المادة    
فمراتب القدر عند أهل السنة نثبتها بآيات وأحاديث لا تعقيد فيها:
  1. مرتبة العلم

    فنثبت العلم لله عَزَّ وَجَلَّ أنه عليم بما كَانَ وما سيكون يقول الإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللَّهُ: "ناظروا القدرية بالعلم" فاختصر علينا الطريق، ومعنى ذلك: قولوا لهم: هل يعلم الله ما سنفعل من خير أو شر، وما سيقع إِلَى أن تقوم الساعة؟
    فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كَفَرُوا أي: أننا من غير أن نبحث عن علاقة فعل العبد بفعل الرب، والتأثير، والكشف، نمسك الطريق من أوله، ونقول له: أتؤمن أن الله يعلم ما كَانَ وما سيكون إِلَى قيام الساعة، ويعلم من سيطيعه ومن سيعصيه، فإذا أقر بهذا خصم حينئذ يقال له: من علم ذلك، أليس هو الذي خلقه؟! أليس هو الذي أوجده؟! أليس مبنياً عَلَى العلم والعلم مقتضاه الحكمة والعدل والرحمة؟!
    وإذا أنكروا علم الله كفروا؛ لأنهم أنكروا ما هو معلوم من كتاب الله وعند جميع الْمُسْلِمِينَ بالضرورة.
  2. مرتبة الكتابة

    والمرتبة الثانية: بعد مرتبة العلم أن الله كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما في الحديث الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أول ما خلق الله القلم، فَقَالَ له: اكتب، قال: وما أكتب، قال: اكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة} فكتب ما كَانَ وما سيكون من خير أو شر، من مصيبة أو طاعة أو معصية، فكل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ كما قال تعالى: ((وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ))[يس:12].
    فنقول لمن يشكك في القدر: هل تؤمن بالمرتبة الثانية، وهي: أن الله كتب مقادير كل شيء؟ فَيَقُولُ: نعم، ولا يستطيع أن ينكر هذا؛ لأنه لو أنكره لكان حكمه كحكم من أنكر العلم.
  3. مرتبة المشيئـة

    المرتبة الثالثة: وهي أن نثبت أن لله تَعَالَى مشيئة، وأنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يفعل ما يشاء، كما قال الله تعالى:((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ))[التكوير:29] ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)) [البقرة:253] ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ))[الأنعام:112] ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً)) [يونس:99] آيات كثيرة في إثبات المشيئة.
  4. مرتبة الخلق

    المرتبة الربعة: مرتبة الخلق فأمر علمه الله وكتبه وشاءه، فما المانع من أن يخلقه؟ فخلق الله تَعَالَى هذا الفعل طاعة كَانَ أم معصية.
    فإن قَالَ: قائل أمر كتبه الله وشاءه وخلقه إذاً ماذا أعمل؟ نقول: هذا الكلام سبق إليه أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يمكن أبداً أن يأتي أي جيل من الأجيال أذكى وأدق وأعلم من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى في الأمور السياسية، وفي فن القتال، ونحن نتحدى كل العالم في الزمان الماضي وفي المستقبل أن يأتوا في منهج السياسة العادلة الحكيمة مثل سياسة عُمَر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أو في القضاء مثل أي قاضي من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو في فن القتال والتخطيط الحربي مثل أي أحد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله لا يستطيعون ولن يستطيعوا أبداً، فكيف يكون حالهم في أمر الدين والعقيدة، الذي تفجرت به هذه الطاقات ووجدت هذه المعارف وهذه العلوم التي لا تُحصّل أبداً بدون الإيمان!!
    فالصحابة -رضوان الله عليهم- انتبهوا لهذه اللفظة وقالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا رَسُول الله: ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم فقال لا بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم }، وهذا الحديث صحيح روي بعدة روايات وفي رواية أخرى {قالوا: ففيم العمل يا رَسُول الله؟}.
    السؤال سألوه وهم أفضل وأذكى جيل. قالوا: يا رَسُول الله إن كَانَ العمل في أمر قد قضي ومضي وجفت به الصحف ورفعت الأقلام ففي أي شيء العمل؟
    قَالَ: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له فمن كَانَ من أهل السعادة فهو ميسر لعمل أهل السعادة، ومن كَانَ من أهل الشقاوة فهو ميسر لعمل أهل الشقاوة، وقرأ ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى))[الليل:5-10]}
    أذكى النَّاس في الدنيا سألوا هذا السؤال، وأجابهم أعلم الخلق عَلَى الإطلاق بالله عَزَّ وَجَلَّ وبالقضاء والقدر، قال لهم: (اعملوا) وقَالَ: {كلٌ مُيَسرٌ لِمَا خُلِقَ لهُ} وعندما يأتي حديث عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: {وأن الملك يكتب عند نفخ الروح أربع كلمات رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد} نفهم هذا الحديث بنفس كلام عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ لما قَالَ: [[السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه]] فالمعنى واحد: السعادة كتبت عَلَى الإِنسَان فيسر لها، والشقاوة كتبت عَلَى الإِنسَان فسوف ييسر لعمل أهل الشقاوة. ومع ذلك أمرنا بالعمل. إذاً: لا يوجد لأي إنسان مجال أن يقول نريد في أمور الدين أن نشقق وأن نحلل وأن نوضح؛ لأن هذه التفريعات والتشقيقات والتحليلات لا تزيد الأمر إلا تعقيداً، كما قال هذا الشاعر:
    يحللون بزعم منهم عقدا            وبالذي وضعوه زادت العقد
    فيعقدون المسألة في أي باب من أبواب الإيمان بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-
    وستأتي النقولات عن أئمة الكلام واعترافاتهم وبعضهم لا يعترف إلا عند الموت كما فعل الجويني، والرازي أو قريب الموت كما فعل الغزالي حين يكون العمر لا يسمح للإنسان بأن يبدأ الطريق من أوله.