المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ ومن أحاديث هذا النوع حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: { شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي } رواه الإمام أحمد رحمه الله.
وروى البخاري رحمه الله في كتاب التوحيد: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنا معبد بن هلال العنزي قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك وذهبنا معنا بـثابت البناني يسأله لنا عن حديث الشفاعة فإذا هو في قصره فوافيناه يصلي الضحى فاستأذنا فأذن لنا وهو قاعد على فراشه فقلنا لـثابت: لا تسأله عن شي أول من حديث الشفاعة فقال: يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاؤوك يسألونك عن حديث الشفاعة، فقال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: {إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم فيقولون اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن.
فيأتون إبراهيم فيقول: لستُ لها؛ ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيأتون موسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بعيسى، فإنه روح الله وكلمته.
فيأتون عيسى، فيقول: لستُ لها، ولكن عليكم بمحمد.
فيأتوني فأقول: أنا لها فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، واشفع تشفع، وسل تعط.
فأقول: يارب أمتي أمتي.
فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان فأنطلق فأفعل.
ثم أعود فأحمدُه بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً.
فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، واشفع تشفع، وسل تعط.
فأقول: يارب أمتي أمتي.
فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان فأنطلق فأفعل.
ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً.
فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع.
فأقول: يارب أمتي أمتي.
فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل.
قال: فلما خرجنا من عند أنس قلت: لو مررنا بـالحسن وهو متوارٍ في منزل أبي خليفة وهو جميع فحدثناه بما حدثنا أنس بن مالك فأتيناه فسلمنا عليه فأذن لنا فقلنا له: يا أبا سعيد جئناك من عند أخيك أنس بن مالك فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة.
فقال: هيه؟
فحدثناه بالحديث فأتينا إلى هذا الموضع.
فقال: هيه؟
فقلنا: لم يزد لنا على هذا.
فقال: لقد حدثني وهو جميع منذ عشرين سنة، فما أدري أنسي أم كره أن تتكلوا؟
فقلنا: يا أبا سعيد فحدثنا.
فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً، ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم حديثي كما حدثكم.
قال: ثم أعود الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع، فأقول: يارب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله؟
فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله
}.
وهكذا رواه مسلم.
وروى الحافظ أبو يعلى عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء} .
وفي الصحيح من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً قال: {فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضةً من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط الحديث} ] إهـ.

الشرح:
هذا النوع من أنواع الشفاعة هو الذي وقع فيه الخلاف بين أهل السنة وبين أهل الضلال والبدعة، واشتد النزاع بينهم، ولا يزال أهل البدع إلى اليوم ينكرون هذه الشفاعة، ويمارون ويجادلون فيها، رغم ثبوتها بالأحاديث الصحيحة المتواترة، ورغم أن دلالتها على كرم الله تعالى وفضله أعظم مما يُخيل إليهم أن فيها ما ينقص وما يغض من قدر الإلهية، لأن الله سبحانه وتعالى لا يحسن به -كما يقولون-: إلا أن يعاقب المذنب؛ بل قالوا: يجب عليه ذلك، كما تجرأ على ذلك من تجرأ.
  1. هذه الشفاعة ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم

    هذا النوع من الشَّفَاعَةِ وهو: إخراج أهل الكبائر من النَّار بعد أن دخلوها، ليست خاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل هي أيضاً للملائكة ولعباد الله الصالحين، وفي هذا دليل عَلَى فداحة الخطأ الذي ذهب إليه من أنكرها، وقد سبق أن ذكرنا أن المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ استدل عَلَى هذا النوع بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {شَفَاعَتِي لِأهْلِ الكَبائِرِ مِنْ أُمَّتي}، والحديث بهذا اللفظ من جهة المعنى لا شك أنه صحيح، لأن الأحاديث في أن الشَّفَاعَة ثابتة لأهل الكبائر كثيرة جداً.
    لكن هذه اللفظة قد تشعر بالاختصاص كأنه يقول: {شَفَاعَتِي لِأهْلِ الكَبائِرِ مِنْ أُمَّتي} وهي ليست كذلك وإن كانت قد تشعر بذلك، فالشَّفَاعَة ليست خاصة بأهل الكبائر بل هي أنواع -كما سبق- وهذا الحديث بهذا اللفظ ضعفه بعض العلماء، وبعضهم مال إِلَى تصحيحه أو تحسينه لكثرة شواهده وطرقه، ومن قال بصحته فهو مصيب لتعدد طرقه من جهة ولصحة معناه وثبوته في الأحاديث الصحيحة المتفق عَلَى صحتها من جهة أخرى.

    قول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا: [وهذه الشَّفَاعَةُ تُشاركُه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضاً]، فلو أخر المُصنِّف هذه الجملة إِلَى آخر حديث أنس عندما يقول: وروى الحافظ أبو يعلى عن عثمان رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، ثُمَّ يأتي بالأحاديث الأخرى حتى يكون الكلام متصلاً، وقال بعد ذلك: وهذه الشَّفَاعَة تتكرر منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع مرات.
    كان ينبغي بعد ذلك، أن يذكر رأس حديث أنس الذي وقعت فيه الشَّفَاعَة أربع مرات حتى تُفهم وتكون أحسن في التنسيق والترتيب، أي: بعد أن يقول: (استمر عَلَى بدعته) يقول: [وهذه الشَّفَاعَة تتكرر منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع مرات] ثُمَّ ينتقل إِلَى حديث البُخَارِيّ، أو نأتي من أحاديث هذا النوع حديث {شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي} وإن كَانَ تقديم الصحيح المتفق عَلَى صحته أولى، ثُمَّ بعد ذلك يذكر ما فيه احتمال، وبعد أن ينتهي من الحديث يقول: [وهذه الشَّفَاعَةُ يشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون].
  2. هذه الشفاعة تتكرر منه صلى الله عليه وسلم أربع مرات

    وقوله: [وهذه الشَّفَاعَةُ تتكرر منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع مرات] أي: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع في أهل الكبائر الذين استحقوا دخول النَّار ودخلوها حقيقة أربع مرات فيذهب ويأتي أربع مرات، كما جَاءَ في هذا الحديث، بخلاف الشَّفَاعَة العظمى فإنها مرة واحدة، وكذلك شفاعته عند دخول أهل الجنة الجنة مرة واحدة.
    فهذا الحديث وبهذه الصفة من أعظم الأدلة الدالة عَلَى أن الإيمان يزيد وينقص، وأن النَّاس متفاوتون في الإيمان، ولهذا يذهب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المرة الأولى ويأذن له ربه في أن يشفع فيمن في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، ثُمَّ ما هو أقل إِلَى الرابعة، فهذه أربع مرات تتكرر منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحسب تفاوت أهل النَّار في أعمالهم، حتى أن آخر من يخرج منها الذي ليس عنده إلا مجرد التوحيد والإقرار لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالوحدانية وللنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشهادة، وغلبته الذنوب والمعاصي فيما دون ذلك.