وهذه القصة هل هي إخبار عما سيقع، أم أنها قد وقعت؟ الصحيح أنها قد وقعت؛ لأن ظاهر اللفظ أنهما تحاجا، فالمحاجة قد وقعت.
والصحيح أنهما تقابلا والتقيا في دار البرزخ، وهذا ليس بغريب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم في معراجه قابلهما وسلم عليهما، وعلى غيرهما من الأنبياء؛ كيحيى وعيسى وإبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهذا لا غرابة فيه، فلما حصل بينهما اللقاء عاتب موسى أباه آدم عليهم السلام.
يا موسى! ما مضى مضى، أكل أبوك آدم من الشجرة، وغفر الله تبارك وتعالى له وتاب عليه، ثم جئت من بعده، وأنت الآن في جنة البرزخ، فما وجه المحاجة والمخاصمة؟
إن محاجته ومخاصمته كانت في ذات الله عز وجل، لأنه في عالم البرزخ كما هو في عالم الدنيا، لا يقبل المخالفة أبداً؛ ولهذا قال له: خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة، كيف يحصل هذا منك؟! مع أنه أمر قد قضي؛ فكان الرد من الأب على الابن: {
يا موسى! أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، وخط لك التوراة بيده، ألست تقرأ فيها أنه كتب علي أن يخرجني منها قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى }، حجه: أي: غلبه بالحجة، وهي قوله: كتب الله علي أني أخرج منها قبل أن أدخلها بأربعين سنة، وهذا -والله أعلم- هو الوارد في قوله تبارك وتعالى: ((
هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً))[الإنسان:1]، الأربعين سنة، بين خلقه له وبين نفخ الروح فيه.
نعم الإخراج من الجنة بسبب الذنب له حكمة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى؛ حتى يعرف بنو آدم خطر الذنوب والمعاصي وإن هانت أو قلَّت، وأن يعرف الإنسان عدوه الشيطان الرجيم فلا يطيعه أبداً.. هذا هو عدوك الذي أخرجك من الجنة، وأخرج أبويك، ((
إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ))[فاطر:6].
لا يقول الإنسان: هذه معصية صغيرة، وذنب بسيط، فقد أحل الله له كل شجر الجنة إلا شجرة واحدة حرمها، فأكل منها طمعاً في الخلود وتغريراً من الشيطان، لاسيما أنه اقترن بذلك الأيمان المغلظة: ((
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ))[الأعراف:21] .
وبعض الناس -والعياذ بالله- من أجل العافية والراحة، وطول العمر، تجده يقول لك: هناك ولي -لا يقولون: كاهن- من السادة إذا ذهبت إليه أعطاك بعض الأعشاب فلا يصيبك سرطان ولا مرض... وطوّل العمر، ويجعل الشايب يعود شباباً!!
ما هي القضية وكيف يصنع؟! يكتب حرزاً تحفظه، وحاجات تمحوها وتشربها.
وهذا الأمر سببه حب الخلود، فهو شايب ويريد أن يعود شباباً، ويتزوج امرأة شابة، فيقول: وهذه فرصة ويذهب! وما هذه إلا خدعة من الشيطان اللعين، فأول الأمر يخدعك به، ثم تذهب إليه فتصدقه بما يقول، ثم تكون النتيجة: {
من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد}، النتيجة: الكفر والعياذ بالله!