لازمه -العمل- ضروري كضرورته، فها هو ذا قد أدخل في اسمه وحقيقته، في مواضع الانفراد وقرن بحكمه في مواضع العطف.
      وبمراجعة ما سبق قوله عن الحقيقة المركبة يتضح هذا جلياً بإذن الله؛ فإن الشيء المركب من جزأين لا يمتنع عطف أحدهما على الآخر، وإن كان أحدهما إذا أطلق يشملهما اسمه معاً، لا سيما وأن المعطوف عليه هو الأصل الذي إذا أطلق شمل العمل، والمعطوف فرع ولازم له.
      فيأتي العطف لبيان وجوب وجودها مجتمعة؛ إذ انتفاء جزئيها انتفاء أحد جزءيها لذات الحقيقة، كما سبق إيضاحه .
      ومن هنا يظهر سر تكرار ذلك العطف في القرآن -والله أعلم- فإنه مطابق لإجماع السلف أن الإيمان قول وعمل - أي: اعتقاد وانقياد -كما سبق- وهو المطابق للأحاديث التي سبق إيرادها في مبحث الحقيقة المركبة، ولا سيما حديث جبريل الذي فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه الإسلام، وفسر الإيمان بالجزء الباطن.
      ومعلوم قطعاً أن أحدهما لا يغني عن الآخر منفرداً، بل منهما معاً تتكون حقيقة واحدة هي الدين كما جاء في آخره: { هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم } .
      وإن كان -الإيمان- أعلى درجة ومرتبة من الإسلام، باعتبار أنه الأصل، كما أن الإحسان أعلى منه، لكن اسمه المطلق يشملهما، والإسلام الذي هو أدنى منه لا يصح إلا به أو بجزء منه.
      انتهى المجلد الثاني من الرسالة.
  28. فهرس أهم المصادر والمراجع

    1- الإبانة الكبرى، ابن بطة، مخطوط. 2- إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين، محمد مرتضى الزبيدي . 3- إتحاف المريد بشرح جوهرة التوحيد، إبراهيم اللقاني، تعليق محمد محيي الدين عبد الحميد، مصر، الطبعة الأولى. 4- الإرشاد، أبو المعالي الجويني، تحقيق محمد يوسف موسى، مصر . 5- الاستقامة، شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، الرياض، الطبعة الأولى. 6- أصول الدين، عبد القادر البغدادي، بيروت، الطبعة الأولى. 7- أصول الدين، الفخر الرازي . 8- إغاثة اللهفان، ابن القيم، تحقيق محمد حامد الفقي، مصر . 9- الأغاني، أبو الفرج الأصبهاني، مصر، بولاق. م. الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني، تحقيق أحمد صفوت، مصر، دار الكتب. 10- الإنسان بين المادية والإسلام، محمد قطب، دار الشروق. 11- الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، القاضي الباقلاني، مصر . 12- الإيمان، الإمام أحمد ( ضمن المسند للخلال ) مخطوط، المتحف البريطاني. 13- الإيمان، أبو بكر بن أبي شيبة، ضمن الرسائل الأربع، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الكويت. 14- الإيمان، شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، تخريج محمد ناصر الدين الألباني، بيروت. 15- الإيمان، لأبي عبيد ( ضمن الرسائل الأربع ) للألباني. 16- بدائع الفوائد، ابن القيم، مصر . 17- البداية والنهاية، الحافظ ابن كثير، بيروت. 18- براءة الأشعريين من عقائد المخالفين، أبو حامد بن مرزوق. 19- بغداد في تاريخ الخلافة العباسية، ابن طيفور. 20- البيان والتبيين، الجاحظ، بيروت. 21- الإيمان، لابن مندة، الدكتور علي ناصر فقيهي، المدينة . 22- تاج العروس شرح القاموس، محمد مرتضى الزبيدي . 23- تاريخ الأدب العربي، كارل بروكلمان، ترجمة الدكتور عبد الحليم النجار، مصر، الطبعة الرابعة. 24- تاريخ الأمم والملوك، الطبري، مصر، الطبعة القديمة. م. تاريخ الأمم والملوك، الطبري، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مصر . 25- تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي، بيروت. 26- تاريخ التراث العربي، فؤاد سيزكين، الرياض. 27- تاريخ العالم الإسلامي، إبراهيم العدوي، مصر، 1984م. 28- تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، مصر . 29- تبسيط العقائد الإسلامية، الشيخ حسن أيوب، بيروت، الطبعة الخامسة. 30- التبصير في الدين، أبو المظفر الإسفرائيني، تحقيق كمال الحوت، بيروت. 31- تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الإمام الأشعري، الحافظ ابن عساكر، تعليق الكوثري، طبعة بيروت 1399هـ. 32- تحقيق ما للهند من مقولة، أبو الريحان البيروني، الهند. 33- تحكيم القوانين، الشيخ محمد بن إبراهيم، مكة 1380هـ. 34- التسعينية، شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، ( ضمن الفتاوى الكبرى ) بغداد. 35- تسهيل المنطق، عبد الكريم مراد، مصر . 36- تفسير القرآن العظيم، الحافظ ابن كثير، إبراهيم البناء وزملاؤه، مصر . 37- تفسير الطبري ( جامع البيان )، ابن جرير الطبري، مصر، الحلبي. 38- تقريب التهذيب، الحافظ ابن حجر العسقلاني، مصر . 39- تلبيس إبليس، الحافظ ابن الجوزي، تحقيق محمود مهدي الإستانبولي، بيروت. 40- التمهيد، الحافظ ابن عبد البر، المغرب. 41- التنبيه والرد، أبو الحسن الملطي، تحقيق محمد زاهد الكوثري، مصر . 42- تهذيب الآثار، ابن جرير الطبري، تحقيق الدكتور ناصر الرشيد وزميله، مكة. 43- تهذيب تاريخ دمشق، عبد القادر بدران، بيروت. 44- تهذيب التهذيب، الحافظ ابن حجر، الهند. 45- تهذيب الكمال، الحافظ المزي ( صورة منشورة عن المخطوط ). 46- كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب، الإمام ابن خزيمة، تعليق محمد خليل هراس، بيروت 1403هـ. 47- كتاب التوحيد، أبو منصور الماتريدي، تحقيق فتح الله خليف، مصر . 48- تيسير العزيز الحميد، الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، بيروت، ط 1. 49- جامع بيان العلم وفضله، الحافظ ابن عبد البر، مصر . 50- الجامع الصحيح ( سنن الترمذي )، تحقيق أحمد شاكر، مصر، الحلبي 1356 هـ. 51- الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، مصر . 52- جامع العلوم والحكم، الحافظ ابن رجب، تحقيق: محمد أبو النور، مصر . 53- الجواب الباهر في حكم زيارة المقابر، شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، مصر، قصي محب الدين الخطيب. 54- الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ابن القيم، بيروت. 55- حاشية أم البراهين للسنوسي، الدسوقي، مصر . 56- الحجة في بيان المحجة، أبو القاسم الأصبهاني، مخطوط، ( مصر عن مكتبة حكيم أوغلو، تركيا ). 57- حلية الأولياء، الحافظ أبو نعيم الأصبهاني، مصر، ط 1. 58- الحياة السياسية في الدولة العربية، الدكتور جمال الدين سرور، مصر، ط 6. 59- الحيوان، الجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، مصر، ط 1. 60- الخصائص الكبرى، السيوطي، تعليق محمد خليل هراس، مصر . 61- خلق أفعال العباد، الإمام البخاري، تحقيق د. عبد الرحمن عميرة، جدة، ط 2. 62- الدر المنثور في التفسير بالمأثور، السيوطي، بيروت. 63- درء تعارض العقل والنقل، شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، تحقيق د. محمد رشاد سالم، الرياض. 64- دلائل النبوة، الحافظ البيهقي، تحقيق عبد المعطي قلعجي، بيروت. 65- دولة بني العباس، د. شاكر مصطفى، بيروت. 66- الدولة العربية وسقوطها، يوليوس ويلهاوسن، ترجمة يوسف العش، دمشق 1376 هـ. 67- ديوان جرير، تحقيق كرم البستاني، بيروت. 68- الرد على الجهمية والمعطلة، الإمام أحمد، تحقيق إسماعيل الأنصاري، رئاسة الإفتاء. 69- الرد على المنطقيين، شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، باكستان، ط 2. 70- رسائل الجاحظ، جمع وتحقيق عبد السلام هارون، مصر . 71- رغبة الآمل شرح كتاب الكامل، للمبرد. 72- الروض الأنف، السهيلي. 73- كتاب الزينة، أبو حاتم (الرافضي) ضمن كتاب الغلو والفرق الغالية للسامرائي. 74- سلسلة الأحاديث الصحيحة، محمد ناصر الدين الألباني، عمان، الكويت، ط 1. 75- السلوك الإنساني، إبراهيم العمري مصر 1979 م. 76- سنن أبي داود، تعليق عزت عبيد الدعاس، حمص، ط 1. 77- سنن ابن ماجه، ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، مصر . 78- سنن النسائي، مصر، ط 1. 79- السنة، لعبد الله بن الإمام أحمد، الهند. م. السنة، لعبد الله بن الإمام أحمد، تحقيق د. محمد سعيد القحطاني، الدمام، ط 1. 80- السيادة العربية..، فان فلوتن، ترجمة حسن إبراهيم حسن وزميله، مصر . 81- السيرة النبوية لابن هشام، تعليق محمد خليل هراس، مصر . 82- السيرة النبوية، الحافظ ابن كثير . 83- سير أعلام النبلاء، الحافظ الذهبي، تحقيق شعيب الأرناؤوط وآخرين، بيروت ط 2. 84- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ( القسم الأول ) اللالكائي، تحقيق د. أحمد الغامدي، الرياض الطبعة الأولى. 85- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ( القسم الثاني ) مخطوط. 86- شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار الهمداني، تحقيق د. عبد الكريم عثمان، مصر . 87- شرح رسالة العالم والمتعلم لأبي حنيفة، أبو بكر بن فورك، مخطوط. 88- شرح العقائد النسفية، سعد الدين التفتازاني، مصر . 89- شرح العقيدة الطحاوية، علي بن أبي العز الحنفي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، ط 1. 90- شرح السنة، البغوي، تحقيق شعيب الأرناؤوط، بيروت. 91- الشريعة، أبو بكرالآجري، تحقيق حامد الفقي، بيروت ط 1. 92- الشعوبية وأثرها الاجتماعي والسياسي، زاهية قدورة. 93- صحيح الترغيب والترهيب، محمد ناصر الدين الألباني، بيروت ط 1. 94- صحيح مسلم، تحقيق فؤاد عبد الباقي، بيروت. 95- صحيح مسلم بشرح النووي، المطبعة المصرية، ومكتبتها. 96- صون المنطق والكلام، السيوطي، مصر . 97- ضحى الإسلام، أحمد أمين، مصر، ط. 98- ضعيف الجامع الصغير، محمد ناصر الدين الألباني، بيروت، ط 2. 99- طبقات الشافعية الكبرى، السبكي، تحقيق د. محمد محمود الطناحي، مصر . 100- الطبقات الكبرى، ابن سعد، مصر، الشعب. 101- طريق الدعوة في ظلال القرآن، أحمد فايز، بيروت، ط 1. 102- العباسيون الأوائل، فاروق عمر . 103- العبودية، شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، تحقيق عبد الرحمن الباني، بيروت. 104- عدة الصابرين، ابن القيم . 105- العصريون معتزلة اليوم، يوسف كمال، مصر، ط 1. 106- العقائد النسفية ( المتن ضمن مجموعة أمهات المتون )، مصر، ط 4. 107- علم النفس المعاصر، حسن المليجي، بيروت، ط 2. 108- العواصم من القواصم، ( ضمن آراء أبي بكر بن العربي الكلامية )، تحقيق د. عمار طالبي. 109- فتح الباري شرح صحيح البخاري، الحافظ ابن حجر، مصر، السلفية، 1380هـ. 110- فتح القدير، محمد بن علي الشوكاني، بيروت. 111- فجر الإسلام، أحمد أمين وزميلاه، مصر . 112- الفرق الإسلامية في الشعر الأموي، د. نعمان القاضي، مصر، ط 1. 113- الفرق بين الفرق، عبد القاهر البغدادي. 114- الفرق الكلامية، البير نصري نادر، بيروت. 115- فرق وطبقات المعتزلة، ابن المرتضى، تحقيق علي سامي النشار. 116- الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم، مصر . 117- فضائل الصحابة، الإمام أحمد، تحقيق وصي الله عباس، مكة. 118- فضل علم السلف على الخلف، ابن رجب، تحقيق يحيى غزاوي. 119 الفوائد، ابن القيم، الرياض. 120- في ظلال القرآن، سيد قطب، الشروق. 121- القسطاس المستقيم، أبو حامد الغزالي، ( ضمن مجموعة القصور العوالي جمع محمد مصطفى )، مصر . 122- قصة الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، مصر . 123- كبرى اليقينيات الكونية، محمد سعيد رمضان البوطي، بيروت، ط 1. 124- لسان الميزان، الحافظ ابن حجر، بيروت، ط 2. 125- المثل الأفلاطونية، عبد الرحمن بدوي، مصر . 126- كتاب المجروحين، ابن حبان، تحقيق محمود إبراهيم زائد، مصر . 127- مجمع الزوائد، الحافظ الهيثمي، بيروت، ط 2. 128- مجموع فتاوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، عبد الرحمن بن قاسم، المغرب. 129- المحلى، ابن حزم، تحقيق أبو المكارم، مصر . 130- مختصر سنن أبي داود، الحافظ المنذري. 131- مدارج السالكين، ابن القيم، تحقيق حامد الفقي، بيروت. 132- مذاهب الإسلاميين، عبد الرحمن بدوي، بيروت، ط 2. 133- المذاهب الإسلامية، محمد أبو زهرة، مصر . 134- المرشد السليم في الحديث والقديم، عبد الله حجازي، مصر . 135- مسائل الإمام أحمد لإسحاق بن إبراهيم، تحقيق زهير الشاويش، بيروت، ط 1. 136- المسايرة شرح المسامرة، الكمال بن الهمام ( مع حاشية ابن قطلوبغا ). مصر . 137- المستدرك، الحاكم، بيروت، 1398هـ . 138- المستصفى، الغزالي، مصر، الأميرية. 139- مسند الإمام أحمد، بيروت، ط 2. 140- مسند أبي داود الطيالسي، الهند، ط 1. 141- المصنف، ابن أبي شيبة، الهند. 142- المصنف، عبد الرزاق الصنعاني. 143- مقالات الإسلاميين، الأشعري، تحقيق هلموت ريتر. 144- مقدمة ابن خلدون، ابن خلدون، مصر . 145- الملامتية، أبو عبد الرحمن السلمي، تحقيق: أبو العلا عفيفي، مصر، 1364هـ. 146- مناقب الشافعي، الفخر الرازي، مصر، 1279هـ. 147- منهاج السنة النبوية، شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، بيروت. 148- المنية والأمل في شرح الملل والنحل، أحمد بن يحيى المرتضى، تحقيق محمد جواد مشكور، بيروت. 149- موارد الظمآن، أبو بكر الهيثمي، تحقيق عبد الرزاق حمزة، بيروت. 150- المواقف في علم الكلام، عضد الملة الإيجي، بيروت. 151- المؤمنون في القرآن، قاسم شبر، النجف، 1388هـ. 152- ميزان الاعتدال، الحافظ الذهبي، تحقيق محمد علي البجاوي، بيروت، ط 1. 153- اليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، الشعراني، مصر .