المادة كاملة    
ما زال هذا الدرس في مقام الرد على متأخري الحنفية القائلين بأن القرآن عبارة أو حكاية أو مجاز عن كلام الله، مع بيان معنى قول الطحاوي: "منه بدأ وإليه يعود"، ودحض شبهة من قالوا: إن إنزال القرآن لا يعني علو الله تعالى، ومن ثمّ الرد على القائلين بالكلام النفسي، ثم ختم ببيان مذاهب الناس في مسمى الكلام والقول.
  1. الرد على الحنفية القائلين : إن القرآن عبارة أو حكاية أو مجاز عن كلام الله

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
    [وكلام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ يرد قول من قَالَ: إنه معنى واحد لا يتصور سماعه منه، وأن المسموع المنزَّل المقروء والمكتوب ليس كلام الله، وإنما هو عبارة عنه، فإن الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ يقول: كلام الله منه بدا، وكذلك قال غيره من السلف، ويقولون: منه بدا، وإليه يعود، وإنما قالوا: منه بدا، لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون: إنه خلق الكلام في محل، فبدا الكلام من ذلك المحل، فَقَالَ السلف: منه بدا، أي: هو المتكلم به، فمنه بدا لا من بعض المخلوقات كما قال تعالى: ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ))[الزمر:1]((وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي))[السجدة:13] وقال:((قُلْ نزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ))[النحل:102] ومعنى قولهم: وإليه يعود، أي: يرفع من الصدور والمصاحف، فلا يبقى في الصدور منه آية، ولا في المصاحف كما جَاءَ ذلك في عدة آثار] اهـ.
    الشرح:
    هذه الفقرة من كلام المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ استمرار في الرد عَلَى الحنفية، القائلين بخلاف ما قاله الإمام أبو حنيفة وأصحابه المتقدمون، الذين قالوا: إن القُرْآن معنى واحد فقط هو: ما في نفس الباري جل شأنه، فأما ما بين الدفتين المقروء والمسموع والمتلو، فإنه عبارة عن كلام الله أو حكاية أو مجاز عنه إِلَى آخر ما سبق إيضاحه.
    فالمصنف -رَحِمَهُ اللهُ- يريد أن يثبت أن الإمام أبا جعفر الطّّحاويّ هو عَلَى ما كَانَ عليه الإمام أبو حنيفة وأصحابه المتقدمون لم يغير من ذلك شيئاً، بخلاف ما ذهب إليه الشراح الماتريديون الذين شرحوا العقيدة الطّّحاويّة شرحاً ماتريدياً كما أن من المالكية من شرح مقدمة ابن أبي زيد شرحاً أشعرياً رغم وضوح سلفيته؛ لأن الهوى قد لعب بالمتأخرين من الطرفين وفسروا كلام الأئمة وشرحوه بما يوافق ما ذهبوا إليه وما ارتضوه ومالوا إليه لا ما هو واضح من منطوق العبارات ومفهومها.
    1. معنى قوله [ منه بدا ]

      لا يزال المُصنِّف يشرح قول الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ [منه بدا] يرد به عَلَى من قال إنه معنى واحد لا يتصور سماعه وهم يقولون: إنه معنى واحد وما دام أنه معنى واحد فلا يتصور أن يسمع كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- وإنما يسمع الذي في المصاحف، وهو عبارة أو حكاية عبر بها جبريل أو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو نحو ذلك وتقدم في كلامه، فَيَقُولُ: إن هذا يرده العبارة المأثورة عن السلف التي قالها الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ [منه بدا وإليه يعود] وهذه عبارة سلفية مأثورة رددها العلماء من السلف والخلف من أهل السنة.
      ومعنى [منه بدأ] أي أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تكلم به عَلَى الحقيقة، وهذا يرد وينفي كل الأقوال الأخرى المخالفة، ومعنى [منه بدأ] أي ظهر كما سبق بيانه؛ لكننا إن قلنا: إنه خلقه في محل، أو عبر عنه غير الله تعالى.
      كالقول بأن جبريل هو الذي عبر عن كلام الله فمعنى ذلك أن القُرْآن بدأ من جبريل، وإذا قلنا: إنه خلقه في محل أياً كَانَ المحل، الشجرة أو غير ذلك, فمعنى ذلك أن القُرْآن بدأ أي: ظهر من المحل الذي ابتدأ الظهور منه، فهذا رد عَلَى أُولَئِكَ بالعقل الصحيح، وبالنظر السليم المتأمل في كتاب الله وسنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولهذا يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)) [الزمر:1] ويقول: ((وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي)) الآية ويقول: ((قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)) [النحل: 102].
      وكثير من الآيات التي ستأتينا أيضاً وفيها تنزيل أو أنزل أو نزل فيما يتعلق بالقرآن نجد أن فيها صفة من صفات الله ((تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)) أو ((تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)) وما أشبه ذلك كما في أول الزمر أو غافر أو فصلت أو السجدة، وفي كثير من آيات القُرْآن كلمة (تَنْزِيلُ) والنزول يأتي بعد ذكر أنه من الله، وكذلك في الأحاديث.
      وعلى ذلك درج السلف وفهم المفسرون قبل الاختلاف وقبل وقوع البدع أنه من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي)) فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقول :((وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي)) فهو من الله تَعَالَى ابتداءاً وظهوراً فهو المتكلم به عَلَى الحقيقة الذي أنشأ الكلام وقاله وتكلم به وابتدأه وظهر منه، ولم يرد في القُرْآن ولا في السنة ما يخالف ذلك ولم يفهم أحد من السلف من الصحابة أو التابعين أومن بعدهم معنىً آخر غير ذلك المعنى.
    2. معنى قوله ( وإليه يعود )

      أما قوله: [وإليه يعود] فهي تتمة عبارة [منه بدأ] ومعناها: أن من أشراط الساعة أن يرفع القُرْآن من الصدور والمصاحف فلا يبقى منه آية لا في الصدور ولا في المصاحف، كما جَاءَ ذلك في عدة آثار منها ما رواه الحاكم وابن ماجه والبيهقي والديلمي وهو حديث صحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {يدرس الإسلام، كما يَدرس وشي الثوب} ومعنى يَدرس: يمحى قليلاً قليلاً، أي يذهب نسجه قليلاً قليلاً حتى يمحى.
      قَالَ: {حتى لا يدرى ما صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا نسك} أي يأتي قوم لا يدرون عن هذه الأمور وعن هذه الأحكام شيئاً، {ويسرى عَلَى القُرْآن في ليلة حتى لا يبقى منه آية}، فيرفع القُرْآن من المصاحف ومن الصدور، حتى جَاءَ في رواية {أن الحافظ يلقى الرجل الذي كَانَ يحفظ القُرْآن كله أو بعضه فيقول له قد كنت أحفظ شيئاً أما الآن فلا أدري ما هو} نسأل الله أن يعافينا، وأن لا يدركنا ذلك الزمان المشؤوم، الذي يرفع فيه الهدى والنور والحق والبيان والشفاء من هذه الأرض، فذلك الزمان هو زمان شرار الناس، بين يدي الساعة وقبيل قيامها.
      وفي آخره لما سأل التابعي حذيفة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: {حتى لا يبقى إلا الرجل الهرم والمرأة العجوز يقولون: أدركنا من قبلنا يقولون: لا إله إلا الله فنحن نقولها}، وفي هذا دليل عَلَى أنه لا يبقى من الإسلام إلا كلمة الشهادة، ولا يبقى عند هَؤُلاءِ النَّاس شيء إلا أنهم يعرفون أنه لا إله إلا الله، أما الصلاة والزكاة والصيام والنسك وكل الأمور المتعبد بها فلا يدرون عنها شيئاً، والقرآن ليس بينهم فلا يتلونه ولا يفقهون منه شيئاً.
      {فقَالَ: ما تنفعهم لا إله إلا الله؟ قال حذيفة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: تنجيهم من النار} في ذلك الوقت الذي لم يعد يدرى فيه عن الصلاة والزكاة ولا أي شيء من أحكام الدين إلا هذا، فمن أدركها فهو لم يدرك من الإسلام إلا هي فهو يقولها، فهذه تنجيه من النار، ثُمَّ إِلَى الله -عَزَّ وَجَلَّ- الأمر إما أن يعذبهم، ثُمَّ يخرجهم من النَّار كما هو حال الموحدين العصاة، أو أنهم يدخلون الجنة ابتداءً؛ لأنهم لم يدركوا غير ذلك.
      والمقصود أن هذه حالة خاصة في ذلك الوقت الخاص، فلا يأتي أحد يسمع آيات الله ليل نهار ويسمع ما جَاءَ في الكتاب والسنة عن الصلاة والزكاة والصيام والنسك وجميع الأعمال، ويقول: أنا أقول: لا إله إلا الله وتنجيني من النار؛ فإن هذا وضع خاص في وقت خاص -نسأل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن لا يدركنا ذلك الزمان- لأنه من شرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة، كما ثبت بذلك الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهَؤُلاءِ هم المؤمنون الذين هم أفضل النَّاس حينئذ وليس لديهم من الإسلام إلا هذا.
      ويحتمل والله تَعَالَى أعلم أنه كما يتضح من الأحاديث أن هذه الطائفة تكون بعد أن تأتي الريح الطيبة التي صح بها الحديث {أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يبعث ريحاً طيبة تقبض أرواح المؤمنين}، الذين قال عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تزال طائفة من أمتي عَلَى الحق منصورة يقاتلون حتى يأتي أمر الله} وأمر الله هو هذه الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين فلا يبقى من هذه الطائفة المنصورة أحد ولكن يبقى أمثال هَؤُلاءِ الذين سمعوا أن شيئاً ما يُقال له: الدين، وأن شيئاً ما هو شهادة أن لا إله إلا الله، لكن لا يدركون من مقتضياتها ولا من أركانها وأعمالها شيئاً -عافانا الله من ذلك الزمن وأهله- .
      والمقصود أن هذا الحديث صحيح، وأن دِلاَلته عَلَى أن القُرْآن يرفع ثابتة، فالقرآن بدأ من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وإليه يعود: فيرفع من هذه الأرض؛
      لأن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنزله لحكمة، ليعمل به، وتقام حدوده، ولينتفع به، فإذا ذهبت حكمة الانتفاع فإنه يرتفع، فلم يبق في وجوده فائدة بين أيدي الناس، ومن تلك الحكمة التي قد نلمسها بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يخرج دابة، كما قال تعالى: ((وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ))[النمل:82]، فيتناسب خروج الدابة مع حال النَّاس في آخر الزمان، وكان الله كلما ضلت أمة من القديم بعث إليهم رسولاً، فلما كَانَ رسولنا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم الرسل لم يبق احتمال لإرسال رسول.
      وعندما تنحدر الإِنسَانية انحداراً لا يرجى بعده صلاح تأتيهم دابة من جنس حالهم -فإنها تكون حين يقل الإيمان ويضعف الناس- وهنا تصدم حواس النَّاس وتفجعهم لأنها دابة، ومع ذلك تكلمهم وتخبرهم عن أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتبين الكافر والمنافق من المؤمن.
      فالمقصود أن ذلك الزمان لفساده وفساد أهله وقلة الخير فيه يرفع القُرْآن منه، وتخاطب فيه النَّاس الدابةُ، فذلك دليل عَلَى أنهم لا ينتفعون بعد ذلك بخير.

      فإذا طلعت الشمس من مغربها فحينئذ يقفل باب التوبة كما يقفل عند الغرغرة إذا بلغت الروح الحلقوم في حق الإِنسَان الفرد عندما يقول: ((رَبِّ ارْجِعُون))[المؤمنون:99] وكما قال فرعون: ((قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [يونس:90] في ذلك الوقت لا ينفع الإِنسَان أن يقول لا إله إلا الله، أو أن يتوب من المعاصي ((وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً))[النساء:18] .
      فللتوبة موضعها، وللإيمان موضعه فنوصي أنفسنا وإخواننا بالإقبال عَلَى كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، وباغتنام هذه الفرصة -القرآن- ما دام أنه بين أيدينا قراءة وفهماً وحفظاً وتدبراً وعملاً ودعوةً، فإن الإِنسَان لا يُقدر الشيء حق قدره إلا إذا فات، كما أنه لا يُقدر العافية حق قدرها إلا إذا فاتت، وكذلك المال والفراغ وسائر النعم فإذا أُهمل القُرْآن ثُمَّ أُهمل وتمادى الإهمال، فإنه يرفع بالكلية، نعوذ بالله أن يدركنا ذلك الزمان.
  2. عجز العقل عن إدراك كيفية تكلمه سبحانه وتعالى

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله:
    [وقوله: بلا كيفية، أي: لا تعرف كيفية تكلمه به قولاً ليس بالمجاز، [ وأنزله على رسوله وحياً ] أي: أنزله إليه على لسان الملك فسمعه الملك جبريل من الله، وسمعه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من الملك وقرأه على الناس، قال تعالى: ((وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً))[الإسراء:106] وقال تعالى: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ))[الشعراء:193-195]، وفي ذلك إثبات صفة العلو لله تعالى وقد أُورد على ذلك أن إنزال القرآن نظير إنزال المطر، أو إنزال الحديد، وإنزال ثمانية أزواج من الأنعام.
    والجواب: أن إنزال القرآن فيه مذكور أنه إنزال من الله قال تعالى:((حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ))[غافر:1-2] وقال تعالى: (( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ )) [الزمر:1] وقال تعالى: ((تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))[فصلت:2] وقال تعالى: ((تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ))[فصلت:42] وقال تعالى: ((إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينََ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ))[الدخان:3-5]، وقال تعالى: ((قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ))[القصص:49]، وقال تعالى: ((وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ))[الأنعام:114] وقال تعالى: ((قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ))[لنحل:102] .
    وإنزال المطر مقيد بأنه منزل من السماء قال تعالى: ((أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)) [لرعد:17] والسماء العلو، وقد جاء في مكان آخر: أنه منزل من المزن، والمزن: السحاب، وفي مكان آخر: أنه منزل من المعصرات، وإنزال الحديد والأنعام مطلق، فكيف يشتبه هذا الإنزال بهذا الإنزال وهذا الإنزال بهذا الإنزال؟!
    فالحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال، وهي عالية على الأرض وقد قيل إنه كلما كان معدنه أعلى كان حديده أجود، والأنعام تخلق بالتوالد المستلزم إنزال الذكور الماء من أصلابها إلى أرحام الإناث، ولهذا يُقال: أنزل ولم ينزل، ثم الأجنة تنزل من بطون الأمهات إلى وجه الأرض، ومن المعلوم أن الأنعام تعلو فحولها إناثها عند الوطء، وينزل ماء الفحل من علو إلى رحم الأنثى، وتلقي ولدها عند الولادة من علو إلى أسفل وعلى هذا فيحتمل قوله: ((وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ))[الزمر:6] وجهين:
    أحدهما: أن تكون (من) لبيان الجنس.
    الثاني: أن تكون (من) لابتداء الغاية، وهذان الوجهان يحتملان في قوله: ((جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً))[الشورى:11] إهـ.

    الشرح:-
    يقول المصنف -رحمه الله- في قوله: [بلا كيفية] أي: لا تعرف كيفية تكلمه به، وهذه قاعدة عامة معروفة لدينا جميعاً في أية صفة من صفات الله -عز وجل- أن الكيفية غير معقولة، أو مجهولة كما قال ذلك، الإمام مالك وربيعة بن عبد الرحمن رحمهم الله: "الكيف مجهول" فنؤمن بالصفة أياً كانت هذه الصفة وأما الكيف فإنا لا نتخيله ولا نتصوره لأنه غير معقول.
    فالعقل البشري لا يدرك ذات الله تبارك وتعالى، والصفات إنما هي فرع عن الذات وكما أننا لا نستطيع إدراك الذات فكذلك الصفات وهذا معنى مقرر ومعروف أخذه المصنف من كلمة "قولاً" وقد فسرها المصنف بقوله: ليس بالمجاز أي "قولاً تكلم الله تعالى به" فليس مجازاً ولا حكاية ولا عبارة،، وقوله: [ وأنزله على رسوله وحياً ]، أي: جبريل عليه السلام من الله تبارك وتعالى، وسمعه محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام، فهذا معنى قوله رحمه الله.
    ولهذا قال الله تبارك وتعالى:
    ((وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً))[الإسراء:106] قال: ((نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ))[الشعراء:193-194] وقال تعالى: ((فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ))[القيامة:18] كما صح في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم: { كان يعجل في متابعة جبريل عليه السلام في القرآن لكي لا ينساه } فتكفل الله تبارك وتعالى له بحفظه وأمره بأن يتأمل وأن يتابع القارئ الذي هو جبريل عليه السلام، إذا قرأه عليه، أما حفظه فقد تكفل الله -سبحانه وتعالى- له به كما قال تعالى: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9].
  3. بيان معاني الإنزال في القرآن الكريم

     المرفق    
    ترد علينا مسألة إنزال القرآن، ونحن نعلم ما يعلمه جميع الْمُسْلِمِينَ من السلف الصالح، ومن بعدهم أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فوق العرش كما أخبر أنه فوق المخلوقات، وأن جبريل عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يسمع القُرْآن من الله -عَزَّ وَجَلَّ- ثُمَّ ينزل به إِلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الأرض، أينما كَانَ رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكننا نجد اشتراكاً في الأصول البدعية، وهو إنكار علو الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولديهم أصل آخر وهو: إنكار أن يكون القُرْآن كلام الله عَزَّ وَجَلَّ.
    فحصل هنا التقاء بين هذين الأصلين وهو قولهم: إن القُرْآن مخلوق لله، أو كما يقولون: إنه عبارة أو حكاية خلقها جبريل أو مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأشكلت عليهم الآيات التي فيها (أنزل، نزل) كقوله تعالى: ((نزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ))[الشعراء:193] وما أشبهها من الآيات التي تدل عَلَى أن القُرْآن من الله عَزَّ وَجَلَّ، وأن الله -عَزَّ وَجَلَّ- في العلو فوق العالم فيورد المُصنِّفُ مسألة إنكارهم لعلو الله.
    فهم يتصورون بذهنهم المحدود أنه لا يوجد شيء إلا وبجواره شيء آخر، والصحيح أن المخلوقات هي التي يتصور فيها هذه الجهات، وهذه المجاورة، والله عَزَّ وَجَلَّ أكبر وأعظم من كل شيء كما قال تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ))[الأنعام:103] ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً))[طـه:110] لكنهم غفلوا عن هذا فظنوا أنه لا بد من وضع جهة معينة، بمعنى: أنه تحده أو تحوطه الجهات.
    فقالوا: ننفي جميع الجهات وهذا مذهب الفلاسفة عموماً وتبعهم في ذلك المعتزلة والأشعرية، والمذهب الآخر أصحاب "الأين" أو "الأينية" وهو: أنه في كل مكان، وهذا الذي ذهب إليه الصوفية ومن اتبعهم الذين يؤمنون بالعقل كما يسمونه ويحكمون العقل المجرد، وإنما نفوا جميع الصفات؛ لأن العقل عندهم لا يقرها، والذين يؤمنون بالكشف والذوق والعلم الباطن أو ما أشبهه، قالوا: هو في كل مكان نعوذ بالله من الضلال

    أما ما يدل عليه القُرْآن والسنة؛ بل الفطرة السليمة والعقول القويمة فإنها تدل عَلَى علو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وليس هذا موضع التفصيل فيه؛ لكن الموضع موضع عرض الشبهة التي وقعت عندهم. قالوا: إن إنزال القُرْآن لا يعني علو الله عَزَّ وَجَلَّ، ولا يعني أنه غير مخلوق، إنما هو كإنزال الحديد في قوله تعالى: ((وَأَنزَلْنَا الْحَدِيد))[الحديد:25] وإنزال الأنعام في قوله تعالى: ((وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)) [الزمر:6]، وقالوا وإنزال المطر والأنعام والحديد لا يستلزم جهة العلو.
    وهنا بدأ الشارح -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يفصل في الرد عليهم فنبه عَلَى أن هناك فرقاً واضحاً بين الإنزال هنا والإنزال من عند الله، كما في الآيات التي مرت معنا ((تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))، ((تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ))، ((قُلْ نزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)) [النحل:102] ((قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّه)) [القصص:49] فإنزال القُرْآن يأتي بعده (من) الجارة ويأتي بعدها ما يدل عَلَى أنه من عند الله: إما بلفظ الجلالة أو صفة من صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فالقرآن لم يأتِ فيه مجرد الإنزال المطلق، إنما هو إنزال مقيد بأنه من عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى
    وأما إنزال المطر فإنه جَاءَ في القُرْآن مقيداً بحرف الجر "في" في ثلاثة مواضع في قوله تعالى: ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً))[الفرقان:48] وقوله: ((أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ))[الواقعة:69] وقوله: ((وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً))[النبأ:14] وهذه الآيات لو تأملناها لوجدنا
    أن العلو فيها واضح والسماء تطلق ويراد بها معنيان:
    الأول: بمعنى الجرم المعروف لقوله تعالى: ((وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ)) [البروج:1] فذات البروج هي السماء التي هي الجرم أو الجسم الذي له أبواب وفيه الملائكة وصفاته الأخرى المعروفة.
    الثاني: تطلق بمعنى العلو علي أي شيء عالٍ نقول: هذه المروحة في السماء أي فوق، ونقول: السحاب في السماء أي أنه فوقنا في العلو فقط وليس المقصود أنه في نفس جسم السماء، والقمر في السماء كما قال الله تعالى: ((تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً))[الفرقان:61] فالسراج الذي هو الشمس والقمر في السماء أي في العلو -في جهة العلو- ولا يعني ذلك أنه ملتصق بنفس جرم السماء وإنما هو في جهة العلو. وعلى هذا فالمعنى الأول ((وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً)) في الآية الأولى واضح فالمطر نزل من العلو إِلَى الأسفل وفي هذا إثبات للعلو.
    والعلو أيضاً وارد كما أن القُرْآن أنزله الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهو عال عَلَى مخلوقاته، ونزل به جبريل عَلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالمعنيان ليس فيهما تناقض بل هما متفقان، وكذلك ما ورد من الإنزال من المزن أو من المعصرات -السحب- فالمطر ينزل منها من العلو إِلَى الأسفل وهذا أيضاً يتفق مع نزول الوحي من جبريل عَلَيْهِ السَّلام إِلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل هذه المعاني لا إشكال فيها بل هي متفقة عَلَى أن النزول يكون من أعلى إِلَى أسفل.
    أما إنزال الحديد والأنعام فقد جَاءَ في القُرْآن مطلقاً ولم يرد مقيداً، هذا هو الفرق الأول، ثُمَّ لو تأملناه لوجدنا فيه مناسبة أيضاً وذلك في كونه من العلو إِلَى الأسفل كما ذكر المُصنِّفُ أن الحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال وكلما ارتفع المعدن أو المنجم كلما كَانَ الحديد أجود، فهذا يحتمل أيضاً أن الحديد ينزل من الجبال ثُمَّ يستخدم.
    وأما الأنعام فإن الإنزال يفصل عَلَى معنيين:
    الأول: إنزال النطفة من الذكر إِلَى رحم الأثنى.
    الثاني: عند ولادة المولود، فينزل من الأعلى إِلَى الأسفل، وهذا المعنى وارد في الأنعام، حتى في الحديد، والذي يبدوا أن الراجح في نظري -والله تَعَالَى أعلم- أن الإنزال: إنزال جميع النعم أي أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يمتن علينا بإنزال جميع النعم التي ينعم بها علينا فعامة الرزق منزل من عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ((قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً))[يونس:59] وأمثال ذلك ((وَيُنزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقاً))[غافر:13] الرزق عموماً، سواء المطر أو الأنعام أو الحديد، وغير ذلك.
    فالفضل كله من عند الله عَزَّ وَجَلَّ، وخزائن ذلك عنده تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)) [الحجر:21] وينزل ذلك متى يشاء، وأين يشاء -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فعلى هذا فالحديد مما أنزل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من خزائنه، وكذلك الذهب والفضة وسائر أنواع الخيرات من الزروع والحرث والأنعام، أما كيفية الإنزال فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أعلم بها، فهو ينزلها كما يشاء ومنها ما نعرفه بأسباب المشاهدة، كما نرى نزول المطر من السحاب، ومنها ما لا نعرفه، لكننا نستيقن ونعلم أنه جل شأنه هو الذي ينزل هذه الخيرات،
    ((وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ)) وإن أفرد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أو خص شيئاً ما بالإنزال فهذا فيه زيادة فضل، وتأكيد لهذا الشيء، لأن الحديد أساس من أساسيات حياة الإِنسَان في القديم والحديث.
    ولو تأملنا لوجدنا أن الحديد من أساس ما يعتمد عليه الإِنسَان في حياته للحرث في الزراعة، وأما في العصر الصناعي فظاهر جداً لدى الجميع، وفي جميع العصور لا يستغني عن الحديد فميزته مهمة، ولا سيما أثناء القتال في الجهاد الذي نزلت الآية في شأنه ((فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاس))[الحديد: 25] فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنزل الكتاب، وأنزل الميزان، وأنزل الحديد- أي: أنزل الحق الذي يجب أن تعلمه الأفهام والعقول السليمة، وأنزل الحديد ليردع العقول المنحرفة والقلوب المريضة والميتة ليردها إِلَى الحق، والأنعام أيضاً من أعظم نعم الله -عَزَّ وَجَلَّ- فلا غرابة أن تختص بالذكر؛ لأنها من أعظم نعم الله، انظروا إِلَى اللبن وحده بغض النظر عن اللحم وغير ذلك كما يشتق منه أنواع الغذاء من الأجبان والزبدة والأدوية والفيتامينات وأمور لا تحصى، هي من أساسيات الحياة، واختص الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بذكرها لما فيها من الفضل.
    ولو قلنا: إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنزل الأصل، ثُمَّ تناسل ذلك عَلَى الأرض فإن هذا لا إشكال فيه، كما نرى الآن ونشاهد في الأرض أن الجو يكون صحواً فيأتي السحاب فينزل المطر فنرى الماء، وقد نكون بمكان فلا نجد الماء وبعد حين من الدهر يكتشف وجود الماء، فرزق الله -عَزَّ وَجَلَّ- يأتي بوسائل نعلمها، ووسائل لا نراها ولا نعلمها ومنه هذه المعادن، وهذه الخيرات، والكنوز التي في الأرض، فإن الله -عَزَّ وَجَلَّ- متى ما شاء سلبها منها، وإذا شاء أنزل فيها من الذهب والفضة والخير والكنوز ما لم نستطع أن ندرك كيف أنزله جل شأنه، هذا هو المراد الذي يتضح به أن الإنزال والنزول حقيقي في كل هذه الأمور وأنه لا شبهة لأولئك في نفي علو الله -عَزَّ وَجَلَّ- من جهة ولا في نفي أن القُرْآن كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- منزل غير مخلوق من جهة أخرى.

    وأما قول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [وعلى هذا فيحتمل قوله: ((وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ))[الزمر: 6] وجهين:
    أحدهما: أن تكون "من" لبيان الجنس.
    والثاني: أن تكون "من" لابتداء الغاية].
    وقال أيضاً: [وهذان الوجهان يحتملان في قوله: ((وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً)) [النحل:72] هذا كلام في تفسير هذه الآية، وعلى كلا التوجيهين فالمعنى واضح ولا إشكال فيه؛ فإذا كانت "من" لبيان الجنس كما في قوله تعالى: ((وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ))[الزمر:6] فتختلف عن كونها لابتداء الغاية في المعنى؛ لأن "من" لبيان الجنس، أي: جنس المنزَّل وهي الأنعام يكون الكلام كأنه قَالَ: وأنزل لكم الأنعام، لكنه بيَّن بعد ذلك فقَالَ: ((وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ))[الزمر:6] فهذه لبيان الجنس، وإن كَانَ لابتداء الغاية فمعنى ذلك أن الثمانية الأزواج مبتدئة من الأنعام.
    فمعاني الحروف من حيث الجملة هي من الأمور الدقيقة، ولكن كلا الوجهين محتملين والمعنى واضح عَلَى كلا الوجهين، فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو الذي أنزل هذه الأنعام، وهذه الأنعام منها هذه الأزواج الثمانية فهي أيضاً من الأنعام أي: تبتدأ منها، و"من" تأتي لبيان الجنس، وتأتي لابتداء الغاية وتأتي للتبعيض، وتأتي زائدة إِلَى غير ذلك من المعاني المعروفة في اللغة، وفي علم التفسير.
    وهذه الآية يجوز فيها الوجهان وعلى كلا الوجهين: معنى العلو هو كما سبق لا ينتقض ولله الحمد وهذا هو الذي يهمنا هنا.
  4. الرد على القائلين : إن كلام الله معنى قائم بنفسه

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ وقوله: [وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً]، الإشارة إلى ما ذكره من التكلم به على الوجه المذكور وإنزاله، أي: هذا قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهم السلف الصالح، وأن هذا حق وصدق.
    وقوله: "وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية"، رده على المعتزلة وغيرهم بهذا القول ظاهر، وفي قوله: "بالحقيقة" رد على من قال: إنه معنى واحد قام بذات الله لم يسمع منه، وإنما هو الكلام النفساني، لأنه لا يقال لمن قام به الكلام النفساني ولم يتكلم به: إن هذا كلام حقيقة، وإلا للزم أن يكون الأخرس متكلماً، ولزم ألا يكون الذي في المصحف عند الإطلاق هو القرآن ولا كلام الله، ولكن عبارة عنه ليست هي كلام الله، كما لو أشار أخرس إلى شخص بإشارة فهم بها مقصوده، فكتب ذلك الشخص عبارته عن المعنى، الذي أوحاه إليه ذلك الأخرس، فالمكتوب هو عبارة ذلك الشخص عن ذلك المعنى، وهذا المثل مطابق غاية المطابقة لما يقولونه، وإن كان الله تعالى لا يسميه أحد (أخرس) لكن عندهم أن الملك فهم منه معنى قائماً بنفسه، لم يسمع منه حرفاً ولا صوتاً؛ بل فهم معنى مجرداً ثم عبر عنه، فهو الذي أحدث نظم القرآن وتأليفه العربي، أو أن الله خلق في بعض الأجسام كالهواء الذي هو دون الملك هذه العبارة.
    ويقال لِمَن قال: إنه معنى واحد: هل سمع موسى عليه السلام جميع المعنى أو بعضه؟ فإن قال: سمعه كله فقد زعم أنه سمع جميع كلام الله، وفساد هذا ظاهر، وإن قال: بعضه، فقد قال: يتبعض وكذلك كل من كلمه الله، أو أنزل إليه شيئاً من كلامه .
    ولمَّا قال تعالى للملائكة: ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة)) [البقرة:30] ولما قال لهم: ((اسْجُدُوا لِآدَمَ)) [البقرة:34] وأمثال ذلك هل هذا جميع كلامه أو بعضه؟ فإن قال: إنه جميعه، فهذا مكابرة، وإن قال بعضه فقد اعترف بتعدده ] إهـ.

    الشرح:
    في هذا الكلام بين المصنف أن هذا مذهب السلف الصالح وأنهم صدقوا أن يكون القرآن كلام الله منزل غير مخلوق حقاً، وأنهم آمنوا بذلك بالحقيقة وفي قوله بالحقيقة تأكيد في الرد على القائلين بأنه معنى واحد قائم بالذات، أي: المعنى النفسي القائم بذات الباري سبحانه وتعالى لم يتكلم به، ولم يسمعه منه الملك فضلاً عن أنه سمعها غير الملك.
    ولهذا عاد فألزمهم بما قد سبق أن ذكره، وهو أن إثبات الكلام النفسي يلزم منه أن يكون الأخرس متكلماً، وهذا واضح لأنَّا إذا قلنا: فلان يتكلم بمعنى أن غيره يعبر عنه أو يحكي عنه، فإن الأخرس يقال له متكلم لأن غيره يحكي عنه ويلزم منه أيضاً ألا يكون الذي في المصحف عند الإطلاق هو كلام الله عز وجل .
    أما الماتريدية والأشعرية الذين أصّل مذهبهم ابن كلاب، فيلزمهم أن يقولوا: إن هذا ليس كلام الله وقد ذكرنا أنهم يقولون: إن القرآن الذي في المصحف مخلوق، ولكنهم قالوا: لا يُقال ذلك إلا في مقام التعليم ولا يقال أمام العامة، حتى لا يفهم عنهم أنهم معتزلة.
    فنحن نقول: إن هناك كلاماً نفسياً وكلاماً لفظياً لكن لا يقال إلا في مقام التعليم
    : وإن هذا الكلام المقروء المسموع المكتوب مخلوق، وأما النفسي فإنه غير مخلوق، فهذا مذهب الكلابية الذي تفرع منه الأشعرية والماتريدية، وهم يقولون إن الله -عز وجل- لا يتكلم، أو أن الله -سبحانه وتعالى- كلَّم واحداً من الناس فكتب هذا الكلام، فإنه لم يسمع حرفاً ولا صوتاً، وإنما كتب هذا المعنى أو هذا الكلام، والمكتوب هو: عبارة أو حكاية عن كلام الله -عز وجل- فمن خلال هذا المثال يتضح أن مذهبهم باطل.
    وهم لم يقولوا: إن الله أخرس -كما ذكر المصنف- ولا يلتزمون ذلك !
    فنقول هذا لازم لكم، ولو تأملتم فإنه لا فرق بين هذين المثالين، فلا بد أن تثبتوا أنه -سبحانه وتعالى- يتكلم حقيقة، وأن الملك يسمع منه الكلام على الحقيقة،
    ثم ينقله الرسول الذي يسمع منه.
    وأيضاً: القول بأن الله خلق كلامه في الملك نفس الشيء أو في الهواء أو في أي شيء آخر كما يقوله بعضهم، ثم يرد عليه أيضاً بحجة عقلية قوية وهي: أنكم يا كلابية من أشعرية وماتريدية تقولون: إن القرآن معنى واحد: الخبر والأمر والنهي والاستفهام كله واحد.
    وقلنا كما سبق أن هذا الكلام معناه أنّ قوله تعالى:
    ((وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى))[الإسراء:32] مثل قوله تعالى: ((لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ))[النساء:43] وهذا غير معقول؛ لكنهم يقولون: إنَّ معنى ذلك واحد، إن عُبِّرَ عنه بالعربية كان قرآنا، أو بالعبرانية كان تواره، أو بالسريانية كان إنجيلاً إلى آخر ما يفصلون في كتبهم.

    فيقال: ما الذي سمع موسى عليه السلام من ربه -عز وجل- لما كلمه؟
    إن قالوا: سمع جميع كلام الله؛ لأنه معنى واحد لا يتجزأ ولا يتبعض، فهذا واضح البطلان؛ لأنه إنما سمع بعضه.
    وإن قالوا: سمع البعض.
    قلنا: إذاً قد أقررتم أنتم بالتبعيض وبالتعدد، فقد ناقضتم أنفسكم، وهذا اعتراف منكم بأن قولكم: "إنه معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد قائم بالنفس" باطل، ثم نقول: هل سمع موسى عليه السلام كل ما في نفس الله سبحانه وتعالى، فإن قالوا نعم فهذا باطل؛ لأنه -سبحانه وتعالى- لا أحد يحيط بعلمه أبداً فعلمه -سبحانه وتعالى- فوق إدراك كل إنسان.
    والله -عز وجل- إذا كلَّم إنساناً، فإنما يُكلمه بشيء قليل جداً بالنسبة كلامه -عز وجل- الذي لو كان البحر مداداً له لنفد البحر بل تنفد سبعة أبحر قبل أن تنفد كلماته سبحانه وتعالى، فإذاً موسى سمع شيئاً قليلاً جداً من كلام الله عز وجل، وعلى قولكم: إنه معنى في النفس هل يفهم جميع المعاني أي: كل ما في نفس الله -عز وجل- يفهمه أو يعلمه إنسان يكلمه الله عز وجل؟! هذه الأمثلة براهين وحجج واضحة تدل على بطلان مذهبهم.
    وكذلك مخاطبة الله عز وجل للملائكة:((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)) ولما قال لهم: ((اسْجُدُوا لِآدَم)) وعندما يُخاطبُ الله عز وجل، عيسى يوم القيامة عليه السلام((أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّه)) [المائدة:116] .
    هل هذا الكلام هو كل كلام الله عز وجل؟
    لا يقول ذلك عاقل؛ لأن هذا بعض كلام الله، ومعناه واضح والحمد لله، ويسمعه عيسى عليه السلام، ويجيب عليه السلام بما ذكر الله -عز وجل- في القرآن،
    إذاً فالقول بأنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور سماعه، مكابرة للعقول ومن يقرأ في الحواشي العضدية والنسفية في التعليق على هذا الكلام يجد الألغاز المعماة المعقدة في شرح معنى أن الله تكلم، ومعنى الكلام، ومعنى كلام نفسي، يجد أشياء غريبة جداً، ولو أن هذا هو ديننا الذي أنزله الله والذي يجب أن نعتقده، لما دخل الجنة أحد إلا هؤلاء أصحاب الألغاز، وهم أيضاً متناقضون مختلفون، فلا ندري من يدخل الجنة منهم، سبحان الله!
    فالله -عز وجل- أنزل إلينا الدين واضحاً جلياً، فكل ذي فطرة وعقل سليم يفهم من معنى الكلام أن الكلام منه بدأ، وهو الذي تكلم به على الحقيقة، أما كيفية كلام الله -عز وجل- فشأنها كشأن سائر الصفات لا نخوض في الكيفية، ولن تدركها عقولنا بأية حال من الأحوال هذا غاية ما يمكن أن يقال في هذا الموضع .
  5. أقوال الناس في مسمى الكلام والقول

     المرفق    
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
    [وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق أربعة أقوال:
    أحدها: أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً، كما يتناول لفظ الإِنسَان للروح والبدن معاً، وهذا قول السلف.
    الثاني: أنه اسم للفظ فقط، والمعنى ليس جزء مسماه، بل هو مدلول مسماه، وهذا قول جماعة من المعتزلة وغيرهم.
    الثالث: أنه اسم للمعنى فقط، وإطلاقه عَلَى الفظ مجاز؛ لأنه دالٌ عليه، وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه.
    الرابع: أنه مشترك بين اللفظ والمعنى، وهذا قول بعض المتأخرين من الكلابية.
    ولهم قول خامس يروى عن أبي الحسن أنه مجاز في كلام الله حقيقة في كلام الآدميين؛ لأن حروف الآدميين تقوم بهم فلا يكون الكلام قائماً بغير المتكلم بخلاف كلام الله، فإنه لا يقوم عنده بالله، فيمتنع أن يكون كلامه، وهذا مبسوط في موضعه] إهـ.

    الشرح:
    هذا الكلام استطراد لكن لا بأس أن نعرفه وإن كَانَ ليس مهماً لأنه من فضول العلم وهو في الحقيقة خوض في أمور فلسفية وذلك أنهم تأملون فَقَالُوا: هل الكلام -حقيقة- هو اللفظ، أي: هل هذه الألفاظ (ك، ت، ب) مجردة عن المعنى هي الكلام؟ أو أن الكلام يطلق عَلَى اللفظ بمعناه مع بعض دون فصل بينهما، أو يطلق عَلَى واحد منهما؟ هذا من التفصيل الذي خاض فيه المتأخرون، والأقوال فيه أربعة، وذكر المُصنِّفُ قولاً خامساً في ذلك.
    القول الأول: ما عليه السلف الصالح، وعليه العقلاء من النَّاس أجمعين أن الكلام يتناول اللفظ والمعنى بغير فصل، كما أن كلمة إنسان تتناول البدن والروح، أي الجانب الظاهر منه والجانب الباطن فالكلام يشمل الصوت الذي يصدر من الحلق أو الحرف مع المعنى أيضاً المقترن به ولا انفكاك بينها.

    والقول الثاني الذين قالوا: الكلام في الحقيقة هو اللفظ فقط، أي: مجرد الحروف أو مجرد الهواء الذي يخرج من الأجهزة الصوتية، وأما المعنى فهو يطلق عليه بالمجاز أو هو مدلوله، وهذا مذهب جماعة من المعتزلة.
    والقول الثالث: قول الأشعرية وهو ضد قول المعتزلة أن الكلام في الحقيقة هو المعنى وأما الألفاظ التي تخرج فهذه لا تسمى كلاماً إلا مجازاً.

    والقول الرابع قول طائفة من الأشعرية الكلابية أنه مشترك بين اللفظين.
    والفرق بين قول السلف وقول الكلابية أنه مشترك بين اللفظ والمعنى، أن السلف يقولون: إنه يتناول اللفظ والمعنى معاً بدون انفصال: فإذ قال متكلم كلمة فإنه قال بحرف وصوت مع المعنى الذي يقصد ذلك المتكلم معاً بلا انفصال بينها، لكن هَؤُلاءِ يقولون هو مشترك بين اللفظ والمعنى، أي: يطلق عَلَى مجرد الألفاظ أنها كلام ويطلق عَلَى المعنى الواحد أنه كلام بخلاف مذهب السلف فإن الكلام يطلق عَلَى الاثنين، ولا يطلق عَلَى مجرد الكلام النفسي كلاماً في مذهب السلف ولا العقلاء جميعاً إلا إذا جَاءَ مقيداً كَانَ تقول: تكلمت في نفسي فنفهم منه أنك أسررت شيئاً في نفسك ولكن لم تبح به.

    القول الخامس: يروى عن أبي الحسن الأشعري أنه مجاز في كلام الله حقيقة في كلام الآدميين.