المادة    
قال أبو جعفر الطّّحاويّ:
[فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوساً تائها، شاكاً زائغاً لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً]
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[يتذبذب؛ يضطرب ويتردد، وهذه الحالة التي وصفها الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إِلَى علم الكلام المذموم، أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنة، وعند التعارض يتأول النص ويرده إِلَى الرأي والآراء المختلفة، فيؤول أمره إِلَى الحيرة والضلال والشك، كما قال ابن رشد الحفيد - وهو من أعلم النَّاس بمذهب الفلاسفة ومقالاتهم، في كتابه تهافت التهافت: "ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يُعتدُّ به؟‍!" وكذلك الآمدي أفضل أهل زمانه واقف في المسائل الكبار حائر، وكذلك الغزالي رَحِمَهُ اللهُ، انتهى آخر أمره إِلَى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثُمَّ أعرض عن تلك الطرق، وأقبل عَلَى أحاديث الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمات وصحيح الإمام البُخَارِيّ عَلَى صدره، وكذلك أبو عبد الله مُحَمَّد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنفه في: أقسام اللذات:
نهاية إقدام العقول عقال            وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا            وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا            سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
فكم قد رأينا من رجال ودولة            فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها            رجال فزالوا والجبال جبال
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفى عليلاً. ولا تروى غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طـه:5] ((إِلَيْهِ يَصعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ))[فاطر: 10]. وأقرأ في النفي: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)) [طـه:110] ثُمَّ قَالَ: (ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي).
وكذلك قال الشيخ: أبو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الكريم الشهرستاني، إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلِمين إلا الحيرة والندم، حيث قَالَ:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها            وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر            على ذقن أو قارعاً سن نادم
وكذلك قَالَ: أبو المعالي الجويني رَحِمَهُ اللهُ: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إِلَى ما بلغ ما اشتغلت به، وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـابن الجويني، وها أنا ذا أموت عَلَى عقيدة أمي، أو قَالَ: عَلَى عقيدة عجائز نيسابور] إهـ.

الشرح:
كما هو معلوم أن العلم الذي يورث اليقين، والخشية، والثمرة الصالحة -وهي الأعمال الصالحة- التي تقرب إِلَى الله تعالى، هو العلم الذي جَاءَ به الكتاب والسنة، وأنزله الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- شفاء ورحمة وحياة ونوراً وهدىً للناس.
  1. آثار العلم غير النافع

    أما ما عدا ذلك، ما يناقضه ويضاده من أنواع العلوم والمعارف الأخرى، فإنها لا تفضي إِلَى اليقين، ولا تثمر العمل الصالح، بل مآلها إِلَى الخسارة والشك والحيرة والرّيب التي تقتل الإِنسَان وهو حي بين الناس، وتورث له العمى في بصيرته وعقله وفكره فالإِنسَان قد يولد سليماً معافى في بصره، ثُمَّ يصاب بآفة أو مرض أو عاهة، فيعمى بصره فيرى الدنيا وهي ظلام، فلا يهتدي فيه إِلَى شيء، وتضيق عليه الأرض بما رحبت، فكذلك الإِنسَان يولد عَلَى الفطرة.
    فإذا تعلم العلم النافع من الكتاب والسنة، وأخذ من العلوم التي لا تتعارض مع الكتاب والسنة، فإنه يزداد نوراً إِلَى نوره وهداية إِلَى هدايته، فإذا دخله الشك والريب نتيجة العلوم التي تورث ذلك ذهبت بصيرته، وذهب نور قلبه، فيصبح كالأعمى الذي يتخبط ويحار ويضيق، فهو مريض ولكنه في هيئة المعافى، ألا ترون إِلَى الذي يبتلى بمرض من الأمراض النفسية تراه يرى وهو لا يدري ماذا يرى، ويرى البشر ولكنه في الحقيقة لا يراهم، كيف تكون حياة هذا الإِنسَان؟ ومن ذلك الإِنسَان الذي يغبطه عَلَى هذه الحياة، أو يتمنى أن يكون مثله؟ هذا هو الحاصل والواقع في عالم المادة، وفي عالم الحس وفي عالم البصيرة، وفي عالم الحقيقة.
  2. أثر العلم غير النافع على أصحاب العقول

    تجد ممن يستمون بالعلماء: أصحاب عقول راجحة، وأصحاب فكر ورأي ثاقب تركوا القُرْآن والسنة وأعرضوا عما أنزله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، مما يورث اليقين، ويذهب الريب والشك، واتجهوا إِلَى علوم اليونان من الفلسفة وعلم الكلام والجدل، والمناظرات في أمور لا خير فيها، أو ليست مما يدرك بالنظر، ولا بالعقل ولا بالبحث، ولا بالجدال، فآل أمرهم وحالهم إِلَى أن وقعوا في هذا الريب، وفي هذا الشك، الذي عبروا عنه، وكل منهم عبر عنه بما يتفق مع ما بذل من حياته، وجهده إن كَانَ قد وفق إِلَى التوبة في آخر عمره.