المادة    
قد تقدم الحديث عن معنى قوله: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] والمؤلف هنا استطرد في بيان أن قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11]، مع دلالته عَلَى إثبات الصفات لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ونفي المثيل عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا يعارض قوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)) [الروم:27]، فإثبات المثل الأعلى شيء، ونفي المثيل له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شيء آخر.
واستطرد تبعاً لذلك في شرح معنى: ((الْمَثَلُ الْأَعْلَى)).
وموجز ذلك أن المثل الأعلى هو الكمال المطلق، والغاية العليا للصفة التي ليس وراءها شيء، فلله تَعَالَى المثل الأعلى في العلم فمهما كَانَ عند المخلوقين من علم، ومهما وصفنا أي مخلوق بأنه عالم، فإن لله المثل الأعلى في ذلك؛ بمعنى أن له الكمال المطلق في العلم الذي ليس وراءه أي شيء، وليس فيه نقص بأي وجه من الوجوه،
وذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- الأمور الأربعة التي عبر بها السلف عن معنى المثل الأعلى، وتضمن كون المثل الأعلى لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأمور الأربعة التي هي ثبوت الصفات العليا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والشعور بها، وعلمها، وإدراكها، ثُمَّ ذكر صفاته والخبر عنها.
ثُمَّ الرابع محبته وتوحيده وإخلاص العمل لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتجريد متابعة رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ يبين المؤلف أن هذه الآية ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] فيها خلاف بين النحاة والشُّراح المفسرين من الناحية الإعرابية ويذكر هذه الأوجه، ويجيب في أثناء ذلك عَلَى الشبهة التي قد تطرح وهي دخول الكاف عَلَى المثل ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) فيظن أن ليس في الآية نفياً مثلياً مباشرة، وإنما هي نفي شبيه المثلية، فهل هذه الآية عَلَى ظاهرها؟ أو ما المقصود من هذه الكاف الزائدة؟ هذا ما سوف نتحدث عنه فيما بعد.
والقول بأن هناك معارضة بين قوله تعالى:((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) وقوله تعالى: ((وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى))[الروم:27].
دعا المؤلف إِلَى نوع من الاستطراد البياني، وأن هناك من يتلقون القُرْآن عَلَى غير ما أمر الله تَعَالَى به من التلقي والقبول؛ وهم الذين في قلوبهم مرض؛ الذين ذكرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قوله: ((فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ))[آل عمران:7] وذكرهم في قوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ)) [محمد:26]
وهنا مرضان من أمراض القلوب في تلقي القرآن، سواء ما كَانَ من الصفات أو غيرها، فالأول:
  1. اتباع المتشابه ورد المحكم

    وهو أن الإِنسَان يتبع المتشابهات ليحرف ويرد بها المحكمات، ويؤول معاني المحكمات لأجل المتشابهات، وهذا نوع من أنواع المرض والعياذ بالله.
  2. كراهية بعض ما أنزل الله

    والثاني: أن يكره الإِنسَان بعض ما أنزل الله ويجامل أعداء الله ويقول: ((سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ))[محمد:26] فلا يسلم تسليماً كلياً قاطعاً لما أنزله الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولما جَاءَ عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا قدر موجب لإحباط العمل، فلذلك قال في آخر الآية: ((فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ))[محمد:28] لأن كراهية بعض ما أنزل الله سبب من أسباب إحباط العمل.
    فلو أن أحداً آمن بدين الإسلام كله وبشريعة الإسلام كلها، إلا أنه لم يؤمن بحرمة الربا -مثلاً- أو يكره في نفسه كون الربا حرام، أو كون الزنا حرام، أو يكره ويتضجر من أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرع للمرأة أن تقرَّ في بيتها وأن لا تتبرج وهو يريد هذا التبرج، أو يكره هذه الآيات، ويكره هذا الحكم، وإن كَانَ مسلماً منقاداً لبقية الشريعة فإن هذا كله يؤدي إِلَى إحباط عمله - والعياذ بالله؛ لأن هذا اعتراض وكراهية لبعض ما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

    ومن هذا أيضاً ما كَانَ في نفاة الصفات كالذين تحدث عنهم المؤلف كـابن أبي دؤاد حيث أشار عَلَى الخليفة المأمون -وكان وزيراً للمأمون مقرباً عنده- أن يكتب عَلَى ستر الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم والعياذ بالله فقد كره أن يكتب ((وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11]؛ لأن في نظره أن السمع والبصر من صفات المخلوقين، فيكون فيها تشبيه، أما العزة والحكمة، فلا تدل عَلَى التشبيه، وهذا من جهله، وعقله الفاجر.
    فإن البشر أيضاً فيهم العزة وفيهم الحكمة، كما أن فيهم السمع وفيهم البصر، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أثبت العزة له ولرسوله وللمؤمنين، وكذلك أثبت الحكمة لبعض عباده فَقَالَ تعالى: ((وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة)) [لقمان:12] وعليه فليس الفرق بين صفات الله وصفات المخلوقين أن نرد بعض الصفات ونؤمن ببعض! وإنما الفرق أن نقول: إن ما يتعلق بذات الله من صفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يختلف اختلافاً كلياً عن صفات المخلوقين، فلله تَعَالَى صفات لائقة بجلاله، وللمخلوق صفات لائقة به وهو الجاهل والناقص والعاجز.

    وكذلك ما ذكره عن الجهم بن صفوان أنه قَالَ: وددت أني أحُكُّ من المصحف قوله تعالى:((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] أعاذنا الله من الغواية والضلال، ومثله امرأة جهم فقد سمعت رجلاً يقرأ قوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5] فقالت: محدود عَلَى محدود ليس هكذا.
    لذلك قال بعض العلماء: إن الجهمية يريدون أن يثبتوا أنه ليس في السماء شيء، وليس فوق العرش شيء، وهم -كما ذكرنا- يثبتون مجرد وجود مطلق لا يوصف بأي شيء، وهذا من الجرأة عَلَى الله، ومن الزيغ، ومن مرض القلب والضلال.

    ومثال ثالث: وهو عمرو بن عبيد ومما نقل عنه أنه كَانَ دائماً لما يقرأ قوله تعالى: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)) [المسد:1] يتضجر ويريد أن لا تكون من القرآن، وسبب ذلك أن عقله الفاجر الضعيف يقول كيف ينزل الله هذه الآية ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)) [المسد:1] وفيها دليل عَلَى أن أبا لهب سيموت كافراً.
    وأبو لهب مازال حياً؟! وهذا السؤال يورده الفلاسفة على الجهمية فيقولون: إن من آمن دخل الجنة، فكيف يكون موقف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فعل أبو لهب ذلك؟ ولما سمع عمرو بن عبيد هذه الشبهة ولم يعرف لها جوباً، قَالَ: ليتني أحك هذه السورة من المصحف فنرتاح من المشكلة وجوابها! نسأل الله العفو والعافية.
  3. عدم رد الأمر إلى ولي الأمر عند التنازع

    والقاعدة التي يعرف بها وقوع الضلال والزيغ هي: أنه يأتي من عدم رد الأمر إِلَى أولي العلم، كما قال تعالى: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ))[الأنبياء:7]، وقَالَ: ((وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)) [النساء:83] فلذلك إذا جاءنا أمر أي أمر كان: علمي، أو أمر من أمور الدعوة ومصالح الدعوة الإسلامية كما في بداية الآية :((وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ)) [النساء:83].
    فيسأل فيه العلماء عند الإشكال ويتنبه إِلَى أنه قد لا يكون هناك إشكالٌ أصلاً مثل قوله تعالى: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ))[المسد:1] فليس فيه إشكال عَلَى الإطلاق؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلق أبا لهب ويعلم عناده وكرهه للدين، وأنه لن يؤمن فمن المحال أن يقع خلاف ما قدره الله عَزَّ وَجَلَّ.
    فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنزل القُرْآن بمقتضى ما علمه وقدره، مِنْ أن عناد هذا الرجل لن يجعله يوماً من الأيام يتوب إِلَى الرشد ويسلم، فيظل أبو لهب عَلَى الكفر حتى يموت، فهذا علمه الله عَزَّ وَجَلَّ وقدره، ومن المحال أن يقع شيءٌ خلاف ما قدره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وليست المسألة بهذا الإشكال الذي يجعل الإِنسَان عندما يعجز عنها أو تواجهه القضية يتمنى أن هذه الآية ليست موجودة، أو أن هذا الحديث لم يصحَّ عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    بل الذي يتحتم عند مرور الآية والحديث الصحيح أن نتلقى ذلك بالإيمان، وبالقبول، وبالتصديق؛ فإن أشكل علينا شيء في معنى أحدهما رددناه إِلَى أولي العلم من الأحياء، أو من الأموات من خلال كتبهم، فإن لم يكن بعد ذلك معرفة رددنا علمه إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويجب أن نعترف دائماً بعجزنا، وجهلنا، وقصورنا، عن فهم كثير مما جَاءَ به الوحي.هذا هو نهاية الاستطراد ثُمَّ بعد ذلك ينتقل المُصنِّف إِلَى إعراب قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11].