المادة    
والطرق التي يثبت بها المتكلمون النبوة إما أنها معجزة، أو آية مشاهدة خارقة، أو أنها تواتر ينقله جملة عن جملة عن جملة. وقد جَاءَ في السير أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرسل إِلَى هرقل إلا رجلاً واحداً وهو دحية الكلبي، وفي السير وفي كتب التاريخ اختلاف في إرسال دحية الكلبي، هل أرسله مرتين أو مرة واحدة؟
وهل جاءه إِلَى بصرى ثُمَّ ذهب إِلَى الشام؟
وهل هي واقعة أو واقعتين؟
المهم أنه رجل واحد أرسله النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ولو فرضنا أنه أرسل اثنين أو ثلاثة لما كَانَ ذلك يبلغ مبلغ التواتر الذي يشترطه المتكلمون.

إن أول من جَاءَ بهذه الثلمة ووضعها في دين الإسلام، وأراد أن يفسد بها عقائد الْمُسْلِمِينَ، هم المعتزلة.
خاصة اثنان من علماء المعتزلة:
الأول منهما: أبو الهذيل العلاف.
والآخر هو: إبراهيم النظام.
  1. النظام والعلاف أرادا هدم الدين

    فـالعلاف والنظام أرادا أن يهدما دين الإسلام، وقد كَانَ النظام برهمياً عَلَى دين الهنود فأراد أن يهدم ملة الإسلام، فأعلن الإسلام ودخل فيه وتفلسف، ثُمَّ مال إِلَى المذهب المسمى بالاعتزال الذي أسسه واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد كما سبق شرح ذلك فيما مضى.
  2. النظام والعلاف يركبان في مذهب الإعتزال مبادئ فلسفية

    ورث العلاف والنظام الاعتزال من واصل ومن عمرو بن عبيد وركبا فيه مبادئ فلسفية، أخذوها من الصابئة ومن فلاسفة الهنود ونحو ذلك، وكان من فلسفة الهند أن البشر لا يحتاجون إِلَى الأنبياء، فـالبرهمية ينكرون النبوات.
    حتى أنهم يقولون: إن بوذا الذي ينتسب إليه اليوم أكثر من خمسمائة مليون وهم عَلَى دينه البوذية ليس بنبي، وكذلك (تفنييوس) الذي يُنسب إليه أهل الصين إلى اليوم يقول أتباعه: إنه ليس بنبي، وإنما هو رجل مصلح، ورجل حكيم فقط.
    فهم ينتمون إِلَى دين ينكر النبوات ولا يثبتها. ويقولون: إن الحكمة العقلية يستغنى بها عن ذلك.
    والنظام كَانَ في الأصل من هَؤُلاءِ القوم فجاء إِلَى دين الإسلام، وأراد أن يهدم النبوة ويهدم دلائل النبوة ولكن بطريقة خفية، فقَالَ: لا يمكن إثبات نبوة النبي إلا بالمعجزة.
    وآية خارقة يفعلها، وهذه المعجزة أو هذه الآية لا تثبت إلا بالتواتر، ثُمَّ بعد ذلك اختلفوا في تحديد التواتر، فَقَالُوا: سبعين عن سبعين عن سبعين شخص، واختلف المعتزلة بعد ذلك، فَقَالَ بعضهم: ثلاثين، وقال بعضهم: عشرين.
    ولو طبقنا هذا عَلَى ما جَاءَ في السنة من الآيات الحسية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإننا قد لا نجد هذه الأعداد؛ لكنهم يريدون بهذا أن يتوصلوا إِلَى هدم الدين ولكن من بعيد،
    وبستار خفي.
    ولقد تنبه علماء الإسلام إِلَى ذلك، وكفروا هَؤُلاءِ.
    وقد اخترع النظام والعلاف أموراً كثيرة تدل عَلَى أن كلاً منهما لم يكن يؤمن حقاً بدين الإسلام، وإنما كَانَ غرضه الهدم، فحصروا معرفة النبوة وحصول اليقين في التواتر فقط، وإلا فما عند الحكماء وما عند الفلاسفة يغني عن النبوة.
  3. الرد على ما اشترطه المتكلمون في باب النبوة

    لو أن عاقلاً فكر في كلامهم هذا لوجد أنه بالإمكان أن نرد عليهم ببساطه جداً، وذلك أن ما ورثه النظام والعلاف-ثُمَّ من تبعهم من المتكلمين من أشعرية وغيرهم- من طريق الفلاسفة، كيف ثبت لديهم؟ وكيف وصل إليهم؟
    هذا هو السؤال الذي يوجه إليهم، فنسألهم ونقول: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفي في السنة العاشرة أي: أن بينه وبين عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء حوالي مائة سنة فقط، ومائة وخمسين أو مائة وستين سنة بينه وبين العلاف والنظام، لكن كم بين العلاف والنظام وبين أرسطو وأفلاطون؟! قرون طويلة، مئات من السنين.
    وما كتبه أرسطو وأفلاطون كتبوه بلغتهم، وهذه اللغة ترجمت، ثُمَّ ترجم من الترجمة أحياناً ثلاث ترجمات أو أربع حتى وصل إِلَى اللغة العربية التي كَانَ العلاف والنظام يقرؤون بها، فلم تصلهم بالسند، ولم تصلهم بنفس اللغة التي كتبوها، ومع ذلك يقولون: هذه عقليات، وهذه قواطع، وهذه يقينيات!!

    أما النصوص والأحاديث النبوية التي جاءت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعتبرونها من قبيل أخبار الآحاد فلا تثبت!!
    فلو أن العاقل تدبر هذا لعلم أنهم مجرد هدامين هذا أمر.
    والأمر الآخر أن القُرْآن -ولله الحمد- قد ثبت بالتواتر الذي لم يقع لأي كتاب في الأرض عَلَى الإطلاق، فالآلاف ترويه عن الآلاف، فلو أن هَؤُلاءِ القوم تهمهم مسألة التواتر والآحاد لآمنوا بما جَاءَ في القُرْآن كله، ثُمَّ نناقشهم في السنة؛ لكنهم يقولون: القُرْآن يصرف عن معناه إِلَى معاني مجازية، إِلَى التأويل.
    والسنة غير متواترة، والمتواتر منها في نظرهم إذا كَانَ موجوداً يعامل معاملة القُرْآن يصرف بالمجاز وبالتأويل، إذا عَلَى قولهم هذا لم يبقوا كتاباًً ولا سنة، المتواتر أولوه والآحاد ردوه، وعليه فليس هناك وسيلة للعلم الشرعي؛ بل إن وجود القُرْآن والسنة عَلَى هذا الحال حسب كلامهم يصبح عائقاً بين النَّاس وبين الحق والعياذ بالله؛ لأن النَّاس كَانَ في إمكانهم أن يأتوا إِلَى ما كتبه أرسطو وأفلاطون والعلاف والنظام، ويأخذوا الحق منه مباشرة.
    فجاء القُرْآن وجاءت السنة فأشتغل النَّاس بتأويل هذا ورد هذا فكان مشغلة، وكان حاجزاً بين النَّاس وبين الحق عَلَى كلام هذين الخبيثين وأمثالهما.
    فمن هنا تعلم القضية التي أشار إليها المؤلف أن العلم اليقيني والعلم الضروري يحصل بطرق أخرى كثيرة.
  4. النبي يرسل إلى ملوك الأرض آحاداً من الناس

    إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل إِلَى ملوك الأرض آحاداً يبلغون النَّاس الدين، فلو أن كل أمة جاءت وقالت: لا نؤمن ولا نصدق بأن هذا الكتاب من عنده إلا إذا جاءنا من سبعين عن سبعين إِلَى آخره لكان هذا جنوناً في عقولهم، قبل أن يكون تكذيباً للرَسُول الذي أرسل هذا الرسول.
    وهذا أمر معروف لدى سائر البشر حتى اليوم، فإن لديهم علامات، ولديهم قرائن للحق غير التواتر.
    فلو أن النَّاس أخذوا هذا المبدأ، وَقَالُوا: لا نتعامل إلا بما ينقله جمع عن جمع لكلف ذلك شططاً، ولكنت تحتاج إذا أردت أن تشهد عَلَى قضية أو تكتب عن مسألة أن تشهد عليها سبعين أو عشرين، كما اشترط هَؤُلاءِ المتكلمون، ثُمَّ بعد ذلك يكون اليقين.
    وهكذا فالعاقل إذا تأمل ذلك يجد أنهم مجانبون للصواب بوضوح، وإنما كَانَ قصدهم زندقة وهدم لدين الإسلام، ولذلك ينبه المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى شيء من كيفية حصول العلم وكيفية حصول اليقين في القلوب.
  5. بعثة محمد صلى الله عليه وسلم تشغل أذهان كفار زمانه وعقولهم

    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
    [ومما ينبغي أن يعرف: أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور قد لا يستقل بعضها به، بل ما يحصل للإنسان من شبع وري وشكر وفرح وغم بأمور مجتمعة لا يحصل ببعضها؛ لكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر.
    وكذلك العلم بخبر من الأخبار، فإن خبر الواحد يحصل للقلب نوع ظن، ثُمَّ الآخر يقويه، إِلَى أن ينتهي إِلَى العلم، حتى يتزايد ويقوى، وكذلك الأدلة عَلَى الصدق والكذب ونحو ذلك] اهـ.

    الشرح:
    يذكر المصنف: أن هناك قرائن وأموراً تجتمع في أي قضية فتحولها إِلَى يقين، وضرب أمثلة بحال الإِنسَان في الأكل والشرب وغير ذلك.
    فالإِنسَان إذا أكل شيئاً من الطعام حصل له شيء من الاكتفاء، فإذا أكل كثيراً حصل له الشبع التام هذا في المحسوسات.
    وكذلك اليقين في الأخبار العادية، فإنه إذا حدثك رجلٌ أن أمراً ما قد حدث، فإنه سيحصل عندك نوع من العلم بأن هذا الأمر قد وقع فعلاً؛ لكن لو حدثك آخر ثُمَّ آخر، ثُمَّ قرأته في كتاب، ثُمَّ سمعت النَّاس يتحدثون عنه، لحصل لديك به علم يقيني.
    بحيث لو جاءك إنسان آخر وقَالَ: هذا الكلام كله لم يحصل ولم يقع، فسيكون لك ردة فعل عَلَى هذا الكلام، ولا يمكن أن يدفع ما ثبت عندك يقيناً.

    وهكذا كَانَ حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لما بعث صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تناقلت الركبان أخبار بعثته كما في حديث أبي ذر الغفاري المعروف الذي رواه البُخَارِيّ ومسلم فإنه لما سمع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد خرج، أرسل أخاه فَقَالَ له: ائتني بخبر هذا الرجل الذي قد خرجَ، والقصة معروفة.
    وغيرها كثير ممن سمع بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحج، أو في أسواق العرب التي كَانَ يغشاها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويبلغ الدعوة فيها، ويتحدث عنها النَّاس وتأتيهم الأخبار من الذين يؤمنون من أقوامهم فيذهبون إليهم، ويقولون لهم: ذهبنا إِلَى هذا النبي، ورأيناه ووجدناه يدعو إِلَى كذا وكذا فيؤمن القوم أو بعضهم.
    ثُمَّ بعد ذلك يأتي وفدهم إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما حصل للوفود التي وفدت إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد آمنوا بنبوته، ولكن وفدوا يريدون اليقين، فعندما يسألونه ويرونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي اليقين الكامل بصدق نبوته، وقد يبقى أيضاً من الشكوك عند البعض الآخر فيرتدوا ثُمَّ تكون الحرب عليهم.
    الشاهد من هذا أن الخبر - دائماً - يحصل ويأتي إِلَى النفس بطريقة انفرادية، ثُمَّ ما يزال يقوى وتجتمع منه أمور معينة تجعله يتأكد وهذا يدل عَلَى أنه ليس من الشرط لحصول اليقين أن تلزم طريقاً واحداً، كما يلزمنا به المتكلمون من المعتزلة أو غيرهم، وطبيعة الحياة، وطبيعة الاجتماع البشري تكون في الأخبار والأحداث العظيمة عَلَى الطريقة التي ذكرنا، وليس هناك حدث أعظم وأضخم من حدث النبوة أو دعوى النبوة.

    إنها قضية كبرى عند جميع الناس، فالذين بعث إليهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت النبوة عندهم حدث عظيم؛ لأنه لم يبعث فيهم نذير ولا بشير قبله، فكان لا بد أن يستغرق أذهانهم بالتفكير فيه، ولا سيما أن هذا المبعوث بعث في قلب مركز وثنيتهم وعبادتهم، وبجوار البيت الذي يعظمونه جميعاً، ومن نفس الأسرة التي هي أشرف الأسر، وهو من ذرية إسماعيل عَلَيْهِ السَّلام ولد إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، اللذين بنيا هذا البيت، وأما الروم واليهود وأمثالهم فإن لديهم الكتبَ التي فيها صفات هذا النبي، وكانوا ينتظرون زمانه، وقد أخبر كثير منهم بأن هذا الزمان هو زمان هذا النبي فعندما كانوا يتحسسون الأخبار كما حصل من بحيرا الراهب الذي كَانَ في بصرى، فقد كَانَ يخرج من الصومعة ويتحسس الأخبار، وينزل عَلَى طريق القوافل التجارية بين بلاد العرب وبين الروم، ويقول: هل ظهر نبي آخر الزمان؟ هل جاءكم أحد؟ هل أخبركم أحد؟ حتى وجد ركباً فأخبروه أنه قد ظهر نبي آخر الزمان.
    وأيضاً الراهبان اللذان تعبد عندهما سلمان الفارسي رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ ما زال كل واحد منهم يسلمه إِلَى الآخر، إِلَى أن قال له :آخرهم: (لا أعلم أحداً اليوم في الأرض عَلَى ما أنا عليه إلا أن نبي هذا الزمان قد ظهر فالتمسه في بلاد العرب، في أرض ذات نخل بين حرتين)، ولهذا جَاءَ سلمان الفارسي يبحث عن الدين لذاً كَانَ اهتمام القوم بهذا الأمر عظيماً؛ لأنهم يترقبون هذا النبي ويتوقعونه فأخذت آياته تظهر.

    وكانت أعظم آيات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي رآها أُولَئِكَ النَّاس أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الإِنسَان يرى هذه الأمة التي تحولت من عبادة الأوثان وشرب الخمور ووأد البنات والظلم والنهب والجور إِلَى أمة مؤمنة تقية عادلة بارة، لم يشهد التاريخ فاتحاً أرحم منها، ولا حاكماً أعدل منها، تتواصى بالحق وبالصبر، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتبعث مكارم الأخلاق التي اندثرت في قلوب الأمم عَلَى مر القرون.
    فكان الرجل من الأمم إذا رأى أحداً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو استطلع أخبارهم وأحوال جيش الْمُسْلِمِينَ يتعجب أشد العجب من أخلاق هذه الأمة ومن تعاملها، وهذا هو الذي يغزو قلوب النَّاس أكثر مما تغزوهم المسائل النظرية والجدلية.
    وما زال خبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتردد بينهم، وآياته تظهر حتى صدقوا وآمنوا، ودخلوا في دين الله برغبة وصدق، مع أنهم لم يكونوا يفهمون اللغة العربية إلا من كَانَ عربياً بطبعه، ومن تعلمها فيما بعد، فآمنوا وحملوا السيوف للجهاد، وآمنت أمم في أصقاع الدنيا وجاهدت من أجل هذا الدين، بناء عَلَى هذه الآيات الواضحات في خلق أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الحق الذي جَاءَ به هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبمقارنته بالفطرة وبمكارم الأخلاق التي تؤمن بها كل فطرة سليمة، ويهدي إليها كل عقل رشيد سليم، فهذا من أعظم الآيات الدالة عَلَى صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون حاجة إِلَى ما ذكره أُولَئِكَ المتكلمون،
    وهناك أدلة أخرى سيذكرها المؤلف أيضاً.