المادة    
المذيع: هناك أيضاً الحديث عن الأسباب التي أدت إلى وجود هذه الظاهرة .. يبدو -يا شيخ!- أن عدم تعاملنا الصحيح مع الخلافات الفقهية أدى إلى هذا الأمر، وأصبحنا على قاعدة البيت الأبيض: إن لم تكن معي فأنت ضدي! مثلاً: أنا آتي وأقرر مسألة فقهية في جواز قضية معينة، فإن لم تقل بجوازها فأنت كافر، فكيف نتعامل في إطار الخلافات الفقهية حتى لا ننتقل إلى قضية التكفير أو نحو ذلك؟
الشيخ: الحقيقة أن مشكلة ضيق النظر أو ضيق الأفق في الخلاف مشكلة عميقة وقديمة، وأول من سن ذلك هم الخوارج، وأنا تحديداً تتبعت تاريخ الخوارج بدقة بقدر ما استطعت أن أحصل عليه من مراجع فوجدت أن هذه الظاهرة لديهم، فمع تكفيرهم لبني أمية، ومع تكفيرهم للصحابة، انظر إلى خلافهم إذا اختلفوا فيما بينهم كفّر بعضهم بعضاً، ولذلك انشقت الأزارقة عن الخوارج، ثم انشقت الإباضية وهكذا، ثم تشعبت، والخلاف كله كان حول امرأة تزوجها رجل ودار الخلاف بينهما، فقالوا: حكم فيها فلان ومن لم يتبرأ مما حكم به فهو كافر مثله، ثم تتسلسل فمن لم يكفر ذلك فهو كافر إلى أن تنتهي ...
فهي مشكلة منهجية خطيرة جداً لقلة التقوى، ولقلة الأفق الواسع الذي جعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتقبلون أن يختلفوا ويتناظروا ويتناقشوا، بل حتى أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور من أمور الاعتقاد، نفس أمور الاعتقاد قابلة لأن يُسأل عنها، فهذا وفد اليمن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أول هذا الأمر كيف كان، وأم المؤمنين تقول: { يا رسول الله! أكل ما نقول يعلم؟ } .. { يا رسول الله! كيف تقول: من نوقش الحساب عذب والله تعالى يقول...؟! } أمور عقدية، وفي القرآن، ومع ذلك تناقش وتأخذ بفهم وعقل وعدل، هذا ديننا.
ولكن ضيق الأفق والنظرة ومن يعلم شيئاً واحداً، وهذه حقيقة مجربة ومعالجة، ونحن درسنا طلاب وناقشنا رسائل ونعرف هذا، فالذي لا يعرف إلا دليلاً واحداً ومسألة واحدة ويعرف أنه قد خولف فرأساً كأن الدنيا قامت ولم تقعد، ثم إذا كان من أصحاب الهوى أو الغلو يحول ذلك إلى تكفير.
إن السعة العظيمة التي جعلها الله تبارك وتعالى لهذا الدين، والميزة العظيمة أنك إذا اجتهدت فأصبت فلك أجران، وإن أخطأت فلك أجر - هذه لا توجد في أي ملة ولله الحمد والشكر.
فنحن إذا نظر بعضنا إلى بعض بسعة أفق، وبرحابة صدر، كما اختلف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في أمور، وكما اختلف من بعدهم، بل أنا آتي بمسألة في صميم هذا الموضوع؛ لأن الموضوع متشعب .. هناك من المعتنقين للبدع ممن كفروا بأعيانهم، وهناك من حُكم عليه بالبدعة، ومن أصحاب البدع الغليظة كـالقدرية مثلاً، هؤلاء لهم رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن هنا نأتي فنجد أنهم يُدَونون في كتب الجرح والتعديل، وأئمة الجرح والتعديل في الإسلام هم أهل العدل والقسط، يتحرونه إلى أبعد ما يمكن من الطاقة البشرية، ما الذي نجده يا أخي الكريم؟ وما الذي يجده أي طالب علم مبتدئ؟ لكن مع الأسف نحن نغفل عن هذا.
قد تجد أن الإمام أحمد قال في فلان: مبتدع، أو قدري، أو نحوه.. لكن وثقه مثلاً البخاري أو النسائي أو أبو داود، ثم إذا انتقلت بعد قليل تجد العكس، فإذا أبو داود أو البخاري وثقوا الرجل لكن الإمام أحمد يبدعه أو يفسقه أو ربما أكثر من ذلك، كل هذا موجود، لكن هل أحد منهم كفر الآخر؟ هل أحد منهم قال: لأنك لم تكفر فأنت كافر؟ هل جاء من بعد أحمد أو أبي داود أو البخاري أحد وقال: ما دام أنه لم يكفر هذا فهو ضال، أو بدّع أو ضلل لأن ذاك لم يضلّل أو لم يبدّع؟ لا نجد هذا أبداً، فإن الأمة الإسلامية -والحمد لله- بطبيعتها وعلمها وبأدق علومها، فيما يختص بالحديث عن الرجال وعن الناس لا نجد هذا المنهج أبداً؛ لأن كلاً منهم قال بما علم، واجتهد في أن يقول، واجتهد في أن يحكم، وربما كان علمه متقدماً وذاك كان علمه متأخراً، وربما قال هذا عن جانب والآخر قال عن جانب آخر، وربما هذا بلغه بلسان ضعيف وذاك بلغه بلسان صحيح، وربما.. وربما.. هناك علل كثيرة، لكن نحن نجزم -ولا نزكيهم على الله- أنه لا أحد من هؤلاء الأئمة إلا وهو مجتهد مأجور، إن أصاب أو إن أخطأ.
لكن للأسف في هذه الأيام لو أنك سُئلت عن رجل فزكيته أو لم تكفره ينتقل التكفير إليك فوراً وإلى من بعدك أيضاً، وهذه ظاهرة غريبة جداً!
المذيع: لأن عندهم قضية: من لم يكفر الكافر فهو كافر.
الشيخ: وهذه ينبني عليها من هو الكافر؟ الكافر هو اليهودي أو النصراني أو الذي شك في كفره، لكن لو كنت أنا وأنت مختلفين في الحكم على هذا الرجل بالكفر، فهذا ليس بكافر عندي وإن كان كافراً عندك أو بالعكس، لكن لو اتفقنا على الكفر المتفق عليه المحدد المضبوط الواضح فنعم، فلو جاء أحد وقال: اليهود والنصارى ليسوا بكفار؛ فهذا الذي يكفر؛ لأنه لم يكفر الكافرين، وهذا هو مقصود العلماء في قولهم: أن من لم يكفر الكفار أو شك في ذلك فهو كافر؛ لأن هذا ينبني عليه أنه لا يعلم دين الإسلام.
مثلما يأتي الآن بعض الناس ويشك في بعض البدع، البدع الظاهرة المعروفة جداً، كـالرافضة والخوارج وغيرها، ويقول: ليس عندهم بدع، وهم مسلمون.. فلو كان يعرف دينه وعقيدته هو ويعرف عقيدة هؤلاء لما تلفظ بهذه العبارات، ولا شك في ذلك.
فالمسألة تحتاج إلى أن تضبط بالعلم الشرعي وأن تُؤصّل، وأن يجتنب فيها -بقدر الإمكان- جانب الهوى؛ لأن هذه مشكلة -كما أشرنا قبل قليل- وهناك من لا يستوعب أن يجد خلافاً في أمر من الأمور.
القضية كما نعلم -وهذا أيضاً من الأصول التي أرجو الله عز وجل أن ينفع بها إخواني جميعاً- أن الأحكام العملية واضحة، وأنه يجب أو ينبغي أو المعتاد نظرياً وعقلاً أن يكون الخلاف فيها أقل من الأمور العلمية الاعتقادية الخبرية، وبعض الناس لا يدرك ذلك، لكن نحن نجد في واقع الأمر وواقع الحال أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في الأمور العملية التي لا تحتمل قولين .. مثلاً: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الكسوف مرة واحدة، ومعنى أنه صلى مرة واحدة فإنه لا يحتمل فيها شيئان، فإما أنه فعل كذا أو فعل كذا، لكن البعض يأتي إلى هذا الأمر ولا يطيق أن يتأمل فيه، فكيف إذا حدث الخلاف في الأمور العملية؟
مثلاً: حديث: {إنما الماء من الماء}، وهو حديث صحيح، وكان بعض السلف من الصحابة على هذا الحديث، فلا يوجبون الغسل بمجرد التقاء الختانين كما في الحديث الآخر، مثلاً.
فما دام أن الخلاف وقع في القضايا العملية الواسعة والمشتهرة واليومية والمتكررة، فلماذا نستغرب وقوع الخلاف في الأمور العلمية الاعتقادية الخبرية؟ ومن هنا زل كثير من العباد والصالحين في مسألة القدر، أو زلوا في مسألة الإرجاء، لا عن قصد الضلال والانحراف، ولا يجوز تقليدهم في ذلك، نحن لا نتكلم أن هذا جائز أو أنه سائغ، لكن نتكلم أنه واقع وممكن ومتخيل ومتصور من غير أن نحكم على ذلك الفاعل أنه كفر أو حارب الدين، أو أراد بعمله هذا محادة الله ورسوله.