المادة    
قول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [ولا يتكلم إلا بعلم] العلم هو ما قام عليه الدليل، هذه هي حقيقة العلم أما ما عدا ذلك مما لم يقم عليه دليل فإنه ظن، والظن((لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً))[يونس:36] وهذه الكلمة -أي: العلم- تشمل العلم الشرعي وغير الشرعي، والعلم الشرعي يقوم عَلَى الدليل من الكتاب أو السنة أو القياس أو الفهم الصحيح للأدلة.
  1. تعريف العلم الدنيوي

    العلم الدنيوي الحقيقي هو: الذي قام عليه الدليل من تجربة أو برهان من البراهين الذي يكفي مثلها لصحة هذا العلم.
  2. النافع من العلم

    قول المُصنِّف -رحمه الله تعالى-: [والنافع منه ما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ].
    أي: أن أنفع العلوم وأفضلها هو ما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأن عليه تتوقف سعادة الإِنسَان في الدنيا والآخرة وعليه يتوقف الهدى والضلال، وهذا أعظم مطلب، فحاجة النَّاس إِلَى معرفة الهدى والضلال أعظم من حاجتهم إِلَى معرفة علم الطب مثلاً لأن حاجتك إِلَى أن تعرف ما يدلك إِلَى طريق الجنة ويباعدك عن طريق النَّار أعظم من حاجتك إِلَى معرفة ما يدلك إِلَى طريق السلامة والعافية مما يدلك إِلَى طريق المرض والهلاك، فإن الإِنسَان لو هلك وكان من أهل الجنة لما خسر شيئاً، ولكن لو سلم وعوفي في بدنه وكان من أهل النَّار فإن هذا هو الخسران المبين.
    وبذلك نعلم أهمية هذا العلم الشرعي دون أن ننقص من الأهمية للعلم الدنيوي الآخر، وقد يقول قائل: أنتم تقولون: لا نأخذ العلم إلا من الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فهل الطب والفلاحة، والهندسة، والكيمياء، والفيزياء، أتت من طريق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى لا نأخذها إلا من طريقه؟
    نقول ليس هذا هو المراد؛ لأن الأصل في بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو تبيين طريق الهداية لنا، وكذلك القُرْآن هو هدى ونور وشفاء وموعظة وذكرى، وما عدا ذلك من الأمور فهي بالتبع وليست بالأصالة.
    إذاً: فأصل ما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس أمور الدنيا، ومن هنا يكون قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
    {أنتم أعلم بأمور دنياكم}. ولو أن الفلاسفة والمفكرين أجهدوا أنفسهم في معرفة الزراعة والطب والهندسة لأحسنوا إِلَى الإِنسَانية -لأن لديهم عقولاً ضخمة جبارة- ولأراحوا أنفسهم من العناء، لكن تركوا هذه التي أمروا أن يفكروا فيها، وأخذوا يفكرون في أمور الرسالة.
  3. مثل من يعرض عن ما أنزل الله

    ومثل النَّاس الذين يعرضون عن الحق والهدى مع وضوحه مثل رجل جَاءَ وقَالَ: أنا أريد أن أعرف علم الجغرافيا فقيل له: إن الجغرافيا علم موجود من القديم، وهذه الخرائط والأنهار والجبال والنباتات والجغرافيا الطبيعية والاقتصادية موجودة، فقَالَ: حتى نصدق بهذا العلم لا بد أن نعرض هذا العلم عَلَى عقولنا وعلى أنظارنا وأن نفكر، ثُمَّ أخذ يقيس خط الاستواء وأخذ الذراع، ويريد أن يذرع خط الاستواء!
    وكم خطوط الطول وكم خطوط العرض؟
    وكم طول البحر الأحمر؟
    وكم تبعد مدينة القاهرة عن بغداد؟
    فهذا الرجل يكون مدعاة للسخرية، بل هو شخص مسكين ضعيف العقل يرثى له! وهذا هو واقع وحال الذين يتركون ما أنزل الله تَعَالَى.
    ومعنى قول الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم - لقد تركنا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا أنبأنا منه علماً أي: أخبرنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يصلحنا في دنيانا وفي أخرانا وأخبرنا وبما يصلح قلوبنا، ومعاملاتنا مع أهلينا ومجتمعنا، والمعاملة الناجحة بين الراعي والرعية، وبين الجار وجاره، وبين العبد وربه، وأخبرنا كيف يأتينا الموت؟
    وكيف ننتقل إِلَى القبر؟
    وماذا يحدث لنا في القبر؟
    وكيف تقوم الساعة؟
    وكيف نحاسب؟
    وكيف نرد الصراط؟
    وكيف يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النَّار النار؟
    فهذا كلام لا يمكن أن تتخيله العقول ولا تصل إليه، مع ذلك فقد وضحه رَسُول الله لنا توضيحاً شافياً كاملاً، حتى كأننا نرى كل هذه الأمور، وما بقي إلا يقع حقيقة هذا الذي أنت قد رأيته بقلبك وإحساسك.
    ثُمَّ يأتي هَؤُلاءِ ويقولون: نلغي كل هذه العلوم، ويفكرون في الروح، وما هي الروح؟
    وكيف تخرج؟
    وأين تذهب؟
    وأين يذهب الإِنسَان؟
    ومن أين جاء؟
    والله قد كفانا ذلك، أخبرنا عن ذلك كله.
    وقس عَلَى هذا كثيراً من الأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي قد بينها الله حق البيان.
    ثُمَّ تأتي الدول الاشتراكية والرأسمالية وغيرها، ويتنازعون في وضع قوانين ونظم ينطلقون من خلالها في تعاملاتهم وحياتهم، فيختلفون في ذلك أشد الخلاف، ويعقدون المؤتمرات تلو المؤتمرات ولا يخرجون بنتيجة عَلَى الإطلاق مع أن الحق والهدى بين أيديهم. هذا في الأمور التي تدرك بالعقول وتنضبط بالمعايير المحسوسة، فكيف بأمور الغيب والتي لاتدرك بالحس ولا بالعقول؟!
    وصدق الله إذ يقول:((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً))[النساء:82] لقد رحمنا الله وأعطانا هذا الدين القويم، وأرسل إلينا هذا النبي العظيم، وأنزل إلينا القُرْآن هذا الذكر الحكيم، وأعطانا كل الخير والهدى واضحاً جلياً، فهذا هو الحق وهذا هو العلم الصحيح الذي هو أعظم وأشرف هذه العلوم، فيجب علينا أن نتمسك بالكتاب والسنة، وأن نعبد الله عَلَى بينة وبرهان، وإن أعرضنا فإننا سوف نلتمس الهدى من عند الذين يخوضون ويبحثون، ولن يعرفوا حقيقة الروح ولن يعرفوا نشأة الكون ولا نهايته، ولن يعلموا الغيب وما يؤول إليه الإِنسَان بعد موته، وكيف يعيش في الدار الآخرة؟
    لا يمكن أن يصلوا إِلَى شيء من هذا؛ بل هم خراصون في ذلك كما قال الله، ويفترون عليه الكذب ويضيعون في أودية الكذب، حتى يأتي أحدهم الموت، وهو لم يخرج من هذه الدنيا بخير ولا فائدة.
  4. الأمور الإلهية لا مجال للعقل فيها

    وقول المُصنِّف رحمه الله تعالى:
    [وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية فهذه العلم فيها، ما أخذ عن الرَّسُول لا غير] أي: العلم في هذه الأمور الإلهية وهي ما يتعلق بالله -عَزَّ وَجَلَّ- والمعارف الدينية؛ نأخذه من الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن رحمة الله أن أرشدنا إِلَى القواعد العامة التي تتعلق بأمور الدنيا، والتي فيها صلاح أبداننا وصلاح عقولنا، فهل نعارض هذا بهذا ونقول مثلاً حديث الذباب لا يصلح؟
    ونقول: كون السماوات جرم ولها أبواب وتفتح نرده؟
    ونقول: هو اللانهاية، كما يقول علماء الفلك؛ بل نقول: كل ما جَاءَ عن الله ورسوله إن كَانَ من الأصل وهو الهداية أو كَانَ من الأمور التي جاءت تبعاً، وهي الكونية والمعارف والعلوم الدنيوية، فإنه حتى فيما جاءت به هذه العلوم يقدم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ما قالوه، ولا يتعارض -بإذن الله- نقل صحيح مع عقل صريح.