المادة كاملة    
استُفتح هذا الدرس بذكر توحيدين لا نجاة للعبد إلا بهما، وهما: توحيد لله، وتوحيد متابعة الرسول، وقد دار الكلام عن التوحيد الثاني بشيء من التفصيل، مع بيان حقيقة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ولوازم هذه المحبة. ومن خلال هذا كان تقرير عصمة الرسول في خبره عن الله تعالى، وأنه ينبغي لكافة العقول البشرية أن تسلّم وتنقاد لهذه العصمة، ومن لم يقنع بهذا التسليم حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة.
  1. التوحيدان اللذان لا نجاة للعبد إلا بهما

     المرفق    
    من أعظم أمور العقيدة، ومن أعظم الأصول التي يجب عَلَى كل مسلم أن يدركها وأن يعيها بقدر ما يفتح الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عليه، وهي أن الإِنسَان كليل العقل، محدود الإدراك، لا يستطيع أن يعلم كل شيء، ولا أن يحيط بكل ما جَاءَ في الكتاب أو السنة من أمور الغيب، وأن هذا الدين مبناه عَلَى الاستسلام لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والإذعان والانقياد للرَسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعدم الاعتراض عليه بالعقول، أو الأهواء أو الآراء والأقيسة، أو الأذواق، أو المواجيد، أو الكشوف، أو بأي نوع من أنواع الاعتراض.
    وقد ذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: توحيدين لا نجاة للعبد إلا بها:
    الأول: توحيد المرسل: أي توحيد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بعبادته وطاعته.
    والثاني: توحيد متابعة الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما أننا لا نعبد إلا الله، فكذلك لا نتبع اتباعاً مطلقاً بلا اعتراض إلا رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الأصل تدل عليه الآيات والأحاديث الكثيرة جداً، كما قال الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه))[النساء:64].
    1. حقيقة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم

      كما قال جل شأنه: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)) [النساء:65] الآية.
      وبهذا نعرف حقيقة محبة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه المحبة التي هي من أصول الإيمان، فلو أن بشراً كائناً من كَانَ وقع في قلبه مثقال ذرة من كره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كَانَ من الْمُسْلِمِينَ أبداً، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يجتمع في قلب العبد كراهيةً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإيمان بالله وبرسوله، وبما جَاءَ من عنده، فهو ليس بمسلم عَلَى الإطلاق.
    2. من لوازم محبة الله محبة النبي صلى الله عليه وسلم

      ومن هنا نعرف حقيقة محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل من لازم محبة الله محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)) [آل عمران:31] فالاتباع أصل عظيم من أصول الدين، وهو قاعدة الإسلام التي يقوم عليها؛ بل هو حقيقته ولبه، فلا يكون الإِنسَان مسلماً أبداً إلا إذا اتبع الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهراً وباطناً، فإن حصل من العبد انقيادٌ واستسلامٌ ظاهري لِمَا جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع خلو باطنه من ذلك.
      فهَؤُلاءِ هم المنافقون الذين كرهوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكرهوا ما أنزل إليه، ولذلك خرجوا من الملة كلهم أو أكثرهم بسبب ذلك.
      وأما الطرف الآخر: وهو من يزعم أن محبة الله، ومحبة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قلبه، ولكن أعماله تكذب ذلك، ولا ينقاد ولا يستسلم لأوامر الله، ولا يطبق سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يعارض ماجاء عنه بأي نوع من أنواع المعارضات، فإن هذا كاذب في دعواه، ونستدل عَلَى ذلك بما قاله بعض السلف: لما قرأ قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى:((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)) قَالَ: هذه آية الامتحان، ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية الامتحان ليمتحنهم، وليبين من يحبه حقيقة ومن لا يحبه، وما يدعيه بعض النَّاس من محبة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن واقع حالهم مخالف لما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقولون: إننا مع مخالفة السنة نتعرض للّوم، ولهذا يقال لهم: الملامية أو الملامتية، ويستدلون بقول الشاعر كعادتهم في هذا الشأن:
      أجد الملامة في هواك لذيذة             حباً لذكرك فليلمن اللوم
      ويغلون فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنواع الغلو، ويستجلبون اللوم بذلك ويقولون: لا تكون المحبة إلا باللوم فنقول لهم: إن المحبة الحقيقية لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي مدعاة للوم وليس في ذلك شك، فمن اتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جهاده ودعا إِلَى الله ليلاً ونهاراَ وسراً وعلانية، في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
      فإن هذا بلاشك يخالف أهل الرغبات، وأهل الشهوات، فيدعو النَّاس إِلَى لومه -وهذا شيء طبيعي- وهذه هي المحبة الحقيقية: أن يطبق الإِنسَان السنة، وليس التعرض للوم هو المقصود بل المراد بهذا أن نفهم حقيقة محبة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- التي قال الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فيها:((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه)) [المائدة:54] فأول صفة: يحبهم ويحبونه.
    3. من كان عاملاً بالسنة فقد تعرض للوم والأذى

      ولما ذكر الله الآية السابقة قال في الأخير: ((وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ)) معنى ذلك: أن المحبة الحقيقية لله لا بد أن يتبعها لوم اللائم، ولو طبقت السنة في نفسك فقط لوجدت اللوم والأذى مع أنك لم تدع أحداً! فكيف إذا دعوت إِلَى الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كما أمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وهذا مما ينبغي أن ينبه إليه وهو: أن أهل الانحراف والزيغ يريدون منك أن تكف عن دعوتهم، فيقولون لك إن كنت تدعوهم: لم يقل لك أحد لاتصل! بل صلِّ، واعفُ لحيتك، وقصر ثوبك.
      فهم يريدون في هذه المرحلة، أن يكتفي الإِنسَان بإصلاح نفسه ويترك غيره، فإذا فعل الإِنسَان السنة وانهزم عن دعوتهم لا يقتنعون بهذا، بل يأتون إليه، ويقولون له: لماذا تفعل هذا الشيء فتعرض نفسك للنقد، ولشتيمة النَّاس ولكذا وكذا؟ ولا يرضون لك حتى تصبح مثلهم، وهذا هو شأن المنافقين وأتباعهم، فإن النَّاس في النفاق درجات كما قال الله تعالى: ((وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً)) [النساء:89] فهذا هو حالهم وشأنهم.
  2. الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى

     المرفق    
    العقل يعلم أن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم في خبره عن الله تعالى، هذه قاعدة متفق عليها بين الْمُسْلِمِينَ، فلو أن أحداً قَالَ: إن الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير معصوم فيما يبلغ عن الله، لخرج من الإسلام.
    وأصحاب الفرق الضالة لا يقولون هذا، ولكنهم لا يلتزمون بلازم إثبات العصمة له صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقولون: إنه معصوم؛ لكن خبره هذا عارض البراهين العقلية، أو القواطع النظرية، أو الكشوفات الربانية، أو العلم اللدني، وهذا كله يعارض كونه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوماً في خبره عن الله تعالى.
    1. المقدمة والنتيجة

      ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [والعقل يعلم أن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم في خبره عن الله - تعالى- لا يزيد عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له والانقياد لأمره] هذه مقدمة ونتيجة بدهية، ما دام مُقراً بأن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم عن الخطأ في البلاغ عن الله، فيجب عليه الانقياد، والإذعان، والتسليم دون أي منازعة، أو معارضة.
      وأتى بمثال يوضح ذلك فَيَقُولُ: بناءً عَلَى القاعدة التي قد شرحناها مراراً والتي تقول: إنه إذا تعارض العقل والنقل، فإننا نقدم العقل، ويقدمون العقل لأنهم قالوا: إذا قدمنا النقل فإن ذلك قدح في العقل؛ لأن العقل هو الوسيلة والدليل الذي عرفنا به صحة النقل، وهذا الدليل عكسناه عليهم في المرة الماضية.
      فنقول: قد عملنا بالاضطرار -أي: ما يعلم بالتفكير بدون أدلة- لو أن رجلاً قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا القُرْآن الذي جئت به، وهذه الحكمة "السنة" التي جئت بها، قد علمنا بعقولنا أن فيها ما يخالف ما استقر في عقولنا، وفيها ما يعارضه، ولو أننا قدمنا كلامك الذي تقوله عن الله أو من عندك عَلَى عقولنا، لكان هذا قدحاً في العقل وقدحاً فيما تأتي به، فالأولى لنا أيها الرَّسُول أن نقدم ما تقرر في عقولنا عَلَى ما جئتنا به من عند الله، فكان هذا هو تقديم العقل عَلَى النقل، فلو قال هذا أحد للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو لأي رَسُول من الرسل لَمَا كَانَ مؤمناً أبداً.
      وكذا لو قال أحد من الناس: أنا آمنت بك أيها النبي، وصدقت أن كلامك صحيح، لكن لا أقر لك بذلك كاملاً حتى أعرضه عَلَى إمامي، أو عَلَى فلان من الناس، أو أفكر فيه وأعرضه عَلَى عقلي فليس هذا بمؤمن.
      ولهذا قلنا: إن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رَسُول الله والكلام نوعين: خبر وإنشاء، فلو قال الإِنسَان: أشهد أن لا إله إلا الله، فالصحيح: أن هذا إنشاء، وبهذا نعرف الفرق بين الإيمان وبين الشهادة في حقيقتها، وبين الدعاوى الباطلة، فالشهادة إنشاء، أي: أقر بذلك وألتزم بكل لوازمها، وبكل ما يترتب عليها.
      أما مجرد الخبر، فمن الممكن أن تجد إنساناً يهودياً أو نصرانياً، يقول لك: أنا قرأت القُرْآن وقرأت السنة فوجدت أن هذا دين من عند الله فإننا لا نقول: إن هذا قد أسلم، فإن هناك فرقاً بينه وبين شخص آخر يقول: أنا أشهد أن محمداً رَسُول الله، وأنا مؤمن بالقرآن، ومن شدة إذعانه يقول: أي أمر جَاءَ في القرآن، أو أي خبر، فأنا مستعد أن أتلقى الأخبار بالتصديق، وأتلقى الأوامر بالتنفيذ، وأتلقى النواهي بالوقوف والارتداع. فهذا هو المؤمن، وهذا هو الذي يحكم بإسلامه وبدخوله في دين الله، والأدلة عَلَى ذلك كثيرة في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    2. العقول متفاوتة والشبهات كثيرة

      ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ - رحمه الله تعالى-: [إذا العقول متفاوتة والشبهات كثيرة].
      يذكر المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أن هذه القاعدة التي يقولون لو كانت صحيحة لأمكن لكل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جَاءَ به الرسول، فمثلاً: لو أن إنساناً أتينا له بالوضوء فقَالَ: فكرت فلم أجد فيه حكمة. فقلنا له: الصلاة، قَالَ: الصلاة ما مناسبتها؟ ولماذا في هذه الأوقات؟ ولماذا عدد هذه الركعات؟ فنقول له: الزكاة، فَيَقُولُ: ليس من الضروري أن يخرج الإِنسَان هذه المبالغ ويتعب نفسه، فقلنا له: الصوم، قَالَ: تجويع وتعب، فالحج، قَالَ: هذا مجرد بيت مبني!
      يقول المصنف: [العقول متفاوتة] المسألة الأولى: أن هناك أناساً يقولون: لم نستطع أن نفهم لماذا هذا الشيء كذا؟
      والثانية: [والشبهات كثيرة] فإذا ألقى الشيطان في نفس هذا شبهة، وألقى في نفس ذاك الآخر شبهة أخرى، فبمجموع الشبهات مع تفاوت العقول في الفهم، تكون الحصيلة: وهي قوله: [لأمكن لأي أحد أن لا يؤمن بشيء مما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وهذا انسلاخ من دين الإسلام، وهذا الذي وقع -كما ترون- في هذه الأزمنة من انتشار الإلحاد بين الْمُسْلِمِينَ، إلحاد يرد كل ما جَاءَ عن الله وعن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإذا تكلمت مع أحدهم تجد أن لديه كثيراً من الشبهات والأقوال في الزنى، أو الاختلاط، أو الخمر، أو اللحية، أو الإزار إذا أسبل، وهلم جرا.
    3. لكل قوم شبة يتعلقون بها

      وكما مر أن الأصنام نفسها ما عبدت إلا بشبهات، فقوم نوح قالوا: نصور صورهم فنتذكرهم، فإذا تذكرناهم عبدنا الله، والمُشْرِكُونَ في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعرب في ذلك الزمن ورثوا ذلك الشرك عن قوم نوح، وَقَالُوا: ((هَؤُلاءِِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) [يونس:18]، وَقَالُوا: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر:3] وهكذا المُشْرِكُونَ في كل زمان ومكان، شبهات لا تنتهي، وعقول متفاوتة، فما الذي يضبط هذه العقول، وهذه الأهواء؟
      فلو أننا قررنا هذه القاعدة التي يقولون وهي: تقديم العقل عَلَى النقل وجعلناه حكماً ومعياراً؛ لأمكن لكل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      ثُمَّ سرد رَحِمَهُ اللَّهُ الآيات التي فيها بيان أن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بالبلاغ المبين، ولهذا قال:((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ))[إبراهيم:4] لأنه بلغتهم يفهمون كلامه ويقول:ِ ((مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ))[يوسف:111] وقال:((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ)) [النحل:89].
      والآيات كثيرة في هذا الشأن، وواقع سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو هذا، فقد كَانَ يبين للناس بفعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو من أوضح أنواع البيان، ويبين بأقواله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبتقريراته، فما ترك شيئاً من الدين إلا وقد بينه، وأعظم شيء في ذلك هو بيان ما يتعلق بعالم الغيب الذي لا تدركه العقول، ولا يمكن أن تبلغه الأفهام وهذا الذي أشار إليه المُصنِّف.

      ثُمَّ ذكر أن أمر الإيمان بالله واليوم الآخر وعالم الغيب عموماً نلزمهم بهذا الإلزام العقلي، إما أن يكون الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بينه أو لم يبينه.
      والثاني: أي: عدم الإبلاغ باطل.
      وهذا المتفق عليه بين الْمُسْلِمِينَ أنه بلَّغ، وأنه معصوم في بلاغه، فهل هذا البلاغ كَانَ واضحاً جلياً مفصلاً؟
      أم أنه بيَّن بألفاظ مجملة وعبارات محتملة، وقرر بتقريرات موهمة كما يقول نفاة الصفات؟!
      فبقيت القضية دائرة بين طرفي البيان هل هو بيان شاف كاف واضح؟
      أم أنه جَاءَ ببيان مجمل، وعبارات محتملة، وتقريرات موهمة، فحارت العقول واضطربت الأفهام في فهم هذه العبارات والكلمات والتقريرات التي جاءت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
    4. لقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالبيان التام الشافي

      لقد جَاءَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبيان الشافي الكافي الواضح الجلي بلا شك ولا ريب، ومن ذلك مثلاً ما يتعلق بالرؤية، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إنكم سترون ربكم عياناً} وقَالَ: {لا تضارون في رؤيته كما ترون هذه -أشار إِلَى الشمس- في رابعة النهار أو القمر في ليلة البدر} فالعبارة الواضحة والإشارة والمثال الواضح، كلها تلغي أي احتمال لأن يكون اللفظ مجملاً أو موهماً، ومن أوَّل مثل هذا فلا يُؤْمَن أن يؤول الصلوات الخمس بأنها ذكر الأئمة الخمسة، أو يؤول صيام شهر رمضان، بأنه ذكر أسماء ثلاثين رجلاً من الأئمة، كما يقول الباطنية وغلاة الروافض.
      فَيَقُولُ: [وقد شهد له خير القرون بالبلاغ] وهم الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- والتابعون، الذين لم تكن فيهم هذه الاعتراضات عَلَى ما جَاءَ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل سلَّموا وأيقنوا وآمنوا وشهدوا له بالبلاغ [وأشهد الله] يعني: وأشهد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم في الموقف الأعظم -في حجة الوداع- ذلك المشهد العظيم، في أكبر اجتماع شهده الْمُسْلِمُونَ في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي بقعة مقدسة -في المشاعر- ويخطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أيام الحج، حتى أنه كرر الخطبة في منى، فَيَقُولُ: ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغ وأشهد، ولم يبق ولله الحمد أي لبس في دين الإسلام، ولا فيما جَاءَ به.
      فما علينا إذاً بعد هذا إلا أن نؤمن، وأن نستسلم وأن نذعن، ونتعلم هذا الدين، وكل ما علمناه من أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو من خبره عن الله أو من عنده، وما هو إلا وحي من الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - آمنا به كما قال الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: ((وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً)) [الأنعام:115].
    5. كلمات الله -سبحانه وتعالى- على نوعين

      كلمات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى نوعين: صدق في الأخبار، وعدل في الأحكام، فليس هناك أي مجال لطاعن ولا منتقد.
  3. الكلام في أصول الدين

     المرفق    
    1. من لم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد .

      قال الطّّحاويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
      [فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان].
      قَالَ المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - :
      [هذا تقرير للكلام الأول، وزيادة تحذير أن يتكلم في أصول الدين بل وفي غيرها بغير علم. وقال تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) [الإسراء:36] وقال تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيد * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِير)) [الحج:3-4]، وقال تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ))[الحج 8-9] وقال تعالى: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))[القصص:50] وقال تعالى: ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى)) [النجم:23] إِلَى غير ذلك من الآيات الدالة عل هذا المعنى.
      وعن أبي أمامة الباهلي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما ضل قوم بعد هدىً كانوا عليه إلا أو توا الجدل ثُمَّ تلا: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً)) [الزخرف:58]} رواه التِّرْمِذِيّ، وقَالَ: حديث حسن. وعن عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن أبغض الرجال إِلَى الله الألد الخصم} خرجاه في الصحيحين] اهـ.

      الشرح:
      يقول الطّّحاويّ - رَحِمَهُ اللَّهُ-: [فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان] وهذا زيادة في التأكيد والتنبيه والتحذير من الخوض في دين الله بغير علم، ومن عدم الاقتناع والتسليم بما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن من تتبع أو رام أمراً مما حظر علمه من أمور الغيب، كمعرفة كيفيات صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومعرفة كيفية عذاب القبر ونعيمه، وأحوال يَوْمَ القِيَامَةِ، وأحوال الجنة والنار، وأمثال ذلك مما لا يستطيع الإِنسَان أن يدركه عَلَى حقيقته، فمن رام أن يعلم حقيقة ذلك، وتكلفه ولم يقنع بالتسليم، فإن هذا الفعل يصرفه عن أن يكون ذا توحيد خالص وإيمان صحيح، ومعرفة ويقين كما أمر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
      ولهذا جَاءَ المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- بالآيات الدالة عَلَى النهي عن الجدال في آيات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا هو الجدال المذموم الذي بسببه تفرقت الفرق، وكثرت الأهواء، وتباينت الضلالات، لأنه جدال بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، فالمؤمنون إذا بلغهم شيء عن الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمنوا وأذعنوا، أما الكفار فحالهم ما ذكر الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، ولهذا توعدهم بقوله تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) [الإسراء:36] أي: مسئول عن كل ما يقوله اللسان، أو يجول في الفؤاد، أو تراه العين.
      فالإِنسَان مسئول عن هذه الأعضاء التي ملكه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إياها؛ فلا يجوز لأحد أن يَقْفُ ما ليس له بعلم، وأن يتكلف فوق ما أمره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من التسليم والانقياد ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيد، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِير)) [الحج:3] وهذا حال كثير من النَّاس وفي الآية الأخرى يقول -سبحانه:- ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ، ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ)) [الحج:8] فالوعيد في الدنيا خزي وضلال، وفي يَوْمِ القِيَامَةِ عذاب الحريق، وهذا هو حال كل من أعرض عن دين الله، كما سيأتي إن شاء الله في أبيات عبد الله بن المبارك
      .
    2. بقدر المعصية يزداد الذل والخزي أو يقل

      كل من أعرض عن الله أو أعرض عن سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه بقدر معصيته وبقدر إعراضه يناله الذل، والخزي في الدنيا، ويناله العذاب يَوْمَ القِيَامَةِ، وهذه سنة الله التي لا تتخلف، يقول: ((وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ)) [القصص:50] لا أحد أكثر ضلالاً من هذا الذي اتبع هواه بغير هدى من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ)) [النجم:23] فنفهم من هذا أنهما طريقان: الطريق الأول: طريق الحق بأن يأتي رَسُول من عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالكتاب المبين والهدى والعلم. والطريق الآخر: طريق ضلال وأهواء وأقوال شياطين، ووساوس باطلة، وخطرات كاذبة، هذه هي القسمة الثنائية في هذا الشأن.
      وفي الحديث الذي رواه الإمام أَحْمَد والتِّرْمِذِيّ عن أبي أمامة الباهلي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل} ثُمَّ تلا ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً))[الزخرف:58] فهذا الهدى الذي في الحديث، ما أعظم انطباقه عَلَى واقع الأمة الإسلامية التي كانت في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخلفاء الراشدين، لا جدال ولا مراء في الدين، بل كانوا كما علمهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، -وكما مر في الحديث الماضي- لما خرج وهم يتجادلون في بعض آيات الله، غضب غضباً شديداً، ونهاهم عن ذلك فأخذوا هذا الحكم، وتقررت لديهم هذه القاعدة، أن لا يجادلوا ولا يماروا في أمر جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل يستسلموا ويذعنوا ويوقنوا.

      فلما انحرفت الأمة الإسلامية، وقعت الفتن فيما بينهم، وظهر أهل النفاق وأهل الزيغ من البلاد المفتوحة، ومن الأعراب وأمثالهم من الكائدين لهذا الدين، الذين دخلوا فيه زوراً وكذباً، فبثوا السموم في هذه الأمة، ومالت الأمة إِلَى الترف في الحياة الدنيا، وفتحت عليهم الأموال، وسبوا الجواري من أطراف الأرض، وامتلأت خزائنهم بما أنعم الله عليهم به.
      ونتيجة هذا الانحراف ظهرت الفرق وظهر الجدال، وأعظم شيء كَانَ الجدال فيه هو: في صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وفي الأمور الغيبية التي لا يمكن للعقول أن تبلغها.
    3. اليقين القلبي أولاً

      لما ضل النَّاس عن الهدى وقعوا في هذا كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل} يستعيضون عن الإيمان واليقين الذي محله القلب بالاقتناع العقلي الذي هو من أعمال الذهن، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقوم الاقتناع الذهني العقلي مقام اليقين القلبي أبداً، وهذا مما يجب أن نتنبه له!
      ولا بد أن نعرف أننا عندما ندعو النَّاس لا ندعوهم إِلَى الاقتناع والتسليم العقلي، أو إِلَى نظريات عقلية مجردة، بل ندعوهم إِلَى اليقين والإيمان الذي يتبعه الانقياد والإذعان العملي، أما الاقتناع النظري فلا يترتب عليه إيمان ولا انقياد، ولا إذعان لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
      أما إذا أردنا أن نقنع النَّاس بأن الإسلام، لا يتعارض مع العلم، ولا مع الحضارة نعقد مؤتمراً -مثلاً- ونقرأ عليهم أحكام الإسلام فيجدون أنها تطابق وتوافق الحضارة فهذا ممكن ولا يناقش منهم أحد، وإن ناقش أحد أقنعناه وجادلناه بالعقل فيسكت، لكن هذا لن يؤدي الثمرة التي نريد؛ كأن نقنع الإِنسَان بضرورة أن يؤمن بالله وحده، وأنه لا خلاص له ولا نجاة من عذاب الله، ولا سعادة له في الدنيا إلا بأن يؤمن بما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمسألة فيها دقة وهذا من لوازم هذا؛
      ولكن هدف الدعوة ليس الاقتناع الذهني، وإنما هو الاقتناع اليقيني القلبي.
      فهَؤُلاءِ المتكلمون، حولوا الأمر إِلَى قضايا نظرية، فَقَالُوا: لا بد أن نقنع الفلاسفة بأن عذاب القبر حق، فتجادلوا، فظهرت طائفة: تنكر عذاب القبر وقالت: نَحْنُ لا نستطيع إثباته بالعقل؛ لأن الفلاسفة يلزموننا، فلا نجد إلا أن نؤول النصوص، وأولوا الصفات بحجة أنهم لا يستطيعون أن يقنعوا الفلاسفة أن هذه الصفات حقيقية، وهكذا أتوا إِلَى كثير من الأحكام، فحرفوها لتوافق عقول المجادلين من الفلاسفة وأمثالهم، بينما هم يريدون الدفاع عن الدين وإثبات حقائقه.
    4. ومن الجدل ما أضل

      فهذا هو تصديق قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل} ثُمَّ تلا ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً))[الزخرف:58] الآية، والذي ضربوه جدلاً هو عيسى عَلَيْهِ السَّلام: ((وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ))[الزخرف:57، 58] الآية، ولما ذهب ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى الخوارج ليناظرهم وليقيم عليهم الحجة قالوا: لا تسمعوا لكلام ابن عباس فإنه من قريش وإن الله - عَزَّ وَجَلَّ- يقول: ((بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)) وهذه حقيقة؛ لأن قريشاً أُوتوا الجدل، ولهذا جادلوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جدالاً طويلاً، لكنهم في الإسلام أصبحوا قوة للدعوة، وإلزاماً للخصم بهذا الدين.
      وهَؤُلاءِ القوم الذين اصطفاهم الله بأن جعل هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم، وجعل لغتهم هي اللغة التي نزل بها القرآن، وكفار قريش يعلمون أنه لا مقارنة، ولا وجهة للنسبة بين عيسى -عَلَيْهِ السَّلام- وبين آلهتهم، ولكنهم يجادلون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)) [الأنبياء:98]
      ويقولون: إن عيسى لا يدخل النار؛ إذاً آلهتنا لا تدخل النار، فهذا من الجدل بغير الحق، ومعروف أن عيسى -عَلَيْهِ السَّلام- لم يعبد وهو راض بالعبادة، بل دعاهم إِلَى عبادة الله وحدة لا شريك له حتى مات، ويَوْمَ القِيَامَةِ يقول عنه الله: ((وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ))[المائدة:116-117] أي: وهو حي -عَلَيْهِ السَّلام- ((َلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِم)) [المائدة:117] إِلَى آخر الآيات، فكان وهو حي يتبرأ من شركهم ومن عبادتهم في حياته، لأنه دعاهم إِلَى عبادة الله وحده، أما معبودات الْمُشْرِكِينَ وكل من عبد من دون الله وهو راضٍ بالعبادة، فإنه يحشر معهم، كما هو حال فرعون ومن معه الذين يجعلهم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أئمة يدعون إِلَى النار، والعياذ بالله.
      كما قال تعالى: ((يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ))[هود:98]، لأنهم كانوا يعبدونه، وكان يدعوهم إِلَى عبادة نفسه، وكان راضياً بذلك، ويقول: إنه ربهم الأعلى، وأن له ملك مصر، والأنهار التي تجري من كذا وكذا، فيَوْمَ القِيَامَةِ يقدم قومه فيوردهم النَّار وبئس الورد المورود عافانا الله وإياكم من ذلك.
      فهذا هو المقصود بهذه الآية: ((مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً)) أنه عيسى عَلَيْهِ السَّلام.

      وفي حديث عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- قالت: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن أبغض الرجال إِلَى الله الألد الخصم} فيه أن النَّاس نوعان: نوع كريم متسامح خلوق، وهذا ينطبق عليه وصف هذا الرجل الذي يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ بين يدي الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وكان تاجراً يتعامل مع الناس، فكان كل ما بقي بينه وبين أحد من النَّاس -كما يقال- قليل من الحساب: تجاوز عنه راضياً بالأمر الذي قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو: {سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا باع} فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول له: {قد تجاوزنَّ عنك بما كنت تتجاوز عن النَّاس} أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والجزاء من جنس العمل، وهذا التجاوز: لا يعني الضعف والخور والجبن، عن الموقف الحق، لكنها الرقة والرفق والحكمة مع قول الحق كاملاً.
      أما النوع الآخر: فهو الألد الخصم المعاند فتحتاج حتى تقنعه أن تبذل الجهد الجهيد في أمر بسيط، وتخاف إن قلت له كلمة أن يماطلك ويجادلك ويتهمك، ويذكرك بأخطاء سابقة، فهذا لا تحب أن تجالسه ولا تعرض عليه أي قضية، فإذا كَانَ هذا هو حاله في التعامل في أمور الدنيا، فكيف بالتعامل مع الله، وبالوقوف في مواقف الخصومة والعناد من الشرع؟!
      كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-:((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ)) [البقرة:204] أي: إذا تكلم ((وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ))وإن قَالَ: الله يعلم أني لم أقصد إلا الحق والخير وكذا ((وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ)) هذا هو الذي نهى عنه الله ورسوله، لأن هذا الدين حنيفية سمحة،
      وعلى الإِنسَان أن يأخذه بالإيمان والتسليم والإذعان، وباليسر، وعلينا أن نجتنب التكلف والتشدد، حتى في طريقة أخذنا لهذا الدين، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أيها الناس! حجوا إن الله قد كتب عليكم الحج، فَقَالَ رجل: أفي كل عام يارَسُول الله؟ فَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو قلت نعم لو جبت، إنما هلك من كَانَ قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم عَلَى أنبيائهم}.
  4. عدم التسليم للرسول نقص في التوحيد وطاعة للهوى والشيطان

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
    [ولا شك أن من لم يسلم للرَسُول نقص توحيده، فإنه يقول برأيه وهواه، أو يقلد ذا رأي وهوى بغير هدى من الله، فينقص من توحيده بقدر خروجه عما جَاءَ به الرسول، فإنه قد اتخذه في ذلك إلهاً غير الله، قال تعالى: ((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ))[الجاثـية: 23] أي: عبد ما تهواه نفسه، وإنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق، كما قَالَ: عبد الله بن المبارك -رحمة الله عليه:
    رأيت الذنوب تميتُ القلوب            وقد يورث الذل إدمانها
    وترك الذنوب حياة القلوب            وخير لنفسك عصيانها
    وهل أفسد الدين إلا الملوك            وأحبارُ سوءٍ ورهبانها
    ] إهـ.

    الشرح:
    يقول الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ: [فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد] يشرح المُصنِّفُ هذه العبارة ويبين كيف يؤثر هذا العمل في توحيد صاحبه.
    فَيَقُولُ: [ولا شك أن من لم يسلم للرَسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقص توحيده فإنه يقول: برأيه وهواه، ويقلد ذا رأي وهوى] فلو فرضنا أن هناك أمراً من أمور الغيب، فالإِنسَان إما أن يتبع فيه الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيتحقق توحيد المتابعة، وإما أن يعارض كلامه بهوى ورأي، أو يكون المعرض تابعاً لقول أو هوى إنسان آخر، وعليه فمن عارض خبر النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأي نوع من أنواع المعارضة فإنه ينقص من توحيده، وبقدر خروجه عما جَاءَ به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    فهو في هذه الحالة قد اتخذ من أطاع واتبع إلهاً، وهذا هو معنى قوله تعالى: ((أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاه)) فهو الذي لا يعمل ولا يقدم ولا يؤخر، ولا يستسلم إلا لما يأمر به الهوى، وداعي الشهوة،
    ثُمَّ يقول: [إنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق...].
    أتى بهذا الكلام من خلال أبيات الإمام المجاهد الثقة الحجة عبد الله بن المبارك -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وهو من هو في فضله وعبادته وجهاده!! وهو من أئمة الإسلام العظام، ويكفيه إمامةً وفضلاً أن يكون الإمام أَحْمَد- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يعظمه ويجله، ويثني عليه، ويستشهد بأقواله ويذكرها، ويذكر الإمام أَحْمَد أقواله معجباً بها ومثنياً عليها.
    ومن عظمة شعر السلف الصالح، أنه أبيات معدودة، وكلمات محدودة، لكن ورائها المعاني والعبر والعظات يقول:
    رأيت الذنوب تميت القلوب            وقد يورث الذل إدمانها
    وهذا البيت تحقيق لما جَاءَ في الآيات، وفي الأحاديث كقوله تعالى:((كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [المطففين:14] الآية.
    وقول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء}.
    1. الذنوب تميت القلوب

      يقول الإمام: عبد الله بن المبارك:
      رأيت الذنوب تميتُ القلوب
      وهذا حق: فإن القلب بعد أن يكون كالسراج المنير المضيء بتقوى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تأتي الذنوب عليه فتمرضه في أول الأمر، فإذا ازداد توارد الذنوب عَلَى القلب زادته مرضاً حتى يموت، فإذا مات القلب بهذه الذنوب فقل عَلَى صاحبه العفاء، فيصبح بعد ذلك لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، فهذه هي العبرة التي يجب أن تكون حاضرة في ذهن كل مسلم، أن الذنوب تميت القلوب، وقوله:
      وقد يورث الذل إدمانها
      "قد" هنا تفيد التحقيق، أي: أن الذنوب لا بد أن تورث الذل، وتكون سبباً في موت القلب.
    2. أبى الله إلا أن يذل من عصاه

      هذه حقيقة عبر عنها الحسن البصري -رحمه الله تعالى- فقَالَ: " أبى الله إلا أن يذل من عصاه" كل من عصى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولو كَانَ في وسط صخرة صماء، فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يظهر لعباده المؤمنين، ولأوليائه الصالحين، من الذل في وجهه ما يعلمون به أنه عاص لله، وكل من أطاع الله، واتقاه ولو كَانَ أيضاً في صخرة صماء، لا أحد يراه ولا يعلمه، يظهر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لأوليائه ولعباده الصالحين في وجهه وفي حياته من العزة، والهيبة، والوقار، ما يشعر به كل من رآه ومن عرفه من هَؤُلاءِ الصالحين.
      ومن أدمن الذنوب واستسهلها، أصبح حاله كحال المنافق الذي أخبر عنه ابن مسعود رضي الله عنه "أنه يرى الذنب كذباب وقع عَلَى أنفه فَقَالَ به كذا" فهذا يموت قلبه، ويبلد إحساسه، فلا يعرف بعد ذلك معروفاً ولا ينكر منكراً، ثُمَّ يضرب عليه الذل.