المادة    
قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-:
[والذي يدل عليه كلام الطّّحاويّ -رَحِمَهُ اللهُ-: أنه تَعَالَى لم يزل متكلماً إذا شاء كيف شاء، وأن نوع كلامه قديم، وكذلك ظاهر كلام الإمام أبي حنيفة -رضي الله عنه- في الفقه الأكبر فإنه قَالَ: (والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق وكتابتنا له مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة والقرآن غير مخلوق، وما ذكره الله في القُرْآن عن موسى عَلَيْهِ السَّلام وغيره من الأَنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام وعن فرعون وإبليس، فإن ذلك كله كلام الله إخباراً عنهم، وكلام الله غير مخلوق، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله لا كلامهم، وسمع موسى عَلَيْهِ السَّلام كلام الله تعالى، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته لم يزل، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا ويتكلم لا ككلامنا) انتهى.
فقوله: ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له من صفاته يعلم منه أنه حين جَاءَ كلمه، لا أنه لم يزل ولا يزال أزلاً وأبداً يقول: يا موسى كما يفهم ذلك من قوله تعالى:((وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ)) [الأعراف:143] ففهم منه الرد عَلَى من يقول من أصحابه: أنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع وإنما يخلق الله الصوت في الهواء، كما قال أبو منصور الماتريدي وغيره. وقوله: الذي هو من صفاته لم يزل رد عَلَى من يقول: إنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلماً] إهـ.

الشرح:
في طبعة الشيخ الأرنؤوط أن المتن الذي نقله المصنف، نقله من نفس متن شرح الفقه الأكبر وقد سبق الحديث عن كتاب الفقه الأكبر، ونسبته إِلَى الإمام أبي حنيفة صحيحة عند الحنفية، وأما إذا نظرنا إِلَى رجال السند فإنه يشك في نسبته إليه، بل لا يصح السند لأنه مروي من طريق أبي مطيع البلخي وهو الحكم بن عبد الله أحد فقهاء الحنفية في القرن الثالث، وهو ضعيف في الرواية؛ بل قد اتهم بأكثر من الضعف، ومع ذلك فهو من فقهاء الحنفية المعتبرين في الفقه، وهم يوثقونه، ويرون أن ما ينسبه إِلَى الإمام أبي حنيفة فهو كلام موثوق مقبول.
وكتاب الفقه الأكبر -على ما فيه من بعض الأخطاء التي هي من وضع أبي مطيع البلخي؛ إلا أن الذي يبدو عند التحقيق أن الكتاب له أصل عن الإمام أبي حنيفة، ولكن أبا مطيع البلخي أضاف إليه من عنده أشياء ونسبه كله للإمام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، ولو أن الحنفية -على ما في الكتاب من بعض المخالفات كما في مسألة الإيمان- التزموا بما فيه لكان أهون، ولكنهم ليسوا متمسكين بما في الفقه الأكبر مع أنهم يصححون نسبته إِلَى الإمام أبي حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- وليسوا أيضاً عَلَى ما في هذه العقيدة الطّّحاويّة (المتن) مع أن الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ من كبار أئمتهم المعتبرين المعدودين، وهم مع ذلك قد خالفوا هَؤُلاءِ الأئمة.
  1. مذهب الإمام أبي حنيفة في الكلام عن القرآن

    يقول الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى-كما في كتابه الفقه الأكبر: (والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق، وكتابتنا له مخلوقه، وقراءتنا له مخلوقة، والقرآن غير مخلوق، وما ذكره الله في القُرْآن حكاية عن موسى وغيره من الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم وعن فرعون وإبليس فإن ذلك كله كلام الله تعالى، إخباراً عنهم.
    وكلام الله غير مخلوق وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله لا كلامهم، وسمع موسى عَلَيْهِ السَّلام كلام الله تَعَالَى فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين يعلم لا كعلمنا ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا ويتكلم لا ككلامنا) اهـ.
    هذا هو النص الموجود في الفقه الأكبر وفي شرحه للملا علي القاري أحد الحنفية المتأخرين المتوفي في القرن العاشر، وقد نقل المُصنِّف هذا الكلام ليستدل به عَلَى أنه مطابق لما ذكره -أيضاً- الإمام الطّّحاويّ في المتن، فعندنا الإمام أبو حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ- الذي أصَّل المذهب الذي يُنتسب إليه الأحناف المتوفي سنة (150هـ)، والإمام الطّّحاويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- المتوفي سنة 321هـ والإمام ابن أبي العز هَؤُلاءِ الثلاثة هم من عمد المذهب، الأول إمام المذهب، والثاني من الأئمة المشهورين في عصره، والثالث كَانَ من كبار قضاة الحنفية بل وغيرهم في زمانه؛ لأنه وُلي ما يُسمى "قاضي القضاة"، أي رئيس القضاء الأعلى في البلد في أيام المماليك.
    فهَؤُلاءِ الثلاثة يقولون قولاً واحداً وهو أن القُرْآن كلام الله غير مخلوق، ويخالفون في ذلك الماتريدية
    ، وقلنا إن أبا منصور الماتريدي: رجل عاش في القرن الرابع في بلاد ما وراء النهر وينتسب إِلَى الإمام أبي حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ- في الفقه لكنه تعلق بعلم الكلام، وناظر المعتزلة وناقشهم وأكثر من مخالفتهم، وكان متأثراً بالمنهج الكلامي في الجملة، فخرج عن كثير مما قرره الإمام -أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ، وأصبح الأحناف ينتسبون إليه في العقيدة وينتسبون إِلَى الإمام أبي حنيفة في الفقه.
    والمصنف يريد هنا أن يبين أن الحنفية مخطئون عندما يتبعون أبا منصور، ويتركون كلام الطّّحاويّ، والإمام أبو حنيفة الذي ينتسبون إليه، فيأتي من الفقه الأكبر بما يدل عَلَى مطابقته لكلام الطّّحاويّ؛ لأن بعض الحنفية يشرحون العقيدة الطّّحاويّة شرحاً ماتريدياً، ويؤولون الألفاظ والكلمات التي جاءت فيها، ولا يستغرب ذلك لأنهم قد أولوا الآيات، وأولوا الأحاديث، فلا يستغرب أن يؤلوا أيضاً كلام الإمام الطّّحاويّ أو كلام الإمام أبي حنيفة لكن من كَانَ له فهم وعقل سليم فإنه يستطيع أن يقارن الكلام ويفهم، فهذا النص الذي قرأناه واضح كل الوضوح، في مخالفته لكلام الماتريدية.
    والشراح المتأخيرن الذين شرحوا عقيدة الطّّحاويّ، وَقَالُوا: إن الإمام أبا حنيفة وأبا جعفر الطّّحاويّ يقولان بالكلام النفسي، وذلك أن في هذا النص كلمة وهي قول الإمام: [فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل] قالوا: ومعنى ذلك: أن الإمام أبا حنيفة يقول: إن الله تَعَالَى لما كلم موسى كلَّمه بالكلام الذي هو من صفاته في الأزل وليس هناك من صفاته في الأزل إلا الكلام النفسي، أما الكلام الذي هو حروف وأصوات مسموعة فهذا ليس في الأزل، فحرفوا كلام الإمام مع أن أوله واضح كل الوضوح، أن القُرْآن كلام الله في المصاحف مكتوب وفي القلوب محفوظ وعلى الألسن مقروء.
    وكذلك نص أكثر من مرة أن القُرْآن غير مخلوق وأنه كلام الله، وهم يقولون: كلام الله هو الكلام النفسي فقط، أما الحروف فإنها مخلوقة.
    فكلام الإمام أبي حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ- واضح في الرد عَلَى هذا القول، لكنهم وجدوا هذه الكلمة فأخذوا يحرفونها ويحرفون بها بقية الكلام، فأتى الإمام هنا ليرد عليهم، ويقول: إن قوله: [ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل] يُعلم منه: أنه حين جَاءَ موسى، كلمه الله تَعَالَى لا أنه لم يزل ولا يزال أبداً يتكلم؛ لأن كلمة (في الأزل) مضمونها أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- اتصف بهذه الصفة في الأزل، ولو كَانَ عَلَى كلامهم أن الصفة التي في الأزل كلم بها موسى، لكان لا يزال وما يزال أبداً وأزلاً ينادي يا موسى يا موسى يا موسى، وهذا لا يقول به عاقل.

    وإنما لما جَاءَ موسى كلمه، وهنا تكون الخصوصية لموسى عَلَيْهِ السَّلام أنه سمع كلام الله، أما إذا كَانَ كلام الله هو ما في نفسه، والذي سمعه موسى كلاماً مخلوقاً خلقه الله، فإنه لا ميزة لموسى بكونه كليم الله؛لأن الله خلق الكلام في عمرو وفي زيد وفي فلان وفلان وأنا أسمع كلام الله الذي خلقه في فلان وفلان عَلَى قولهم، فعلى هذا ليس هناك أي فرق بين موسى عَلَيْهِ السَّلام وبين أي إنسان آخر، إلا أن يكون موسى سمع كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- وكلمه وليس بينه وبين موسى ترجمان ولا واسطة، فإذاً هذا الكلام يرد عَلَى قول الماتريدية، والحنفية المتأخرين عموماً.
    فقولهم -كما يقول المصنف-: إنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء) فيقولون: من المُحال أن يسمع كلام الله، لأن كلام الله صفة أزلية قائمة بنفسه تعالى، فكيف يمكن لأحد أن يسمع شيئاً في نفس الباري جل شأنه؟
    لا يمكن هذا أبداً، فالإمام أبو حنيفة ينص عَلَى أن الله كلم موسى عَلَيْهِ السَّلام كما هو في القرآن، ويقول الماتريدي: إن الله يخلق صوتاً في الهواء فيسمعه المخاطب فيقول هذا كلام الله، فيقول المُصنِّف رداً عليه: أين الدليل عَلَى أن الله خلق الصوت في الهواء؟ من كَانَ منكم حاضراً من أهل الكلام عندما كلَّم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى موسى حتى تقولوا إن الله خلقه في الهواء! فهذا من التحريف والقول عَلَى الله بغير علم ومن الافتراء عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
    فيقولون: لم يكن متكلماً ولكن حدث له الكلام بعد ذلك، فيقول الإمام ابن أبي العز: إن هذا الكلام من أبي حنيفة هو رد عَلَى أُولَئِكَ لأنه قَالَ: إنه القُرْآن كله كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ ذكر أنه كلم موسى بكلامه الذي هو له صفة وذكر أن الله تَعَالَى متصف بهذا الكلام في الأزل، وأنه يتكلم متى شاء كيف شاء، فهذا هو الرد عَلَى من يقول: إنه حدث له الكلام بعد أن لم يكن متكلماً تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً.

    فاتضح بذلك أن كلام الإمام أبو حنيفة موافق لما عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ وكذلك الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ وهو الذي رجحه هنا، وأن بقية الأقوال مرجوحة.
  2. الرد على من زعم أن أبا حنيفة قال : ( لفظي بالقرآن مخلوق )

    أما قول الإمام أبو حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ- في قوله: (القرآن كلام الله) حيث قَالَ: (لفظنا بالقرآن مخلوق، وكتابتنا له مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة، والقرآن غير مخلوق) فهذه الكلمة لا بد أن تشرح وأن يعقب عليها؛ لأن الإمام أَحْمَد- رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالَ: (ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع) والإمام أبو حنيفة يقول هنا: (لفظي بالقرآن مخلوق).
    فنقول: أولاً: أننا لا نستطيع أن ننسب إِلَى الإمام أبي حنيفة كل كلمة وردت في كتاب الفقه الأكبر، وإنما الراجح المؤكد أن أبا مطيع البلخي أدخل كلمات كثيرة ضمن كلام الإمام أبي حنيفة ومن الأدلة عَلَى ذلك هذه الكلمة (لفظي بالقرآن مخلوق)؛ لأن الكلام في قضية اللفظ: هل يُقال مخلوق أو غير مخلوق؟ لم يحدث إلا بعد حدوث الفتنة بفترة، أي: بعد سنة مئتين وعشرة هجرية.
    والإمام أبو حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ- توفي سنة مائة وخمسين هجرية، فلا يمكن أن يتكلم الإمام أبو حنيفة بشيء لم يكن قد وقع الخلاف فيه بعد،
    وإنما حدث هذا الكلام في بداية أيام المعتزلة الأوائل الذين كانوا قبله أو معاصرين له، فبدؤا يثيرون هذا الكلام بينهم، ولكن لم يصل الأمر إِلَى حد أن يتعمقوا في مسائل خلق القُرْآن وعدمها إِلَى أن يصلوا إِلَى القول بأن اللفظ مخلوق أو غير مخلوق، إذاً: لا يصح ذلك عن أحد من الأئمة قبل وقوع الفتنة.
    ثانياً: أن هذه العبارة تحتمل معنىً خطأً ومعنىً صواباً والإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللَّهُ- يريد بقوله: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع" أن يقطع ويحسم المادة نهائياً فلا يقول أحد لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق ولهذا قال بعضهم: حيَّرنا هذا الرجل ماذا نقول؟ إن قلنا: مخلوق لا يرضى، وإن قلنا: غير مخلوق لا يرضى إذاً ما الذي يرضيه؟!
    نقول: إن الذي يرضي الإمام أَحْمَد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ويرضي علماء السلف هو ما يرضي الله ورسوله وهو أننا نقف عند كلام الله ورسوله ولا نزيد عليه.
    فنقول: القُرْآن كلام الله غير مخلوق ونثبت لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذا الكلام وننفي عنه ما أثبته له المبتدعة وغيرهم، ولا نجاوز ذلك إِلَى أن نتعمق في أمور أخرى هذا هو الأصل الذي كَانَ يريده الإمام أَحْمَد بذلك؛ لكن لما أن توسع النَّاس في هذا الكلام وتجادلوا واختلفوا فحينئذ لا بد أن نفهم ما الذي كَانَ يريده الإمام أَحْمَد بهذه الكلمة وما حكم من يقولها.

    ذكر الإمام أَحْمَد-رَحِمَهُ اللَّهُ- أن الجهمية يقول أحدهم: لفظي بالقرآن مخلوق، وهم يريدون أن نقر بأن القُرْآن مخلوق؛ لأن الجهمية والمعتزلة والأشعرية -كلهم يسمون جهمية- لا يثبتون لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- صفة الكلام، ويقولون: إن القُرْآن مخلوق، والقرآن هو ما نقرؤه ونحفظه ونكتبه، ومع ذلك يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق، ومعنى كلامهم أن القُرْآن مخلوق فيتوصل بهذه التورية إِلَى أن يقول عقيدته ويجاهر بها، فالإمام أَحْمَد- رَحِمَهُ اللَّهُ- تنبه لهذا فقَالَ: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي.
    ولكن الآخرين الذين قالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق فهَؤُلاءِ وقعوا في بدعة أخرى، أرادوا أن ينزهوا كلام الله ولكنهم وقعوا في بدعة لم يقلها أحد من سلف الأمة؛ لأنه لم ينزه الله تَعَالَى بهذه اللفظة أحداً؛ لأن كلام البشر مخلوق، ولأن قراءة وكتابة البشر مخلوقة، فإذا قال السُني -الذي يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق- يقصد من ذلك: أن كلام الله تَعَالَى الذي أقرأه غير مخلوق، لكن يأتي الجهمي فَيَقُولُ: انظروا إِلَى هَؤُلاءِ الذين يقولون: إن حروفهم وأصواتهم أزلية وتعرفون أن الأشعرية الجهمية والمعتزلة يقولون: إن الحنابلة والحشوية يقولون: المداد قديم، والورق قديم، ولفظهم قديم وقد علق بعضهم في شرح عَلَى العقائد العضدية فقَالَ: فما بقي إلا أن يقولوا: إن الكاتب أزلي قديم.
    فهم يعيبون أهل السنة ويسمونهم حشوية؛ لأنهم يقولون إن قراءتنا للقرآن لا تنفي عنه أنه كلام الله ولا يخرجه من كونه كلام الله. وكلام الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أزلي قديم، فيقولون: أنتم تقولون حروفكم أزلية، والمداد المكتوب به أزلي، إذاً: كل شيء أزلي حتى الكاتب فأنتم خرجتم وجئتم بكلام لا يقبله أي عاقل عَلَى الإطلاق.
    ومقصود أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ليس هو هذا، وإنما مقصودهم: أن القُرْآن الذي نقرؤه نحن، سواء كَانَ مقروءاً بألسنتنا أو مكتوبا بأيدينا فهو غير مخلوق، ولا يعنون نفس الكتاب والمداد ونفس الحروف التي نخرجها من أفواهنا، وإنما يقصدون بذلك المضمون الذي هو القُرْآن نفسه كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، فالإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللَّهُ- لا يريد هذا ولا ذاك، وإنما نقف حيث وقف السلف الصالح.

    لكننا نفصل القول ونبين فنقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق ويقصد بذلك أن قراءته وحروفه أو أصواته مخلوقة، فهذا صحيح ومن قَالَ: لفظي بالقرآن مخلوق أي: أن القُرْآن مخلوق -ولا قرآن إلا هذا الذي نقرأه ونتلفظ به- وليس لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صفة التكلم وإنما كلامه الذي خلقه فينا أو في الشجرة أو غيرها فهذا جهمي.
    وكذلك الذي يقول: إنه غير مخلوق، نقول: إن كَانَ يريد بقوله: غير مخلوق، الكلام النفسي، فهو غير مخلوق فهذا الكلام صحيح، وإن كَانَ يريد به كلامه وأصواته وقراءته هو له، فهذا مردود؛ لأن القُرْآن يطلق ويراد به القراءة، ويطلق ويراد به ما في المصحف الذي هو كلام الله (المقروء).

    وكلمة قرآن في اللغة العربية: مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرأ قرءاناً، وجاء ذلك في شعر العرب كقول أحدهم:
    يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً
    أي يقطع الليل تسبيحاً وقراءةً؛ بل جَاءَ ذلك في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ حيث يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً)) [الإسراء: 78] أي: قراءة الفجر، ليس المقصود هنا القُرْآن الذي هو كلام الله، بل قرآن الفجر: قراءته، وأيضاً منه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {زينوا القُرْآن بأصواتكم} أي: زينوا قراءتكم بالتجويد والترتيل، ويأتي القُرْآن بمعنى كلام الله كما قال الله تعالى:((إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ))[الواقعة:77] أي كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- فالذي يقصد القراءة فالقراءة مخلوقة بلا شك، والذي يقصد القُرْآن الذي هو كلام الله فكلام الله غير مخلوق بلا شك.