المادة    
قال أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وقدَّر لهم أقداراً]
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[قال تعالى:: ((وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً))[الفرقان:2] وقال تعالى: ((إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ))[القمر:49] وقال تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً[الأحزاب:38] وقال تعالى: ((الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى))[الأعلى:2، 3]، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه عَلَى الماء}]إهـ.

الشرح:
أقول: إن جملة: [وقدر لهم أقداراً].
فيها دليل عَلَى إثبات القدر والمقادير أو التقدير.
فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب فكتب مقادير كل شيء، فلا يقع بعد ذلك شيء في الدنيا إلا وهو موافق ومطابق لما كتبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يمكن أن يرد أحد من النَّاس ما قدره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقضاه.
وقد سبق شرح هذا في مبحث الإرادة.
ومن أركان الإيمان الستة: أن يؤمن الإِنسَان بالقدر أي: بأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عالم بكل شيء، وذلك قبل أن توجد هذه الأشياء وقبل أن تخلق، وأنه قدر كل ما كَانَ وما سيكون وكتب ذلك عنده، وأن الخير والشر من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يتنافى هذا مع ما قد سبق تقريره من أن سبب الخير فضل من الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وسبب الشر ذنب العبد، ثُمَّ إن ما كتبه - سبحانه - وقدره لا معقب له، ولا راد لقضائه بأي وجه من الوجوه، بل كما قال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا عَلَى أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف}.
فهذا دليل من أدلة كثيرة عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد كتب القدر، وقدر المقادير أو التقدير.
  1. الفرق بين القدر والتقدير

    والتقدير بمعنى: الخلق ومقادير المخلوقات بمعنى الموازين التي توزن به، وخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل شيء بقدر قال تعالى: ((وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً))[الفرقان:2] فقوله: ((فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً))هو من هذا الباب أيضاً من باب التقدير الذي هو بمعنى وضع الأمور أي بخلق كل شيء، عَلَى مقتضى الحكمة التي قدرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وشاءها، فهذه مقادير المخلوقات من الحياة والموت، ومن الحجم والطول والعرض.
    وتقدير الأمور هو أيضاً من خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال سبحانه: ((الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى))[الأعلى:2-3] فهذا من "التقدير" لا من "القدر"، وإن كَانَ المعنى اللفظي واحد، والفرق بينهما أن القدر الذي هو ركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علم كل شيء، وكتبه، وقضاه، وقدره، وأنه لا يقع إلا وفق ما علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكتبه وقدره وقضاه، وأنه لا يخرج عن هذا الأمر شيء، وأما إيماننا بتقدير الله مقادير المخلوقات فهذا جزء من إيماننا بأنه هو وحده الخالق، الحكيم، البارئ، المصور سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا الحديث قد سبق أن شرحناه وشرحنا قوله: وإن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه عَلَى الماء.

    ولم يخالف في إثبات القدر إلا القدرية ومن المعلوم أن مراتب القدر أربع: ومن القدرية من خالف في إثبات المرتبة الأولى وهي العلم، وهذه أقل فرقهم وقد سبق أن ذكرنا أن من أنكر العلم من القدرية فهو كافر.
  2. أكثر الاختلاف في القدر هو في باب أفعال المخلوقين

    أكثر الخلاف في القدر هو في أفعال المخلوقين وليس في العلم، ولهذا جَاءَ بالجملة التالية وهي امتداد لهذه الجملة، ليرد بذلك على المعتزلة الذين يقولون: إن الآجال ليست من تقدير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو أن الآجال تقع خلاف ما كتب الله عَلَى النحو الذي سنفصله.
    يقول أبو جعفر الطّّحاويّ رحمه الله تعالى:
    [وضرب لهم آجالاً]
    قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى:
    [يعني: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدر آجال الخلائق، بحيث إذا جَاءَ أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. قال تعالى: ((إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)) [يونس:49] وقال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً))[آل عمران: 145]، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قَالَ: {قالت أم حبيبة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورَضِيَ اللهُ عَنْها: اللهم أمتعني بزوجي رَسُول الله، وبأبي أبي سفيان، وبـأخي معاوية، قَالَ: فَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئاً قبل حله، ولن يؤخر شيئاً عن حله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النَّار وعذاب في القبر كَانَ خيراً وأفضل} فالمقتول ميت بأجله، فعلم الله تَعَالَى وقدَّر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض، وهذا بسبب القتل، وهذا بسبب الهدم، وهذا بسبب الحرق، وهذا بالغرق، إِلَى غير ذلك من الأسباب، والله سبحانه خلق الموت والحياة، وخلق سبب الموت والحياة.
    وعند المعتزلة: المقتول مقطوع عليه أجله، ولو لم يقتل لعاش إِلَى أجله فكأن له أجلان.
    وهذا باطل؛ لأنه لا يليق أن ينسب إِلَى الله تَعَالَى أنه جعل له أجلاً يعلم أنه لا يعيش إليه ألبتة، أو يجعل أجله أحد الأمرين، كفعل الجاهل بالعواقب، ووجوب القصاص والضمان عَلَى القاتل لارتكابه المنهي عنه ومباشرته السبب المحظور.
    وعلى هذا يخرج قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {صلة الرحم تزيد في العمر} أي: سبب طول العمر.
    وقد قدر الله أن هذا يصل رحمه فيعيش بهذا السبب إِلَى هذه الغاية، ولو لا ذلك السبب لم يصل إِلَى هذه الغاية.
    ولكن قدر هذا السبب وقضاه، وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش إِلَى كذا، كما قلنا في القتل وعدمه] اهـ.

    الشرح:
    قول أبي جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وضرب لهم آجالاً) هذه الجملة مأخوذة ومستنبطة من الآيات الكثيرة الدالة عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد جعل للخلق آجالاً ((فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)) [النحل:61] كما هو معلوم من آي كثيرة.
    ثُمَّ يقول المُصنِّف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: [يعني أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قدر آجال الخلائق بحيث إذا جَاءَ أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قال تعالى: ((فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ))[النحل:61]. وقال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً))[آل عمران:145] وذكر الحديث الذي في صحيح مسلم، وفيه إثبات الآجال، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل لكل مخلوق أجلاً، وهذا ثابت بنفس الآيات والأدلة التي تثبت القدر، ومنها الحديث الصحيح عن عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في أن الجنين {يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أم سعيد} فيؤمر الملك بكتب أربع كلمات، منها: الأجل، أي: أجل الإِنسَان، فليس هناك أي مجال لأن يتوقع أحد أن هذا الأجل يمكن أن يُغَيَّر ويمكن أن يُبَدَّل وقد كتبه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الإِنسَان وهو لا يزال في بطن أمه؛ ليقطع الأمل؛ ويقطع تعلق النَّاس بأن أحداً غير الله يملك أن يمد في عمر فلان أو يقصر من عمر فلان، أو أنه إذا قتل فلاناً فإنه قد انتقصه شيء من عمره.
    والآجال والأرزاق قد قدرت وكتبت كما جَاءَ في الحديث الصحيح الآخر، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن روح القدس -وهو جبريل عَلَيْهِ السَّلام- نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب}، أي: إذا طلب الواحد شيئاً من أمور الدنيا فليطلبه بإحسان وليجمل في الطلب ولا يلح؛ فإنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها حتى آخر لحظة من لحظات الدنيا وهي ساعة الاحتضار فإن بقي له في تلك الساعة لقمة من طعام أو شربة من حساء أخذها، وكذلك العمر لن تموت نفس حتى تستوفي ما كتب الله لها من العمر وإن كَانَ لحظة واحدة أو نفساً واحداً، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أحصى كل شيء، وهو العليم بكل شيء، وهو الذي قدر مقادير كل شيء، طويت الصحف ورفعت الأقلام، وما عَلَى العباد إلا التسليم والانقياد والإذعان والإيمان بكل ما يقدره الله عَزَّ وَجَلَّ ويقضيه.

    أما حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما - فهو حديث صحيح، وقد دعت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسمعها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي تدعو الله أن يمتعها بزوجها رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبأبيها وبأخيها، وهكذا النفس البشرية تتمنى وتتعطش إِلَى الخلود، وتدعو وترجو أن تخلد أو يخلد من تحب، وهذا شيء موجود في النفس البشرية، وليس هذا بذاته بمحظور مادام أن الله تَعَالَى قد جعله، وله فيه حكم.
    وهذا الشيء هو الذي جعل أبانا آدم يطيع الشيطان في قوله: ((إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ))[الأعراف:20] لما أغراه الشيطان بالخلود ولأن النفس الإِنسَانية تكره الموت والانقطاع وهذا هو الذي أشغل أبانا عن قضية أنه إذا أكل وقع في معصية الله عَزَّ وَجَلَّ، وأنساه عما أمر به الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فالشاهد أن أم حبيبة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها لما دعت بذلك وسمعها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {قد دعوت الله بآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة}، فلن يزيد عمر أحد يوماً واحداً، ولن يزيد رزقه ذرة واحدة، ولن يتأخر أجله ولو لحظة واحدة بسبب هذا الدعاء الذي قد يدعو به الإِنسَان، أو بأي سبب من الأسباب التي يلجأ إليها الإِنسَان. {لن يعجل شيئا قبل أجله، ولن يؤخر شيئاً عن أجله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النَّار وعذاب في القبر كَانَ خيراً وأفضل} وهذا من آداب الدعاء، وهو أن الإِنسَان يسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يعيذه من عذاب النَّار ومن عذاب القبر، ويسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يتعلق بالنجاة وبالفوز الأخروي، هذا أهم وأولى ما يدعو به الإِنسَان
    ، أما أن يدعو الإِنسَان بأمر فيه اعتداء، كالدعاء بطول العمر -مثلاً- وهو يعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد ضرب أجلاً محدوداً، فهذا محرم، ومثله من يدعو الله بجميع أنواع الأدعية التي فيها اعتداء كدعاء الله أن يحي ميتاً من الأموات؛ بل عَلَى الإِنسَان أن يدعو بما فيه خيري الدنيا والآخرة، والأولى أن يدعو الله بما فيه علاقة بالفوز بالجنة والنجاة من النار.
  3. الرد على الجهمية والمعتزلة في قضية تقدير الله للآجال

    ثُمَّ انتقل المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ بعد ذلك إِلَى بيان الرد عَلَى الجهمية والمعتزلة وخاصة المعتزلة في هذه القضية فذكر: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الخلق وخلق أعمالهم، وخلق الموت وأسباب الموت، وخلق الحياة وأسباب الحياة، فهو الخالق لذلك كله، بخلاف المعتزلة الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، فعلى قولهم: لو أن أحداً قتل أحداً، فإن هذا القاتل قد قطع أجل المقتول الذي لو لم يقتله لعاش حتى يبلغه، ولهذا يقتل القاتل!
    فرد عليهم المُصنِّف رحمه الله تعالى: بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلق الموت، وخلق أسباب الموت، وهو الذي قدر أن هذا يموت بالحرق، وهذا بالغرق، وهذا يقتل بالسيف وهذا بالمرض.

    أما المعتزلة فقولهم واضح البطلان؛ لأنه يستلزم إثبات أجلين: أجلاً حقيقياً: وهو الذي قدر كما يقولون، وأجلاً واقعياً: وهو الوقت الذي بقي للمقتول.
    وهذا باطل؛ لأنه لا يليق أن ينسب إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أنه جعل للعبد أجلاً يعلم أنه لا يعيش إليه! وما الفائدة أن يجعل الله له أجل وهو يعلم أنه سيقتل دون أن يدركه، أو أن يجعل أجله أحد الأمرين كفعل الجاهل بالعواقب، وهَؤُلاءِ المعتزلة يقولون: إن الله أذن أن يعيش العبد ستين سنة -وأصل ضلالهم أنهم يقولون: إن أفعال العباد لا يخلقها الله- فلما قُتلَ وعمره أربعين سنة، فمعنى هذا أن الله عَزَّ وَجَلَّ جعل له أجل أربعين، وأجل ستين إن لم يقتله أحد.
    وإذا قتله أحد فيما دون ذلك فيكون هذا هو الأجل الحقيقي، فكأنهم والعياذ بالله ينفون العلم عن الله عَزَّ وَجَلَّ بدليل أنه لا يعلم أنه سيقتل، كل ذلك حتى يهربون من قضية أن الله هو الذي خلق أفعال العبد؛ لأنهم قالوا: إذا كَانَ الله هو الذي خلق فعل العبد فكيف يجازيه عليه؟ وإنما يجازى القاتل بالقتل حداً؛ لأنه قطع الأجل وهذا دلالة عَلَى الفعل إذا كَانَ الله خلق الفعل.

    والرد عليهم كما ذكر المصنف: وجوب القصاص والضمان عَلَى القاتل وذلك لارتكابه المنهي عنه ومباشرته إياه برضاه وباختياره، فالذي قتل مسلماً معصوماً بريء الدم برضاه وباختياره مستوجب للقتل ومستحق له؛ لأنه ارتكب ما نهى الله تَعَالَى عنه، ولهذا فإن القاتل إذا كَانَ مجنوناً - مثلاً - فإنه لا يقتل وهذا دليل عَلَى أن القاتل يقتل، لا لأن القاتل قطع أجل الله الذي قدره للمقتول، كما تزعم المعتزلة، بل من أجل أن القاتل ارتكب ما نهى الله عنه ومباشرته السبب المحظور.
    ثُمَّ يقول: (وعلى هذا يخرج قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {صلة الرحم تزيد في العمر} أي: سبب طول العمر) ولفظ الحديث: {من أراد أن يُنسأ له في عمره، ويبارك له في رزقه، فليصل رحمه}.
    وقد يشكل فهم هذا الحديث عَلَى كثير من النَّاس مع ما قد قدره الله وكتبه من الآجال - كما في حديث ابن مسعود - وحتى يزول ذلك الإشكال لا بد أن يعلم أن الله خلق النتائج مثل الموت والحياة، وخلق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأسباب: فقدر أن عمر هذا الإِنسَان ستين سنة -مثلاً- وقدر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن من أسباب كون عمره ستين سنة أنه يصل رحمه، كما لو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدر عمر إنسان ثمانين سنة، فلا يسلط عليه وباء ولا داء بل يرزقه الصحة والعافية، فهذه أسباب خلقها بها طال عمر هذا الإِنسَان إِلَى الثمانين، وما قيل في هذا الإِنسَان يُقال في الإِنسَان الأول الذي عمر ستين سنة فكانت صلة الرحم سبباً لطول عمره إِلَى هذا القدر، وعلى هذا فلا يفهم أن من المفترض أن يكون عمر إنسان ما خمسين سنة، فلما جَاءَ بصلة الرحم زاد عمره إِلَى السبعين مثلاً.