المادة    
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[وكلام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ يرد قول من قَالَ: إنه معنى واحد لا يتصور سماعه منه، وأن المسموع المنزَّل المقروء والمكتوب ليس كلام الله، وإنما هو عبارة عنه، فإن الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ يقول: كلام الله منه بدا، وكذلك قال غيره من السلف، ويقولون: منه بدا، وإليه يعود، وإنما قالوا: منه بدا، لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون: إنه خلق الكلام في محل، فبدا الكلام من ذلك المحل، فَقَالَ السلف: منه بدا، أي: هو المتكلم به، فمنه بدا لا من بعض المخلوقات كما قال تعالى: ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ))[الزمر:1]((وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي))[السجدة:13] وقال:((قُلْ نزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ))[النحل:102] ومعنى قولهم: وإليه يعود، أي: يرفع من الصدور والمصاحف، فلا يبقى في الصدور منه آية، ولا في المصاحف كما جَاءَ ذلك في عدة آثار] اهـ.
الشرح:
هذه الفقرة من كلام المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ استمرار في الرد عَلَى الحنفية، القائلين بخلاف ما قاله الإمام أبو حنيفة وأصحابه المتقدمون، الذين قالوا: إن القُرْآن معنى واحد فقط هو: ما في نفس الباري جل شأنه، فأما ما بين الدفتين المقروء والمسموع والمتلو، فإنه عبارة عن كلام الله أو حكاية أو مجاز عنه إِلَى آخر ما سبق إيضاحه.
فالمصنف -رَحِمَهُ اللهُ- يريد أن يثبت أن الإمام أبا جعفر الطّّحاويّ هو عَلَى ما كَانَ عليه الإمام أبو حنيفة وأصحابه المتقدمون لم يغير من ذلك شيئاً، بخلاف ما ذهب إليه الشراح الماتريديون الذين شرحوا العقيدة الطّّحاويّة شرحاً ماتريدياً كما أن من المالكية من شرح مقدمة ابن أبي زيد شرحاً أشعرياً رغم وضوح سلفيته؛ لأن الهوى قد لعب بالمتأخرين من الطرفين وفسروا كلام الأئمة وشرحوه بما يوافق ما ذهبوا إليه وما ارتضوه ومالوا إليه لا ما هو واضح من منطوق العبارات ومفهومها.
  1. معنى قوله [ منه بدا ]

    لا يزال المُصنِّف يشرح قول الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ [منه بدا] يرد به عَلَى من قال إنه معنى واحد لا يتصور سماعه وهم يقولون: إنه معنى واحد وما دام أنه معنى واحد فلا يتصور أن يسمع كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- وإنما يسمع الذي في المصاحف، وهو عبارة أو حكاية عبر بها جبريل أو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو نحو ذلك وتقدم في كلامه، فَيَقُولُ: إن هذا يرده العبارة المأثورة عن السلف التي قالها الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ [منه بدا وإليه يعود] وهذه عبارة سلفية مأثورة رددها العلماء من السلف والخلف من أهل السنة.
    ومعنى [منه بدأ] أي أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تكلم به عَلَى الحقيقة، وهذا يرد وينفي كل الأقوال الأخرى المخالفة، ومعنى [منه بدأ] أي ظهر كما سبق بيانه؛ لكننا إن قلنا: إنه خلقه في محل، أو عبر عنه غير الله تعالى.
    كالقول بأن جبريل هو الذي عبر عن كلام الله فمعنى ذلك أن القُرْآن بدأ من جبريل، وإذا قلنا: إنه خلقه في محل أياً كَانَ المحل، الشجرة أو غير ذلك, فمعنى ذلك أن القُرْآن بدأ أي: ظهر من المحل الذي ابتدأ الظهور منه، فهذا رد عَلَى أُولَئِكَ بالعقل الصحيح، وبالنظر السليم المتأمل في كتاب الله وسنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولهذا يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)) [الزمر:1] ويقول: ((وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي)) الآية ويقول: ((قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)) [النحل: 102].
    وكثير من الآيات التي ستأتينا أيضاً وفيها تنزيل أو أنزل أو نزل فيما يتعلق بالقرآن نجد أن فيها صفة من صفات الله ((تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)) أو ((تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)) وما أشبه ذلك كما في أول الزمر أو غافر أو فصلت أو السجدة، وفي كثير من آيات القُرْآن كلمة (تَنْزِيلُ) والنزول يأتي بعد ذكر أنه من الله، وكذلك في الأحاديث.
    وعلى ذلك درج السلف وفهم المفسرون قبل الاختلاف وقبل وقوع البدع أنه من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي)) فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقول :((وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي)) فهو من الله تَعَالَى ابتداءاً وظهوراً فهو المتكلم به عَلَى الحقيقة الذي أنشأ الكلام وقاله وتكلم به وابتدأه وظهر منه، ولم يرد في القُرْآن ولا في السنة ما يخالف ذلك ولم يفهم أحد من السلف من الصحابة أو التابعين أومن بعدهم معنىً آخر غير ذلك المعنى.
  2. معنى قوله ( وإليه يعود )

    أما قوله: [وإليه يعود] فهي تتمة عبارة [منه بدأ] ومعناها: أن من أشراط الساعة أن يرفع القُرْآن من الصدور والمصاحف فلا يبقى منه آية لا في الصدور ولا في المصاحف، كما جَاءَ ذلك في عدة آثار منها ما رواه الحاكم وابن ماجه والبيهقي والديلمي وهو حديث صحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {يدرس الإسلام، كما يَدرس وشي الثوب} ومعنى يَدرس: يمحى قليلاً قليلاً، أي يذهب نسجه قليلاً قليلاً حتى يمحى.
    قَالَ: {حتى لا يدرى ما صلاة ولا زكاة ولا صيام ولا نسك} أي يأتي قوم لا يدرون عن هذه الأمور وعن هذه الأحكام شيئاً، {ويسرى عَلَى القُرْآن في ليلة حتى لا يبقى منه آية}، فيرفع القُرْآن من المصاحف ومن الصدور، حتى جَاءَ في رواية {أن الحافظ يلقى الرجل الذي كَانَ يحفظ القُرْآن كله أو بعضه فيقول له قد كنت أحفظ شيئاً أما الآن فلا أدري ما هو} نسأل الله أن يعافينا، وأن لا يدركنا ذلك الزمان المشؤوم، الذي يرفع فيه الهدى والنور والحق والبيان والشفاء من هذه الأرض، فذلك الزمان هو زمان شرار الناس، بين يدي الساعة وقبيل قيامها.
    وفي آخره لما سأل التابعي حذيفة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: {حتى لا يبقى إلا الرجل الهرم والمرأة العجوز يقولون: أدركنا من قبلنا يقولون: لا إله إلا الله فنحن نقولها}، وفي هذا دليل عَلَى أنه لا يبقى من الإسلام إلا كلمة الشهادة، ولا يبقى عند هَؤُلاءِ النَّاس شيء إلا أنهم يعرفون أنه لا إله إلا الله، أما الصلاة والزكاة والصيام والنسك وكل الأمور المتعبد بها فلا يدرون عنها شيئاً، والقرآن ليس بينهم فلا يتلونه ولا يفقهون منه شيئاً.
    {فقَالَ: ما تنفعهم لا إله إلا الله؟ قال حذيفة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: تنجيهم من النار} في ذلك الوقت الذي لم يعد يدرى فيه عن الصلاة والزكاة ولا أي شيء من أحكام الدين إلا هذا، فمن أدركها فهو لم يدرك من الإسلام إلا هي فهو يقولها، فهذه تنجيه من النار، ثُمَّ إِلَى الله -عَزَّ وَجَلَّ- الأمر إما أن يعذبهم، ثُمَّ يخرجهم من النَّار كما هو حال الموحدين العصاة، أو أنهم يدخلون الجنة ابتداءً؛ لأنهم لم يدركوا غير ذلك.
    والمقصود أن هذه حالة خاصة في ذلك الوقت الخاص، فلا يأتي أحد يسمع آيات الله ليل نهار ويسمع ما جَاءَ في الكتاب والسنة عن الصلاة والزكاة والصيام والنسك وجميع الأعمال، ويقول: أنا أقول: لا إله إلا الله وتنجيني من النار؛ فإن هذا وضع خاص في وقت خاص -نسأل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن لا يدركنا ذلك الزمان- لأنه من شرار الخلق الذين تقوم عليهم الساعة، كما ثبت بذلك الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهَؤُلاءِ هم المؤمنون الذين هم أفضل النَّاس حينئذ وليس لديهم من الإسلام إلا هذا.
    ويحتمل والله تَعَالَى أعلم أنه كما يتضح من الأحاديث أن هذه الطائفة تكون بعد أن تأتي الريح الطيبة التي صح بها الحديث {أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يبعث ريحاً طيبة تقبض أرواح المؤمنين}، الذين قال عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تزال طائفة من أمتي عَلَى الحق منصورة يقاتلون حتى يأتي أمر الله} وأمر الله هو هذه الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين فلا يبقى من هذه الطائفة المنصورة أحد ولكن يبقى أمثال هَؤُلاءِ الذين سمعوا أن شيئاً ما يُقال له: الدين، وأن شيئاً ما هو شهادة أن لا إله إلا الله، لكن لا يدركون من مقتضياتها ولا من أركانها وأعمالها شيئاً -عافانا الله من ذلك الزمن وأهله- .
    والمقصود أن هذا الحديث صحيح، وأن دِلاَلته عَلَى أن القُرْآن يرفع ثابتة، فالقرآن بدأ من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وإليه يعود: فيرفع من هذه الأرض؛
    لأن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنزله لحكمة، ليعمل به، وتقام حدوده، ولينتفع به، فإذا ذهبت حكمة الانتفاع فإنه يرتفع، فلم يبق في وجوده فائدة بين أيدي الناس، ومن تلك الحكمة التي قد نلمسها بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يخرج دابة، كما قال تعالى: ((وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ))[النمل:82]، فيتناسب خروج الدابة مع حال النَّاس في آخر الزمان، وكان الله كلما ضلت أمة من القديم بعث إليهم رسولاً، فلما كَانَ رسولنا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم الرسل لم يبق احتمال لإرسال رسول.
    وعندما تنحدر الإِنسَانية انحداراً لا يرجى بعده صلاح تأتيهم دابة من جنس حالهم -فإنها تكون حين يقل الإيمان ويضعف الناس- وهنا تصدم حواس النَّاس وتفجعهم لأنها دابة، ومع ذلك تكلمهم وتخبرهم عن أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتبين الكافر والمنافق من المؤمن.
    فالمقصود أن ذلك الزمان لفساده وفساد أهله وقلة الخير فيه يرفع القُرْآن منه، وتخاطب فيه النَّاس الدابةُ، فذلك دليل عَلَى أنهم لا ينتفعون بعد ذلك بخير.

    فإذا طلعت الشمس من مغربها فحينئذ يقفل باب التوبة كما يقفل عند الغرغرة إذا بلغت الروح الحلقوم في حق الإِنسَان الفرد عندما يقول: ((رَبِّ ارْجِعُون))[المؤمنون:99] وكما قال فرعون: ((قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) [يونس:90] في ذلك الوقت لا ينفع الإِنسَان أن يقول لا إله إلا الله، أو أن يتوب من المعاصي ((وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً))[النساء:18] .
    فللتوبة موضعها، وللإيمان موضعه فنوصي أنفسنا وإخواننا بالإقبال عَلَى كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، وباغتنام هذه الفرصة -القرآن- ما دام أنه بين أيدينا قراءة وفهماً وحفظاً وتدبراً وعملاً ودعوةً، فإن الإِنسَان لا يُقدر الشيء حق قدره إلا إذا فات، كما أنه لا يُقدر العافية حق قدرها إلا إذا فاتت، وكذلك المال والفراغ وسائر النعم فإذا أُهمل القُرْآن ثُمَّ أُهمل وتمادى الإهمال، فإنه يرفع بالكلية، نعوذ بالله أن يدركنا ذلك الزمان.