المادة كاملة    
يتحدث هذا الدرس عن قضية مهمة، وهي: الحذر من معارضة ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، مبيناً أنها سبب انحراف الطوائف والفرق البدعية، مع ذكر سبب تفرق المسلمين وكثرة الفتن، ثم تطرق إلى أهمية العلم الشرعي وأنه طريق الهداية والفلاح، وأنه لو كان علم الكتاب والسنة من عند غير الله لوجد فيه اختلاف كثير، وفي الختام كان هناك بيان لمسألة أنه لا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام والانقياد لله ورسوله، ثم توضيح المثال الرائع الذي ضربه شيخ الإسلام للنقل مع العقل وما يستفاد منه.
  1. الحذر من معارضة شيء جاء به الرسول

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -:
    [قال الإمام أَحْمَد: حدثنا أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - قَالَ: {لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلوس عند باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القُرْآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغضباً قد أحمر وجهه يرميهم بالتراب، ويقول: مهلاً يا قوم! بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم عَلَى أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القُرْآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا وإنما نزل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إِلَى عالمه}.
    ولا شك أن الله قد حرم القول عليه بغير علم، قال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَالا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف:33] وقال تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ))[الإسراء:36] فعلى العبد أن يجعل ما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر النَّاس يعرضه عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل، وإن لم يعلم: هل خالفه، أو وافقه لكون ذلك الكلام مجملاً لا يعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده لكن لم يعرف هل جَاءَ الرَّسُول بتصديقه أو بتكذيبه فإنه يمسك عنه ولا يتكلم إلا بعلم، والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول، وقد يكون علم من غير الرسول، لكن في الأمور الدنيوية مثل الطب والحساب والفلاحة، وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية فهذه العلم فيها؛ ما أخذ عن الرَّسُول لا غير] إهـ.

    الشرح:
    هذا الحديث استدل به المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - عَلَى القضية الأساسية وهي قضية عدم معارضة شيء مما جَاءَ به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرأي، ومن هنا نهي عن الجدال؛ لأنه مدعاة لأن يتعصب الإِنسَان لرأيه فيتعسف في الأدلة ويأخذ منها ما يوافق هواه ورأيه ويرفض ما عداها ويقول هذا هو الصحيح فيضرب كتاب الله -تعالى- بعضه ببعض وهذا هو الذي حصل في جميع الفرق التي ضلت وانحرفت.
    1. أهل الوعد وأهل الوعيد

      جاء الخوارج والمعتزلة فأخذوا النصوص في الوعيد فقط: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} فَقَالُوا: لا يمكن أن يقع الزنا من المؤمن. إذاً: من زنا فهو كافر!
      وجاءت المرجئة فأخذت النصوص في الوعد {من قال لا إله الله دخل الجنة} قالوا: وإن عمل ما عمل فهو كامل الإيمان.
    2. أهل القدر بصنفيه

      وجاءت القدرية الذين ينفون القدر فأخذوا من الآيات والأحاديث ما يدل عَلَى إثبات القدر، وعلى إثبات الفعل للإنسان فنفوا قدر الله تعالى، وأخذوا ما يثبت عَلَى أن الفعل من الإِنسَان وجعلوا الإِنسَان هو الذي يخلق فعل نفسه، وقابل القدرية الجبرية فأخذوا الآيات التي تدل عَلَى أن الله تَعَالَى هو المتصرف وهو الذي يخلق، فجعلوا الإِنسَان معطلاً عن الفعل والإرادة، ونسوا أن العباد هم الذين يفعلون بإرادتهم واختيارهم، فأخذت كل فرقة بشيء من الدين وضاربوا النصوص بعضها ببعض.
    3. سبب تفرق المسلمين وكثرة الفتن

      كانت نتيجة ذلك أن تفرق الْمُسْلِمُونَ وكثرت الفتن في الدين والاختلاف فيما أنزل الله تعالى، فضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فهذا يقرأ آيات الوعيد، ويضرب بها آيات الوعد، وهذا يقرأ آيات الوعد، ويضرب بها آيات أو أحاديث الوعيد، وكذلك في القدر، وفي الصفات فقد جَاءَ بعضهم فأخذو من قوله تَعَالَى ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] نفي ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5] ويأتي الآخر فيثبت الاستواء ويقول: إنه يستوي كإستواء المخلوقين وينسى((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))([الشورى:11] فالفِرق المنحرفة عن منهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ تضرب كتاب الله بعضه ببعض، وتضرب سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضها ببعض وتماري في الدين بالهوى الذي يزعمون أنه عقل.
    4. مقالة أهل الكشف والذوق

      بعد ذلك ظهر من يماري ويجادل في الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بالكشوفات والخيالات والمنامات والأذواق والمواجيد، ويقولون: إن الحق إنما يلتمس فيها، ومن قَالَ: إن الفاصل بين ما يؤول من الصفات وما لا يؤول إنما هو الكشف، فهذا الحديث الآتي أحد الأحاديث التي تنفي ذلك وترد عَلَى هذه المقالات جميعاً يقول: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده {لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة من أصحاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلوس عند باب من أبوابه} هذا المتكلم هو عبد الله بن عمرو بن العاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القُرْآن -أي: جلسوا في ناحية منهم إذ ذكروا آية من القرآن- فتماروا فيها أي: تجادلوا في هذه الآية هذا يقول معناها كذا وهذا يقول: معناها كذا، حتى ارتفعت أصواتهم.
      {فخرج رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغضباً} أي سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جدالهم فخرج مغضباً {قد احمر وجهه -يرميهم بالتراب-} فأنكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم بشدة لاختلافهم في القرآن، وقد ورد في بعض الآثار أن الخلاف كَانَ في القدر، فالصحابة خير النَّاس وأفضلهم وأتقاهم، فلما أن وصل بهم الجدال إِلَى أن ارتفعت الأصوات هذا يقول الحق ما أراه، وهذا يقول: أنت أخطأت في فهم الآية، فخرج عليهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغضباً قد احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول: {مهلاً يا قوم بهذا قد أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم عَلَى أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القُرْآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً؛ بل يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إِلَى عالمه}.
    5. الاختلاف على الأنبياء سبب الفتن والهلاك

      بين لنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الإنكار الشديد كيف اختلفت الأمم من قبلنا ووقعت فيهم الفتنة وهلكوا باختلافهم عَلَى أنبيائهم، وما أكثر اختلاف النَّاس عَلَى أنبيائهم، ففي سورة المائدة عندما دعى نبي الله موسى عَلَيْهِ السَّلام قومه لأمر الله أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم فاختلفوا عليه، وَقَالُوا: إن فيها قوماً جبارين، إِلَى أن آل به الحال أن يقول عَلَيْهِ السَّلام ((رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي)) [المائدة:25].
      واختلفوا حتى في الأمر البين الواضح الجلي((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة)) [البقرة:67] أمرٌ إلهي واضح صريح، فلو أخذوا أي بقرة وذبحوها لأجزأ، ولكنه الاختلاف والتنطع والتشدد ومحبة العناد والإخلاد إِلَى الدنيا والتحايل عَلَى أمر الله تعالى، والله لم يشدد عليهم أول الأمر فلما شددوا عَلَى أنفسهم شدد الله عليهم، ومثله حديث الرجل الذي في الصحيح لما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {حجوا فإن الله قد كتب عليكم الحج والعمرة، فقام رجل فقَالَ: يا رَسُول الله أفي كل عام؟ قَالَ: لو قلت: نعم لوجبت} ثُمَّ ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حال الأمم قبلنا وأنهم إنما هلكوا بكثرة سؤالهم واختلافهم عَلَى أنبيائهم، فالإِنسَان يقف عند حدود ما أنزل الله تَعَالَى ولا يجادل ولا يماري ولا يقف ما ليس له به علم فقَالَ: {باختلافهم عَلَى أنبيائهم} هذا أولاً.
    6. أهل الكتاب يضربون كتاب الله بعضه بعض

      وقوله: [وضربهم الكتب بعضها ببعض] أي: يأتون إِلَى ما أنزل الله عليهم فيضربون بعضه ببعض، وهكذا كَانَ حال الأحبار والرهبان الذين كانوا يفسرون التوراة والإنجيل، فكانوا يضربون بعضها ببعض، فتفرقت النَّصَارَى واليهود إِلَى ما هم عليه اليوم شيعاً وطرقاً؛ حتى أنهم كتبوا أناجيل من عند أنفسهم، وكذلك أسفاراً للتوراة، فضاعت التوراة الحقيقية وضاع الإنجيل الحقيقي، ولما بعث مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بالوحي المبين ودعاهم إِلَى الدين وإلى الشريعة الناسخة، وكانت كتبهم الماضية قد حرفت جميعاً وتعرضت للتغيير والتبديل، حتى لم يبق منها نسخة يعتمد عليها في الصحة بسبب هذا الاختلاف والشتات والتفرق، وبعض الأناجيل كتبت عمداً لتثبت قضية من القضايا.
      فمثلاً: إنجيل يوحنا الذي يجادل به النَّصَارَى إلى اليوم ويفسرونه في إذاعاتهم؛ كتب ليثبت أن المسيح ابن الله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا- يكتبون الإنجيل ويقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله -نعوذ بالله من البهتان ومن الافتراء عَلَى الله عز وجل- فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بهذا أهلكت الأمم قبلكم باختلافهم عَلَى أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض}.
      إن القُرْآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً -حتى نأخذ آية ونعارض بها الآية الأخرى- بل يصدق بعضه بعضاً فكله من عند الله وكله حق، ولكن منه آيات محكمات هُنَّ أم الكتاب وأخر متشابهات،
      فالمؤمنون الذين وفقهم الله للحق والخير والهدى يردون المتشابه إِلَى المحكم، فيفهم المتشابه من خلال المحكم، وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فهَؤُلاءِ يتركون الآيات الواضحات المحكمات ويذهبون إِلَى المتشابهات ويضربون كتاب الله تَعَالَى بعضه ببعض.
    7. أمثلة لضرب النصوص الشرعية بعضها ببعض

      صاحب كتاب أساس التقديس الرازي وأمثاله يستدلون عَلَى نفي الصفات التي يسمونها الصفات الخبرية ونفي الاستواء، وأمثاله بقوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] وقوله: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الاخلاص:1] إِلَى آخرها وقوله: ((هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً)) [مريم:65] وأمثال ذلك من المعارضة.
      وكثير من النَّاس اليوم يعارضون كلام الله ورسوله بعضه ببعض فمثلاً: حرم الله الربا فَقَالُوا: ((إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا))، البيع حلال فإذا اشتريتُ هذا بـ (1000) ريال، فأبيعه بـ(1500) ريال ورضي المشتري فهذا حلال، ثُمَّ قَالَ: ما الفرق بين هذا وبين من أقرضته (1000) ريال ثُمَّ ردها إليّ بـ(1500) ريال؟!! ((إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)) فعارضوا بهذا القياس الباطل كلام الله ورسوله.
      ومثال آخر يكاد يكون يومياً: كثيراً ما نقرأ الآيات والأحاديث الصحيحة الثابتة التي تأمر المرأة أن لا تخرج من بيتها إلا لضرورة، وأنه يجب عليها أن تستتر عن الأجانب، وأن صلاتها في قعر بيتها أفضل منها في المسجد فكل هذه الأدلة، وما كَانَ عليه واقع الصحابة وواقع الْمُسْلِمِينَ في القرون الماضية شاهد عَلَى ذلك، فيلغون هذا كله ويعارضونه بأن فلانة من الصحابيات اشتركت في غزوة كذا، وأن فلانة خرجت إِلَى العراق وأن فلانة كانت تتعلم العلم وكانت تفتي، فيهدرون جميع الأحاديث الصحيحة بل الآيات الصريحة والواقع الضخم الذي كَانَ معاشاً مقابل أنهم جاؤوا بهذه الجزئية ويضربون كتاب الله بعضه ببعض.
      ويأتون إِلَى الآيات التي تحث عَلَى العمل حتى الآية التي أنزلها الله في المنافقين ((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)) [التوبة:105].
      فيقولون: لا بد أن تعمل المرأة، فيضربون كتاب الله بعضه ببعض وينزلون الآيات والأحاديث في غير موضعها، وهذا كثير حتى عند العامة، وكل هذا مرجعه إِلَى القضية الأساسية، وهي: أنه لم يوحد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاتباع والطاعة والتحكيم، ولم يقدر القُرْآن والسنة حق قدرهما، فأصبحت القلوب والعقول خاوية من الفهم الصحيح والتقدير لِمَا جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عند الله ولمعرفة قيمة هذا الوحي والتمسك به.
  2. الوقوف حيث وقف النص

     المرفق    
    وقد بين النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الواجب في مثل هذا الشأن فقَالَ: {إن القُرْآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا بل يصدق بعضه بعضاً} فالواجب علينا عمله هو في قوله: {فما عرفتم منه فاعملوا به} وقد عرفنا الآيات في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وتحريم الربا وفي تحريم التبرج، في كل ما جَاءَ من الآيات الواضحة الجلية التي نعرفها إما بلغة العرب كما يقرأ القُرْآن ويفهمه العرب، وإما بتعليم أهل العلم لنا {فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إِلَى عالمه}.
    1. الواجب عدم الخوض فيما لا تدركه العقول ، وما لا فائدة منه

      أما ما جهلناه من كتاب الله فلا نماري ولا نجادل ولا نخوض فيه بعقولنا الكليلة العاجزة؛ لنبحث في حقائقه ومعانيه وغيبياته التي لن تدركها عقولنا، وقد خاض النَّاس في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- في أمور وفي مسائل قد لا يحتاجون إليها عَلَى الإطلاق وتركوا ما هو أولى وأجدى {فما عرفتم منه فاعملوا به}.
      فأولاً: أن نبدأ بما عرفنا فنعمل به، ونترك ما تركه الله تَعَالَى وأخفاه عنا من أمور ليس فيها مصلحة وإنما يشير إليها إشارة، كبعض القصص القرآنية، ثُمَّ تأتي كتب التفسير فتضخم هذه القصة وتذكر فيها الآثار الإسرائيلية وتفصيلات ما أنزل الله بها من سلطان ولا دليل عليها. فالقرآن أنزل للعبرة والاتعاظ فإذا قرأ الإِنسَان القصة عرفها وأخذ العبرة منها.
      لكن يأتي أُولَئِكَ النَّاس الذين يتكلفون ويخوضون فيما لا علم لهم به، فيضيعون الأعمار عَلَى أنفسهم وعلى النَّاس فيما لا فائدة منه، مثل: معرفة فرعون؟!
      واسم أخي يوسف الأكبر والأصغر؟
      ومقدار الدراهم التي بيع بها يوسف؟
      وسد ذي القرنين أين يوجد في الشرق أو الغرب؟
      ومتى عاش قبل موسى أم بعده؟
      أمور متكلفة والفائدة التي منها لا تتجاوز بأي حال من الأحوال تصحيحاً لمعرفة من المعارف التي قيمتها لا تتقدم عَلَى معرفة الأمور الجلية، التي تنقص كثيراً ممن خاضوا في هذه الأمور؛ مثل أمور التوحيد، والفرائض التي فرضها الله وأمثالها، فهذا أيضاً من الخطأ في منهج دراسة القُرْآن الكريم وفي أخذه وتلقيه، فيجد الإِنسَان من الأقوال العظيمة والخلافات الكثيرة، في مسائل لو أغفلت وأغلقت تماماً ما نقص شيء، ولسنا بحاجة إِلَى بحثها أصلاً.
      ولهذا يجب أن نمتثل قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إِلَى عالمه} ولا حاجة إِلَى إضاعة الأعمار وإلى الجدل في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دون نتيجة.
    2. الجدال والمراء مدعاة إلى القول على الله بغير علم

      لهذا عقب المُصنِّف بقوله: [ولا شك أن الله قد حرم القول عليه بغير علم] ولما كَانَ الجدال والمراء والخوض والتكلف فيما لا تدركه العقول؛ موصلاً إِلَى الافتراء عَلَى الله والقول عليه بغير علم، عقب المُصنِّف ببيان ذلك فقَالَ: ولا شك أن الله قد حرم القول عليه بغير علم قال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ))[الأعراف:33] وكثير من النَّاس يجتنبون الفواحش الظاهرة مثل (الزنى -السرقة- شرب الخمر) لكن يغفلون عن الفواحش الباطنة.
      وبعض المفسرين يقول: المقصود من هذه الآية ما أُعلن به وما استخفي به، لكن الذي يظهر ويترجح في معنى "ماظهر": يعني الأعمال الظاهرة، وما "بطن" يعني: الأعمال الباطنة ومن الفواحش الباطنة الأعمال القلبية التي نهى الله عنها.
      فالله قد نهى عن الحسد الذي يأكل الحسنات كما تأكل النَّار الحطب وهو عمل باطني في القلب، فقد لا يزني الإِنسَان ولا يسرق ولا يشرب الخمر؛ لكنه يحسد ويحقد عَلَى أخيه المسلم، ولا يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه بل يتمنى له الضرر؛ بل قد يكون أكبر من ذلك وهو أن يكون في قلبه شك فيما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يكون فيه مرض من أمراض النفاق، أو أن تكون فيه نكتة من نكت المعاصي والذنوب فهذه من الفواحش الباطنة ((وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ)) [الأعراف:33] وفي هذه الآية كلما أتى معطوف جديد، فإنه يأتي أكبر من المعطوف الذي قبله ((وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً)) [الأعراف:33] فالشرك أعظم من الإثُمَّ وأعظم من البغي بغير الحق، والإثُمَّ والبغي من أجمع الأسماء الدالة عَلَى المعاصي وعلى الموبقات وأسباب الهلاك، والبر: اسم جامع لكل خير، والإثم: اسم جامع لكل شر.
      كذلك البغي ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) [النحل:90] فهذه الآية من أشمل الآيات التي تبين أصول ما يفعل ويستحب، وأصول ما يجتنب وينتهي عنه، قال تعالى: ((وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً)) [الأعراف:33] هذا هو الذنب الأعظم من الآثام.
    3. بيان عظم خطر القول على الله بغير علم

      وأكبر مما سبق وأعظم ((وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 169]هذا الذنب أعظم من الشرك وهو من الشرك ومن الكفر، لكن الكفر بعضه أكبر من بعض، وفي الكفر زيادات كما قال تعالى: ((إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا))[التوبة:37] فالقول عَلَى الله بغير علم أعظم جرماً وبهتاناً من مجرد شرك وهما مقترنان، أي: الافتراء واتباع غير ما أنزل الله تعالى، كما في قصة موسى عَلَيْهِ السَّلام لما قال للسحرة ((وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ)) [طـه:61] فالسحرة لم يقولوا: إن الله أحل السحر لنا أو أحل لنا عبادة فرعون، لكن كل من شرع سنة أو طريقة، وقَالَ: إنها هي الحق أو هي الصواب ويعلم مخالفتها لدين الله، فإنه قد افترى عَلَى الله الكذب؛ لأنه لا يملك أن يقول للناس: هذا هدىً وهذا ضلال إلا الله عَزَّ وَجَلَّ، فإذا جَاءَ أحد وقَالَ: هذا هو الهدى وهذا هو الضلال، فكأنه ينسب ذلك إِلَى الله، أو يجعل نفسه مكان الله تعالى، ويتلبس بصفات الألوهية فمن هنا كَانَ افتراءً عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ؛ أن يدُعو إِلَى غير الحق ((وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 169] الشاهد هنا هو: في النهي عن الجدال بغير الحق، وفي ضرورة اتباع ما أنزل الله تَعَالَى ورد مالم تعلمه العقول وما لم تدركه الافهام إِلَى الله تعالى، كما ثبت ذلك عن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل ما سُئل الصديق ((وَفَاكِهَةً وَأَبّاً)) [عبس:31] قيل: ما الأبّ؟ قَالَ: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله بغير علم، مع أن هذا من كلام العرب، ولا أثر في اعتقاد صاحبه إن قيل الأبّ هو ما تأكل الأنعام، أو ما تأكل الدواب، أو هو الأخضر، أو هو الحشيش كل ذلك لا يؤثر في إيمان قائله أو معتقده.
      فكيف بمن يخوض في معاني أسماء الله وصفاته؟! وفي القدر وفي أمر أعظم من هذا الأب وأمثاله، ويقولون: هذا هو الحق، وهذا هو الذي جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! ويقول تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) [الإسراء:36] وكثير من النَّاس ينسى هذه الآية فيقف ما ليس له به علم، والله تَعَالَى لما نهانا عن ذلك ختم الآية بالمسؤولية عن هذه الأعضاء التي هي منافذ العلم والإحساس، فلا تسمع ولا تبصر ولا تفكر إلا فيما أراد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وفيما رضي وشرع، وأما فيما سوى ذلك فرد الأمر إِلَى عالمه؛ هو الطريق الأسلم والأجدى.
    4. وما أوتيتم من العلم إلا قليلا

      العلم البشري محدود، لذا جَاءَ في آخر سورة الإسراء: ((وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)) [الإسراء:85] فهل يستطيع علماء التشريح والطب والنفس وما إِلَى ذلك أن يجيبوا ما هي الروح؟ فضلاً عن النَّاس في القرون الماضية؟
      لم ولن يستطيعوا أبدا((قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً))[الإسراء:85] وفي قصة الخضر وموسى عليهما السلام المعروفة بعد أن انتهيا وبين له الخضر لماذا فعل هذه الأمور؛ جَاءَ طائر فنقر في البحر بمنقاره فأخذ قطرة من الماء، فَقَالَ الخضر لموسى أرأيت ذلك الطائر ما عندي وعندك من العلم في جانب علم الله إلا مثلما أخذ ذلك الطائر من ذلك البحر.
      هذا وهو الخضر الذي قال الله عنه ((وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً)) [الكهف: 65] وهو الذي أعلمه الله وأطلعه أنّ خرق هذه السفينة أولى وأجدى لأصحابها وأن هذا الغلام لو كبر سيكون كذا وكذا فليقتل وأن تحت هذا الجدار كنز، وأنه لغلامين يتيمين وأنهما سيكبران ثُمَّ يأخذانه، أمور غيبية عجيبة لا يستطيع الإِنسَان أن يعرفها ولا يصل إليها عَلَى الإطلاق، وكل ما عنده من العلم مما أعطاه الله من علمه لا يتجاوز ما أخذ ذلك الطائر الصغير من هذا البحر العظيم الكبير، حتى تقف العقول البشرية أمام القُرْآن والسنة ذليلة عاجزة خاضعة، ويستسلم الإِنسَان بقلبه وعقله وجوارحه لربه تَعَالَى.
    5. الموقف الشرعي من أقوال الرجال

      فكل ما جاءه عن الله ورسوله فليقابله بالتسليم والانقياد والإذعان، وهذا هو منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام الذين هم أعلم وأذكى وأفهم الناس، فيجب أن يكون حال من بعدهم هو أكثر انقياداً وإذعاناً للنصوص.
      قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [فعلى العبد أن يجعل ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه فيصدق بأنه حق وصدق وما سواه من كلام سائر النَّاس يعرضه عليه].
      يقول: إذا جاءك الكلام من النَّاس الآخرين، ابتداءً من صحابة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم أفضل النَّاس ثُمَّ العلماء ثُمَّ من بعدهم إِلَى أن نصل إِلَى أهل البدع والضلال، كل من جاءنا بقول نعرضه عَلَى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل مردود لا يؤخذ به.

      [وإن لم يُعلم] أي جاءك قول لا تدري أهو موافق للكتاب والسنة أو مخالف؟
      يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [وإن لم يعلم هل خالفه أو وافقه يكون ذلك الكلام مجملاً لا يعرف مراد صاحبه] قد يكون السبب أن هذا الكلام مجملاً، مثل: كلمة الجهة كلمة مجملة تحتمل حقاً وباطلاً، ونفي الجسم كلام مجمل قد يحتمل الحق وقد يحتمل الباطل، وغير ذلك في باب الصفات وغيره، ففي هذا الكلام المجمل ينظر في مراد صاحبه هل يريد جانب الحق أو الجانب الآخر.
      كما كَانَ يدلس بعض المعتزلة ويقول: فلان ليس بمؤمن، فما ذا يقصد بها؟
      إن قصد بها أنه مسلم لكنه عاصٍ فاسق فاجر فهو محق، وإن قصد أنه ليس بمسلم بل كافر خارج عن الملة لمجرد أنه أذنب ذنباً من الذنوب، عرفنا أن هذا من أباطيل الخوارج ومن شايعهم، فالكلام المجمل إن لم نعرف مراد صاحبه فإنه يتوقف فيه ويمسك عنه، ونقول: إن احتمل كذا كَانَ كذا، وإن احتمل كذا كَانَ كذا، وإن عرفنا مراده ولم يكن الكلام مجملاً بل كَانَ كلامه واضحاً، لكن لا ندري هل هذا الكلام مما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
      وهل يدل عليه دليل من الكتاب والسنة؟ أم لا؟
      وهل هو حق أم باطل؟
      وهذا الأمر صعب ولا يعرف ذلك إلا العلماء وبعد البحث والتنقيب أحياناً.
      فالخلاصة أنه إذا عرفنا مراد المتكلم ولم نعرف هل الرَّسُول جَاءَ بتصديقه أو بتكذيبه، فإن الإِنسَان يمسك عنه ويتركه ولا يتكلم فيه إلا بعلم وهذا كثير، فقد تأتي أخبار أو نظريات علمية، فلا ندري أفي كتاب الله ما يوافقها أو يخالفها؟! فالموقف من هذه الإمساك عنها، وعدم إشاعتها بين الناس، وعدم الخوض فيها وألا نجهد أنفسنا، ولا نجهد النَّاس في معرفتها وفي الاستدلال لها أو عليها، فضلاً عن أن نتفرق، فهذا ينفي وهذا يعارض وهذا يؤيد، وما أكثر ما يحدث وخاصة في أمثال هذه الأمور في هذا الزمان.
  3. أهمية العلم

     المرفق    
    قول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [ولا يتكلم إلا بعلم] العلم هو ما قام عليه الدليل، هذه هي حقيقة العلم أما ما عدا ذلك مما لم يقم عليه دليل فإنه ظن، والظن((لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً))[يونس:36] وهذه الكلمة -أي: العلم- تشمل العلم الشرعي وغير الشرعي، والعلم الشرعي يقوم عَلَى الدليل من الكتاب أو السنة أو القياس أو الفهم الصحيح للأدلة.
    1. تعريف العلم الدنيوي

      العلم الدنيوي الحقيقي هو: الذي قام عليه الدليل من تجربة أو برهان من البراهين الذي يكفي مثلها لصحة هذا العلم.
    2. النافع من العلم

      قول المُصنِّف -رحمه الله تعالى-: [والنافع منه ما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ].
      أي: أن أنفع العلوم وأفضلها هو ما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأن عليه تتوقف سعادة الإِنسَان في الدنيا والآخرة وعليه يتوقف الهدى والضلال، وهذا أعظم مطلب، فحاجة النَّاس إِلَى معرفة الهدى والضلال أعظم من حاجتهم إِلَى معرفة علم الطب مثلاً لأن حاجتك إِلَى أن تعرف ما يدلك إِلَى طريق الجنة ويباعدك عن طريق النَّار أعظم من حاجتك إِلَى معرفة ما يدلك إِلَى طريق السلامة والعافية مما يدلك إِلَى طريق المرض والهلاك، فإن الإِنسَان لو هلك وكان من أهل الجنة لما خسر شيئاً، ولكن لو سلم وعوفي في بدنه وكان من أهل النَّار فإن هذا هو الخسران المبين.
      وبذلك نعلم أهمية هذا العلم الشرعي دون أن ننقص من الأهمية للعلم الدنيوي الآخر، وقد يقول قائل: أنتم تقولون: لا نأخذ العلم إلا من الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فهل الطب والفلاحة، والهندسة، والكيمياء، والفيزياء، أتت من طريق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى لا نأخذها إلا من طريقه؟
      نقول ليس هذا هو المراد؛ لأن الأصل في بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو تبيين طريق الهداية لنا، وكذلك القُرْآن هو هدى ونور وشفاء وموعظة وذكرى، وما عدا ذلك من الأمور فهي بالتبع وليست بالأصالة.
      إذاً: فأصل ما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس أمور الدنيا، ومن هنا يكون قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
      {أنتم أعلم بأمور دنياكم}. ولو أن الفلاسفة والمفكرين أجهدوا أنفسهم في معرفة الزراعة والطب والهندسة لأحسنوا إِلَى الإِنسَانية -لأن لديهم عقولاً ضخمة جبارة- ولأراحوا أنفسهم من العناء، لكن تركوا هذه التي أمروا أن يفكروا فيها، وأخذوا يفكرون في أمور الرسالة.
    3. مثل من يعرض عن ما أنزل الله

      ومثل النَّاس الذين يعرضون عن الحق والهدى مع وضوحه مثل رجل جَاءَ وقَالَ: أنا أريد أن أعرف علم الجغرافيا فقيل له: إن الجغرافيا علم موجود من القديم، وهذه الخرائط والأنهار والجبال والنباتات والجغرافيا الطبيعية والاقتصادية موجودة، فقَالَ: حتى نصدق بهذا العلم لا بد أن نعرض هذا العلم عَلَى عقولنا وعلى أنظارنا وأن نفكر، ثُمَّ أخذ يقيس خط الاستواء وأخذ الذراع، ويريد أن يذرع خط الاستواء!
      وكم خطوط الطول وكم خطوط العرض؟
      وكم طول البحر الأحمر؟
      وكم تبعد مدينة القاهرة عن بغداد؟
      فهذا الرجل يكون مدعاة للسخرية، بل هو شخص مسكين ضعيف العقل يرثى له! وهذا هو واقع وحال الذين يتركون ما أنزل الله تَعَالَى.
      ومعنى قول الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم - لقد تركنا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا أنبأنا منه علماً أي: أخبرنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يصلحنا في دنيانا وفي أخرانا وأخبرنا وبما يصلح قلوبنا، ومعاملاتنا مع أهلينا ومجتمعنا، والمعاملة الناجحة بين الراعي والرعية، وبين الجار وجاره، وبين العبد وربه، وأخبرنا كيف يأتينا الموت؟
      وكيف ننتقل إِلَى القبر؟
      وماذا يحدث لنا في القبر؟
      وكيف تقوم الساعة؟
      وكيف نحاسب؟
      وكيف نرد الصراط؟
      وكيف يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النَّار النار؟
      فهذا كلام لا يمكن أن تتخيله العقول ولا تصل إليه، مع ذلك فقد وضحه رَسُول الله لنا توضيحاً شافياً كاملاً، حتى كأننا نرى كل هذه الأمور، وما بقي إلا يقع حقيقة هذا الذي أنت قد رأيته بقلبك وإحساسك.
      ثُمَّ يأتي هَؤُلاءِ ويقولون: نلغي كل هذه العلوم، ويفكرون في الروح، وما هي الروح؟
      وكيف تخرج؟
      وأين تذهب؟
      وأين يذهب الإِنسَان؟
      ومن أين جاء؟
      والله قد كفانا ذلك، أخبرنا عن ذلك كله.
      وقس عَلَى هذا كثيراً من الأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي قد بينها الله حق البيان.
      ثُمَّ تأتي الدول الاشتراكية والرأسمالية وغيرها، ويتنازعون في وضع قوانين ونظم ينطلقون من خلالها في تعاملاتهم وحياتهم، فيختلفون في ذلك أشد الخلاف، ويعقدون المؤتمرات تلو المؤتمرات ولا يخرجون بنتيجة عَلَى الإطلاق مع أن الحق والهدى بين أيديهم. هذا في الأمور التي تدرك بالعقول وتنضبط بالمعايير المحسوسة، فكيف بأمور الغيب والتي لاتدرك بالحس ولا بالعقول؟!
      وصدق الله إذ يقول:((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً))[النساء:82] لقد رحمنا الله وأعطانا هذا الدين القويم، وأرسل إلينا هذا النبي العظيم، وأنزل إلينا القُرْآن هذا الذكر الحكيم، وأعطانا كل الخير والهدى واضحاً جلياً، فهذا هو الحق وهذا هو العلم الصحيح الذي هو أعظم وأشرف هذه العلوم، فيجب علينا أن نتمسك بالكتاب والسنة، وأن نعبد الله عَلَى بينة وبرهان، وإن أعرضنا فإننا سوف نلتمس الهدى من عند الذين يخوضون ويبحثون، ولن يعرفوا حقيقة الروح ولن يعرفوا نشأة الكون ولا نهايته، ولن يعلموا الغيب وما يؤول إليه الإِنسَان بعد موته، وكيف يعيش في الدار الآخرة؟
      لا يمكن أن يصلوا إِلَى شيء من هذا؛ بل هم خراصون في ذلك كما قال الله، ويفترون عليه الكذب ويضيعون في أودية الكذب، حتى يأتي أحدهم الموت، وهو لم يخرج من هذه الدنيا بخير ولا فائدة.
    4. الأمور الإلهية لا مجال للعقل فيها

      وقول المُصنِّف رحمه الله تعالى:
      [وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية فهذه العلم فيها، ما أخذ عن الرَّسُول لا غير] أي: العلم في هذه الأمور الإلهية وهي ما يتعلق بالله -عَزَّ وَجَلَّ- والمعارف الدينية؛ نأخذه من الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن رحمة الله أن أرشدنا إِلَى القواعد العامة التي تتعلق بأمور الدنيا، والتي فيها صلاح أبداننا وصلاح عقولنا، فهل نعارض هذا بهذا ونقول مثلاً حديث الذباب لا يصلح؟
      ونقول: كون السماوات جرم ولها أبواب وتفتح نرده؟
      ونقول: هو اللانهاية، كما يقول علماء الفلك؛ بل نقول: كل ما جَاءَ عن الله ورسوله إن كَانَ من الأصل وهو الهداية أو كَانَ من الأمور التي جاءت تبعاً، وهي الكونية والمعارف والعلوم الدنيوية، فإنه حتى فيما جاءت به هذه العلوم يقدم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ما قالوه، ولا يتعارض -بإذن الله- نقل صحيح مع عقل صريح.
  4. وجوب التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم والانقياد له

     المرفق    
    قال أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ:
    [ولا تثبت قدم الإسلام إلا عَلَى ظهر التسليم والاستسلام]
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [هذا من باب الاستعارة، إذ القدم الحسي لا تثبت إلا عَلَى ظهر شيء، أي: لا يثبت إسلام من لم يسلِّم لنصوص الوحيين، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه.
    روى البُخَارِيّ عن الإمام مُحَمَّد بن شهاب الزهري-رَحِمَهُ اللهُ- أنه قَالَ: من الله الرسالة، ومن الرَّسُول البلاغ، وعلينا التسليم، وهذا كلام جامع نافع.
    وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو: أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير، فإن العامي يمكنه أن يصير عالماً ولا يمكن للعالم أن يصير نبياً رسولاً، فإذا عرف العامي المقلد عالماً فدل عليه عامياً آخر، ثُمَّ اختلف المفتي والدال، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي دون الدال، فلو قال الدال: الصواب معي دون المفتي لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله عَلَى قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفت، فلزم القدح في فرعه! فيقول له المستفتي: أنت لمَّا شهدت له بأنه مفت ودللت عليه شهدت له بوجوب تقليده دونك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين لا يستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفتٍ، هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطىء] إهـ.

    الشرح:
    قول الطّّحاويّ -رَحِمَهُ اللهُ -: [ولا تثبت قدم الإسلام إلا عَلَى ظهر التسليم والاستسلام] معناه: أن الإسلام هو: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، أي: أن يلغي الإِنسَان كل شك أو شبهة تعارض ما جَاءَ به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتمثل قوله تعالى:] ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)) [البقرة: 208] أي: ادخلوا في دين الله كله، وعلى ذلك قاتل النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأُمر أن يقاتل ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ))[الأنفال:39] ويكون الإذعان والانقياد والطاعة لله تَعَالَى.
    وما قاله المُصنِّفُ عن كلام الطّّحاويّ: إنه من باب الاستعارة، وهي: التشبيه الذي حذف أحد طرفيه، بدلاً من أن نقول: مثل إسلام الإِنسَان كالإِنسَان الذي يقف عَلَى قدميه لا بد أن يقف عَلَى شيء، وهذا الشيء يجب أن يكون ثابتاً مثل التسليم والاستسلام، فنحن حذفنا أحد الطرفين، وهذه تسمى الاستعارة، فَيَقُولُ: القدم الحسي لا تثبت إلا عَلَى ظهر شيء فأخذ ذلك وقَالَ: لا يثبت إسلامك ولا إيمانك إلا عَلَى شيء، وهو: التسليم والاستسلام لله تعالى، فلا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين -أي: الكتاب والسنة- وينقاد إليهما، فلا يعترض عليهما ويعارضهما برأيه ومعقوله وقياسه.
    ثُمَّ استشهد عَلَى ذلك بما قاله الإمام العظيم مُحَمَّد ابن شهاب الزهري فيما رواه الإمام البُخَارِيّ عنه قال هذه الكلمة الجامعة "من الله الرسالة" وهذه من رحمته أنه منَّ بها وأرسل رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))[الأنبياء:107] فالله رحمنا وأرسل الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنزل الرسالة فمن الله الرسالة "ومن الرَّسُول البلاغ" أي: الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبلغ ومبين لِمَا أنزل الله، وعلينا نَحْنُ التسليم، فهذا الكلام العظيم كلام من تأدب بأدب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأُعطي العلم النافع الصحيح، كما أخذه عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانت له مثل هذه الكلمات وهذا هو الواجب الذي يجب علينا؛ لأن الله قد منَّ علينا بالرسالة ورحمنا بها، والرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، وبين لنا كل خير وكل شر إِلَى أن نلقى الله، وبقي علينا التسليم والانقياد والإذعان.
    1. المثال المضروب للنقل مع العقل

      ثُمَّ ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ المثل المضروب للنقل مع العقل وقد ذكره شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في درء التعارض (فإن الذين يقولون: نقدم العقل عَلَى النقل حجتهم هي: أن العقل هو الذي دلنا عَلَى صحة النقل، فلولا العقل لم نعرف أن هذا رسول، ولم نعرف أن القُرْآن حق، فالعقل هو أصل النقل، وهو الذي دل عليه، والمجنون لا يكلف، ولا يحتاج إِلَى الحق، ولا يعرف صدق رَسُول من كذبه، ولا يفهم آية من غيرها.
      فأراد شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أن يزيل هذا اللبس الذي حصل عندهم في علاقة هذا الدليل مع المدلول عليه، فقَالَ: هذا المثل الذي هو للتقريب -وإلا فإنه ليس تشبيهاً من كل جهة- وهو أن مثل العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، فهذا العامي المقلد كلما أمره العالم بشيء فكر فيه وفهمه، ثُمَّ نفذه هذا هو الدور الحقيقي الذي يجب أن يكون عليه هذا.
      وليس في هذا المثل مطابقة من كل وجه؛ لأن هذا العامي المقلد يمكن أن يتعلم فيصير عالماً مجتهداً، بخلاف العقل فإنه لن يصل إِلَى رتبته؛ لأن الوحي أو الغيب لا تصل إليه العقول أبداً، فالعالم العاقل مهما أعمل عقله لن يصبح نبياً ولن يعرف علوم الأَنْبِيَاء أبداً، يقول: فإذا عرف العامي المقلد عالماً، ثُمَّ جَاءَ هذا العامي المقلد ودل عامياً آخر عَلَى هذا العالم، وقال له: خذ منه العلم، وكل شيء يقوله لك الشيخ لا بد أن تعرضه عليَّ، فإما أن أوافق عليه وإما أن أخالفه.
      فيقول ذلك العامي الغريب: أنت دللتني عليه عَلَى أساس أنه عالم آخذ منه العلم، وإذا كَانَ الأمر كذلك فأنت العالم! فلماذا تدلني عَلَى الشيخ؟ لا حاجة إذن إِلَى العالم أصلاً، وهذا الذي نقوله لمن يقول: تقدم العقول عند التعارض، فنقول: ما فائدة الوحي إذن إذا كنا سنحكم بآرائنا وعقولنا؟!

      يقول المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي] أي: يجب عَلَى هذا المستفتي أن يسمع قول المفتي العالم ولا يسمع كلام الذي دله عليه، فلو قال الدال: إن الصواب معي دون المفتي؛ لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفتي، فإذا قدمت قوله عَلَى قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفتي، ولزم من ذلك القدح في فرعه وهو النقل، فيقول له المستفتي الغريب: أنت لما شهدت له بأنه مفتي ودللت عليه شهدت له بوجوب تقليده دونك، ولا أتبعك أنت، فأنت لا تتجاوز قدرك وطورك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين لا تستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطأك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفتي.
      أي: نَحْنُ عندما نقول للعقل أيها العقل بما أنك قد دللتنا عَلَى صحة الوحي وعلى صحة النقل، فهذه شهادة منك بأن الوحي هو الذي يرجع إليه، وأن المتَّبع هو الوحي، ولا نهدر قيمة العقل، وخطأك أيها العقل في أمر تخالف فيه الوحي لا يستلزم خطأك في قولك إن الوحي هو الصواب، فهو قد جَاءَ بحق وجاء بباطل، فالحق قوله: إن الوحي هو الصواب، والباطل هو قوله: إن ما جَاءَ به الوحي لابد أن تعرضوه عليَّ لأخبركم ما تأخذون منه وما لا تأخذون.
      فنقول: لا يلزم منا هذا، فلا يلزم من صوابك في الدلالة أن نأخذ كلامك دون الوحي، ولا يلزم من خطئك فيما عارضك فيه الوحي أنك مخطئ في دلالتك عَلَى صدق الوحي، وهذا من أحسن الأجوبة والأمثلة التي يتضح بها قيمة عقل الإِنسَان مع ما أنزل الله من الوحي الذي تعبدنا الله تَعَالَى به دون ما سواه.
    2. حقيقة المعارض لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم

      قَالَ المُصنِّفُ -رحمه الله تعالى -:
      [والعقل يعلم أن الرَّسُول معصوم في خبره عن الله تعالى، لا يجوز عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له والانقياد لأمره، وقد علمنا بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول: هذا القُرْآن الذي تلقيه علينا، والحكمة التي جئتنا بها قد تضمن كل منهما أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا، فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك، لكان قدحاً في ما علمنا به صدقك، فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك، وكلامك نعرض عنه لا نتلقى منه هدياً ولا علماً، لم يكن مثل هذا الرجل مؤمناً بما جَاءَ به الرسول، ولم يرض منه الرَّسُول بهذا، بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جَاءَ به الرسول، إذ العقول متفاوتة، والشبهات كثيرة، والشياطين لا تزال تلقي الوساس في النفوس، فيمكن كل أحد أن يقول مثل هذا في كل ما أخبر به الرَّسُول وما أمر به!!
      وقد قال تعالى: ((وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ)) [النور: 54]، وقَالَ: ((فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ )) [النحل: 35] وقَالَ: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ))[إبراهيم:4]، ((قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ)) [المائدة: 15]، ((حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ))[الزخرف:1، 2]،((تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ))[يوسف:1]، ((مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ))[يوسف: 111]، ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ))[النحل: 89]، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن. فأمر الإيمان بالله واليوم الآخر: إما أن يكون الرَّسُول تكلم فيه بما يدل عَلَى الحق أم لا؟ والثاني باطل، وإن كَانَ قد تكلم بما يدل عَلَى الحق بألفاظ مجملة محتملة، فما بلغ البلاغ المبين، وقد شهد له خير القرون بالبلاغ، وأشهد الله عليهم في الموقف الأعظم، فمن يدعي أنه في أصول الدين لم يبلغ البلاغ المبين، فقد افترى عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] اهـ.

      الشرح :
      نسأل الله تَعَالَى أن يوفقنا جميعاً إِلَى أن نعرف قدر رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن نحبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونطيعه كما أمر الله، وكم في هذا القول وهو تقديم العقل عَلَى النقل وأمثاله من المخالفات واللوازم الباطلة التي ألقاها الشيطان في النفوس، وألقتها الطواغيت من الجن والإنس، وألقتها الشهوات والعقول الفاسدة، من قوانين أو مناهج أو براهين أو علوم أو ما أشبه ذلك من الأباطيل؛ ليعارض بها ما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمثلة التي ذكرت هنا أو هذه القواعد هي مما لا يزال ينخر في كيان الأمة الإسلامية إِلَى اليوم، فقد يحسب بعض النَّاس أنه إنما خاض في ذلك علماء الكلام وانحرفوا عن الجادة، والحقيقة أن كل متبع للشيطان أو للهوى فإنه معارض لما أنزل الله عَلَى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      وكل شيء مما هو مخالف لما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قيام الساعة فإنه يشمله هذا الحكم وتدل عَلَى بطلانه هذه القواعد.
    3. من لوازم معارضة ماجاء به النبي صلى الله عليه وسلم

      ومن لوازم معارضة ماجاء به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إما أنه لم يبلغ -عياذاً بالله- أو أنه بلغ غير ما أوحي إليه، أو أن بلاغه لأي أمر يتوقف تنفيذه عَلَى شيء سواه، وهذا كلام ليس مجرد بحوث عقلية؛ بل قد صار في الواقع العملي، فإنك ترى كثيراً ممن يدَّعون الإسلام يعرض عليهم تحريم الخمر وأن الله تَعَالَى أنزل حرمتها في كتابه، فيقولون نعرض الأمر عَلَى مجلس كذا وكذا، فإذا أقر المجلس أنها حرام حرمت، وإذا لم يقرها تعرض في الدورة التي بعدها أو التي بعدها أو تسقط قانونيتها.
      وأمثال هذه المصائب والبلايا التي هي السبب في انحطاط الْمُسْلِمِينَ، وذلك أن يأتي الأمر من الله أو من رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيوقف تنفيذه لآراء البشر أو لأهواء الناس، والأصل أن كل أحد دونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يجب أن يخضع وأن يلتزم لأمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الله تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر:7] وهذا هو الأولى والأجدى فإن المسلم لا يكون مسلماً حقاً إلا إذا التزم بالعمل به وبتنفيذه، حتى من لم يعمل فإنه يجب عليه أن يلتزم بالعمل، أما أن يقول: ندع العمل به نهائياً؛ لأنه يخالف كذا وكذا، أو يقول: يمكن أن نعمل به بعد أن نأخذ رأي فلان؛ فإن معنى ذلك -عياذاً بالله- أن ثُمَّ إله غير الله -عَزَّ وَجَلَّ- يستدرك عليه، وبهذا نجد الجرأة البالغة عَلَى الله ورسوله.
      فحياة الْمُسْلِمِينَ في كل مكان أصبحت تقوم عَلَى هذه الأمور إما ظاهرة وإما خفية، فأين المسلم الذي إذا قلت له: هذا حرام يقف عند النهي؟
      أو أن هذا فيه حديث لعله ما بلغك، قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا فيقف. أين هذا في الأمة الإسلامية؟
      وبعض النَّاس إذا قلت له: قال الله ورسوله.
      قال لك: بلاد الغرب يفعلون كذا والقوانين تقول كذا، والمجلس الفلاني يقول: كذا، والقضية لم تعرض عَلَى كذا؛ سُبْحانَ اللَّه! فيعارضون أمر الله وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه المحقرات، فلازم ذلك أن كلام رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إما أنه غير ملزم لهم، إذاً فهم لم يدخلوا في دين الله ولا آمنوا بالرسول، لأنهم يقولون: نؤمن به بعد أن يثبت لنا شيء آخر وكأنه شرط مفقود للإيمان بالرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
      أو أنهم يقولون: إن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبلغ، وفي هذا إفك وافتراء وبهتان عَلَى الله ورسوله، فإن قالوا: بلغ ولا يلزمنا طاعته فهي مصيبة أعظم، وإن قالوا: لم يبلغ فهي أيضاً مصيبة أخرى، ولا فكَاكَ منهما، والسبب هو: أن الانتساب إِلَى الإسلام أصبح عند كثير من النَّاس إنما هو بالاسم ولا حقيقة وراء ذلك.
      فكما قال الإمام الطّّحاويّ: [ولا تثبت قدم الإسلام، إلا عَلَى ظهر التسليم والاستسلام] فمن لم يكن كذلك فإن إيمانه غير ثابت بل مزعزع أو مفقود، حتى يكون الإِنسَان منا إذا بلغه عن رَسُول الله شيء فكأنما يخاطبه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخاطبه ويناديه بالاسم ويقول له: يا فلان دع الربا، ويا فلان دع الزنى، ويا فلان أرجم الزاني والزانية ويا فلان حرم كذا أو أحل كذا، هكذا يجب أن يكون حالنا؛ لأن غياب شخصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنا لا يعني انقطاع الدين، فإن سنته قائمة ودينه وبلاغه قائم إِلَى أن تقوم الساعة.